مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

تعالى فطارد لكل عدم وبطلان. قال عزّ من قائل : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / ٦٢ ).

وبتقرير آخر : إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الاُمور التالية :

١ ـ كون الشيء محدوداً بالماهيّة ومزدوجاً بها ، فإنّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلا ماهية غير محدَّد ولا مقيّد وإنّما يتحدّد بالماهية.

٢ ـ كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتّصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر.

٣ ـ كون الشيء في حيز المكان ، وهو أيضاً يحدّد وجود الشيء ويخصّه بمكان دون آخر.

وغير ذلك من أسباب التحديد والتضييق. والله سبحانه وجود مطلق غير محدّد بالماهيّة إذ لا ماهيّة له كما سيوافيك البحث عنه ، كما لا يحويه زمان ولا مكان ، فتكون عوامل التناهي معدودمة فيه ، فلا يتصوّر لوجوده حدّ ولا قيد ولا يصحّ أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر أو مكان دون آخر ، بل وجوده أعلى وأنبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

وأمّا الكبرى : فهي واضحة بأدنى تأمّل ، وذلك لأنّ فرض تعدّد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. ولا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميّزاً عن الآخر ، والتَّمَيّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس. وهذه هي « المحدوديّة » وعين « التناهي » ، والمفروض أنّه سبحانه غير محدود ولا متناه.

والله سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود ، يصف نفسه في الذكر الحكيم ب‍ ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / ١٦ ) ، وما ذلك إلاّ لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكّم فيه

٤٨١

الحدود ، فكأنّ اللامحدوديّة تلازم وصف القاهرية ، وقد عرفت أنَّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد ، فقوله سبحانه وهو الواحد القهار ، من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة والبرهان.

قال العلاّمة ( الطباطبائي ) : « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره ، فإنّ هذه الوحدة لا تتم إلاّ بتميّز هذا الواحد ، من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر ، وإنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه ، وكذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، وهذا إنْ دلّ فإنّما يدلّ على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقّق بالمقهورية والمسلوبية أي قاهرية الحدود ، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور وغالباً لا يغلبه شيء لم تتصوّر في حقّه وحدة عددية ، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلاً على الاُولى ، قال سبحانه :

( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / ٣٩ ) ، وقال : ( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ، وقال سبحانه : ( لَوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / ٤ ).

وباختصار : انَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة ، مقهور بالحد الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كل شيء ، فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحق لا يعرضه بطلان ، وحي لا يخالطه موت ، وعليم لا يدبّ إليه جهل ، وقادر لا يغلبه عجز ، وعزيز لا يتطرّق إليه ظلم ، فله تعالى من كل كمال محضة » (١).

__________________

(١) الميزان : ج ٦ ، ص ٨٨ و ٨٩ بتلخيص.

٤٨٢

ومن عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء ، وقال في ضمن تحميده سبحانه :

« لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلىٰ حَدِّه ، ولا له مِثْلٌ فيُعرَفُ مثله » (١).

ترى أنَّ الإمام عليه‌السلام بعد ما نفى الحد عن الله ، أتى بنفي المِثْل له سبحانه ، لارتباط وملازمة بين اللامحدودية ونفي المثيل ، والتقرير ما قد عرفت.

٣ ـ صِرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر

إنَّ هذا البرهان مركّب من صغرى وكبرى على الشكل التالي :

الله سبحانه وجود صِرْف.

وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.

فالنتيجة : الله سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتكرَّر.

أمّا الصغرى فإليك بيانها :

أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده ، وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول : كل ما يقع في اُفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلّف من وجود هو رمز عينيّته في الخارج ، وماهيّة تحد الوجود وتبيّن مرتبته في عالم الشهود والخارج. مثلاً : الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا لها وجود به تتمثّل أمام نظرنا ، ولها ماهية تحدّدها بحد النباتية ، وتميزّها عن الجماد والحيوان ، ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم الحيوان. وبذلك تعرف أنّ واقعيّة الماهيّة هي واقعيّة التحديد. هذا من جانب.

__________________

(١) توحيد الصدوق ، ص ٣٣.

٤٨٣

ومن جانب آخر ، الماهيّة إذا لوحظت من حيث هي هي ، فهي غير الوجود كما هي غير العدم ، بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة وبالثاني اُخرى ، ويقال : النبات موجود ، كما يقال : غير موجود. وهذا يوضح أن مقام الحد والماهيّة مقام التخلية عن الوجود والعدم ، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم ، ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم ، فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً ، سواء كان الوجود جزْءَه أو عَيْنه يكون الوجود نابعاً من ذاته ، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود ، يمتنع عروض العدم عليه ، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ، سواء كان العدم جزءه أو عينه يكون العدم نفس ذاته ، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصحّ كونه معروضاً لأحدهما. وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة : « الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة ». ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إما أنْ تكون موجودة أو معدومة. فالنبات والحيوان والإنسان في الخارج لا يفارق أحد الوصفين. وبهذا تبيّن أنَّ اتّصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقّف على علّة ، لكن اتّصافها بالوجود يتوقّف على علّة موجودة ، ويكفي في اتّصافها بالعدم ، عدم العلّة الموجدة. فاتّصاف الماهيات بالأعدام الأزلية خفيف المؤونة ، بخلاف اتّصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علّة حقيقية خارجية.

وعلى ضوء هذا البيان يتّضح أنّه سبحانه منزَّه عن التحديد والماهيّة وإلاّ لزم أنْ يحتاج في اتّصاف ماهيته بالوجود إلى علّة (١). وما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً. وهذا يجرّنا إلى القول بأنّه سبحانه صرف الوجود المنزّه عن كل حد.

__________________

(١) وهنا يبحث عن العلّة ما هي ؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأوّل لزم الدور ، وإن كان الثاني لزم التسلسل. والتفصيل يؤخذ من محلّه. لاحظ الأسفار : ج ١ ، فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.

٤٨٤

وأمّا الكبرى فإليك بيانها :

إنّ كل حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أي خليط وصارت صرف الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدّد ، من غير فرق بين أن يكون صرف الوجود أو يكون وجوداً مقروناً بالماهيّة كالماء والتراب وغيرهما ، فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرّر ولا يتعدّد ، فالماء بما هو ماء لا يتصور له التعدّد إلاّ إذا تعدّد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدّد والتميّز.

فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف ، وكل شيء صرف ، في هذا الأمر سواسيه ، فالتعدّد والاثْنَيْنيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

وعلى هذا ، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً ، لا يتطرّق إليه التعدّد ، لأنّه فرع التميّز ، والتميّز فرع وجود غَيْريّة فيه ، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه ، فالوجود المطلق والتحقّق بلا لون ولا تحديد ، والعاري عن كل خصوصيّة ومغايرة ، كلّما فرضتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل ، لا شيئاً غيره ، فالله سبحانه بحكم الصغرى صرف الوجود ، والصرف لا يتعدّد ولا يتثنّى. فينتج : أنَّ الله سبحانه واحدٌ لا يتثنّى ولا يتعدّد.

خرافة التثليث : الأب والابن وروح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنَّ الإعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم ، ولا مناص لأي مسيحي من الإعتقاد به ، وفي الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبّديّة التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصوّرات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه ، كما أنّ المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث ، لأنّ حقيقته

٤٨٥

حسب زعمهم فوق المقاييس الماديّة.

هذا ومع تكريزهم على التثليث في جميع أدوارهم وعصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، وأنَّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ، ومع كونه ثلاثة واحدٌ أيضاً. وقد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين ، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه وأقصى ما عندهم ما يلي :

إنَّ تجارب البشر مقصورة على المحدود ، فإذا قال الله بأنَّ طبيعته غير محدودة تتألّف من ثلاثة أشخاص لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي به ، وإنَّ هؤلاء الثلاثة يشكّلون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » وكل واحد منهم في عين تشخّصه وتميزّه عن الآخرين ، ليس بمنفصل ولا متميّز عنهم ، رغم أنّه ليست بينهم أية شركة في الاُلوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الاُلوهية ، فالأب مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة وكاملها من دون نقصان ، والإبن كذلك مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة ، وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده لكمال الألوهيّة ، وانّ الألوهيّة في كل واحد متحقّقة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الإستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرّمة على العقل » ، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال ، بل المستند في ذلك هو الوحي والنقل.

ويلاحظ عليه أوّلاً : وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطارقة ومن فوقهم أو دونهم من القسّيسين ، إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية ، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً حقيقة لا مجازاً. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل ، فإنَّ التَمَيّز والتشخص آية التعدّد ، والوحدة الحقيقية آية رفعهما ، فكيف يجتمعان ؟

٤٨٦

وباختصار ، انّ « البابا » وأنصاره وأعوانه لا مناص أمامهم إلاّ الإنسلاك في أحد الصفّين التاليين : صف التوحيد وأنّه لا إله إلاّ إله واحد ، فيجب رفض التثليث ، أو صفّ الشرك والأخذ بالتثليث ورفض التوحيد. ولا يمكن الجمع بينهما.

ثانياً : إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يقاس بالاُمور المادّية المألوفة ، لكن ليس معناه أنَّ ذلك العالم فوضوي ، وغير خاضع للمعايير العقليّة البحتة ، وذلك لأنّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل ، وعالم المادة وما وراؤه بالنسبة إليها سيّان ، ومسألة امتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما واستحالة الدور والتسلسل وحاجة الممكن إلى العلّة ، من تلك القواعد العامّة السائدة على عالمي المادة والمعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للإعتقاد بها. وأمّا الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنّها ليست كتباً سماوية ، بل تدلّ طريقة كتابتها على أنّها اُلّفت بعد رفع المسيح إلى الله سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين ، والشاهد أنّه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفيّة صلبه ودفنه ثم عروجه إلى السماء. واحتمال إلحاق القسم الأخير له يوجب سقوطه عن الاعتبار ، لاحتمال تطرّق التحريف إلى غير الأخير أيضاً.

ثالثاً : إنّهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم : « الطبيعة الإلهية تتألّف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، أي الأب والابن وروح القدس ، والأبّ هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر. وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة وعمل واحد ».

فنسأل : ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإنّ لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه :

١ ـ أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث

٤٨٧

يظهر كل واحد منها في تشخّص ووجود خاص ، ويكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل وشخصيّة خاصّة متميّزة عمّا سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية وقد تجلّى في النصرانية بصورة التثليث. وقد وافتك أدلّة وحدانية الله سبحانه.

٢ ـ أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركّب من هذه الاُمور الثلاثة ، وهذا هو القول بالتركيب ، وسيوافيك أنّه سبحانه بسيط غير مركّب ، لأنّ المركّب يحتاج في تحقّقه إلى أجزائه ، والمحتاج ممكن غير واجب.

هذا هي الإشكالات الأساسية المتوجّهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنَّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنيّة ، تحت تأثير المضلّين ، وبذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لبعثهم ، إنَّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى عليه‌السلام ، أفضل نموذج لما ذكرناه ، وهو ممّا أثبته القرآن والتاريخ. وعلى هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح عليه‌السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ مرور الزمن رسّخ موضوع التثليث وعمّق في قلوب النصارى وعقولهم ، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي ـ أعني لوثر ـ الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات ، وأسّس المذهب البروتستاني ، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنَّ القرآن الكريم يصرّح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها ، حيث يقول تعالى : ( وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ

٤٨٨

ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( التوبة / ٣٠ ).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنَّ هذا التثليث كان في الديانة البَرَهْمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة :

١ ـ بَرَاهما ( الخالق ).

٢ ـ فيشنو ( الواقي ).

٣ ـ سيفا ( الهادم ).

وقد تسرّبت من هذه الديانة البراهمانيّة إلى الديانة الهندوكيّة ، ويوضّح الهندوس هذه الاُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما » هو المبتدئ بإيجاد الخلق ، وهو دائماً الخالق اللاهوتي ، ويسمّى بالأب.

« فيشنو » هو الواقي الذي يسمّى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا » هو المُفْنِي الهادم المعيد للكون إلى سيرته الاُولى.

وبذلك يظهر قوّة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي « غستاف لوبون » قال : « لقد واصلت المسيحيّة تطورها في القرون الخمسة الاُولى من حياتها ، مع أخذ ما تيسّر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الاُوروبية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والإبن وروح القدس ، مكان التثليث القديم المكوّن من « نروبي تر » و « وزنون » و « نرو » (١).

__________________

(١) قصة الحضارة.

٤٨٩

القرآن ونفي التثليث

إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأجلاها ، يقول : ( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) ( المائدة / ٧٥ ). وهذه الآية تبطل اُلوهيّة المسيح واُمّه ، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة ، بحجّة أنّ شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء وشأن الاُمّ شأن بقية الناس ، يأكلان الطعام ، فليس بين المسيح واُمّه وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت ، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلّما أحسّوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضمّاً إلى الحاجة إلى الطعام آية المخلوقيّة.

ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان ، بل يستدل على نفي اُلوهيّة المسيح بطريق آخر ، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح واُمّه ومن في الأرض جميعاً ، والقابل للهلاك لا يكون إلهاً واجب الوجود.

يقول سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( المائدة / ١٧ ). وهذه الآية ناقشت اُلوهيّة المسيح وأبطلتها عن طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. ويظهر من سائر الآيات أنَّ اُلوهيّته كانت مطروحة بصورة التثليث ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلاَّ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ( المائدة / ٧٣ ).

وعلى كل تقدير ، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح عليه‌السلام أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً ، وعدم كونه إلهاً ، سواء طرح بصورة التثليث أو غيره.

ثم إنَّ القرآن الكريم كما يُفَنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلهاً ابناً لله في الآيات المتقدّمة ، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضاً على وجه الإطلاق سواء كان عيسى هو الابن أو غيره ، بالبيانات التالية :

٤٩٠

١ ـ إنَّ حقيقة البنوّة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئاً من نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فرداً آخر من نوعة مماثلاً لنفسه يترتّب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتّب على الأصل ، كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ، ثم يأخذ في تربيتها حتى تصير حيواناً. ومن المعلوم أنّه محال في حقّه سبحانه ، لاستلزامه كونه سبحانه جسماً مادّياً له الحركة والزمان والمكان والتركّب (١).

٢ ـ إنّ لإطلاق اُلوهيّته وخالقيته وربوبيته على ما سواه لازم أن يكون هو القائم بالنفس وغيره قائماً به ، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه ؟

٣ ـ إنّ تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه ، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادّة والحركة وهو خلف ، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة ولا تدريج.

والدقّة في الآيتين التاليتين يفيد كل ما ذكرنا ، قال سبحانه :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقرة / ١١٦ و ١١٧ ).

فقوله سبحانه ( اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) إشارة إلى الأمر الأوّل.

وقوله سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، إشارة إلى الأمر الثاني.

وقوله سبحانه : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ ... ) ، إشارة إلى الأمر الثالث (٢).

__________________

(١) ستوافيك أدلة استحالة كونه جسماً أو جسمانياً وما يستتبعانه من الزمان والمكان والحركة.

(٢) لاحظ الميزان : ج ٣ ، ص ٢٨٧.

٤٩١

إنَّ القرآن الكريم يفنّد مزعمة « التثليث » ببراهين عقليّة اُخرى ، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال وتفسيرها ، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية.

المائة والتاسع والعشرون : « الواسع »

قد ورد لفظ الواسع في الذكر الحكيم ٩ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثمانية.

قال سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / ١١٥ ).

وقال سبحانه : ( وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / ٢٤٧ ).

وقال سبحانه : ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة / ٥٤ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ ) ( النجم / ٣٢ ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : هو كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر ، والوسع : الغنى ، والله الواسع أي الغني ، والوسع : الجدة ( الطاقة ).

أقول : لا شكّ إنّ الوسع خلاف الضيق ويختلف متعلّقه حسب المقامات.

ففي ما يقول سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) ثمّ يعلّله انّ الله واسع عليم يتبادر منه سعة وجوده وحضوره في جميع الأمكنة ، فأينما يولّي الإنسان وجهه فقد توجّه إلى الله سبحانه ، كما أنّه يتبادر منه في الموارد التالية سعة وصفه وفعله :

قال سبحانه : ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( طه / ٩٨ ) و ( أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( الطلاق / ١٢ ) و ( رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / ١٥٦ ) فَاللهُ سُبْحانَهُ

٤٩٢

واسع الوجود والذات ، واسع الفعل ، فلا يحدّ ذاته شيء ، كما لا يحدّ وصفه شيء ، ولا يحد فعله شيء.

المائة والثلاثون : « الوالي »

قد ورد لفظ « وال » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) ( الرعد / ١١ ).

وهو مأخوذ من الولي بمعنى القرب وقد تقدّم تفسيره عند البحث عن اسم المولى.

وذكرنا كيفيّة اشتقاق سائر المعاني منه ، وقلنا : إنّ قرب إنسان من إنسان يحدث أولويّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، وإنَّ المولى والولي والوالي بمعنى واحد أي القائم بالأمر ، وعلى هذا فالمراد من الوالي هو متولّي الأمر ، وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال أي من ولي يباشر أمرهم ، ويدفع عنهم البلاء ، وبعبارة أُخرى فإذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلاّ الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

المائة والواحد والثلاثون : « الودود »

قد ورد لفظ « الودود » في الذكر الحكيم مرّتين ووقعا وصفاً له سبحانه.

وقال سبحانه : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / ٩٠ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / ١٣ و ١٤ ).

وأمّا معناه فقدذكر ابن فارس : إنّه يدلّ على المحبّة.

٤٩٣

« والودود » على وزن فعول ، أمّا بمعنى المفعول فيرجع معناه أنّه سبحانه محبوب للأولياء والمؤمنين ، أو بمعنى الفاعل ك‍ « غفور » بمعنى « غافر » ويرجع معناه إلى أنّه سبحانه يودّ عباده الصالحين ويحبّهم ، والمناسب لإسم الرحيم كونه بمعنى الفاعل كما هو المناسب أيضاً لإسم الغفور وقد عرفت اقترانه في الآيتين بالإسمين.

وأمّا حظّ العبد من ذلك الاسم فله أن يتّسم باسمه فيكتسب ودّاً بين الناس بالأعمال الصالحة.

قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ) ( مريم / ٩٦ ).

المائة والثاني والثلاثون : « الوكيل »

قد ورد لفظ الوكيل في الذكر الحكيم ٢٤ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ١٤ مورد.

قال سبحانه : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / ١٧٣ ).

وقال سبحانه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وقال سبحانه : ( وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٣٢ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الأسراء / ٦٥ ).

إلى غير ذلك من الآيات الوارد فيها هذا الإسم.

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : فهو في الأصل يدل على إعتماد غيرك في أمرك ، وسمّي الوكيل وكيلاً لأنه يوكل إليه الأمر ، وقال « الراغب » : التوكيل أن تعتمد

٤٩٤

على غيرك وتجعله نائباً عنك ، والوكيل فعيل بمعنى مفعول.

قال تعالى وكفى بالله وكيلاً أي اكتف به أن يتولّىٰ أمرك ويتوكّل لك.

ثُمَّ إنّ كونه سبحانه وكيلاً ليس بمعنى كونه نائباً عن العباد في الأفعال ولا بمعنى الاعتماد عليه ، بل هو معنى أقوىٰ وأشدّ من ذلك وهو إيكال الأمر إليه لكونه سبحانه وحده كافياً في إنجاز الأمر.

قال سبحانه ناقلاً عن لسان الأولياء : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / ١٧٣ ).

ثُمَّ إنّه ربّما يستعمل ببعض المناسبات في معنى الحفيظ.

قال سبحانه : ( اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الشورى / ٦ ) ، كما أنّه ربّما يستعمل في المسيطر.

قال سبحانه : ( وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الزمر / ٤١ ).

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله : ( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الاسراء / ٦٥ ).

أي قائماً على نفوسهم وأعمالهم ، حافظاً لمنافعهم ، ومتولّياً لاُمورهم ، فإنّ الوكيل هو الكافل لاُمور الغير ، القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها (١).

ثُمَّ إنّ وكالة إنسان لإنسان تقوم بأمرين :

الأوّل : إنصراف الموكّل عن المباشرة إمّا لعجزه وإمّا لصارف آخر.

الثاني : كون الموكول إليه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والبراعة والنزاهة عن الخيانة.

__________________

(١) الميزان : ج ١٣ ، ص ١٥٦.

٤٩٥

وأمّا ايكال الإنسان الاُمور إلى الله سبحانه فهو مبني على اعترافه بالعجز بالقيام أوّلاً وكونه عالماً وقادراً ورحيماً ثانياً وهذه الصفات وهذا النحو غير حاصل إلاّ لله سبحانه الحي ، فلا جرم أن يكون وكيلاً بمعنى أنّ العباد العارفين يفوّضون اُمورهم إليه.

قال سبحانه : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( الفرقان / ٥٨ ).

وقال سبحانه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق / ٣ ).

ثُمَّ إنّ إيكال الأمر إليه ليس بمعنى عدم القيام بفعل ، بل معناه أنّه يجب على العبد بذل ما في مقدرته من الأفعال والأعمال ثُمَّ إيكال الأمر إليه حتى تصل إلى النتيجة ، ولأجل ذلك ورد الأمر بالتوكّل في الحروب والمغازي التي يجب للإنسان بذل ما يملك من النفس والنفيس فيها.

قال سبحانه : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / ١٢١ و ١٢٢ ).

المائة والثالث والثلاثون : « الولي »

قد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مضافاً وغير مضاف ٤٤ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه ٣٥ مرّة منطوقاً ومفهوماً.

قال سبحانه : ( وَكَفَىٰ بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللهِ نَصِيرًا ) ( النساء / ٤٥ ). هذا على وجه المنطوق.

وأمّا على وجه المفهوم فقد قال سبحانه : ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) ( السجدة / ٤ ).

وقد مضى معنى « الولي » عند البحث عن اسم « المولى » فلاحظ.

٤٩٦

المائة والرابع والثلاثون : « الوهّاب »

قد ورد لفظ « الوهّاب » في الذكر الحكيم ٣ مرّات.

قال سبحانه : ( وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / ٨ ).

وقال سبحانه : ( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) ( ص / ٩ ).

وقال سبحانه : ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( ص / ٣٥ ).

قال الراغب : واللفظ من الهبة وهي أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض.

قال تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) ( الأنعام / ٨٤ ) و ( الأنبياء / ٧٢ ) ، ( الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ( إبراهيم / ٣٩ ) ويوصف الله بالواهب والوهّاب بمعنى أنّه يعطي كلاًّ على استحقاقه.

إنّ الهبة لها ركنان : الأوّل التمليك ، والآخر كونه بغير عوض وهو فعل لله سبحانه على الحقيقة لأنّه مالك الملك والملكوت بإيجاده ، وأمّا غيره فإنّما يملك بتمليك منه وملكيته في طول ملكيته سبحانه. هذا حال الركن الأوّل.

وأمّا الركن الثاني فكل ما يتّفق أن يهب الإنسان ولا يطلب عوضاً وعلى الأقل المدح في العاجل والثواب في الآجل ، أو لإرضاء العواطف الإنسانية.

نعم هو صادق في حقّه سبحانه الغني عن كلّ شيء.

قال سبحانه : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) ( الفرقان / ٧٧ ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن لا يعتمد على الدنيا وما فيها ، ويهب ما يملك على النحو الذي أمر به الذكر الحكيم وقال سبحانه : ( الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / ٦٧ ).

٤٩٧
٤٩٨

حرف الهاء

المائة والخامس والثلاثون : « الهادي »

وقد ورد لفظ الهادي في القرآن الكريم ١٠ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موردين :

قال سبحانه : ( وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الحج / ٥٤ ).

وقال سبحانه : ( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / ٣١ ).

وربّما يستفاد من بعض الآيات عن طريق المفهوم مثل قوله سبحانه : ( وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / ٣٣ ) وغيره.

إنّ الهداية الإلهية من المسائل الهامّة التي اهتمّ بها القرآن اهتماماً بالغاً.

وربّما يتبادر في بادئ النظر منها التعارض والتخالف ، ومبدأ هذا هو الاكتفاء بآية واحدة والغض عن سائر الآيات الواردة في الكتاب العزيز ، فلا تحل عقدة هذه المسألة وأمثالها إلاّ بجمع الآيات في مورد واحد واستنطاقها حتى يشهد بعضها على بعض ، ولأجل أهمّيّة هذه المسألة نفيض الكلام فيها على وجه الاختصار حتى يظهر معنى قوله سبحانه : ( وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ).

٤٩٩

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه ؟

دلّت الآيات القرآنية على أنَّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. وقد وقع بعض الناس في شبهة الجبر وقالوا : إذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالإختيار.

قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم / ٤ ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( النحل / ٩٣ ).

وقال سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ( فاطر / ٨ ).

ولنا نقاش وجواب ، فنقول : إنّ تحليل أمر الهداية والضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعّبة الأبحاث ولا يقف على المحصّل من الآيات إلاّ من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي ، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد ، ثم تفسير المجموع باتّخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. وبما أنَّ هذا المنهج من البحث لا يناسب وضع الكتاب ، نكتفي بما تمسّك به الجبريّون في المقام من الآيات لإثبات الجبر ، وبتفسيرها وتحليلها يسقط أهم ما تسلّحوا به من العصور الاُولى.

حقيقة الجواب تتّضح في التفريق بين الهداية العامّة التي عليها تبتنى مسألة الجبر والإختيار ، والهداية الخاصّة التي لاتمت إلى هذه المسألة بصلة.

٥٠٠