مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

يفعل ، يعرب عن عدم كفاية الذات في مقام الفاعليّة بل تحتاج إلى ضم ضميمة باسم المشيئة والله سبحانه تام في الوجود كما هو تام في الفاعليّة ، لا يحتاج في وجوده وفعله إلى شيء سواه ، فيجب في توصيفه سبحانه بالقدرة والاستطاعة ، تجريده عن شوب النقص والعيب.

ولعلّنا لا نقدر على تعريف قدرته بشكل جامع ومانع مناسب لذاته إلاّ أنّه يمكن القاء الضوء عليه بالتقسيم التالي.

إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل لا تخلو عن أقسام ثلاثة :

١ ـ أن يكون ملازماً للفعل غير منفك عنه كالنار بالنسبة إلى الاحراق.

٢ ـ أن يكون ملازماً لتركه فيكون ممتنعاً عليه كالنار بالنسبة إلى البرودة.

٣ ـ أن يكون الفاعل غير مقيّد بواحد من النسبتين فلا يكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيّد المبدء بالترك ولا الترك ممتنعاً عليه حتى يتقيّد بالفعل ، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيّد بشيء من الفعل والترك ، ولعلّ هذا التعريف أسهل وأتقن ما في الباب.

وقد قلنا غير مرّة : إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بهذه الصفات الكماليّة هو اثبات الكمال على ذاته وتنزيهه عن النقص والعيب فلو كان في اجراء بعض الصفات بما لها من المفاهيم العرفيّة شيء ملازم لشوب النقص ، وجب تجريدها عنه ، وتمحيضها في الكمال المحض ، وقد تعرّفت في تفسير الحياة بأنّ ما ندركه من معناه من الموجودات الطبيعيّة يمتنع توصيفه سبحانه بها لاستلزامه كون الواجب موجوداً مادّياً قابلاً للفعل والانفعال ، بل يجب في اجراء الحياة عليه تجريده عن كل ما يلازم شوب النقص ووصمة الامكان.

٣٨١

دلائل قدرته سبحانه :

استدلّ على قدرته سبحانه باُمور :

الأوّل : الفطرة

فكلّ إنسان يجد في قرارة نفسه وصميم ذاته ووجدانه ميلاً وانجذاباً إلى قدرة فائقة يستمدّ منها العون عند الشدائد ونزول المحن ، ويعتقد كونه قادراً على تخليصه ومساعدته وإمداده. إن وجود تلك الفطرة وذلك الانجذاب حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة ، وإلاّ يلزم لغويّة وجودها في الإنسان ، وليس المراد منها التصوّر والتفكّر حتّى يقال إنّ الوهم لا يدلّ على وجود المتوهّم بل المراد هو الميل الباطن والانجذاب الذاتي من دون محرّك وحافز ، فكل إنسان عند ما يواجه المشاكل والشدائد يجد من أعماق نفسه أنّ هناك موجوداً قادراً عالماً بمشاكله وهو قادر على دفعها عنه.

نعم بعد ما ارتفعت الشدّة ، وهدأت الأوضاع ربّما يغفل عنها ، وهذا من خصائص الاُمور الفطرية حيث تتجلّى في ظروف خاصّة وتتضاءل في ظروف اُخرى.

قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / ٤٠ و ٤١ ).

فالفطرة كما تهدي إلى أصل وجود الصانع ، كذلك تهدي إلى صفاته.

الثاني : مطالعة النظام الكوني

إنّ مطالعة النظام الكوني بما فيه من دقيق وجليل ، وما فيه من دقة وروعة ، وجمال وبهاء واتقان واحكام ، تهدي أنّ فاعله وموجده قادر ، قام بفضل قدرته على ايجاد عالم بديع. وقد خدم العلم الحديث بتوضيح هذا الوصف خدمة عظيمة ، وكلّما تكاملت العلوم الطبيعية ازداد علم الإنسان بسعة قدرته سبحانه و

٣٨٢

يقف على ما في هذا النظام من السنن والقوانين التي تحيّر العقول.

ويكفي في ذلك إذا لاحظنا النظام السائد على الكون بدءاً من السماء وما فيها من نجوم وكواكب وما فيها من منظومات ومجرّات ومروراً بالأرض ، وما فيها من عوالم كعالم الحيوان وعالم البحار وعالم النبات وعالم الحشرات ، وما فيها من بدائع الصنع ورائع الخلق. ـ فإذا لاحظنا ـ تتمثّل قدرته تعالى أمام أعيننا قدرة لا يمكن تحديدها ، وعلى ذلك فكما أنّ وجود كل ممكن يدلّ على وجود صانع له فكذا صفات المصنوع كاشفة عن صفات الصانع ، فالملحمة الشعرية كما تحكي عن وجود الشاعر ، تعرب عن مدى مقدرته الخياليّة وذوقه الخلاّق ، حيث استطاع بذوقه المتفوّق على التحليق في آفاق الخيال ، وسبك المعاني في قوالب الألفاظ الجميلة. فكتاب « القانون » لابن سينا في الطب و « الشفاء » له في الفلسفة ، و « الملحمة البطولية » للفردوسي تعكس قدرة المؤلّفين وإحاطتهم على الطبّ والفلسفة وخلق المفاهيم والمعاني في عالم الخيال.

يقول الإمام أمير المؤمنين في بعض خطبه :

« وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ... » (١).

الثالث : معطي الكمال لا يكون فاقداً له

ومن دلائل قدرته أن خلق الإنسان وخلق غيره من الأشياء وأعطى لكلّ موجود حرّ مختار قدرة يقتدر بها على ايجاد البدائع والغرائب من الأشياء ، ومعطي هذا الكمال ومفيضه لا يكون فاقداً له ، والذي أظن إنّ المقام غني عن إقامة البرهان ، إنّما الكلام في فروع هذا الوصف التي مهمّها عبارة عن سعة قدرته لكل شيء.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة٨٧ المعروف بخطبة الاشباح.

٣٨٣

سعة قدرته لكلّ شيء

الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الحالات والأحايين ، يجب أن يكون قادراً على كل شيء ممكن ولا يتبادر إلى الأذهان أبداً ـ لولا تشكيك المشكّكين ـ انّ لقدرته حدوداً وانّه بالتالي قادر على شيء دون شيء ولكن الأبحاث الكلاميّة طرحت أسئلة في المقام وهي :

١ ـ هل هو سبحانه قادر على القبيح أو لا ؟

٢ ـ هل هو قادر على خلاف معلومه أو لا ؟

٣ ـ هل هو قادر على مثل مقدور العبد أو لا ؟

٤ ـ هل هو قادر على عين مقدور العبد أو لا ؟

ولا تنحصر الأسئلة المطروحة في المقام فيما ذكر بل هناك أسئلة اُخرىٰ ، فإليك بيانها :

٥ ـ هل هو سبحانه قادر على خلق نظيره ؟

٦ ـ هل هو سبحانه قادر على جعل الشيء الكبير في جوف الشيء الصغير ؟

٧ ـ هل هو سبحانه قادر على خلق شيء لا يقدر على إفنائه أو تحريكه من جانب إلى جانب ؟

وهذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة لا يختلف فيها أحد من المتكلّمين ولأجل ذلك لا يعدّ البحث فيها ملاكاً لوجود الخلاف ، وإليك البحث عن تاريخ المسألة وفاقاً وخلافاً فنقول :

لم يكن أحد من المسلمين مخالفاً في سعة قدرته أخذاً بالنصوص الواردة في الكتاب الحكيم ، إلى أن حدث الخلاف في عموم قدرته على اُمور أربعة :

الأمر الأول : قدرته على القبيح من جانب المتكلّم المعتزلي الشهير

٣٨٤

« إبراهيم ابن سيّار » ( النظام ) (١) المتوفّى عام ٢٣١ فقد خالف فيها وقال بعدم قدرته على القبيح وإلاّ لصدر منه فيكون فاعله جاهلاً أو محتاجاً وهو محال ، فيكون الفعل محالاً فلا يقدر عليه (٢).

الأمر الثاني : من جانب « عبّاد بن سليمان السيمري » حيث قال :

إنّ الله لا يقدر على خلاف معلومه. أي ما علم الله وقوعه ، وجب وقوعه وما علم عدمه ، يمتنع وقوعه ، إذ لو لم يقع ما علم وقوعه ، أو وقع ما علم عدمه ، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً ، وانقلاب علمه تعالى جهلاً محال (٣).

الأمر الثالث : من جانب البلخي المتوفّى عام ٣١٩ حيث قال : لا يقدر على مثل مقدور عبده لأنّه طاعة أو سفه أو عبث ، والكل عليه محال (٤).

الأمر الرابع : من جانب الجبّائيين : أبي علي وولده أبي هاشم (٥).

فقال : لا يقدر على عين مقدور العبد وإلاّ لاجتمع قادران على مقدور واحد وهو محال ، وإلاّ لزم وقوعه نظراً إلى إرادة أحدهما ، وعدمه نظراً إلى كراهة الآخر ، فيكون واقعاً وغير واقع ، وهذا خلف (٦).

__________________

(١) راجع في ترجمة النظام : الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ، ص ٥٣ ـ ٥٤ ، والتبصير في الدين للاسفرايني : ص ٧٠ ، والجزء الثالث من موسوعتنا « بحوث في الملل والنحل ».

(٢) نقله الفاضل السيوري في « ارشاد الطالبين » في شرح نهج المسترشدين : ص ١٨٧ ، و « العلامة » في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ١٧٤.

(٣) اللوامع الإلهية : ص ١١٩ ، ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين : ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٤) اللوامع الإلهية : ص ١١٩ ، ونهج المسترشدين : ص ١٩١.

(٥) توفّي أبو علي الجبائي عام ٣٠٣ كما توفّى ابنه أبو هاشم عام ٣٢١ ، وكانا من أقطاب المعتزلة.

(٦) اللوامع الإلهية : ص ١١٩ ، وقواعد المرام في علم الكلام لابن ميثم البحراني : ص ٩٦.

٣٨٥

وربّما نسب إلى الحكماء القول بأنّه سبحانه لا يقدر على أكثر من الواحد وحكموا بأنّه لا يصدر عنه إلاّ شيء واحد (١).

هذه صورة تاريخيّة عن نشأة هذا الرأي أي تحديد قدرة الله ، ويبدو أنّ أكثر هٰؤلاء إمّا تأثّروا ببعض المناهج الفلسفيّة المترجمة ، كما أن بعضهم لم يدرك حقيقة القول بسعة قدرته ، وإذا شرحنا حقيقة المقال تقف على سقوط الآراء الثلاثة الأخيرة المنسوبة إلى السيمري والبلخي والجبائيين.

تحليل القول بعموم القدرة الإلهية

إنّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن ، بمعنى أنّه تعالى يقدر على خلق كل ما يكون ممكناً بذاته غير ممتنع كذلك ، وهذا الوصف العنواني رهن اُمور :

أوّلاً : أن لا يكون الشيء ممتنعاً بالذات مثل أن يكون من قبيل جعل الشيء الواحد متحرّكاً وساكناً في آن واحد وهو أمر ممتنع.

فإنّه لا شك في أنّ هذا الامتناع مانع من شمول القدرة لهذا المورد ونظائره.

ثانياً : أن لا يكون هناك مانع من نفوذ قدرته ، وشمولها وهذا لا يكون إلاّ بوجود قدرة مضاهيّة ، معارضة ، مانعة ، من نفوذها.

ثالثاً : أن لا تكون قدرة القادر محدودة ، مضيّقة في ذاتها.

وهذه الشرائط كلّها موجودة في حقّ الواجب.

أمّا الأول : فلأنّ المقصود من عموميّة قدرته تعالى هو شمولها لكل أمر ممكن ، دون الممتنع بالذات ، فلا تتعلّق القدرة الالهية بالممتنع ذاتياً ، وهو بالتالي

__________________

(١) النسبة في غير محلّها ، وسيوافيك مرامهم.

٣٨٦

خارج عن محيط البحث ، تخصّصاً لا تخصيصاً ، أي لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد ونعني به الممتنع ذاتيا. والأمر القبيح ليس أمراً ممتنعاً بالذات ، بل ممتنع بالغير وحسب الحكمة.

وأمّا الثاني : فليس هناك شيء مانع من نفوذ القدرة الإلهية كي يزاحم تلك القدرة إلاّ إذا كان موجوداً ، وهذا الموجود إن كان واجب الوجوب مثله سبحانه فهو مرفوض بما ثبت من وحدة واجب الوجود ، وانتفاء نظير له وأنّه بالتالي ليس في صفحة الوجود واجب سواه ، وإن كان ممكناً مخلوقاً له سبحانه فهو مقهور له تعالى فكيف يزاحم قدرته ، وكيف يمنع من نفوذها ؟

وأمّا الثالث : وهو ضيق نطاق قدرته ، فهو مدفوع لما سيوافيك ـ أيضاً ـ من أنّ وجود الله تعالى غير محدود ، ولا متناه ، فهو وجود مطلق لا يحدّه شيء من الحدود العقليّة والخارحيّة وما هو غير متناه في وجوده ، غير متناه في قدرته (١) لما ثبت من عينيّة صفاته وجوداً وتحقّقاً مع ذاته.

والحاصل : انّ هذا البيان يعتمد على أمرين كل منهما ثابت ومحقق :

أوّلاً : ما سيوافيك من أنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، بمعنى أنّه لاتحدّه حدود عقليّة ولا خارجيّة.

ثانياً : سيوافيك أيضاً من أنّ صفاته تعالى عين ذاته ، لا أمر زائد على الذات.

__________________

(١) وقد استدلّ بعض المحققين من علماء الكلام على عموميّة قدرته من طريق آخر فقال « العلاّمة الحلّي » في كشف الفوائد : ص ٤٣ والدليل عليه ( أي على عموم قدرته ) انّه تعالى واجب الوجود دون غيره ، وكل ما عداه ممكن وكل ممكن محتاج إلى المؤثر ولابد أن ينتهي إلى الواجب. فعلّة الحاجة وهي الامكان ثابتة في الجميع ، فتساوت نسبتها إليه سبحانه بالاحتياج لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فيكون قادراً على الجميع ، وراجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ١٧٤ ، و « قواعد المرام » : ص ٩٦ ، وارشاد الطالبين : ص ١٨٧.

٣٨٧

وهذان الأمران ينتجان عدم تضيّق القدرة الإلهية ، فهو إذا كان ـ من حيث الوجود ـ مطلقاً غير متناه وكان الوصف عين الذات ونفسها ; كانت صفة القدرة هي الاُخرى مطلقة لا تعرف حدّاً ، ولا تقف عند نهاية.

وبهذه الصورة تثبت سعة قدرته تعالى وشمولها لكل شيء.

ولقد صرّحت النصوص الدينيّة ـ من كتاب وسنّة ـ بهذه الخصوصيّة في القدرة الالهية ، وأكدت بالتالي على عموميّتها ، وسعة دائرتها ، واطلاقها على غرار الذات ، وذلك كقوله سبحانه : ( وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / ٢٧ ).

وقوله تعالى : ( وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف / ٤٥ ).

وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) ( فاطر / ٤٤ ).

وقوله تعالى : ( لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التغابن / ١ ).

وقوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الملك / ١ ).

وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام : « والقادر الذي لا يعجز » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « الأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً وإحاطة » (٢).

__________________

(١) توحيد الصدوق : ص ٧٦.

(٢) توحيد الصدوق : ص ١٣٣.

٣٨٨

حول الأقوال السابقة

بعد أن عرفت أدلّة القائلين (١) بعموميّة القدرة الإلهيّة. حان الأوان لتقييم ما قاله بعض أئمّة المعتزلة وأقاموه لتحديد قدرته فنقول :

لقد عرفت في مفتتح البحث أنّ الذي جرّ النافين لعموميّة القدرة إلى مثل هذا الموقف الذي يضادّ الفطرة مضافاً إلى مضادّته للبراهين العقليّة القاطعة ، وما دلّ عليه الكتاب والسنّة من النصوص الصريحة هو الشبهات التي ألقاها البعض في هذا المجال.

١ ـ عدم قدرته على فعل القبيح

فلقد استدلّ « النظام » لعدم عموميّة قدرته تعالى بأنّه لا يقدر على القبيح وإلاّ لصدر عنه فيكون فاعلاً جاهلاً أو محتاجاً وهو محال فلا يكون قادراً على القبيح.

ونظنّ انّ « النظام » خلط موضع البحث بشيء آخر فإنّ البحث إنّما هو في عموم القدرة والاقتدار وانّه سبحانه قادر على كل شيء قبيحاً كان أو غيره ، أي أنّ القبيح وغيره عنه قدرته سواء أي كما أنّه سبحانه قادر على ارسال المطيع إلى الجنّة قادر على إدخاله في النار ، وليس هنا ما يعجزه عن ذلك.

إلاّ أنّه لمّا كان هذا العمل قبيحاً مخالفاً لعدله وقسطه لا يفعله سبحانه ، ولا يرتكبه لأنّ الدافع إلى ارتكاب القبيح امّا الجهل بالقبح ، أو الحاجة إلى العمل القبيح ، وكلاهما منفيّان عن ساحته المقدّسة ، فلا يصدر منه الفعل اختياراً لأنّ هذه الموجبات والدواعي منتفية لديه سبحانه لا أنّه غير قادر عليه أو عاجز عن فعله.

فكم فرق بين عدم القيام بشيء لعدم توفّر الداعي إليه ، وبين عدم القدرة عليها أصلا.

__________________

(١) وهم كل علماء الامامية.

٣٨٩

فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده في مرأىٰ ومسمع من الناس لكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية عنه ( لأنّه لا يصدر هذا العمل القبيح إلاّ من جاهل بالقبح أو محتاج إلى العمل القبيح ).

وبالجملة فهو خلط بين عدم فعله لذلك القبيح ، وعدم قدرته عليه من الأساس.

٢ ـ عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه

لقد ذهب « عبّاد بن سليمان السيمري » إلى عدم سعة قدرته قائلاً : إنّ ما علم الله تعالى بوقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، وما علم بعدم وقوعه لا يقع قطعاً فهو ممتنع الوقوع ، وما هو واجب أو ممتنع لا تتعلّق به القدرة ، إذ القدرة إنّما تتعلّق بشيء يصحّ وقوعه ولا وقوعه ، ويمكن فعله ولا فعله ، وما صار أحديّ التعلّق ( ذي حالة واحدة حتميّة ) لا يقع في إطار القدرة.

والجواب عن هذه الشبهة بوجهين :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لو صحّ ما ذكر لزم أن لا تتعلّق قدرته بأي شيء مطلقاً ، لأنّ كلّ شيء إمّا أن يكون معلوم التحّقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم.

فالأوّل : واجب التحقّق ، والثاني ممتنع التحقّق ، فيكون كل شيء متصوّر ، داخلاً في إطار أحد هذين الأمرين ، فيجب أن يمتنع توصيفه بالقدرة على شيء ما ، حتّى ما خلق فضلاً عمّا لم يخلق.

وثانياً : فإنّ القدرة تتعلّق بكل شيء ممكن في ذاته ، ولا تتعلّق بشيء واجب الوجود بذاته أو ممتنع الوجود كذلك ، ويكفي في تعلّق القدرة كون الشيء في حدّ الذات ممكناً متساوي الطرفين ، وكونه واجباً بالنسبة إلى علّته ، لا يخرجه عن حد الامكان كما أنّ كونه ممتنعاً بالنسبة إلى عدم علّته ، لا يخرجه عن ذلك الحدّ أيضاً.

٣٩٠

يقول الحكيم السبزواري في هذه الحقيقة الأخيرة :

« الامكان عارض للماهيّة بتحليل من العقل حيث يلاحظها من حيث هي مقطوعة النظر عن اعتبار الوجود وعلّته والعدم وعلّته ، فيصفها بسلب الضرورتين وأمّا عند اعتبارهما فمحفوف بالضرورة والامتناع ، ولا منافاة بين لا اقتضاء من قبل ذات الممكن للوجود والعدم ، واقتضاء من قبل الغير للوجود أو العدم ». قال في منظومته :

عروض الامكان بتحليل وقع

وهو مع الغيريّ من ذين اجتمع (١)

وعلى ذلك فمعلومه سبحانه وإن كان بين محقّق الوقوع ومحقّق العدم ، أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى علّته وضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّته ، لكن هذه الضرورة الناشئة من ناحية علّته ، أو من ناحية عدم علّته ، لا يجعل الشيء واجباً بالذات أو ممتنعاً كذلك ، فهو حتى بعد لحوق الضرورة به من جانب علّته ، أو الامتناع من جانب عدم علّته موصوف بالامكان غير خارج عن حدّ الاستواء حسب الذات.

فابن عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات ، والواجب بالغير ، كما لم يفرّق بين الممتنع بالذات والممتنع بالغير ، فما هو المانع من تعلّق القدرة ، هو الوجوب والامتناع الذاتيان ، لا الوجوب والامتناع الغيريّان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علّته ومن جانب عدم علّته.

ولو صحّ ما ذكره من الكلام وجب أن لا يوجد في العالم أي موجود موصوف بالقادريّة.

فإنّ كل متصوّر إمّا أن يكون في نفس الأمر محقّق الوجود لوجود علّته التامّة ، أو محقّق العدم لعدم تحقّق علّته التامّة.

__________________

(١) المنظومة : قسم الفلسفة ، ص ٦٩.

٣٩١

وإن شئت قلت : إنّ الممكن وإن كان مستوراً علينا وقوعه ولا وقوعه ، غير أنّه في نفس الأمر محقّق الوقوع لوجود علّته أو محقّق العدم لعدم وجود علّته ، وعدم علمنا بأحد الطرفين لا يضرّ بوجوب وجوده أو امتناعه وجوباً وامتناعاً عارضيّاً بالغير.

وكل شيء في صفحة الوجود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين ، فيلزم أن لا يجوز توصيف شيء من الأشياء حتّى الإنسان بالقدرة لأنّه إذا قيس بفعل من الأفعال فهو في نفس الأمر امّا محقق الوقوع لوجود علّته التامّة ، أو ممتنع الوجود لعدم وجود علّته التامّة.

٣ ـ عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد

وممّن اختار عدم سعة قدرته ، المتكلّم المعروف بالكعبي إذ قال : « إنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد لأنّه امّا طاعة أو معصية أو عبث وكلّها مستحيلة عليه تعالى ».

توضيحه : إنّ فعل الإنسان امّا طاعة أو معصية أو عبث ، لأنّه إمّا أن يقع لغرض أو لا ، والثاني عبث ، والأوّل امّا أن يقع موافقاً للأوامر الشرعيّة أو لا ، والأوّل طاعة والثاني معصية ، ففعل الإنسان لا يخلو عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة ، فلو قدر الله على مثله لوصف فعله بالطاعة أو المعصية أو العبث ، والأوّلان يستلزمان أن يكون لله تعالى آمر ، وهو محال.

والأخير يدخل تحت عنوان القبيح المستحيل عليه فلا يقدر على مثل مقدور الإنسان ، وهو المطلوب.

ونقول في الجواب : لقد عزب عن « الكعبي » أنّ عدم قيامه بالقبيح ( العبث ) ليس لعدم قدرته عليه ، بل لأجل حكمته العالية الصارفة عن القيام به ، فعدم القيام بالشيء لأجل مخالفته لمشيئته الحكميّة ، لا يعد دليلاً على عدم قدرته ، وقد أوضحنا حاله.

٣٩٢

وأمّا المثالان الأوّلان ( الطاعة والمعصية ) ، فالطاعة والمعصية ليستا من الاُمور الحقيقية القائمة بالشيء ، بل هما أمران ينتزعهما العقل من كون الفعل مطابقاً للمأمور به ، أو كونه مخالفاً له ومن نسبة الفعل إلى الأمر الصادر من المولى الواجب طاعته والمحرّم عصيانه.

وإن شئت قلت : ينتزع وصف الطاعة من مطابقة الفعل لأمر الآمر به ، والعصيان من مخالفة الفعل مخالفاً لذلك الأمر وليس هذان المفهومان من الاُمور الذاتية ، ولا من الأعراض الحقيقيّة.

فلا إشكال في قدرته سبحانه على مثل ما قام به العبد بما هو مثل ، أي أن يكون فاعلاً لمثل الفعل الذي يقوم به الإنسان من حيث الذات والهيئة.

وأمّا عدم اتّصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة والعصيان فلا يوجب عدم قدرته تعالى على مثل ما يأتي به الإنسان لأنّ الملاك في المثليّة هو واقعيّة الفعل وحقيقته الخارجيّة لا عنوانه الاعتباري ، ولا ما ينتزع من نسبة الشيء إلى الشيء ، فإنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة أو الشيء المنتزع من النسبة غير داخلة في حقيقة الشيء.

وإلى ما ذكرنا ينظر كلام العلاّمة في شرح التجريد :

« إن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي » (١).

وإليك نقطة مهمّة يجب التنبيه عليها وهي :

إنّ هاهنا أفعالاً مباشريّة للإنسان كالصيام والقيام والأكل والشرب ، فإنّها

__________________

(١) كشف المراد شرح التجريد للعلاّمة الحلّي : ص ١٧٤ طبعة صيدا ، والمراد لا يقتضيان الاختلاف الذاتي أي لا يوجب اختلافا في ماهيّة العمل لأنّهما خارجان عن حقيقتة وماهيّته ، لكونهما منتزعان من نسبة حاصلة من موافقة فعل العبد لأمر المولى في الطاعة ومخالفته في جانب المعصية.

٣٩٣

أفعال تقوم بالفاعل المادي ، والله سبحانه مجرّد ومنزّه عن المادّيّة والجسمانيّة فعدم صدورها منه إنّما هو لأجل تنزّهه سبحانه من أن يقع محلاً للفعل والانفعال والحركة والحدوث.

ومع ذلك كلّه فالإنسان وما يأتي به من الأفعال المباشريّة إنّما هي باقتداره سبحانه وحوله وقوّته بحيث لو انقطع ما بين العبد وربّه من صلة ، وانقطع الفيض لصار الإنسان مع فعله خبراً بعد أثر.

وسيوافيك تفصيل ذلك في الشبهة التالية.

٤ ـ عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد

ذهب الجبّائيّان إلى عدم سعة قدرته تعالى قائلين :

« إنّ الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم إجتماع النقيضين ، إذا أراده الله وكرهه العبد ، أو بالعكس.

بيان الملازمة أنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه ، والبقاء على العدم عند وجود صارفه ، فلو كان مقدور واحد واقعاً من قادرين ، وفرضنا وجود داع لأحدهما ، ووجود صارف للآخر في وقت واحد ، لزم أن يوجد بالنظر إلى الداعي ، وأن يبقى معدوماً بالنظر إلى الصارف ، فيكون موجوداً غير موجود ، وهما متناقضان.

والجواب أوّلاً : إنّ الجبائيين لم يستوفيا كافة الشقوق الممتنعة في المقام ، فقد بقي هناك شق ثالث وهو أنّه : إذا تعلّقت إرادة كل واحد منهما على نفس ما تعلّقت به إرادة الآخر ، فإنّ ذلك يعني أن تجتمع العلّتان التامّتان على معلول واحد وهو محال.

والجواب عن الجميع : هو ما عرفت من أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن بما هو ممكن ، فإذا عرض له الامتناع فلا تتعلّق به القدرة ، وعدم تعلّق قدرته بالممتنع

٣٩٤

لا يدلّ على عدم سعتها.

وما فرض في المقام من الصور ـ بغضّ النظر عمّا سنذكره ـ لا يثبت أكثر من أنّ صدور الفعل منه سبحانه في هذه الشرائط محال لاستلزامه اجتماع النقيضين ، أو إجتماع العلّتين التامّتين على معلول واحد ، وما هو محال خارج عن اطار القدرة ولا يطلق عليه عدم القدرة.

هذا كلّه نذكره مماشاةً مع علامتي المعتزلة وإلاّ فثمّة مناقشة في كلامهما ، إذ نقول : ماذا يريدان من قولهما : « عين مقدور العبد » ؟

هل يريدان منه الشيء قبل وجوده ، أو بعده ؟

فإن أرادا الشيء قبل وجوده فليس في هذا المقام عينيّة ولا تشخّص ، حتّى يقال : إنّه سبحانه قادر عليه أو لا ؟ إذ الشيء في هذه المرحلة لا يتجازو عن كونه مفهوما كليّاً ، يصلح أن يكون له مصاديق كثيرة.

وإن ارادا من « عين المقدور » الشيء بعد وقوعه فمن المعلوم أنّه لا تتعلّق به القدرة ـ في هذه الحالة ـ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال ، وقد ذكرنا أنّ المحال خارج عن إطار القدرة.

وإن أرادا عدم تعلّق قدرته سبحانه مقارناً لتعلّق قدرة العبد فحكم هذا القسم هو نفس حكم الصورة الاُولى فإنّ المقدور بعد لم يتحقّق ، ولم يتشخّص حتى يقال بأنّه غير قادر على نفس مقدور العبد.

ثمّ إنّ ما ذكره العلاّمتان المعتزليّان ينبع عن القول بالثنويّة في باب تأثير المؤثّرات وفعل الفواعل حيث إنّ المعتزلة تصوّرت أنّ فعل العبد مخلوق لنفس العبد ، وليس مخلوقاً لله ، لا تسبيباً ولا مباشرة ، وانّ هناك فاعلين مستقلّين لكل مجاله الخاص فلفعله سبحانه وقدرته مجال ، ولفعل العبد مجال آخر ، وعند ذلك لا يمتّ مقدور العبد بالله سبحانه بصلة.

٣٩٥

غير أنّنا بيَّنا وهنَ هذه النظرية وأنّ الثنوية باطلة في عامّة المجالات وأنّه لا فاعل مستقلّ ولا مؤثّر في صفحة الوجود إلاّ « الله ».

فكل فاعل سواه سبحانه ، سواءً كان مختاراً أو غيره إنّما يؤثّر ويقوم بأفعاله بقدرته وحوله.

فعند ذلك يكون نفس مقدور العبد وفعله ، مقدوراً لله سبحانه ، وفعلاً له لكن لا فعلاً بالمباشرة ، بل فعلاً بالتسبيب.

وقد أوضحنا حال هذه المسألة في أبحاث التوحيد الخالقي.

سعة القدرة بمعنيين

ثمّ إنّ الكلام في سعة القدرة يطرح على وجهين :

الأوّل : ما عرفت مفهومه وأدلّته وأنّه قادر على كل شيء ممكن سواء صدر منه أو لم يصدر إذ من الممكن أن يكون الشيء ممكنا ولا يصدر عنه لحكمة خاصّة كصدور القبيح وغيره.

الثاني : وهو ما طرحه الحكماء في كتبهم ، ويغاير ما سبق ، وحاصله : إنّ الظواهر الكونية ، مجرّدها ومادّيها ، ذاتها وفعلها ، كلّها تنتهي إلى قدرته سبحانه ، فكما أنّه لا شريك له سبحانه في ذاته كذلك لا شريك له في الفاعليّة.

وكل ما هو موجود سواء كان جوهراً أو عرضاً ، مادّيّاً أو مجرّداً ، ذاتاً أو فعلاً فالجميع صادر عنه سبحانه على نحو الأسباب والمسبّبات ، فليس هناك موجود ممكن جوهراً كان أو عرضاً ، ذاتاً كان أو فعلاً لا يستند في تحقّقه ووجوده إليه سبحانه.

وهذا هو التوحيد الأفعالي الذي قدّمنا الكلام عنه عند البحث عن التوحيد ، وهذا المعنى هو الذي طرحه الحكماء في كتبهم الفلسفية.

٣٩٦

وهذه المسألة في مقابل كلمات المعتزلة ومن حذى حذوهم من القائلين بأنّ الله تعالى أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال ، وفوّض إليهم الاُمور وهم مستقلّون بإيجاد تلك الأفعال على وفق مشيئتهم بحيث لا يمتّ فعل إنسان إليه سبحانه بصلة بنحو من الأنحاء.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وإن كان وجيهاً عند القائلين بالاختيار ولكنّه يستلزم الشرك في الفاعليّة وهو مستلزم لاثبات الشريك لله في الحقيقة.

ومن جعل أبناء البشر كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في ايجادها ، أتى بما هو أشنع ممّن ذهب إلى جعل الأصنام والأوثان والكواكب شفعاء عند الله لأنّه جعل لله شركاء بعدد الفاعلين.

هذا وبما أنّنا قد استوفينا الكلام في هذه المسألة في مسفوراتنا الكلامية (١) ، فإنّنا نقتصر على ما ذكرناه هنا.

فتلخص : إنّ لسعة القدرة اصطلاحين :

الأوّل يناسب الأبحاث الكلامية ، والثاني يناسب الأبحاث الفلسفية ، والمخالف في القسم الثاني هم المعتزلة ، والخلاف ينبع من الاعتقاد بالعدل في الله سبحانه ، ومن التصوّر بأنّ نسبة أفعال العباد إلى الله سبحانه تخالف عدله.

بينما لا تنبع المسألة الاُولى من موقف كلامي معيّن وإن كان المخالف فيها بعض المعتزلة لكن الخلاف لا ينبع عن اُصول الاعتزال بخلاف الثانية ، وإن كان بين المسألة صلة وارتباط.

__________________

(١) الالهيات : ج ١ ، ص ١٣٩ ـ ١٥٠.

٣٩٧

أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ القائلين بعموميّة القدرة الإلهية واجهوا أسئلة واشكالات اُخرى طرحها المنكرون لعموميّة القدرة ، واعتمدوا عليها في نفي ذلك وقد تعرّفت على اصولها في صدر البحث :

وهذه الأسئلة هي :

١ ـ هل يقدر سبحانه على خلق نظيره ؟

فلو اُجيب عن السؤال بالإيجاب لزم ذلك صحّة إفتراض الشريك لله سبحانه وامكان وجوده.

ولو اُجيب بالنفي والإنكار لزم ضيق قدرته وعدم عموميّتها وشمولها لكل شيء كما هو المدعى.

٢ ـ هل هو قادر على أن يجعل الشيء الكبير في داخل الشيء الصغير كأن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم ، أو تكبر البيضة ؟

فلو اُجيب بنعم ، دفعه العقل ورفضه إذ لا يتصوّر أن يكون المظروف أكبر من الظرف.

ولو أجيب بلا ، ثبت عدم عموميّة قدرته سبحانه.

٣ ـ هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائه ؟

فإن قلنا : نعم ، لزم من ذلك نفي قدرته ، لأنّنا أثبتنا قدرته سبحانه على خلق ما لا يقدر على إفنائه.

وإن قلنا : لا ، استلزم ذلك نفي عموميّة قدرته.

وبهذا استلزم الجواب على كلا النحوين انتفاء عموميّة قدرته وتحديدها.

إنّ الاجابة عن هذه الأسئلة على وجهين : إجمالي وتفصيلي.

أمّا الجواب الإجمالي فهو أنّ القدرة مهما بلغت من السعة فإنّها لا تتعلّق إلاّ

٣٩٨

بما كان ممكناً بالذات ، أي كان قابلاً للوجود والتحقّق ، وأمّا الخارج عن اطار الإمكان أي الذي يكون بذاته غير ممكن لا يقبل الوجود ، فهو خارج عن نطاق القدرة.

وبعبارة أخرى : إذا لاحظنا الأشياء وجدناها على نوعين :

الأوّل : ما يقبل أن يتلبّس بلباس الوجود ويتحقّق في الواقع الخارجي بسبب قدرة الفاعل.

الثاني : ما إذا لاحظناه في عقلنا ، نجد أنّه لا يتحقّق ولا يقبل الوجود مهما بلغت القدرة من السعة والعظمة ، ومهما بلغ الفاعل من القوّة والقدرة.

ولتوضيح ذلك نأتي بالمثال التالي فنقول :

إذا طلبنا من الخيّاط أو الرسّام أن يخيط الأوّل لنا ثوباً من الآجر ، أو أن يرسم الثاني لنا صورة جميلة لطاووس على صفحة الماء الجاري ، رفضا ذلك لاستحالة خياطة ثوب من الآجر ، ورسم صورة شيء على صفحة الماء الجاري.

فرفض الخيّاط والرسام لهذا الاقتراح ليس لأجل قصورهما وعجزهما ، بل لاستحالة تحقّق خياطة الثوب من الآجر ، والنقش على صفحة الماء الجاري ، فهو بالتالي قصور في جانب القابل ، لا عجز في ناحية الفاعل.

إنّ الآجر لا يمتلك قابلية صيرورته لباساً ، كما أنّ الماء الجاري لا يمتلك هو الآخر قابلية أن يصبح محلاًّ للرسم والنقش.

هكذا كل ما لا يقبل الوجود بذاته ، فإنّ عدم تعلّق القدرة بها ليس من جهة عجز القادر عن إيجادها ، بل من جهة أنّه غير قابل للايجاد ، وغير ممكن التحقّق بذاته.

وهذا نظير ما إذا طلبنا من رئيس مصنع لتوليد الكهرباء أن يجعل مصباحاً واحداً مشتعلاً ومنطفئاً في آن واحد ، فيرفض ذلك الشخص تحقيق هذا المطلب

٣٩٩

لا لقصور في مصنعه أو في هندسته ، بل لأنّ المقترح لا يمكن ـ بذاته ـ أن يتحقّق.

كما أنّ ذلك نظير ما إذا طلبنا من عالم رياضيّ ماهر أن يجعل نتيجة ٢×٢ أربعة وخمسة في آن واحد ، فيرفض تحقيق ذلك المطلب لا لقصور في مقدرته الرياضية والحسابية ، بل لاستحالة تحقّق هذا المطلب المقترح في حدّ ذاته.

وبهذا يظهر أنّ سعة القدرة وعموميّتها تشمل جميع الممكنات ، والاُمور القابلة بذاتها للايجاد ، وبالتالي فإنّ كل ما هو ممكن التحقّق والوجود بذاته ، يقع في نطاق القدرة الإلهية دون ما لا يمكن تحقّقه ووجوده بذاته ، وهذا بخلاف غيره تعالى فإنّ قدرته قاصرة حتّى بالنسبة إلى كثير من الاُمور والموارد الممكنة.

بينما هو سبحانه قادر على ايجاد المجرّات العظيمة ، وعلى خلق السموات العلى ، ولكن غيره لا يقدر على أقلّ من ذلك مع كونه أمراً ممكناً بالذات.

فيستنتج من ذلك أنّ كلّ ما هو محال ذاتي لا يقع في نطاق القدرة لا لعدم سعتها بل لعدم قابلية هذا النوع من الأشياء للايجاد.

وعلى هذا الأساس لا ينحصر ما قلناه في ما ورد ذكره في هذه الأسئلة ، بل يعم كل ما كان من هذا القبيل ، أي كان من المحال الذاتي.

وبهذا يستطيع القارئ أن يقف على حل جميع الأسئلة المطروحة هنا.

فإنّ الجواب في الجميع هو النفي لا لعدم سعة قدرته سبحانه بل لعدم امكانها أساساً فإنّ جميع هذه الموارد مستلزمة للمحال أو هو بنفسه أمر محال ، ومع ذلك نوقف القارئ على الجواب لكل واحد من الأسئلة المطروحة.

الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة :

أمّا الأوّل أعني قدرته على خلق مثله فالجواب عنه : إنّ خلق المثل لا يقع في اطار القدرة لا لقصور فيها بل لكون وجود المثل لله محالاً بذاته كما أوضحناه في

٤٠٠