مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

لدى الذات وأمّا علمه سبحانه بسائر الأشياء فهو بارتسام صورها في ذلك المعلول الأوّل. واختاره المحقّق الطوسي.

غير أنّه يرد عليه ما أوردناه على ما تقدّم من استلزامه خلو الذات عن العلم بالأشياء ما سوى المعلول الأوّل.

السادس : وهو آخر الأقوال ـ حسب نقلنا ـ هو قول أكثر الفلاسفة ، وهو كون علمه سبحانه قبل الإيجاد بالأشياء علماً كليّاً ، وليس له علم بالجزئيات وانّه على حاله قبل وجود الأشياء وبعد وجودها من دون تغيّر.

هذه هي خلاصة الأقوال وعصارتها ، وهناك تفصيلات اُخر لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهم اثبات علمه بالجزئيات ممّا وقع أو سيقع أو هو واقع ، واشباع البحث يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : اثبات علمه سبحانه بالجزئيات.

الثاني : نقد براهين النافين لذلك.

أمّا الأوّل فيمكن تقريره بوجهين :

١ ـ حضور الممكن لدى الواجب في كل حين

إنّ الكون ـ كما عرفت ـ موجود ممكن ونسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، وإنّما تخرج من حد الاستواء بالعلّة الموجبة غير أنّ خروجه عن حد الاستواء لا يخرجه عن حد الامكان ، فهو قبل الخروج ومع الخروج وبعده ممكن بالذات ، مفتقر إلى الواجب مطلقاً وفي كل حين ولحظة ، فلا ينقطع افتقاره إلى الممكن ، بالايجاد أوّلاً ، بل هو في كل لحظة حدوثاً وبقاء قائم بالواجب مفتقر إليه مستفيض منه.

فإذا كان هذا هو حال الممكن فلا ينفك عنه حضور لدى العلّة ، وما هذا شأنه

٣٤١

فهو غير غائب عن العلّة في كل لحظة وآن ، وقائم به قيام الرابط بالمعنى الاسمي ، وليس لعلمه حقيقة وراء حضوره لدى العالم.

وعلى الجملة : فاذا كان الممكن قائماً بوجوده مع الواجب ومفتقر إليه في تحقّقه ـ حدوثاً وبقاء ـ وكان قيامه معه كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فهذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة وعدم الحضور ، فإنّ الغيبوبة مناط انعدامه وفنائه.

وكل من شك وتردّد في علمه سبحانه بالأشياء والجزئيات فقد غفل عن حقيقة نسبة المعلول إلى علّته ، فإنّ النسبة القائمة بينهما نسبة الفقير إلى الغني ، والمتدلّي إلى المتدلّى به ، والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والرابط بالطرفين.

وهذه الكيفية نفس حقيقة الوجودات الامكانية الصادرة عنه سبحانه ، بحيث لو أخذت منه تلك النسبة لانعدمت ، وخرجت عن حيز الوجود ، أو انقلب اللامستقل إلى المستقل والممكن إلى الواجب.

فاذا كانت الوجودات الامكانية بعامّة أجزائها في عمود الزمان بهذه الكيفيّة والحالة فكيف يصحّ أن يتصوّر لها الغيبة من جانب العلّة وما هي إلاّ فرض انعدامها وفنائها.

لقد كشفت نظرية الحركة الجوهرية عن أنّ ذات المادة بعمقها وجوهرها في حال السيلان ، وإنّ الحركة ليست مختصّة بظواهر المادة وسطوحها ( أي بأعراضها ) بل السيلان والتدرّج والزوال والحدوث ، يعمّ جوهرها وصلبها وجودها وهويّتها أيضاً.

وبعبارة اُخرى : انّ التغيّر والحدوث المتجدّد ، لا يختصّ بصفات المادة وعوارضها ، بل يتطرّق هذا التغيّر إلى ذات المادة بمعنى أنّ الكون بجميع ذراته في تحوّل وتغيّر مستمرّين ، وإنّما يترآى للناظر من الثبات والاستقرار والجمود في مادة الكائنات الطبيعية ليس إلاّ من خطأ الحواس إذ الحقيقة هي غير ذلك ، فكل ذرّة من ذرات المادة خاضعة للتغيّر والتبدّل والسيلان.

٣٤٢

قال الحكيم صدر الدين الشيرازي :

لقد تبيّن إنّ الأجسام كلّها متجددة الوجود في ذاتها ، وإنّ صورتها صورة التغيّر ، وكل منها حادث الوجود ، مسبوق بالعدم الزماني ، كائن فاسد ، لا استمرار لهويّاتها الوجودية ، ولا لطبائعها المرسلة ، والطبيعة المرسلة وجودها عين شخصياتها وهي متكثّرة ، وكل منها حادث.

وقال :

إنّ الطبائع الماديّة كلّها متحركة في ذاتها وجوهرها ، مسبوقة بالعدم الزماني فلها بحسب كل وجود معيّن مسبوقيّة بعدم زماني غير منقطع في الأزل (١).

وصفوة القول :

إنّ الحركة ليست إلاّ تعبيراً آخر عن كيفيّة وجود الشيء ، أي أنّ لوجود الشيء كيفيّتين : إمّا وجود قارّ ، أو وجود متدرّج ، وكانت المادة متحركة في جوهرها فإنّ معنى ذلك انّ لها وجوداً سيّالاً متدرجاً ينقضي بعضه بوجود البعض الآخر.

فإذا كان عالم المادة ـ بما أنّ وجوده متدرّج سيّال فلم يزل من حدوث إلى حدوث ـ لا ينفك عن محدث له ، وإذا كانت واقعيّة المادة هي نفس الحركة ، ولم يكن في امكان الحركة أن تقوم بنفسها ، فواقعيّتها نفس التعلّق والتدلّي مثل المصباح الكهربائي المتّصل بالمولّد الكهربائي فإنّه قائم بذلك المولد آناً فآناً ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ الموجودات الامكانية متدلّيات بنفسها ومتعلّقات بغيرها.

فإذا كان مجموع العالم هذا هو حاله ، لم يزل يحتاج لامكانه المستمر وحدوثه الداعي إلى علّة تعطي الوجود في كل حين ، فهو لم يزل كعين نابعة ينبع من جانب ويصب في جانب آخر ، وليس للمادة ـ جوهراً وعرضاً ـ أي بقاء وثبات وصمود واستقرار ، بل الخلقة نفس التجدّد والتغيّر.

__________________

(١) الاسفار : ج ٧ ، ص ٢٩٧ و ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣.

٣٤٣

إذا عرفت ذلك يظهر أنّه ليس للعالم حقيقة وراء الوجود التدريجي ، فهو سبحانه في كل حين ولحظة يفيض الوجود على الكون بجواهره وأعراضه من ذرّاته إلى مجرّاته ، وإن تصوّر الإنسان أنّ العالم خلق مرة واحدة وهو مستمر على الخلقة الاُولى ، لكنّه تصوّر مردود بالبرهان بل هناك ايجاد مستمر ، وابداع غير منقطع يحسب الجاهل له ثباتاً وصموداً.

وإذا كان الكون ـ بكل ما فيه ـ من الذرّة إلى المجرّة تجددات وحدوثات متلاحقة وأنّه سبحانه ـ في كل آن ـ ذو شأن أي ذو خلق وإيجاد وفعل وإبداع هذا من جانب.

ومن جانب آخر لا يمكن أن يكون المعلول غائباً عن حيطة العلّة لأنّ الغيبة تضاد وقيام المعلول بعلّته كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، ينتج أنّه سبحانه محيط بالأشياء إحاطة علميّة ، وقيوميّة.

فالعالم بذرّاته وكثراته ، فعله وخلقه وعلمه ومعرفته.

وبذلك يعلم : انّ انكار علمه سبحانه بالجزئيات ناشئ من الغفلة عن حقيقة الافاضة والخلقة في العالم أو عن حقيقة ارتباط المعلول بالعلّة.

وبهذا نقف على عظمة الجملة القائلة « إنّ الله بكل شيء عليم » فهي تعني : إنّه عالم بما مضى وما يأتي وما هو كائن ، وهي تحكي عن سعة علمه سبحانه وإحاطته سبحانه بكل ما في هذا الكون ، وبجميع رموزه ، وأسراره وجلائله ودقائقه.

وهذا هو ما تقصده النصوص الإسلامية في الكتاب والسنّة.

فهو سبحانه يصف علمه بقوله : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / ٥٩ ).

وقال تعالى :

( قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ

٣٤٤

مَا فِي الأَرْضِ ) ( آل عمران / ٢٩ ).

وقال تعالى : ( اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) ( الرعد / ٨ ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / ١٦ ).

وقال تعالى : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) ( سبأ / ٢ ).

وقال تعالى : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ / ٣ ).

وقال تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / ٧٤ ـ ٧٥ ).

وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / ٧ ).

وقال الإمام عليّ عليه‌السلام في هذا المجال :

« ولا يعزب عنه عود قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذرّ في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق ، وخفِيّ طرف الأحداق » (١).

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة ١٧٨.

٣٤٥

وقال عليه‌السلام : « يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات » (١).

وقال عليه‌السلام : « قد علم السرائر ، وخبر الضمائر ، له الاحاطة بكل شيء » (٢).

التعبير الرفيع القرآني عن سعة علمه

إنّ من المفاهيم المعقّدة هو تصوّر مفهوم « اللامتناهي » بحقيقته وواقعيّته.

فإنّ الإنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الاُمور المحدودة ولذلك أصبح تصوّر « اللامتناهي » أمراً مشكلاً في غاية الصعوبة عليه.

فهذه المنظومة مع ما فيها من السيّارات والكواكب رغم أنّها تعد جزءاً من مجرّتنا الواسعة الهائلة ـ ومع ذلك ـ فإنّ هذه المجرّة متناهية من حيث العدد والأجزاء ، ومن حيث الذرّات والألكترونات ، والبروتونات ، ومع السعة والحجم.

إنّ أكبر عدد تعارف الإنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم « المليارد » الذي يتألّف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار ( ٠٠٠/٠٠٠/٠٠٠/١ ).

ثمّ إنّ البشريّة بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصّلت إلى ما يسمّى بالأرقام النجومية ، ومع ذلك فإنّ كل ما توصّل إليه الإنسان من الأرقام ـ حتّى النجوميّة منها ـ لا يتجاوز كونه عدداً متناهياً.

إنّ القرآن الكريم يصوّر علمه سبحانه اللامتناهي بنحو خاص ، يختصّ

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة : خطبة ٨٦.

٣٤٦

بالوحي ، فإنّه لا يستخدم الأرقام والأعداد الرياضية وحتّى النجوميّة منها ، لانتهائها إلى حد ، بل يأتي بمثل رائع يبيّن سعة علمه ، إذ يقول عزّ وجلّ : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / ٢٧ ).

إنّك لا تجد أي رقم رياضي مهما كان عظيماً وهائلاً ونجوميّاً قادر على تصوير سعة علمه سبحانه مثلما يصفها قوله : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ).

فلو قال أحد : إنّ مقدار علمه ـ بلغة الحساب ـ هو العدد الواحد أمامه عشرات الأصفار لما أفاد هذا الرقم ما أفاده قوله : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ).

وبذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) فإنّه يعبّر عن محدوديّة المقاييس والمقادير والمعايير البشرية ، كما يعبّر عن ضآلة علمه وضحالة معارفه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات

قد عرفت البرهان الواضح على علمه سبحانه بالجزئيات وتبيّن لك أنّ الكون ـ بحكم كونه محتاجاً إلى المحدث حدوثاً وبقاء ـ وبحكم أنّ الله سبحانه موجد ومبدع في كل آن ولحظة ، فلا يمكن للكون أن يغيب عن ساحة العلّة ، وما هذا شأنه فهو ملازم للحضور ، وليس للعلم حقيقة وراء ذلك.

إذا وقفت على ذلك فهلمّ إلى دراسة ما يقوله النافون ، وما يقيمونه من دليل ، وهو لا يتعدّى دليلاً واحداً وقد عبّر عنه بتعابير مختلفة.

الأوّل : العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه

لو علم سبحانه بالجزئي على وجه يتغيّر لزم تغيّر علمه تعالى عند تغيّر المعلوم وهو محال.

٣٤٧

وقد أوضحه العلاّمة بقوله : احتجّ الحكماء لنفي علمه بالجزئيات الزمانيّة بأنّ العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم وإلاّ لانتفّت المطابقة ، لكن الجزئيات الزمانيّة متغيّرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغيير علمه تعالى ، والتغيّر في علم الله تعالى محال.

وقال العلاّمة ابن ميثم البحراني في هذا الصدد :

ومنهم من أنكر كونه عالماً بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر ، وإنّما يعلمها من حيث هي ماهيّات معقولة ، وحجّتهم أنّه لو علم كون زيد جالساً في هذه الدار فبعد خروجه منها إن بقي علمه الأوّل كان جهلاً وإن زال لزم التغيّر ، لأنّ واجب الوجود ليس بزماني ولا بمكاني ، وليس ادراكه بالآلة وكل مدرك بجزئي زماني من حيث هو متغيّر ، يجب أن يكون كذلك ، فواجب الوجود لا يدرك الجزئي من حيث هو متغيّر (١).

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بعبارة وجيزة بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن ».

وأوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : « إنّ التغيّر هذا إنّما هو في الاضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقيّة كالقدرة التي تتغيّر نسبتها ، واضافتها إلى المقدور عند عدمه ، وإن لم تتغيّر في نفسها ، وتغيّر الاضافات جائز لأنّها اُمور اعتبارية لا تحقّق لها في الخارج (٢).

وحاصله أنّ العلم كالقدرة فلو استلزم تعلّق العلم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم يلزم أن يستلزم التغيّر في قدرته أيضا ، عند تعلّقها بالجزئيات لأنّ الجزئيات التي تتعلّق بها المقدرة هي في مسير التغيّر والتبدّل والتحوّل والتطوّر ، والقدرة من صفات الذات فما هو الجواب في جانب القدرة هو بعينه جار في جانب العلم.

__________________

(١) قواعد المرام : ص ٩٨.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ١٧٦.

٣٤٨

ويمكن توضيحه بوجه آخر أشار إليه المحقّق القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد إذ قال : « إنّ علمه تعالى ليس زمانيّاً أي واقعاً في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة فإنّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعاً في الحال ، وما حدث قبله أو بعده كان واقعاً في الماضي أو المستقبل ، وأمّا علمه تعالى فلا اختصاص له بزمان أصلاً فلا يكون ثمّة حال وماض ومستقبل ، فإنّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا ، والماضي زمان قبل زمان حكمي ، والمستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا فمن كان علمه أزليّاً محيطاً بالزمان وغير محتاج في وجوده إليه ، وغير مختص بجزء معين من أجزائه ، لا يتصور في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل فالله سبحانه عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئيّة وأزمنتها الواقعة التي هي فيها لا من حيث إنّ بعضها واقع في الآن ، وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علماً شاملاً متعالياً عن الدخول تحت الأزمنة ثابتاً أبد الدهر ، وبعبارة اُخرى إنّه تعالى لمّا لم يكن مكانياً كان نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط كذلك لما لم يكن هو تعالى وصفاته الحقيقيّة زمانيّة لم يتصف الزمان مقيساً إليه بالمعنى ، والاستقبال والحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على السواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ، فهو عالم بخصوصيّات الجزئيات وأحكامها لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ، ومثل هذا العلم يكون ثابتاً مستمرّاً لا يتغيّر أصلاً كالعلم بالكلّيّات (١).

هذا ما ردّ به القوم على الإشكال من الجواب.

ويمكن توضيحه بوجه آخر من دون تمسّك بأنّ التغيّر في الاضافات بأن نقول إنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان علمه تعالى حصولياً وإنّه سبحانه يصل إلى الجزئيات

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : ص ٣١٤.

٣٤٩

بالصور العلميّة المرتسمة القائمة بذاته سبحانه ، وقد عرفت أنّ علمه بالجزئيات علمه حضوري ، وأنّ الأشياء بهوياتها الخارجيّة ، وحقائقها العينيّة « فعله » سبحانه وفي الوقت نفسه « علمه » فلا مانع من القول بطروء التغيّر في علمه سبحانه أثر طروء التغيّر في الموجودات العينيّة.

فإنّ التغيّر الممتنع على علمه إنّما هو على علمه الذاتي لا على علمه الفعلي ، لأنّ طروء التغيّر في العلم الذاتي يستلزم طروء الحدوث في ذاته سبحانه وهو لا يجتمع في وجوب وجوده بخلاف العلم الفعلي فإنّ العلم في مقام الفعل عبارة عن كون نفس الفعل « علمه » كما أنّ الصور الذهنيّة مع كونها فعلاً للنفس ، علم لها.

وبذلك يظهر ضعف اشكال آخر هو : إنّ ادراك الجزئيات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة وهو سبحانه منزّه عن ذلك لكونه منزّهاً عن الجسمانيّة.

فقد ظهر من البيان الحاضر أنّ هذا الاشكال ناشئ من الاعتقاد بأنّ علمه تعالى علم حصولي ، حاصل له تعالى عن طريق أعمال الآلات والأدوات الجسمانيّة للأبصار والإدراك مع أنّ علمه تعالى نفس فعله لا الصور المنتزعة عن فعله.

وربّما يستفاد هذا الجواب ممّا ذكره المحقّق القوشجي في شرحه المذكور إذ قال :

إنّ ادراك المتشكلات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة إذا كان العلم حصول الصورة ، وأمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقيّة ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة إليها (١).

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص ٣١٤.

٣٥٠

الثاني : العلم بالجزئيات يستلزم الكثرة في الذات

إنّ العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسم في العالم ولاخفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة ، مختلفة ، فيستلزم كثرة المعلومات وكثرة الصور في الذات الأحدية من كل وجه.

ولكن الاشكال مبني على كون علمه بالأشياء علماً حصولياً مرتسماً في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإنسانية ، فيلزم حدوث الكثرات في الذات الأحدية ، ولكنّه غير تام لأنّ علمه بالأشياء نفس هويّاتها الخارجيّة الحاضرة عنده.

وهذا العلم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الثالث : انقلاب الممكن واجباً

إنّ العلم لو تعلّق بالمتجدّد ، قبل تجدّده ، لزم وجوبه ، وإلاّ لجاز أن لا يوجد فينقلب علمه تعالى جهلاً ، وهو محال.

وبعبارة اُخرى : إنّ علمه لا يتعلّق بالحوادث قبل وقوعها ، وإلاّ يلزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معاً ، والتالي باطل للتنافي بين الوجوب والامكان.

وبيان الملازمة أنّها ممكنة لكونها حادثة ، وواجبة أيضاً ، وإلاّ أمكن أن لا يوجد فينقلب علمه جهلاً.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله :

« ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين ».

وأوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : إن أردتم وجوب علمه تعالى أنّه واجب الصدور عن العالم فهو باطل لأنّه تعالى يعلم ذاته ، ويعلم المعدومات ( فليس العلم هنا مصدر للمعلوم أي المعدوم ).

وإن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق

٣٥١

لا سابق ، فلا ينافي في الامكان الذاتي (١).

وإن شئت قلت : إنّ العلم إنّما هو تابع للمعلوم فلا يكون مفيداً لوجوبه ، فالعلم تعلّق بوقوعه بوصف أنّه ممكن بالذات فهي ممكنة لذواتها ، واجبة لغيرها ، وهو تعلّق علم الباري تعالى بوجوبها ، ولا تنافي بين الامكان بالذات والوجوب بالغير.

وبعبارة اُخرى : إنّ الممتنع هو اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالذات ».

وأمّا اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالغير » فهو أمر ممكن وجائز ، والمعاليل عند وجود العلّة التامة ممكنات بالذات ، واجبات بالغير.

وعلى ذلك فلو تعلّق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت كذا ، فعلمه سبحانه لا يخرجه عن الامكان بالذات ، سواء قلنا بأنّ علمه سبب ، أو غير سبب ، إذ غاية ما يقتضي كون علمه سبباً ، هو وجوب وجوده بالغير ، وهو يجتمع مع الممكن بالذات.

فلو تعلّق علمه سبحانه بوقوع حادث في ظرف خاص الحادث وإن كان يقع قطعاً ولا يتخلّف ، غير أنّ ذلك الوقوع القطعي ، لا يخرجه عن الامكان الذاتي.

لأنّ معنى الامكان الذاتي مساواة الشيء إلى الوجود والعدم في حد الذات وهو محفوظ بعد لحوق العلّة واتّصافه بالوجوب الناشئ عن جانب العلّة ، فهو إذن ممكن ذاتي وإن كان واجباً بالغير.

وبذلك تقف على أنّه لا حاجة إلى القول بأنّ علمه ليس سبباً ومصدراً للمعلوم (٢).

__________________

(١) كشف المراد : ص ١٧٦.

(٢) كما عليه الفاضل القوشجي في شرحه على التجريد : ص ٤١٤.

٣٥٢

فإنّ التحاشي عن ذلك في غير محلّه بل يجب أن يقال إنّ الحادث الذي يقع في ظرف خاص لا يخرج عن حد الامكان بعد تعلّق علمه ، وحصول العلّة التامّة لوجوده ، فالعالم كلّه ممكن لكن بالذات ، واجب بالغير.

الواحد والثمانون : « العظيم »

قد ورد لفظ العظيم مرفوعاً ومنصوباً في القرآن ١٠٧ مرّة ووقع وصفاً له في خمسة موارد :

١ ـ قال سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( الشورى / ٤ ).

٢ و ٣ ـ وقال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة / ٧٤ و ٩٦ ).

٤ ـ وقال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة / ٣٣ ).

٥ ـ وقال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة / ٥٢ ).

بناءاً على أنّ العظيم في الآيات الثلاث صفة للرب لا للمضاف ، أمّا معناه فقال ابن فارس : العِظَم يدل على كبر وقوة ، وعظمة الذراع : مستغلظها ، ومن هذا الباب العظم المعروف سُمي بذلك لقوّته وشدّته ، قال الراغب : وعظم الشيء أصله كبر عظمه ، ثم استعير لكل كبير فاُجري مجراه محسوساً كان أو معقولاً ، عيناً كان أو معنى.

وما ذكره الراغب على طرف النقيض ممّا ذكره ابن فارس فإنّه جعل الأصل هو الكبر والقوّة ، وانّ اطلاقه على العظام لمناسبة موجودة بينهما ، والظاهر من مفردات الراغب عكس ذلك.

٣٥٣

وقد جاء العظيم وصفاً لعدة اُمور في القرآن المجيد :

العذاب ، البلاء ، الأجر ، الفوز ، الفضل ، اليوم ، السحر ، الخزي ، العرش ، الكيد ، القرآن ، الكرب ، البهتان ، الطود ، الحظ ، الظلم ، الذبح ، الحنث ، النبأ ، القسم ، الخلق ، إلى غير ذلك ممّا يوصف به.

وأمّا عظمته سبحانه فهو عظيم ذاتاً ووصفاً وفعلاً وكلّ ما لغيره سبحانه من العظمة فهو يرجع إليه.

الثاني والثمانون : « العزيز »

ورد لفظة « العزيز » في الكتاب العزيز ١٤٨ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه ٨٩ مرّة واقترن بصفات اُخر : الحكيم ، ذو انتقام ، القوي ، الحميد ، الرحيم ، العليم ، الغفور ، الوهّاب ، الغفّار ، الكريم ، المقتدر ، الجبّار.

قال ابن فارس : له معنى واحد يدلّ على شدّة وقوّة وما شاكلهما من غلبة وقهر.

وقال « الخليل » ربّما يستعمل فيما يكاد لا يوجد ، قال الخليل : عزّ الشيء حتى يكاد لا يوجد ، ولكن قال التعبير بلفظ آخر أحسن : هذا الذي لا يكاد يقدر عليه ، أي صعب المنال ، يقال عزّ الرجل بعد ضعف ، وأعززته إن جعلته عزيزاً.

وقال الراغب العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة.

قال تعالى : ( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ) والعزيز الذي يقهِر ولا يقهر.

وما ذكره العلماء هو الظاهر من موارد استعماله في القرآن الكريم ، ولكن يحتاج إلى دقّة ولطف. مثلاً قوله سبحانه : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) ( التوبة / ١٢٨ ) ،

٣٥٤

المراد صعب وهو راجع إلى المعنى الأصلي للكلمة ، وهو القوي لكون كل صعب مقاوماً.

قال سبحانه : ( وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ ) ( ص / ٢٣ ) أي غلبني في الخطاب.

وقول قوم شعيب له : ( وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) ( هود / ٩١ ) أي قويّ وغالب.

وعلى أي تقدير فقد جاء وصفاً له سبحانه في موارد كثيرة كما عرفت.

قال سبحانه : ( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / ٦٢ ).

وقال سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / ١٢٦ ).

وبما أنّه أُستعمل مع اسم « الحكيم » تارة ومع « ذي انتقام » ثانية ومع « القوي » ثالثة ، يعرب عن أنّه بمعنى الغالب القاهر الذي لا يغلب وهو « قوي » في الوقت نفسه « حكيم » يقهر عن حكمة وينتقم عن عزّ وقدرة ولو اجتمع مع « الرحيم » و « الغفور » يعرب عن أنّه غالب وفي الوقت نفسه سبقت رحمته كلّ شيء فلا يكون عزّه سبباً لعدم رحمتة وتجاوزه.

وبذلك يعلم أنّ ما احتمله الغزالي في تفسير « العزيز » تفسير غير تام ، قال : العزيز هو الذي يقل وجود مثله ، وتشتد الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه فما لم تجتمع هذه المعاني الثلاثة فيه لا يطلق عليه اسم « العزيز » ، فكم من شيء يقل وجوده ولكن لا يحتاج إليه فلا يسمّى عزيزاً ، وقد يكون بحيث لا مثل له والانتفاع به عظيم جداً ولكن يسهل الوصول إليه فلا يسمّى عزيزاً كالشمس فإنّها لا مثل لها والانتفاع بها عظيم جداً ، ولكنّها لا توصف بالعزّة فإنّه لا يصعب الوصول إليها ، وأمّا إذا اجتمعت المعاني في شيء فهو « العزيز » (١).

__________________

(١) لوامع البينات : ص ١٩٥ نقلا عن الغزالي.

٣٥٥

يلاحظ عليه : أنّ تفسير « العزيز » بمعنى ما يقل وجود مثله مع ما عرفت من كلام ابن فارس في حقّه غير تام في تفسير هذا الاسم في كثير من الايات ، فإنّ تفسير قوله سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) بأنّه ما النصر إلاّ من عند الله الذي لا مثل له ولا نظير غير منسجم لما تبيّن في محلّه ، إنّ كل اسم يقع في آخر الآية يجب أن يكون متناسبا مع ما ورد في الاية من المعنى ، وأي صلة بين النصر وبين كونه سبحانه لا نظير له ولا مثيل.

وروي عن الأصمعي أنّه قال : كنت في البادية وأقرأ القرآن بصوت عالٍ فقرأت الآية التالية بهذا النحو :

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / ٣٨ ).

وكانت هناك أعرابيّة تسمع صوتي ، فقالت لي : لو كان غفوراً رحيماً لما أمر بقطع أيديهما ، فراجعت القرآن فرأيت أنّني أخطأت في التلاوة والآية ( وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).

هذا ما فهمته الاعرابية بصفاء فطرتها ، وعلى ذلك فلا محيص عن تفسير العزيز في جميع الموارد على النحو الذي ذكره « ابن فارس » من القهر والقوّة والشدّة.

قال الصدوق معناه : انّه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء أراده ، فهو قاهر للأشياء غالب غير مغلوب فقد يقال في المثل « من عزّ بذّ » أي من غلب سلب ، وقوله حكاية عن الخصمين ( وعزّني في الخطاب ) أي غلبني في مجاذبة الكلام ، وقد يقال للملك عزيز كما قال اُخوة يوسف له « يا أيّها العزيز » والمراد به يا أيّها الملك (١).

والظاهر أنّ استعماله في الملك لمناسبة بينه وبين معناه فإنّ الملك يلازم

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ٢٠٦.

٣٥٦

القدرة والقهر والغلبة.

نعم يمكن تصحيح ما ذكره الغزالي بالبيان التالي وهو : إنّ من ليس له مثيل ولا نظير هو الغالب على الاطلاق دون ما إذا كان له مثيل فإنّه قد يغلب كما أنّ لازم كونه عزيزاً قاهراً عدم كونه محدوداً فانّ الحدّ آية المقهورية ولعلّه إلى ذلك يشير سبحانه :

( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات / ١٨٠ ).

وعلى أي تقدير فتفسير العزيز وما يشترك معه في الاشتقاق من قوله : « عزّزنا » « عزّاً » « عزّتك » « أعزّ » إلى غير ذلك حَسَب ما ذكرنا من المعنى الأصلي يحتاج إلى دقّة وأعمال قريحة.

الثالث والثمانون : « العفو »

لقد جاء العفو في الذكر الحكيم ٥ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع مواردها واقترن باسم الغفور تارة والقدير اُخرى.

قال سبحانه : ( لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج / ٦٠ ).

وقال تعالى : ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( المجادلة / ٢ ).

وقال تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء / ٤٣ ).

وقال تبارك وتعالى : ( فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء / ٩٩ ).

وقال تعالى : ( إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ( النساء / ١٤٩ ).

٣٥٧

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء ، والآخر على طلبه ثمّ ترجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى.

فالأوّل : العفو ، عفو الله تعالى عن خلقه وذلك تركه إيّاهم فلا يعاقبهم فضلاً منه.

قال الخليل كل من استحقّ عقوبة ; فتركته فقد عفوت عنه (١).

والظاهر أنّ العفو غير الترك بل هو المحو والازالة يقال عفت الديار إذا درست وذهبت ، قال لبيد في معلّقته :

عفت الديار محلّها فمقامها

بمنى تأبّد غولها فَرِجامها

فعلى هذا العفو في حقّ الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلّية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين ولا يطالبه بها يوم القيامة ، وينسيها قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكرها ـ وأحياناً ـ يثبّت مكان كل سيّئة حسنة.

قال تعالى : ( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / ٣٩ ).

وقال تعالى : ( فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) ( الفرقان / ٧٠ ) (٢).

وعلى هذا فالعفو أبلغ من المغفرة لأنّ الغفران يشعر بالستر ، والعفو يشعر بالمحو ، والمحو أبلغ من الستر.

قال الصدوق : العَفوّ اسم مشتق من العفو على وزن فعول ، والعفو : المحو يقال عفا الشيء إذا امتحى وذهب ودرس ، وعفوته أنا إذا محوته ، ومنه قوله عزّ وجلّ : ( عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ( التوبة / ٤٣ ) أي محى الله عنك إذنك لهم.

__________________

(١) والأصل الثاني ذكره في آخر كلامه قال : والأصل الآخر الذي معناه : الطلب ، يقال : اعتفيت فلانا : اذا طلبت معروفه. وهذا الاستعمال قليل.

(٢) لوامع البينات : ص ٣٣٨.

٣٥٨

وجعل « الراغب » الأصل لمعنى العفو هو القصد (١) وقال العفو : القصد لتناول الشيء يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده ، وعفت الريح الدار : قصدتها متناولة آثارها ، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه.

ولا يخفى أنّ ما ذكره ابن فارس أقرب بموارد استعمال العفو في الذكر الحكيم.

قال سبحانه : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ( آل عمران / ١٣٤ ) فلو كان العفو متضمّناً معنى القصد لقال والعافين للناس.

وقال سبحانه : ( يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) ( المائدة / ١٥ ).

وما ذكره الراغب هو الأصل الثاني في كلام « ابن فارس » حيث جعل له أصلين أحدهما ترك الشيء والآخر طلبه ولكلّ موارد ، والمعنى الثاني يناسب قوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ( البقرة / ٢١٩ ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يعفو عمّن ظلمه ولا يقطع برّه عنه بسب تلك الاساءة ولا يذكر ما تقدّم من أنواع الجفاء شيئاً من الشخص الذي يريد أن يعفو عنه ، قال تعالى : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) ( النور / ٢٢ ).

فإنّه متى فعل ذلك فالله سبحانه أولى أن يفعل به ذلك.

روى الرازي عن عليّ عليه‌السلام انّه دعا غلاماً له فلم يجبه ، فدعاه ثانياً فلم يجبه وهكذا ثالثا فقام إليه فرآه مضطجعاً ، فقال : يا غلام أما سمعت الصوت ؟ فقال : بلى سمعت ، قال : فما منعك من الاجابة ؟ قال : ثقتي بحلمك واتكالي على عفوك ، فقال عليّ عليه‌السلام : أنت حرّ لوجه الله تعالى بهذا الإعتقاد (٢).

__________________

(١) ولعلّه الأصل الثاني في كلام ابن فارس.

(٢) لوامع البينات : ص ٣٣٨.

٣٥٩

الرابع والثمانون : « العليّ »

وقد ورد في الذكر الحكيم أحد عشر مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ثمانية موارد ، واستعمل مع الكبير تارة والعظيم اُخرى والحكيم ثالثة.

قال سبحانه : ( وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( البقرة / ٢٥٥ ).

وقال سبحانه : ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / ٣٠ ).

وقال سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / ٥١ ).

وقال سبحانه : ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) ( النساء / ٣٤ ).

أمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : للعلوّ أصل واحد يدلّ على السمو والارتفاع لا يشذّ عنه شيء من ذلك ، العلاء والعلو ، ويقولون : « تعالى النهار » أي ارتفع.

قال الخليل : أصل هذا البناء ، العلوّ ، فأمّا العلاء فالرفعة ، وأمّا العلو فالعظمة والتجبّر ، يقولون علا الملك في الأرض علواً كبيراً.

وعلى ذلك فالمراد من توصيفه سبحانه بعليّ هو علوّه من أن يحيط به أفكار المفكّرين ، ووصف الواصفين ، وعلم العارفين ، فهو تعالى لعلوّه لا تناله أيدي الخلوقات ولعظمته لا يعهده كثرة الخلق ، فهو العليّ المطلق لا غيره ، فإنّ العلو من الكمال وحقيقةُ كل كمال قائم به.

قال الصدوق في تفسير اسم العلي : إنّه تعالى عن الأشباه والأنداد وعمّا خاضت فيه وساوس الجهّال ، وترامت إليه فكر الضلاّل فهو عليّ متعال عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

٣٦٠