مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له ( أي علماً له ) (١).

وفي القولين الأخيرين محاولة لتصحيح الرؤية مع التحفّظ على التنزيه ، ولكنّها غير ناجعة لأنّ الحسّ السادس إذا كان حسّا ، لا يتعلّق إلا بالمادّة والمادّيّات ، والله سبحانه فوقها ، وأمّا تحوّل العين إلى القلب وتصحيح الرؤية بالعلم فهو خارج عن البحث ، فإنّ البحث إنّما هو رؤية الله بالعيون والأبصار المتعارفة لا بالقلب. فالمعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة والإمامية والزيديّة ينكرونها وأهل الحديث والأشاعرة يثبتونها ولولا ظواهر بعض الآيات والأحاديث الواردة في المقام ، لالتحقت الأشاعرة بالعدليّة في نفي الرؤية ، ولكنّها صدّتهم عن التنزية في المقام.

ما هي حقيقة الرؤية ؟

إنّ في الرؤية قولين معروفين :

١ ـ انعكاس صورة المرئيّ بواسطة الهواء الشفّاف الذي لا لون له فلا يستر ما ورائه إلى الرطوبة الجليدية التي في العين وانطباعها في جزء منها ، وذلك الجزء الذي تنطبع فيه الصورة ، زاوية رأس مخروط متوّهم ، لا وجود له أصلاً ، قاعدته سطح المرئيّ ، ورأسه عند الباصرة (٢).

٢ ـ يخرج من العين جسم شعاعيّ على هيئة المخروط المتحقّق ، رأسه على العين وقاعدته تلي المبصر ، والإدراك التام إنّما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط.

هذان القولان يتعلّقان بالقدماء من الطبيعيين.

والأوّل لمدرسة أرسطو ، والثاني لغيره ، وقد كشف العلم الحديث عن حقيقة

__________________

(١) مقالات الإسلاميين : ص ٢٦١ ـ ٢٦٥ و ٣١٤.

(٢) مقالات الإسلاميين : ص ٣٢١.

٤٢١

الرؤية بعد دراسة تركيب العين وأجهزتها ، وحداهم البحث إلى دعم القول الأوّل لكن بصورة أدق ، وعلى ذلك فالرؤية بالأبصار والعيون المتعارفة لا تتحقّق إلاّ أن يكون المرئيّ في جهة ومكان ومسافة خاصّة بينه وبين الرائي ، ولا محيص في تحقّق الرؤية عن المقابلة ، وفي ضوء ذلك نحكم بامتناع وقوع الرؤية على الله سبحانه لاستلزامه كونه ذا جهة ومكان خاص حتى تتحقّق الرؤية ، وما ذكرناه وإن كان كافياً في إبطال الرؤية ولكن تكميلاً للبحث نأتي بأدلّة المنكرين وهو دليل واحد يقرّر بوجوه.

تقرير أدلة المنكرين بوجوه أربعة :

« إنّ الله تعالى ليس في جهة ولا في مكان بدليل أنّ ما كان في الجهة والمكان مفتقر إليهما وهو محال عليه. والله تعالى ليس بمرئيّ بدليل أنّ كل مرئي لابد أن يكون في جهة (١).

وكل من نفى الرؤية يعتمد على ذلك البرهان وحاصله أنّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل والمقابلة إنّما تكون في حقّ الأجسام ذوات الجهة والله تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.

ويمكن تقرير البرهان بصورة اُخرى وهو أنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي وخلوّ النواحي الاخرى منه تعالى وذلك مستحيل ، وإمّا أن تقع على بعض الذات فيلزم أيضا أن يكون مركبّاً متحيّزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة الباطلة المرفوضة في حقّه تعالى.

هذا ويمكن تقريره بوجه ثالث هو أنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة بالحدقة وهو سبحانه منزّه عن الإشارة.

__________________

(١) مجموعة الرسائل العشر ، المسئلة ١٦ ـ ١٧.

٤٢٢

وبتقرير رابع : إنّ الرؤية لا تتحقّق إلاّ بانبعاث أشعّة من المرئيّ إلى أجهزة العين وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذات أبعاد ومعرضاً لعوارض وأحكام جسمانيّة وهو المنزّه عن كلّ ذلك (١).

وهذه التقارير الأربعة تعتمد لبّاً على أمر واحد : وهو انّ تجويز الرؤية يستلزم كونه جسماً أو جسمانيّاً غير أنّ الطرق مختلفة ، والأوّل يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن تكون ذا جهة وحيّز ، والثاني يعتمد على كونه سبحانه متناهية إذا وقعت الرؤية على تمام الذات أو مركّبة إذا وقعت على بعضها ، والثالث يعتمد على أنّها تستلزم الإشارة ، وهو فوق أن يقع في إطارها ، والرابع يعتمد على أنّها تستلزم أن يكون جسماً وذا عوارض جسمانيّة.

والحاصل انّ إثبات الرؤية والأبصار بغير مقابلة وجهة مع كون الرؤية بالعيون والأبصار كالجمع بين وجود الشيء وعدمه نظير تصوّر كون المربّع فاقداً لبعض أضلاعه وهو في الوقت نفسه مربّع تام.

وما ربّما يظهر من بعض محقّقي الأشاعرة من الجمع بين الرؤية وعدم الجهة وما يشابهها محاولة باطلة (٢) لا تليق أن تسطّر.

وربّما يتصوّر أنّ كون ما في الآخرة يغاير ما في الدنيا ، فلعلّ الرؤية هناك متحقّقة بلا جهة واشارة ، وهذا أشبه بالسفسطة ، فإنّ المراد من المغايرة هو كون ما في الآخرة أكمل ممّا في الدنيا ، لا المغايرة من حيث الماهيّة والواقعيّة ، والقواعد العقليّة لا تخصّص بل هي سائدة في الدارين.

__________________

(١) لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص ٨٢ ـ ٨٣ ، واللوامع الالهية : ص ٨١ ـ ٨٢ وقواعد المرام في علم الكلام ـ للشيخ ميثم بن على البحراني المتوفّى عام ٦٨٩ ـ وكشف المراد : ص ١٨٢.

(٢) لاحظ شرح التجريد للفاضل القوشجي.

٤٢٣

القرآن يتلقى الرؤية أمراً منكراً

إنّ الدقّة في الآيات الواردة حول الرؤية وسؤال بني اسرائيل إيّاها من نبيّهم يقف على أنّ القرآن يقابلها بالاستنكار الشديد فيتلقّاها أمراً منكراً.

١ ـ قال سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( البقرة / ٥٥ ).

٢ ـ قال سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) ( النساء / ١٥٣ ).

٣ ـ وقال سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / ١٥٥ ).

٤ ـ وقال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / ١٤٣ ).

ومن أمعن في هذه الآيات من دون رأي مسبق يقف على أنّ القرآن يستنكر رؤية الله ويقابل من يطلبها ، بالصاعقة والرجفة واللّوم ، فمع هذه النصوص كيف يمكن لنا القول بجواز رؤيتها في الدنيا والآخرة ، أو في خصوص الآخرة ؟ فإنّ الأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص ، فالجمع بين الضدين أو النقيضين محال في الدارين ، وهكذا القواعد الرياضيّة صادقة فيهما ، فهي لا تتخلّف في ظرف من الظروف وإلاّ صارت قضايا مشكوكة غير منتجة.

٤٢٤

سبحانك أنت القائل : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ).

سبحانك أنت القائل : (لَن تَرَانِي ـ يا موسى ـ ) مقروناً بلن للتأبيد في النفي.

سبحانك أنت القائل : ( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ).

إنّ الذين يتمنّون رؤيته في الدنيا والآخرة إنّما يتمنّون أمراً محالاً غافلين أنّ العيون لا تدركه بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، فهو قريب من الأشياء ، غير ملابس ، بعيد عنها غير مبائن (١).

إنّ المصرّين على جواز الرؤية يتخيّلون أنّها عقيدة إسلامية وردت في الكتاب والسنّة ولكنهم غفلوا عن أنّها طرحت من قبل الأحبار والرهبان بتدليس خاص ، فهم الأساس لهذه المسائل التي لا تجتمع مع قداسته وتنزيهه سبحانه ، فهذا هو العهد العتيق مليء بالأخبار عن رؤيته تعالى وإليك مقتطفات منه :

١ ـ « رأيت السيّد جالساً على كرسي عال ... فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود » ( أشعياء / ٦ : ١ ـ ٦ ). والمقصود من السيّد هو الله جلّ ذكره.

٢ ـ « قد رأيت الربّ جالساً على كرسيّه وكل جند البحار وقوف لديه » ( الملوك : الأوّل / ٢٢ ).

ومن أراد التبسّط في ذلك فليرجع إلى سفر التكوين قصة آدم وحواء وقصة يعقوب وإبراهيم ترى فيها أشياء واُموراً ممّا يندى له الجبين ويخجل القلم عن الإشارة إليه.

غير أنّ المغفلين من أهل الحديث أخذوا بالأحاديث الموضوعة على وفق ما جاء في العهدين حقائق راهنة ، فاتخذوا الرؤية عقيدة إسلامية شوّهوا بها المذهب.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٧٤.

٤٢٥

أدلة القائلين بالرؤية

إنّ القائلين بالرؤية استدلّوا بآيتين :

١ ـ قوله سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( القيامة / ٢٢ ـ ٢٥ ). وقد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة.

المثبّتون يصرّون على أنّ النظر في « الناظرة » بمعنى الرؤية ، والنافون يصرّون بأنّه بمعنى الانتظار ، والفريقان يتصارعان في تفسير الآية مستشهدين ببعض الأشعار والجمل.

غير انّا نضرب على الكلّ صفحاً لأنّ البحث فيهما يستدعي تفصيلاً ، ولكن نلفت نظر المستدلّين بها إلى أمرين ولو تدبّروا فيهما تدبر إنسان حر غير متأثّر بآراء قومه ونحلته ، لعرفوا أنّ الآية لا تدل على مقصودهم بتاتاً.

١ ـ ترى أنّه سبحانه يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فينسب النظر إلى الوجوه لا العيون ، فلو كان المراد أنّ أهل الجنة ينظرون إليه سبحانه ويرونه فلماذا نسب الرؤية إلى الوجوه مع أنّه قائم بالعيون وهذا يدلّ على أنّ « ناظرة » في الآية وإن كانت بمعنى الرؤية لكنها تهدف إلى معنى آخر غير الرؤية الحسّيّة ، وإنّ النظر في المقام كنظر الفقير إلى الغني ، والخادم إلى مخدومه ، والمرؤوس إلى رئيسه فالكل ينظرون إلى أسيادهم لكن نظراً معنوياً لا حسّياً.

٢ ـ إنّ الآيات تشتمل على جمل متقابلة ، فلو كان هناك إجمال في احدى الجمل يصح تفسيره بمقابله ومقارنه الواضح ، وإليك مقارنة هذه الجمل.

أ ـ « وجوه يومئذ ناضرة »

يقابلها قوله : « وجوه يومئذ باسرة »

ب ـ « إلى ربّها ناظرة »

يقابلها قوله : « تظن أن يفعل بها فاقرة ».

فلو كان هناك إبهام في أحد المتقابلين ، يرفع بالمقابل إبهام المقابل الآخر ،

٤٢٦

فهلم معي نستوضح معنى « إلى ربّها ناظرة ».

فهل المقصود الجدّي هو النظر والرؤية ؟

أو هو التوقّع والانتظار ؟

فيمكن رفع الابهام وامعان النظر في مقابله أعني : « تظن أن يفعل بها فاقرة » فإنّ مفاده أنّ الطائفة العاصية تتوقّع نزول عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها ، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد من مقابله خلاف ذلك ، وأنّ هٰؤلاء المطيعين يتوقّعون خلاف ما تتوقّعه الطائفة الاُخرى يتوقعون فضله وكرمه ورحمته وأين هذا من الرؤية ؟

بذلك يظهر أنّ التركيز على الوجوه دون العيون لأجل إفادة هذا المعنى ، أي أنّ وجوها تنتظر العذاب ، وأن وجوهاً متوجهةً إلى الباري تنتظر الرحمة.

وهذا نظير قول القائل :

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

ويقال : أنظر إلى الله ثمّ إليك.

فإنّ النظر في هذه الموارد وإن كان بمعنى الرؤية ، ولكنّها كناية عن انتظار الرحمة ، فقول التلميذ لاُستاذه ، والولد لوالده ، والخادم لسيده : « أنا أنظر إليك » بهذا المعنى.

وقال آخر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمان يأتي بالفلاح

أي منتظرات لإتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.

وقال أيضاً :

كل الخلائق ينظرون سجاله

نظر الحجيج الى طلوع هلال

أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجّاج لظهور الهلال وطلوعه.

٤٢٧

حتى لو كان النظر في الآية بمعنى الانتظار ، أو بمعنى الرؤية ، لا تدلّ على رؤيته سبحانه يوم القيامة ، بل ليست بصدد هذا الأمر أصلاً ، ولا فرق بين تفسير الكلمة بالنظر ، أو الانتظار.

وما ربّما يتصوّره البعض من أنّ « ناظرة » لو كانت بمعنى الرؤية تمّت دلالة الآية ، ولو كانت بمعنى الانتظار لم تتم ولم تدل ، كلام سطحي ينمّ عن عدم تعمّق في السياق الذي جاءت به الآية كما ستعرف.

وخلاصة القول : إنّ الآية ـ سواء من النظر فيها بمعنى الانتظار أو الرؤية ـ تهدف أمراً آخر ، لا ارتباط له بمسألة الرؤية أصلاً ، ولا يعرف هذا إلاّ بمقارنة الآية المذكورة بالآيات المقابلة لها.

فإنّ الآية الثانية أي ( إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) يبيّن ما هو المتوقّع عند المؤمنين كما أنّ الآية الرابعة أي ( تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) يبين ما هو المتوقع عند العاصين ، فحيث كان المقصود في الآية الرابعة هو توقّع العصاة للعذاب الإلهي كان المقصود في الآية الثانية ( بحكم التقابل ) هو توقّع المطيعين المتّقين الرحمة الإلهية ، وهذا هو هدف الآية الثانية ، فتفسير النظر برؤية جماله وذاته غريب عن مرمى الآية وهدفها.

إذا عرفت هذا فلا يتفاوت بأن يفسر « ناظرة » بمعنى الانتظار ، فيكون معناه المطابقي هو انتظار رحمته بدل انتظار عذابه ، أو يفسّر بالرؤية فيكون المراد منه ـ بالمآل ـ انتظار الرحمة ، لأنّ الرؤية في هذه الموارد تكون كناية عن انتظار الرحمة ، وتوقع اللطف من الجانب الآخر.

يقال : فلان ينظر إلى يد فلان ، ويراد منه أنّه معدم محتاج ، ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، وما منعه حرم منه.

وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية اليوميّة إذ يقول أحدنا لصديقه الذي يتوقّع منه المعونة والمدد :

٤٢٨

« إنّما ننظر إلى الله ثم إليك ».

وهذا مؤلّف « أقرب الموارد » عند ما يذكر هذا المثال يفسّره بقوله : « إنّما أتوقع فضل الله ثم فضلك ».

فالكلام هو عن توقّع الرحمة ووصولها وشمولها وعدم توقّعها ووصولها وشمولها.

ولنا في الكتاب العزيز نظير لهذا ، إذ يقول سبحانه :

( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ) ، فكل هذا كناية عن طردهم عن ساحته ، ويشعر بذلك قوله في الآية المتقدمة عليها ( بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ).

فالآيتان بهذا الشكل من حيث الموضوع والحكم.

من أوفى بعهده واتقى ; يحبّه الله.

ومن اشترى بعهد الله وإيمانه ; لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم.

فبقرينة المقابلة بين الجزئين يعلم أنّ المرا د هو حبّه سبحانه المستلزم للجزاء الحسن ، وعدم حبّه المستلزم للجزاء السيء.

فالمراد ب‍ « لا ينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية الله لهم ومشاهدتهم ، فالرؤية وعدم الرؤية ليست أمراً مجدياً أو ضارّاً إنّما ايصال الرحمة وعدم ايصالها للشخص هو النافع أو المضرّ بحاله ، فيكون جملة « لا ينظر إليهم » كناية عن عدم اللطف والرحمة.

وهذه الآية شغلت ـ مع الأسف ـ بال المعتزلة والأشاعرة قروناً عديدة فركّزوا البحث في تحديد معنى « ناظرة » وانّها بمعنى الانتظار أو الرؤية ، فكلّ استظهر مايطابق مختاره ، وقد غفلوا عن مفتاح حل المشكلة ، وأنّه يجب ملاحظة الآية من حيث السياق والهدف والقرائن الحافة بها.

٤٢٩

هذا ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ النظر ولو كان بمعنى الرؤية ليس المقصود منه الرؤية البصريّة الحسّيّة بل المراد هو الكناية عن انتظار الرحمة الإلهية ، وتقديم المفعول وهو « إلى ربّها » على العامل وهو « ناظرة » نظير قوله تعالى : ( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ) ونظائرها ، فإنّ تقديم المفعول يدل على معنى الاختصاص لأنّ الإنسان لا يتوقّع هنا إلاّ رحمة الله وعنايته ولطفه ، وأمّا النظر بمعنى الرؤية ، فلا ينحصر بالله لأنّ الناس ينظرون إلى غير الله أيضاً كما تدلّ عليه آيات وروايات.

قال الزمخشري : « معلوم أنّهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلّهم ، فإنّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم لأنّهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فاختصاصه بنظرهم إليه ـ لو كان منظوراً ـ محالٌ فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص ، والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ، ما يصنع بي تريد معنى التوقّع والرجاء ومنه قول القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما (١)

نعم أورد عليه صاحب « الإنتصاف » بقوله :

« إنّ المتمتّع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرف عنه طرفه ، ولا يؤثّر عليه غيره ولا يعدل به ـ عزّ وعلى ـ منظوراً سواه ، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء ، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ، ولم يؤثر عليه ، فكيف بالمحبّ منه عزّ وجلّ إذا أحظاه للنظر إلى وجهه الكريم » (٢).

أقول : لو صحّ ما ذكره صاحب « الإنتصاف » وإنّ النظر إنّما هو بمعنى الرؤية البصرية الحسّيّة ، وإنّ المؤمن ينظر إلى الله سبحانه ، وإنّ جمال الله تعالى يجذبه ،

__________________

(١) الكشاف : ج ٤ ، ص ١٦٥.

(٢) نفس المصدر.

٤٣٠

لزم قصر النظر يوم القيامة عليه سبحانه لأنّه لا يعدل به غيره ، ولزم أن لا ينظر إلى سواه لأنّ غيره في مقابله ليس بديعاً ولا جميلاً جاذباً مع انّا نرى أنّ الآيات والروايات تتحدّث عن نظر الإنسان في ذلك اليوم إلى أشياء غيره تعالى كما هو واضح لمن أمعن النظر في الآيات الواردة حول الجنّة وأهلها وقصورها وحورها وفواكهها و ... فعلى قول صاحب « الانتصاف » يترك كل ذلك سدى ولا ينصرف المؤمن من رؤية الله إلى غيرها وهو كما ترى.

٢ ـ الآية الثانية :

قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ... ).

وجه الاستدلال انّه لو كانت الرؤية ممتنعة لكان موسى واقفاً عليه وعندئذ لما أقدم على السؤال والسؤال دليل على الامكان (١).

والجواب يتوقّف على بيان اُمور :

١ ـ هل كان هناك ميقات واحد أو ميقاتان ؟

جاءت قصّة ميقات موسى في آيتين :

الأولى : قوله سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / ١٥٥ ).

الثانية : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : ص ٣٢٩.

٤٣١

جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / ١٤٣ ).

فعندئذ يجب امعان النظر في أنّه هل كان هناك ميقاتان أو ميقات واحد ذو شأن خاص. قال سبحانه : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الأعراف / ١٤٢ ).

وقال سبحانه : ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( البقرة / ٥١ ـ ٥٢ ).

فهاتان الآيتان تعرضان عن ميقات واحد وأنّه كان في بدء الأمر ثلاثين ليلة ثم تمّم بعشر ، ولو كان هناك ميقات آخر مثله أو أزيد أو أقل كان المناسب ذكره والتنويه به.

٢ ـ هل مات القوم بالصاعقة أو الرجفة ؟

إذا كان هناك ميقات واحد وقد هلك فيها قوم موسى بعذاب الله ، فما كان السبب في موتهم هل كان هو الرجفة أو الصاعقة ؟ نرى أنّه سبحانه نسب موتهم في بعض الآيات إلى الصاعقة ( البقرة / ٥٥ والنساء / ١٥٣ ) وفي البعض الآخر إلى الرجفة ( الأعراف / ١٥٥ ).

والجواب : إنّ المراد بالرجفة رجفة الصاعقة ، لا الرجفة في أبدانهم وله نظير في القرآن الكريم ، مثلاً يقول في قوم صالح : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ( الأعراف / ٧٨ ).

وقال فيهم أيضاً : ( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( فصّلت / ١٧ ).

٤٣٢

والصواعق السماوية لا تخلو من صيحة هائلة تقارنها ولا ينفك ذلك غالباً عن رجفة الأرض وهي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد ، فالظاهر أنّ عذابهم كان بصاعقة سماوية اقترنت بصيحة هائلة ورجفة في الأرض فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم.

٣ ـ هل كان هناك سؤالان أو سؤال واحد ؟

إنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، قالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء ، وسأل ربّه أن يكلّمه فلمّا سمعوا كلامه قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، وعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم وعتوّهم واستكبارهم.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) ( البقرة / ٥٥ ).

وقوله : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ) ( النساء / ١٥٣ ).

وقوله : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ... ).

كل هذه الآيات راجعة إلى هذه الحادثة أي سؤال قوم موسى منه أن يريهم ربّهم ثمّ إنّ الكليم طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربّما قالوا : إنَّك لم تك صادقاً في قولك : إنّ الله يكلّمك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه ، وإلى هذا الطلب يشير قول الكليم في الآية الثالثة :

( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ ... ).

ثمّ إنّ قومه بعد الإحياء وقفوا على أنّه لا يمكنهم رؤيته سبحانه ، فطلبوا منه أن

٤٣٣

يسأل موسى الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحل رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية أو يسمعوا كلامه بأنّه لا يرى ، وعندئذ أقدم الكليم على السؤال تكبيتاً لهٰؤلاء واسكاتاً لهم ، وبما أنّه لم يقدم إلاّ إثر الإصرار من جانبهم لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أي لوم وعتاب أو مؤاخذة وعذاب بل اكتفى بقوله : ( لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ... ).

وبعبارة اُخرى إنّ موسى كان من أعلم الناس بالله وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز ، ولكن ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هٰؤلاء الذين وصفهم بأنّهم سفهاء وتبرّأ من فعلهم ، فبما أنّهم لجّوا وتمادوا وقالوا بأنّهم لا يؤمنون به حتى يراه موسى ويخبرهم به أو يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله « لن تراني » فطلب موسى الرؤية ليسمعوا كلامه ويزول ما دخلهم من الشبهة ، ولأجل ذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ولم يقل ( ربّ أَرهم ينظروا إليك ).

ويؤيّد تعدّد السؤال مع كون الميقات واحد ، أمران :

١ ـ إنّ الرجفة عمّت جميع الحاضرين في الميقات إلاّ موسى نفسه فانّه لم يصبه شيء بل شاهد باُمّ عينيه أنّهم ماتوا إثر نزول العذاب.

قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ... ) فإنّ الظاهر من ترتّب « قال » على قوله « فلمّا أخذتهم » إنّ موسى لم يصبه شيء حتى الاغماء والغشيان بل قال ما قال بعد موتهم بلا فصل.

وأمّا عند ما تصدّى موسى نفسه للسؤال وقال أرني أنظر إليك ، كانت نتيجة ذلك سقوطه صعقاً ثمَّ إفاقته وتوبته وإنابته ، فأصابه شيء لم يصبه عند السؤال الأوّل.

وحاصل هذا الوجه أنّه يمكن استكشاف تعدّد الواقعة باختلاف الأثر وهو كونه عليه‌السلام سالماً غير مصاب بشيء في الواقعة الاُولى وكونه صعقاً في الواقعة الثانية ، وهذا يكشف عن تعدّد السؤال.

٤٣٤

٢ ـ نرى أنّه سبحانه يذكر سؤال القوم مع نزول الصاعقة والرجفة ، ويذكر السؤال الثاني بتجلّي الرب على الجبل وصيرورته دكّاً وسقوط موسى صعقاً ، ثمّ إفاقته وإنابته من دون ذكر لطروء شيء على قوم موسى ، فالقول بوحدة الواقعتين لا ينسجم مع ظواهر هذه الآيات.

ما وجه تقديم سؤال موسى على سؤال قومه ؟

إنّ هذا التقرير يعرب عن أنّ قوم موسى تقدّموا بالسؤال أوّلاً فأخذتهم الصاعقة فبعدما أحياهم سبحانه تقدّم موسى إلى السؤال ثانياً بإلحاح قومه حتى يرى موسى ربّه أو يُسمِع لهم كلام الرب بأنّه لا يمكن رؤيته ، وعلى هذا كان الأليق تقديم سؤال القوم على سؤال موسى مع أنّ المصحف الكريم حكى سؤال موسى أوّلاً بقوله : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ( الأعراف / ١٤٣ ).

ثمّ حكى سؤال قومه في الآية رقم ١٥٥ من تلك السورة أعني قوله : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا ... أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... ) فما هو السر في تقديم ما حقّه التأخير ؟

والجواب : إنّ تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعدّدة والانتقال من حديث إلى آخر لحكمة في ذلك غير عزيز ولا غريب في القرآن الكريم ، وليس القرآن كتاب قصّة حتى يعاب بالانتقال قبل تمامه ، وإنّما هو كتاب هداية ودلالة وحكمة ، يأخذ من القصص ما يهمّه (١).

وبعبارة اُخرى : إنّ العود إلى ذلك الجزء في آخر القصة بتفصيل وتبيين لأجل إظهار العناية به من جميع أجزاء القصة ، والله سبحانه ذكره في الأثناء بما أنّه جزء من القصة ، ولأجل حفظ التسلسل والترابط بين أجزائها ثمّ عاد إليه بعد الانتهاء من بيان

__________________

(١) الميزان : ج ٨ ، ص ٢٨٥.

٤٣٥

القصة لاستعراضه بنحو مشروح ، وذلك لأجل إبراز العناية بهذا الجانب من القصة فانّها كانت مسألة هامّة وكبيرة في حياة أكابر بني اسرائيل حيث جرت عليهم ما جرت ، وأنّه لولا دعاء موسى لما عادت الحياة إليهم.

وعلى هذا فلا دلالة في سؤال موسى على امكان الرؤية بعد كونه بسبب إصرار القوم وإلحاحهم ، وكان إقدامه لأجل تكبيتهم واسكاتهم.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تعدد السؤال هو الظاهر من الحديث المروي عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : إنّ كليم الله رجع إلى قومه ، فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فلمّا جاء بهم إلى الميقات وسمعوا كلامه ، قالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم بعث الله عزّ وجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، ثم أحياهم سبحانه بطلب من موسى ، فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته فقال موسى : يا قوم إنّ الله لا يرى بالأبصار ولا كيفيّة له ، وإنّما يعرف بآياته ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل ، فأوحى الله إليه يا موسى إسألني ما سألوك ولن اُوآخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى : ربّ أرني أنظر إليك (١).

كلام لصاحب « الكشّاف »

وهناك كلام ذكره علاّمة المعتزلة « الشيخ محمود الزمخشري » صاحب الكشّاف ، والجواب عن الاستدلال بالآية مبني على وحدة السؤال هذا نصّه :

« ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هٰؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلاّلاً وتبرّأ من فعلهم وليلقمهم الحجر ، وذلك انّهم حينما طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، وأعلمهم

__________________

(١) التوحيد للصدوق ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث ٢٣ ، نقلناه ملخّصاً.

٤٣٦

الخطأ ونبّههم على الحق ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا : « لابد ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ». فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ).

فان قلت : فهلاّ قال « أَرهم ينظروا إليك » ، قلت لأنّ الله إنّما كلّم موسى عليه‌السلام وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يرَ موسى ذاته فيبصرونه معه كما أسمعه كلامه فسمعوا منه ، إرادة مبنيّة على قياس فاسد (١). فلذلك قال موسى : ( أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ).

ولأنّه إذا ضُجِر عمّا طلب ، وأنكر عليه مع كونه نبيّاً ، وقيل له « لن يكون » ذلك « كان غيره أولى بالإنكار ، ولأنّ الرسول إمام اُمّته فكان ما يخاطب به راجعاً إليهم أيضاً.

ثمّ إنّ قوله ( أَنظُرْ إِلَيْكَ ) صريح في التشبيه والتجسيم وجلّ موسى أن يكون مجسّماً أو مشبّهاً وهذا دليل على أنّه ذكر ذلك ترجمة من مقترحهم وحكايةً لقولهم وجَلّ صاحبُ الجمل من أن يجعل الله منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسّة البصر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة الله من المتكلّمين والفلاسفة ؟

فان قلت : ما معنى « لن » ؟ قلت : « تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » ، وذلك لأنّ « لا » تنفي المستقبل تقول : لا أفعل غداً ، وإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً ، والمعنى أنّ فعله ينافي حالي كقوله : « لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له » فقوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) نفي للرؤية فيما يستقبل « ولن ترانى » تأكيد وبيان لأنّ الرؤية منافية لصفاته » (٢).

__________________

(١) وهذا القياس عبارة عن أنّهم كما سمعوا صوته عن طريق موسى ، يمكن لهم رؤية ذاته عن طريق رؤية موسى أيضاً قياساً فاسداً.

(٢) الكشّاف ـ تفسير سورة الاعراف ـ : ج ١ ، ص ٥٧٣ ـ ٥٧٤.

٤٣٧

وهذا الجواب مبنيّ على وحدة السؤال بشهادة قوله : « فان قلت فهلاّ قال أرهم ينظروا إليك ... » فهذا يعرب عن أنّه لم يتقدّم سؤال من بني اسرائيل حول رؤية الله ، إذ لو تقدّم السؤال وترتب عليه نزول الصاعقة والرجفة ; لما كان هناك مورد للسؤال بقوله : « أَرهم ينظروا إليك » لمّا رأى أنّ طلب الرؤية لهم استعقب نزول العذاب ، ولم يبق إلاّ السؤال لنفسه نيابة عنهم حتى يترتب عليه أحد الأمرين أمّا الرؤية أو الردّ ويتمّ الحجة على القوم ، وإن كان القوم لا يأملون إلاّ الشقّ الأوّل.

وعلى كل تقدير سواء كان هناك سؤالان أم كان سؤال واحد فليس في سؤال موسى دلالة على امكان الرؤية بعد كون سؤاله لأجل قومه وإثر إصرارهم والحاحهم.

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّت بقوله سبحانه : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) من جهة اُخرى قالوا : « إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.

والجواب : إنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله : ( فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) هو امكان الاستقرار ولا شك انّه أمر ممكن ، والمعلّق على الأمر الممكن أيضاً ممكن.

ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد التجلّي والمفروض انّه لم يستقر بعد ذلك بدليل قوله سبحانه : ( جَعَلَهُ دَكًّا ) وهذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صلّيت » فالمراد هو قيام المخاطب بها بالفعل ، لا امكان قيامه.

وهذا الاستدلال من الأشاعرة من غرائب الاستدلال.

٤٣٨

الرؤية القلبيّة

ثم إنّ للعلاّمة الطباطبائي نظرية في معنى الرؤية نذكرها هنا ملخّصة :

يقول العلاّمة : « والذي يعطيه التدبّر انّ حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامّي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الأبصار الذي يهيّئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه.

وبالجملة ، هذا الذي نسمّيه الابصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميعاً وهذا لا شك فيه.

والتعليم القرآني يعطي اعطاءً ضرورياً إنّ الله تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة.

وما هذا شأنه لا يتعلّق به الابصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة ، ولا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة.

وقد أطلق الله الرؤية وما يقرب منها في موارد كثيرة من كلامه فتارة أثبتها ، وتارة نفاها.

فربّما تفسّر الرؤية بحصول العلم الضروري لمبالغة في الظهور ونحوها كما قيل.

وفيه انّا لا نسمّي كل علم ضروري رؤية. مثلاً إنّا نعلم علماً ضروريّاً بوجود « لندن » ولم نرها ولا نسمّيه رؤية.

وأوضح من هذا علمنا الضروري بالبديهيات الأوّلية التي هي بكلتيها غير مادّيّة ولا محسوسة ، مثل قولنا « الواحد نصف الاثنين » فإنّها علوم ضرورية يصحّ اطلاق العلم عليها ، ولا يصحّ اطلاق الرؤية عليها البتة.

نعم بين معلوماتنا ما لا نتوقّف في إطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه ، نقول : وأراني اُريد كذا وأكره كذا واُحبّ كذا.

٤٣٩

وتسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطرّدة.

والله سبحانه في ما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيّات ويضم إليها ضمائم يدلّنا على أنّ المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسمّيه في ما عندنا أيضاً رؤية كما في قوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) ( فصّلت / ٥٣ و ٥٤ ).

حيث أثبت أوّلاً : انّه على كل شيء حاضر ومشهود له ، لا يختصّ بجهة دون جهة ، وبمكان دون مكان ، وبشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء ، محيط بكل شيء ، لو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه ومع نفس وجدانه وعلى نفسه.

وثانياً يثبت على هذه السمة لقاؤه ، لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسّي الذي لا يتأتّىٰ البتة إلاّ بمواجهة جسمانية وتعيّن جهة ومكان وزمان.

وبهذا يشعر ما في قوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) ( النجم / ١١ ) من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلّق على يسار الصدر داخلاً.

ونظير ذلك قوله تعالى : ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) ( المطفّفين / ١٤ و ١٥ ).

دلّ على أنّ الذي يحجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربّهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة ، لولا المعاصي لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم.

فبهذه الوجوه يظهر أنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسيّة وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسيّة أو فكرية ، وانّ للإنسان شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من

٤٤٠