مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

ج ـ ومن عابد للاسم والمعنى أي كلّّ واحد منهما أو مجموعهما فقد أشرك.

والتعبير بالشرك والكفر في القسمين الأوّلين لا يخفى لطفه.

د ـ ومن عابد للمعنى المقصود من هذه الأسماء بأن اعتقد الهاً خارجاً عن اطار الألفاظ والمفاهيم الذهنية وعقد عليه قلبه وجعل اللفظ معبراً عنه ، فهو موحّد يقتفي أثر سيّد الموحّدين علي عليه‌السلام.

٣ ـ وروي عن هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها : الله ممّا هو مشتق ؟ قال فقال : يا هشام ، الله مشتق من اِله ، والاله يقتضي مألوهاً ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ولم يعبد شيئاً ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد. أفهمت يا هشام ؟

قال : فقلت : زدني ، قال : « إنّ لله تسعة وتسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمّى ، لكان كلّ اسم منها إلهاً ، ولكن الله معنى يُدَلُّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره ـ إلى أن قال ـ يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع الله جلّ وعزّ غيره ؟ » (١).

ورواه أيضاً عن عبدالرحمن بن أبي نجران لكن باختلاف يسير ، قال : كتبت إلى أبي جعفر أو قلت له : جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد ؟ قال : فقال : إنّ من عبد الاسم دون المسمّى بالأسماء أشرك وكفر وجحد ، ولم يعبد شيئاً بل اعبدوا الله الواحد الأحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء ، دون الأسماء ، إنّ الأسماء صفاته وصف بها نفسه (٢).

__________________

(١) الكافي ج ١ باب المعبود ص ٨٧ الحديث ٢.

(٢) المصدر نفسه ، الحديث ٣.

٤١

ترى أنّه عليه‌السلام يستدل على المغايرة بوجهين :

الأوّل : إنّ لله أسماء متعدّدة فلو كان الاسم عين المسمّى لزم تعدد الالهة لبداهة مغايرة تلك الأسماء بعضها لبعض.

الثاني : إنّ الخبز اسم لشيء يحكم عليه بأنّه مأكول ، ومعلوم أنّ هذا اللفظ غير مأكول.

٣ ـ هل اسماؤه توقيفية أو لا ؟

المراد من توقيفية أسمائه توقف اطلاقها على الاذن فيه ، وليس الكلام في الأسماء الموضوعة له بين شعوب العالم حسب اختلاف ألسنتهم حيث أنّ العرب يسمّيه سبحانه « الله » والعجم « خدا » والترك « تارى » وقسم من الافرنج « God » كلّ اُمّة من الامم تسميه سبحانه باسم يشيرون به إلى ما يؤمنون به بالفطرة.

إنّما النزاع في غير هذا القسم كالذي يشعر بوصف من صفاته أو أفعاله كالعالم والقادر.

فذهبت المعتزلة والكرّامية إلى أنّه إذا دلّ العقل على اتّصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية : جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك أذن شرعي أو لم يرد وكذا الحال في الأفعال.

وقال القاضي الباقلاني من الأشاعرة : كلّ لفظ دلّ على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذا لم يكن إطلاقه موهماً لما لا يليق بكبريائه ، فمن ثمّ لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأنّ المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ، ولا لفظ الفقيه لأنّ الفقه فهم غرض المتكلّم من كلامه ، وذلك مشعر بسابقة الجهل ، ولا لفظ العاقل لأنّ العقل علم مانع عن الاقدام على ما لا ينبغي ، مأخوذ من العقال ، وإنّما يتصوّر هذا المعنى في من يدعوه الداعي إلى ما لا ينبغي ولا لفظ الطبيب لأنّ الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع ايهام

٤٢

بما لا يصحّ في حقّه تعالى.

وذهب بعض آخر إلى أنّه يشترط وراء ذلك الإشعار بالتعظيم حتّى يصحّ الاطلاق بلا توقيف.

وذهب الشيخ الأشعري ومتابعوه إلى أنّه لابد من التوقيف وذلك للاحتياط احترازاً عمّا يوهم باطلاً لعظم الخطر في ذلك ، فلا يجوز الإكتفاء في عدم ايهام الباطل ، بمبلغ ادراكنا بل لابد من الاستناد إلى إذن الشارع (١).

وقال الغزالي : « إنّ الأسماء موقوفة على الاذن وأمّا الصفات فغير موقوفة عليه وهو خيرة الرازي في كتابه » (٢).

وحجّة من ذهب إلى التوقيف على الاطلاق هو أنّه لو لم يتوقّف ذلك على الاذن لجاز تسميته عارفاً وفقيهاً وعاقلاً وفطناً وطبيباً ، ولكنّه مدفوع بما ذكره الباقلاني من أنّ الجواز فيما إذا لم يكن هناك نوع ايهام لما لا يصحّ في حقّه تعالى وما ذكر من الأمثلة من هذا القبيل ، ولأجل ذلك لا يمكن تسميته سبحانه بالخادع والماكر والمستهزئ ، وإن نسب سبحانه الأفعال إلى نفسه وقال :

( يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) ( النساء / ١٤٢ ).

( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) ( الطارق / ١٥ ـ ١٧ ).

( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / ١٥ ).

فلا يصحّ في مقام الدعاء أن يقول : يا أيّها الخادع والكائد والمستهزئ اقض حاجتي ، فإنّ الجري والنسبة غير التسمية والأوّل خال عن الإيهام لأنّ اللفظ ورد من باب المشاكلة في الكلام ، كما هو واضح لمن لاحظ الآيات بخلاف التسمية ، فإنّه

__________________

(١) شرح المواقف ج ٨ ص ٢١٠ ، وشرح المقاصد ج ٢ ص ١٧١.

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٣٦.

٤٣

خال عن تلك القرينة.

وأمّا التفصيل الذي ذكره الغزالي واختاره الرازي فحجّته انّا أجمعنا على أنّه لا يجوز لنا أن نسمّي الرسول باسم ما سماه الله به ، ولا باسمٍ ما سمّى هو نفسه به فإذا لم يجز ذلك في حقّ الرسول بل في حقّ أحد من آحاد الناس فهو في حقّ الله تعالى أولى (١).

يلاحظ عليه : إنّ ما لا يجوز في حقّ الرسول هو التسمية على وجه العلميّة كأن يقول : مكان يا محمداً ويا أحمد يا شيث فإنّه يعد نوع تصرف في سلطان الغير ، ولكن المراد بالتسمية هنا هو توصيفه بما صدر منه من الأفعال أو اتّصف به من الصفات فمنعه موضع تأمّل ، فلو قال رجل للنبي الأكرم أيها الصابر أمام العدو ، والصافح عنه فلا وجه لمنعه ، فالغزالي والرازي خلطا التسمية على وجه العلمية بالتسمية بمعنى توصيفه بمحامد صفاته وجلائل أفعاله.

ثمّ إنّه أورد على نفسه وقال : أليس انّ العجم يسمّون الله تعالى بقولهم : « خداى » والترك بقولهم « تنكرى » والاُمّة لا يمنعون من هذه الألفاظ ؟ أجاب : إنّ ذلك من باب الاجماع فيبقى ما عداه على الأصل (٢).

يلاحظ عليه : إنّ جواز ذلك ليس من باب الاجماع فإنّ ذلك كان ذائعاً قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ كلّ أمّة حسب وحي الفطرة تشير إلى القوّة الكبرىٰ السائدة على العالم بلفظ من الألفاظ ولم ينقل عن أحد منع الشعوب عن التكلّم بلسانها عمّا تجده في فطرتها والزامهم على التعبير عنه باللفظ العربي أو غيره.

والذي أظن أنّ تسميته بما ليس فيه ايهام لما لا يصحّ وصفه به جائز لا مانع منه ، وأمّا توصيفه به ، فلا وجه لمنعه لأنّ مدلول اللفظ لمّا كان ثابتاً في حقّه تعالى كان وصف اللّه تعالى به كلاماً صادقاً.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي ص ٣٩.

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٣٩.

٤٤

ثم إنّه ربما يستدل على التوقيفية بقوله سبحانه : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

والاستدلال مبني على أمرين :

١ ـ إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب والسنّة.

٢ ـ إنّ الالحاد هو التعدي إلى غير ما ورد فيهما.

وكلا الأمرين غير ثابت ، أمّا الأوّل فالظاهر ان اللام في الأسماء للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر ومعنى الاية انّ كلّّ اسم أحسن في عالم الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد ، فإذا كان الله سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم والحيّ فأحسنها لله أعني الحقائق الموجودة بنفسها ، الغنيّة عن غيرها والثابتة أيضاً لغيره من العلم والحياة والقدرة المفاضة من جانبه سبحانه من تجلّيات صفاته وفروعها وشؤونها ، والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا ) ( البقرة / ١٦٥ ) وقوله : ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٣٩ ) وعلى ذلك فمعنى الاية : إنّ لله سبحانه حقيقة كلّ اسم أحسن لا يشاركه غيره إلاّ بما ملّكهم منه كيفما أراد وحيث شاء.

وأمّا الثاني فلأن الالحاد هو الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين وهو يتصوّر في أسمائه بوجوه :

١ ـ اطلاق أسمائه على الأصنام بتغيير ما كاطلاق « اللات » المأخوذ من الاله بتغيير على « الصنم » المعروف ، واطلاق « العزّى » المأخوذ من العزيز ، فكان المشركين يلحدون ويميلون عن الحقّ بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك والحطّ من مرتبة الله.

٤٥

٢ ـ تسميته بما لا يجوز وصفه به لما فيه من النقص كوصفه سبحانه بأبيض الوجه وجعد الشعر ، ومثله تسميتة بالخادع والماكر والكائد.

٣ ـ تسميته ببعض أسمائه دون بعض حيث كان العرب يقولون : « يا الله ويا رحيم » ولا يقولون « يا رحمان » ولدفع ذلك قال سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الاسراء / ١٠ ). وقال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ( الفرقان / ٦٠ ).

إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد والعدول عن الحقّ في أسمائه.

وبذلك يظهر أنّه لا مانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي أو الابدي وان لم ترد فيها النصوص مع أنّه سبحانه يقول : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ( النمل / ٨٨ ).

وأضعف من القول بالتوقيف ، القول بأنّ الذي ورد به التوقيف تسعة وتسعون اسماً ، حيث رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » وقد أخرج الترمذي وابن المنذر وابن حبّان وابن مندة والطبراني والحاكم والمردويه والبيهقي فهرس هذه الأسماء باسنادهم عن أبي هريرة (١).

مع انّه ورد في الكتاب والسنّة أسماء خارجة عن التسعة والتسعين كالبارئ ، والكافي ، والدائم ، والبصير ، والنور ، والمبين ، والصادق ، والمحيط ، والقديم ، والقريب ، والوتر ، والفاطر ، والعلاّم ، والمليك ، والأكرم ، والمدبّر ، والرفيع ، وذي الطول ، وذي المعارج ، وذي الفضل ، والخلاّق ، والمولى ، والنصير ، والغالب ، والرب ، والناصر ، وشديد العقاب ، وقابل التوب ، وغافر الذنب ، ومولج الليل في النهار ، ومولج النهار في الليل ، ومخرج الحي من

__________________

(١) سيوافيك نقله من صحيح الترمذي ، ونقله السيوطي عنه في الدرّ المنثور.

٤٦

الميت ، ومخرج الميت من الحي ، والسيّد ، والحنّان ، والمنّان.

وقد شاع في عبارات العلماء المريد ، والمتكلّم ، والشيء ، والموجود ، والذات ، والأزلي ، والصانع ، والواجب (١). أضف إلى ذلك : إنّ اثبات الشيء لا يدل على نفي ما عداه ، فعدم ورود بعض الأسماء في هذه الرواية لا يدل على تحريم تسميته به.

الروايات وتوقيفية الأسماء

وربّما يستدل على توقيفية الأسماء ببعض الروايات المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

١ ـ فعن محمد بن حكيم قال : كتب أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام إلى أبي : « إنّ الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه وكُفّوا عمّا سوى ذلك » (٢).

والشاهد في قوله : « كفّوا عمّا سوى ذلك ».

٢ ـ ما رواه حفص أخو مرازم عن المفضّل. قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن شيء من الصفة فقال : لا تجاوزوا ما في القرآن (٣).

والروايتان لا تخلوان من الضعف سنداً ودلالة ، فقد ورد في سندهما سهل بن زياد وهو ضعيف ، كما اشتمل الثاني على ضعيف كسندي بن ربيع ، ومجهول كحفص « أخو مرازم » ، وامّا ضعف الدلالة فمن المحتمل جداً إنّ الهدف منع تسميته بما يسمّى به عوام الناس من غير اكثرات ، فربما يسمّونه باُمور يشتمل على

__________________

(١) شرح المقاصد للتفتازاني ج ٢ ص ١٧٢.

(٢) الكافي ج ١ باب النهي عن الصفة بغير ما وصف الله به نفسه الحديث ٦.

(٣) المصدر نفسه.

٤٧

جهات من النقص والتشبيه ، فلأجل ذلك يقول الامام : « كفّوا عمّا سوى ذلك » أو « لا تتجاوزوا ما في القرآن » ، وأمّا إذا كانت التسمية بريئة عن النقص والعيب ، مناسبة لساحته سبحانه من العزّ والتنزيه كتوصيفه بواجب الوجود فالروايات منصرفة عنه.

والذي يقوّي ذلك الاحتمال انّه ورد في الأوساط الاسلامية صفات خبرية تعد من بدع اليهود والنصارى فقد أدخلها أحبار اليهود ورهبان النصارى حتى يشوّهوا بذلك عقائد المسلمين كما حقّفناه في موسوعتنا حول الملل والنحل (١).

وأمّا إذا كانت التسمية والتوصيف مطابقة للضوابط التي يستقل به العقل في توصيفه وتحميده وتكريمه فالروايتان منصرفتان عنه ، وبذلك يتّضح أنّه يصحّ تسميته بواجب الوجود ، وتوصيفه بالضرورة الأزلية ، وغير هما مما ورد في كتب الفلسفة والعرفان.

٤ ـ بساطة الذات وكثرة الأسماء

إنّ الكتاب والسنّة يثبتان لله سبحانه أسماءً وصفات متكثّرة ومختلفة هذا من جانب ، ومن جانب آخر تدل البراهين العقلية على أنّه سبحانه بسيط غير متكثّر فعندئذ كيف تجتمع البساطة مع كثرة الصفات ؟ فهما متغايران في بدء النظر.

وإن شئت قلت : إنّ الوحدة كمال والكثرة نقصان ، وهذا يقتضي وحدة الذات من دون طروء كثرة هناك. هذا من جانب.

ومن جانب آخر : إنّ الموجود الذي هو قادر على جميع المقدورات ، وعالم بجميع المعلومات ، حيّ ، حكيم ، سميع ، بصير ، أكمل من الموجود الذي ليس كذلك فلا مناص من اثبات الصفات المختلفة عليه وعندئذ يقع العقل في حيرة

__________________

(١) لاحظ : الجزء الأوّل من تلك الموسوعة التي انتشرت باسم « بحوث في الملل والنحل ».

٤٨

ودهشة بسبب تعارض هذين الأمرين وكلّ منهما يهدف إلى اثبات الكمال لله سبحانه ولأجل ذلك ذهبت فرقة إلى نفي الصفات خوفاً من انكار الوحدانية ، كما انّ طائفة اُخرى وقعوا في مغبّة الكثرة رغبة في توصيفه بالصفات الكمالية ، وهناك ثلّة جليلة جمعوا بين الوحدة والبساطة ، وكونه متّصفاً بصفات كمالية مختلفة.

ثمّ ان الإشكال إنّما هو في الصفات الجمالية التي يعبّر عنها بالصفات الثبوتية لكونها راجعة إلى صفات وجودية تختلف كلّ منها عن الاُخرى ، فيُشكل الجمع بينها وبين القول بالوحدة والبساطة ، وأمّا الصفات الجلاليّة أعني الصفات السلبية مثل قولنا ليس بجسم ولا عرض فلا توجب كثرة السلوب ، كثرة في الذات بشهادة انّه يصحّ سلب كثير من الاُمور عن الجزء الذي لا يتجزئ.

ومثلها كثرة النسب والاضافات التي تنسب إلى الذات في مرحلة متأخّرة فهي لا توجب كثرة في الذات ، وذلك نظير الوحدة فإنّها أبسط الأشياء مع أنّه يلحقها اُمور إضافية ونسبيّة. فيقال : الواحد نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة وهكذا إلى غير النهاية من النسب والاضافات العارضة للواحد ، فالكلام كلّه في الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة والحياة التي لها حقائق خارجية.

ثمّ ان بعض المتكلّمين لمّا لم يتوفّق للجمع بين وحدة الذات وكثرة الصفات لجأ إلى أحد الأمرين :

الأوّل : إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية وقد عرفت انّ كثرة السلوب لا تنثلم به وحدة الشيء فمعنى كونه عالماً أنّه ليس بجاهل ، ومعنى كونه قادرا أنّه ليس بعاجز وهكذا وهذه النظرية منسوبة إلى أبي إسحاق النظام ، ولكنّها غير تامّة لأنّه سبحانه واجد لواقعيّة هذه الكمالات حسب الأقيسة العقلية ، وحسب ما يرشد إليه الكتاب والسنّة فهو متصف بالعلم والقدرة ، وبالتالي يطرد عن ذاته الجهل والعجز في الدرجة الثانية لا أنّه ليس له هذه الكمالات وإنّما يسلب عنه النقائص.

٤٩

الثاني : القول بالنيابة وحاصله أنّه ليس هناك علم ولا قدرة ولا حياة ولكن يترتب على الذات ما يترتب على وجود هذه الصفات ، فالذات لأجل كمالها تقوم مقامها وهذا القول منقول عن بعض المعتزلة (١). وهو أيضاً مخالف للبرهان وظاهر الكتاب والسنّة.

إنّ هناك طائفة جليلة وفي مقدّمتهم الراسخون في الحكمة الإلهية جمعوا بين بساطة الذات واتّصافه بحقائق هذه الأوصاف بمعنى : إنّ وجوداً واحدا كلّه علم ، وكلّه قدرة ، وكلّه حياة ، لا أنّ بعضه علم ، وبعضه الآخر قدرة ، وبعضها الثالث حياة ولا يقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث الفلسفية ولأجل ذلك نرى أنّ الفخر الرازي يردّ هذه النظرية بسهولة ، فيقول « وهذا أيضاً ضعيف لأنّ المفهوم من كونه « قادراً » غير المفهوم من كونه « عالماً » وحقيقة الذات الواحدة ، حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة لا تكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لا يكون نفس الاثنين » (٢).

ثمّ اختار أنّ صفاته سبحانه زائدة على الذات ولم يبال بوجود الكثرة في ساحة الذات وتعدد القدماء ، والحقّ إنّ المسألة تعدّ من الأسرار الإلهية التي يستصعب ادراكها إلاّ على من آتاه الله من لدنه علماً وحكمة كما أشار إليه صدرالمتألّهين (٣).

فنقول : إنّ ما ذكره الرازي مردود بوجهين :

أوّلاً : فبالنقض بأنّ موجوداً امكانياً كزيد كلّه معلوم لله سبحانه ، وكلّه مقدور له وحيثيّة المعلومية في الخارج ، نفس حيثية المقدورية وليست حيثية المعلومية في الخارج مغايراً لحيثية المقدورية ، وإلاّ يلزم أن تكون الحيثيّة الثانية غير معلومة لله سبحانه ، وهو خلف ، لفرض كونه عالماً بكلّ شيء ولأجل ذلك نقول : ثبت في

__________________

(١) هو رأي « عبّاد بن سليمان المعتزلي » والجبائيين خلافاً لأبي الهذيل العلاّف عنهم ، لاحظ « بحوث في الملل والنحل ج ٢ ص ٨٠ ـ ٨١ ».

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٢٤.

(٣) الأسفار الأربعة : ج ٦ ص ١٠.

٥٠

محله أنّ الكثير قابل للانتزاع من الواحد من حيث أنّه واحد وإن كان الواحد من حيث أنّه واحد لا يمكن انتزاعه من الكثير بما هو كثير.

وثانياً : فبالحل : فإنّ ما ذكره من أنّ المفهوم من كونه قادراً غير المفهوم من كونه عالماً وان كان صحيحاً لكن ما رتّب عليه من قوله « والحقيقه الواحدة لا تكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لا يكون نفس الاثنين » غير صحيح ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين التغاير المفهومي والتغاير الخارجي فكلّ مفهوم يستحيل أن يكون في عالم المفهومية نفس المفهوم الآخر ، فلو قال قائل زيد موجود وأراد إنّ نفس مفهوم المسند إليه نفس مفهوم المسند فقد أخطأ خطأً عظيماً ، وليس مفاد الحمل الشائع الحكاية عن الوحدة في عالم المفهوم ولو أراد الرازي هذا لصحّ قوله : « الواحد لا يكون نفس الأثنين ».

وأمّا لو أراد الحقيقة الخارجية فهو غير صحيح إذ لا مانع من أن يكون شيء واحد بما هو واحد مصداقاً لمفهومين مختلفين ، وقد عرفت أنّ كلّ موجود امكاني كلّه معلوم لله سبحانه ، كما أنّ كلّه مقدور ، وليست حيثيّة المعلوميّة مغايرة للحيثيّة المقدوريّة وإلاّ يلزم ان يكون جهة المعلوميّة خارجة عن اِطار قدرته ، أو العكس.

قال الحكيم السبزواري : « اختلط عليهم المفهوم والمصداق فيرون اختلاف المفاهيم ويتوهّمون اختلاف وجودها ومصداقها بحسبها ، وكأنّهم لم يقرع أسماعهم جواز انتزاع مفاهيم مختلفة من مصداق واحد وهذا نظير أنّه يصدق عليك إنّك مقدور لله ومعلوم ، ومراد ومعلول له ، وأنّك مشخص واحد ، ولا يمكنك أن تقول : أنا مقدور من جهة ، ومعلوم من جهة اُخرى مثلاً ، إذ يلزم أن تكون حيثيّة مقدوريتك غير معلومة له مع أنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة وحيثيّة معلوميتك غير مقدورة له مع ثبوت عموم قدرته ، فظهر أنّ اتّحاد مفاهيم كثيرة في الوجود والمصداق واقع » (١).

__________________

(١) شرح المنظومة للحكيم السبزواري ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

٥١

قال صدر المتألهين : « واجب الوجود وإن وصف بالعلم والقدرة والإرادة لكن ليس وجود هذه الصفات فيه إلاّ وجود ذاته بذاته ، فهي وإن تغايرت مفهوماتها لكنّها في حقّه تعالى موجودة بوجود واحد » قال الشيخ في التعليقات : « الأوّل : إنّه تعالى لا يتكثر لأجل تكثّر صفاته لأنّ كلّ واحدة من صفاته إذا حقّقت تكون صفة اُخرىٰ بالقياس إليه ، فيكون قدرته حياته ، وحياته قدرته ، وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر ، وقادر من حيث هو حيّ ، وكذا في سائر صفاته » (١).

وإن شئت قلت : إنّ الوجود ربّما يبلغ في الكمال مرتبة كاملة لا يتصور فوقه فيكون بوحدته وبساطته نفس هذه الكمالات من العلم والقدرة والحياة من غير أن تتكثّر الذات وتتعدّد حقيقة أو اعتباراً وحيثيةً ، وذلك لأنّ حيثيّة الذات بعينها حيثية هذه الصفات.قال أبو نصر الفارابي :

« وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه لا أنّ شيئاً منه علم وشيئاً آخر منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته ، ولا أنّ شيئاً فيه علم وشيئاً آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقية » (٢).

بيان آخر لوحدة الصفات

ثمّ إنّ الراسخين في الحكمة الإلهية أرجعو الصفات الثبوتية إلى وصف واحد والصفات السلبية إلى سلب واحد ، كما ارجعوا الصفات الاضافية إلى اضافة واحدة وليس هذا الارجاع أمراً اعتبارياً ذهنيّاً بل التعليل العقلي يشهد بذلك مثلاً إنّ سلب الامكان عنه تعالى مبدأ لسائر السلوب فأنّ الجوهرية والعرضية والحدوث والحلول كلّها من لوازم الامكان فسلبه يلازم سلب كلّ هذه الصفات السلبية ، كما أنّ جميع

__________________

(١) الأسفار : ج ٦ ص ١٢٠.

(٢) الأسفار : ج ٦ ص ١٢١ ، والفرق بين القسمين هو : إنّ العلم في الشقّ الأوّل موجود في مرتبة الذات بخلافه في الشقّ الثاني فهو فيه زائد عليها.

٥٢

الصفات الثبوتية من العلم والقدرة والحياة يرجع إلى أصل واحد وهو وجوب الوجود والوجود المتأكّد وقد عرفت أنّ المحقّق الطوسي استنتج من توصيفه سبحانه بالغني ، والوجود ، جميع الصفات الكمالية ، كما أنّ جميع الصفات الإضافية كالخالقية والرازقية والعلية ترجع إلى إضافة واحدة وهي اضافة القيّوميّة ، فانّ كونه بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية عبارة اُخرىٰ عن قيّوميّته ، فالخلق والرزق والحياة والعزّة والهداية حيثيّات وجوديّة وهي قائمة به مفاضة من عنده.

فاتّضح أنّه يمكن الجمع بين الكمالين : كمال البساطة وكمال اتّصاف الذات بواقع الصفات الكماليّة بشرط أن تقف على موضع الوحدة ، وانّ المدّعى ليس اتحادها مع الذات في اطار المفهوم بل المدّعى اتّحاد واقعية الذات مع واقعيّة هذه الصفات في الخارج ، وكم له من نظير في عالم الأعيان (١) .

٥ ـ تقسيم صفاته إلى الجماليّة والجلاليّة

إنّ صفات الله تعالى على نوعين : جماليّة وجلاليّة.

فالجماليّة عبارة عن الألفاظ الدالّة على معان قائمة بذات الله تعالى كقولنا : عالم ، قادر ، حيّ.

والجلاليّة عبارة عن سلب معان عن الله سبحانه كقولنا : « الله ليس بجسم ولا جسمانيّ ولا جوهر ولا عرض » ولعلّه إلى القسمين يشير قوله سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / ٧٨ ).

فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير ، وصفة الاكرام ما تكرّمت

__________________

(١) وسنرجع الى هذا البحث عند دراسة كون صفاته عين ذاته ، وما ذكر هنا ـ كثرة أسمائه وبساطة ذاته ـ وما سيأتي : صفاته عين ذاته ، وجهان لعملة واحدة غير أنّ حيثيّة البحث في المقامين مختلفة.

٥٣

ذاته بها وتجمّلت (١).

وبعبارة اُخرى : الصفة إمّا ايجابيّة ثبوتيّة ، وإمّا سلبيّة تقديسيّة ، وقد حصروا الاولى في ثمانية وهي : العلم ، والقدرة ، والحياة ، والسمع ، والبصر ، والتكلّم ، والغنىٰ ، والصدق ، كما حصروا الثانية في سبعة وهي انّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، ولا يُرى ، وليس بمتحيّز ، ولا حالّ في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

وبعبارة ثالثة لو كانت الصفة تثبت وجود كمال في الموصوف وواقعية في ذاته ، تعدّ كمالاً لها وسميّت ثبوتية أو جماليّة أو كماليّة أو معنويّة على اختلاف مصطلحاتهم ، ولو كانت الصفة تهدف إلى نفي نقيصة وحاجة عنه سبحانه سمّيت سلبية أو جلاليّة ، فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتيّة لأنّها تعرب عن وجود كمال في الذات الإلهية كما انّ نفي الجسمانيّة والحلول والتحيّز من الصفات السلبيه لأنّها تهدف إلى سلب هذه النقائص عن ساحته وذاته.

وعلى وجه الإجمال كلّ اسم يدل على تنزّهه تعالى وخروجه عن الحدّين : حد الإبطال وحد التشبيه فهو جلاليّ ، مثل : عزيز ، وسبّوح ، وجليل ، وسرمد ، وغيرها مما تدلّ على غناه عمّا سواه وعدم مشابهته بشيء من خلقه ، وكلّ اسم يدل على شيء من كمالاته تعالى فهو جماليّ مثل : عليم ، وقدير ، وسميع ، وبصير ، مما يدلّ على استحقاقه لشيء من الكمالات فجلاله عين جماله ، وجماله عين جلاله ، وكلاهما عين ذاته ، ولكن التعدّد في عالم الأسماء فالأسماء الجلاليّة مظاهر عالم العزّة ، والأسماء الجمالية مظاهر عالم العظمة.

ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ الصفات الثبوتيّة والسلبيّة لا تنحصر في الثمانية والسبعة فإذا كان الملاك فيهما اثبات كمال أو رفع نقص فكلّ كمال وجمال

__________________

(١) الأسفار ج ٦ ص ١١٨ ، والعجب إنّ الرازي جعل قوله « والاكرام » إشارة الى الصفات الإضافيّة. لاحظ لوامع البينات : ص ٣٣.

٥٤

ثابت لله سبحانه وهو واجد له ، وكلّ نقص وحاجة منفيّ عنه سبحانه ومسلوب عنه.

ومن هناك يمكن أن يقال : إنّه ليس لنا من الصفات الثبوتيّة إلاّ وصف واحد ، وهو ثبوت الكمال المطلق له سبحانه ، ومن الصفات السلبيّة إلاّ سلب واحد وهو سلب النقص على وجه الاطلاق ، فذاته سبحانه لا تخلو عن كلّ كمال وجمال ، فلو وصفناها بالعلم والقدرة والحياة وغيرها ، فلأجل انّ كلّ ذلك كمال وعدمها نقص ، كما انّ سلب الجهل والعجز والموت والجسميّة والتركيب والانفعال ليس إلاّ لأجل إنّها علامة النقص والافتقار. على ضوء ذلك يمكن ارجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد ، وارجاع الصفات السلبيّة إلى سلب واحد من دون أن يكون هناك عناية بالثمانية أو السبعة ، ويؤيّد ذلك انّ الصفات والأسماء التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات هذا العدد الذي ذكره المتكلّّمون والحكماء من الصفات لله.

وقد عرفت كلام صدر المتألّهين في هذا المضمار فلا نعيد.

٦ ـ تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والفعليّة

إنّ لصفاته سبحانه وراء التقسيم الماضي تقسيماً آخر وهو كون الصفة صفة ذات ، أو كونه صفة فعل ، فيعدّون العلم والقدرة والحياة من صفات الذات ، كما يعدّون صفة الخلق والرزق والمغفرة من صفات الفعل ، وهذا تقسيم متين جداً غير أنّ المهم تعريفهما بنحو جامع ومانع وإليك تعريفهما :

إذا كان فرض الذات وحدها كافياً في حمل الوصف عليه ، فالوصف ذاتي.

وأمّا إذا لم يكن فرضها كافياً في توصيف الذات بها ، بل توقّف على فرض غيرها « ولا غير في دار الوجود إلاّ فعله » فالصفة صفة فعل ، وهذا كالخالق فإنّ الذات غير كافية لانتزاع الخلق والرزق ، بل يتوقّف على فرض الغير وهو فعله

٥٥

سبحانه ، فالذات إذا لوحظت مع الفعل ووصفت بأوصاف تسمّى تلك الأوصاف صفات الفعل (١).

وإن شئت قلت : إنّ ما يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبلاً ، كالخلق والرزق فهي الصفات الفعلية وهي زائدة على الذات ، منتزعة عن مقام الفعل ، ومعنى انتزاعها عن مقام الفعل إنّا مثلاً نجد هذه النعم « التي نتنعّم بها ونتقلّب فيها » نسبتها إلى الله سبحانه نسبة الرزق المقرّر للجيش من قبل السطان فنسمّيها رزقاً وإن كان منتهياً إليه تعالى نسميه رزّاقاً ومثله الخلق والرحمة والمغفرة وسائر الصفات الفعليّة ، فهي تطلق عليه تعالى ويسمّى هو بها من غير أن يتلبّس بمعانيها كتلبّسه بالحياة والقدرة وغيرها من الصفات ، ولو تلبّس بها حقيقة لكانت صفات ذاتيه غير خارجه من الذات (٢).

وعلى ضوء ذلك فالصفات على قسمين :

١ ـ ما لا يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبل الوصف وذلك مثل العلم والقدرة والحياة من غير فرق بين كونها متّحدة مع الذات في مقام الوجود كما عليه العدلية ، وبين كونها زائدة عليها كما عليه أهل الحديث والأشاعرة ، فإنّ القول بالزيادة ليس بمعنى تحقّق الذات قبلاً ثم عروض هذه الصفات ، وإنّما يكفي في ذلك تحقّق الذات والصفة معاً ، فهذه هي الصفات الذاتيه.

٢ ـ ما يحتاج في تحقّقها في الخارج إلى فرض تحقّق الذات قبلاً كالخلق والرزق فهي الصفات الفعلية ، وهي زائدة على الذات بحكم انتزاعها باعتبار صدور شيء منها.

__________________

(١) الميزان ج ٨ ص ٣٦٨.

(٢) نهاية الحكمة : ص ٢٨٤.

٥٦

تعريف آخر للذاتية والفعلية

وهناك تعريف آخر لتمييز الذاتية عن الفعلية وهو إنّ كلّ ما يجري على الذات على نسق واحد فهو صفة الذات مثل قولنا « يعلم » و « يقدر » وإنّه « حي » ولا يصح أن يقال « لا يعلم » و « لا يقدر » وانّه « ليس بحي » أيضاً ، وأمّا ما يجري عليه سبحانه على وجهين أي بالايجاب تارة وبالسلب اُخرىٰ ، فهذا صفة الفعل فيصح أن يقال يخلق ولا يخلق ، ويرزق ولا يرزق ، ويرحم ولا يرحم.

قال الشيخ المفيد : « لا يصحّ وصفه تعالى بأنّه يموت أو بأنّه يعجز أو بأنّه يجهل ، ولا يصحّ وصفه بالخروج عن كونه حيّاً وعالماً وقادراً ، ولكن يصحّ الوصف بأنّه غير خالق اليوم ، ولا رازق لزيد ، ولا محيي لميت ، ولا مبدئ لشيء في هذا الحال ولا معيد له ، ويصح الوصف له بأنّه يرزق ، ويمنع ، ويحيي ، ويميت ، ويبدئ ، ويعيد ، ويوجد ، ويعدم ، فثبت إنّ العبرة في أوصاف الذات وأوصاف الأفعال بما ذكرنا » (١).

وقد اختار هذا الملاك الشيخ الكليني في كافيه فانّه بعد ما نقل جملة من الروايات حول صفات الذات وصفات الفعل له تعالى قال :

« إنّ كلّ شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعاً في الوجود أي ايجاباً وسلباً ، اثباتا ونفياً فذلك صفة الفعل (٢).

ولعلّ في بعض الروايات ما يؤيّد هذا التعريف (٣).

٧ ـ تقسيم صفاته إلى نفسيّة واضافيّة

ثمّ إنّه لصفاته الثبوتية تقسيماً آخر وهو تقسيمه إلى النفسيّة والإضافيّة.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) الكافي ج ١ ص ١١١.

(٣) التوحيد للصدوق ـ باب صفات الذات وصفات الأفعال : الحديث ١ ص ١٣٩.

٥٧

قال صدر المتألّهين :

« والثبوتيّة تنقسم إلى حقيقية كالعلم والحياة ، واضافية كالخالقية والرازقيّة والعليّة وجميع الحقيقيّات ترجع إلى وجوب الوجود أعني الوجود المتأكّد وجميع الاضافات ترجع إلى إضافة واحدة وهي اضافة القيّوميّة » (١).

وبعبارة اُخرى : فما لا إضافة في معناه إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة ، فهو نفسيّ ، وماله اضافة إلى الخارج سواء كان معنى نفسيّاً ذا اضافة كالصنع والخلق فهي النفسيّة ذات الاضافة ، أو معنى إضافيّاً محضاً كالخالقيّة والرازقيّة فهي الإضافة المحضة (٢).

٨ ـ تقسيم آخر منسوب إلى أهل المعرفه

وهناك تقسيم آخر ينسب إلى أهل المعرفة ذكره الحكيم السبزواري في « أسرار الحكم » وحاصله : تقسيم صفاته إلى تنزيهيّة وتشبيهيّة ، والمقصود من الأوّل ما لا يوجد إلاّ في الواجب جلّ اسمه ، كقولنا : القديم الأزلي ، والذاتي ، والبسيط المحض ، والقدّوس المفسّر عندهم بما لا ماهية له ، فإنّها صفات خاصّة ، لا يوجد نظيرها في الموجودات الامكانية حتّى بالمعنى المناسب لها.

والمراد من الثاني ما يوجد نظيره في الممكنات كالسميع والبصير ، فإنّه وإن كان فرق واضح بين كونه سميعاً وبصيراً وكون الإنسان كذلك ، لكن النتيجة مشتركة بينهما (٣).

وهذا التقسيم أمر لا طائل تحته : لأنّ صفاته تحمل عليه ، بقيد التجريد عن وصمة الامكان وسمة المادية ، وعندئذ يكون الجميع أوصاف كمال وصفات جمال تنزّه بها ربّنا عن النقائص.

__________________

(١) الاسفار ج ٦ ص ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) الميزان ج ٨ ص ٣٦٩.

(٣) أسرار الحكم ص ٤٩.

٥٨

٩ ـ تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والخبريّة

قسّم بعض المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتية وخبرية ، والمراد من الاُولى أوصافه المعروفة من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه وأخبرت عنها كالقدم والوجه واليدين والقدوم والنزول إلى غير ذلك ، وهذه الصفات قد أوجدت ضجّة كبرى بين المتكلّمين ، فقسّمتهم إلى طوائف مختلفة ، وسنبحث عن هذه الصفات في فصل خاص.

١٠ ـ تقسيمها إلى صفات اللطف والقهر

إنّ صفاته سبحانه تنقسم ـ حسب الظاهر ـ إلى صفات لطف وصفات قهر. فالمتبادر من الرحمن والرحيم والغفور والحليم ، يضاد المتبادر من القاهر والجبّار والمنتقم ، وقد ورد في الأدعية توصيفه ب‍ « قاصم الجبارين » و « مبير الظالمين » ولكلّ مجال ومظاهر ، ولذلك عند ما يأمر بقطع يد السارق يصف نفسه بأنّه عزيز حكيم ، يقول سبحانه : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / ٣٨ ). والمقام يناسب لأن يتجلّى سبحانه بأوصافه القهاريّة ، ولو قال مكانهما غفور رحيم لكان مخلاً بالبلاغة.

ولكنه سبحانه في المواضع التي تطلب بلاغة المقال يتجلى بوصف الرحمة والمغفرة و ... ولكن هذا التقسيم ، تقسيم ظاهري ، والكلّ مظاهر رحمته ومجالي رأفته ، ولأجل ذلك قال أهل المعرفة : « تحت كلّ لطف قهر وتحت كلّ قهر لطف ».

يقول سيد الموحّدين :

وكم لله من لطف خفى

يدقّ خفاه عن فهم الذكي

كيف وهو سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / ١٥٥ ) وفي الدعاء المأثور عن أمير المؤمنين « يا من سبقت رحمته

٥٩

غضبه » ولأجله نؤمن انّ في قهره رحمة للمقهور عليه ، وانّ في عذابه لطفاً خفيّاً للمعذّب.

١١ ـ الأسماء العامّة والخاصّة

إنّ بين نفس الأسماء سعة وضيقاً ، وعموماً وخصوصاً ، فمنها خاصة ، ومنها عامة ، فالعالم اسم خاص بالنسبة إلى الحيّ ، وعام بالنسبة إلى السميع والبصير والشهيد واللطيف والخبير.

والرزّاق خاص بالنسبة إلى الرحمان ، وعام بالنسبة إلى الشافي والناصر ، والهادي ، وعلى هذا القياس.

فللأسماء الحسنى عرض عريض تأخذ في السعة والعموم ، ففوق كلّ اسم ما هو أوسع منه وأعم ، حتّى ينتهي إلى اسم الله الأكبر الذي يسع وحده ، جميع حقائق الأسماء ، وتدخل تحته شتات الحقائق برمّتها ، وهو الذي نسمّيه غالباً بالاسم الأعظم.

ومن المعلوم انّه كلّّما كان الاسم أعم ، كانت آثاره في العالم أوسع ، والبركات النازلة منه أكبر وأتم لما انّ الآثار للأسماء كما عرفت ، فما في الاسم من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره ، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كلّ أثر ويخضع له كلّ أمر (١).

١٢ ـ هل الاسم الاعظم من قبيل الألفاظ ؟

قد اشتهر بين الناس انّ لله سبحانه بين أسماءه اسم أعظم مَن دعاه به استجيب دعوته ، وهل هو من قبيل الألفاظ أو أنّ له حقيقة وراءها ؟ فقد حقّق حاله سيدنا

__________________

(١) الميزان ج ٨ ص ٣٧٠ ـ ٣٧١.

٦٠