مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

وقال الإمام الصادق ـ في جواب السائل عن الكيفية له ـ : لا لأنّ الكيفيّة جهة والاحاطة ، ولكن من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه (١).

وهذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة وأنّها بين التعطيل والتشبيه.

فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الإلهية أمران :

١ ـ الأقيسة العقليّة.

٢ ـ التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.

ولأجل ايضاح الحال وانّه يمكن الحصول على المعارف وصفات الواجب عزّ وجلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً ، والتدبّر في صنعه وخلقه ثانياً ، نأتي بالبيان التالي :

١ ـ الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة

وله صور نشير إليها :

إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من أحكامه على الواجب عزّ اسمه ، فيصفه بما يناسب غناه وينزّهه عمّا لا يجتمع معه ، وقد سلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :

« ووجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته ، ونفي الزائد ، والشريك والمثل ، والتركيب بمعانيه ، والضد ، والتحيّز والحلول ، والاتحاد ، والجهة ، وحلول الحوادث فيه ، والألم واللذّة والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً والرؤية. ».

__________________

(١) الكافي ج ١ باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث ٢ ، ٥.

٢١

بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال : « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود ، والملك والتمام والحقّية والخيرية والحكمة والتجّبر والقهر والقيوميّة » (١).

فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال وهو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه : « وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حالاًّ في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلاّ لكان عرضاً » (٢).

وإن شئت قلت : إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال ، وفوق ما يتصوّر من الكمال ، وليس للنقص إليه سبيل ، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً ، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصاف بها ، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها ، فإذا كان العلم والقدرة والحياة أوصاف كمال وكانت الجسميّة والتركّب والحالّيّه والمحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالاُولى والتنزيه عن الثانية ولأجل ذلك قلنا : إنّ الصفات الثبوتية والسلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد وهو الكمال ، وسلب أمر واحد وهو النقص.

وبتعبير آخر لاثبات صفاته وهو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب وما لها من صفات كمال كالعلم والقدرة والحياة ، فالمالك الحقيقيّ لها هو الله سبحانه ، والمعطي لها هو الله سبحانه. قال تعالى : ( للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) فالعلم والقدرة والحياة كلّّها تجلّيات لعلمه وقدرته وحياته ، فإذا كان كذلك فالعلم الأصيل والقدرة الأصيلة والحياة الحقيقيّة لله سبحانه.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ١٧٨ ـ ١٨٥ ( ط صيدا ).

(٢) أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص ٧٦ ـ ٨٠ ـ ٨١ ـ ٩٢.

٢٢

يقول العلاّمة الطباطبائي : نحن أوّل ما نفتح أعيننا ، يقع ادراكنا على أنفسنا ، وعلى أقرب الاُمور منا ، وهي صلتنا بالكون الخارج ، لكنّا لا نرى أنفسنا إلاّ مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلاّ كذلك ، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان ، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة. وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويصد خلّته ، وإليه ينتهي كلّ شيء وهو الله سبحانه ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / ١٥ ).

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه ، وكينونته ووجوده منه ، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره ، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلاّ مبنيّة على الحاجة وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك ـ بكسر الميم وضمها ـ على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة.

فهو سبحانه حيّ ، قادر ، بصير ، حليم ، لأنّ في نفيها اثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه ، ورازق ورحيم وعزيز ومحيي ومميت ومبدع ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق والرحمة والعزّة والاحياء والاماتة والابداع والاعادة والبعث له سبحانه وهو السبّوح ، القدّوس ، العلي ، الكبير ، المتعال ، إلى غير ذلك ، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي ، ونفي كلّ صفة نقص عنه (١).

ترى أنّه ـ قدس الله سره ـ استدل على الصفات الثبوتية بمبدأ واحد وهو أنّ

__________________

(١) الميزان ج ٨ ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢٣

الملك له لا لغيره ، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه ، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

٢ ـ مطالعة الكون وآيات وجوده

الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال والكمال طريق التدبّر في النفس والكون أي في آياته الأنفسية والافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصّلت / ٥٣ ) (١).

فمطالعة الكون المحيط بنا وما فيه من بديع النظام وغريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع وقدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الإلهية الجماليّة ( الثبوتية ) والجلالية ( السلبية ) وقد سلك هذا الطريق المحقّق نصير الدين وقال : « والأحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل علمه » (٢).

وقول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبو جعفر الطوسي في بعض كتبه وقال عند البحث عن علمه سبحانه :

« وأمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ الإحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لا يقدر عليه إلاّ من هو عالم بما يريد فعله ،

__________________

(١) والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى الله سبحانه.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ١٧٤ ( ط صيدا ) والاستدلال بالتجرّد ، استدلال عقلي والاستدلال بالأحكام واستناد كل شيء اليه ، استدلال بآيات وجوده على كماله.

٢٤

لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام والنظام ، والاختلاف في بعض الأحوال ولمّا كان ذلك واقعاً على حد واحد ، ونظام واحد ، واتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم » (١).

وهناك ـ وراء الإستدلال العقلي والنظر في آثار الرب ـ طريقان آخران نشير إليهما.

٣ ـ المعرفة عن طريق الوحي

إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ والزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الإلهيات والمعارف ، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين : فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم والمفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام والاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع ونفي الشريك عنه وكثير من صفاته الثبوتية ، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور ، واُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبئ عن الله سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة ولا يمكن الاعتماد على مثله إلاّ بعد ثبوت وجود الصانع وبعض صفاته وثبوت النبوّة العامّة والخاصة ، ولكن الغالب على الآيات القرآنيه والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه وقلبه وقرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

٤ ـ المعرفة عن طريق الكشف والشهود

هناك طريق رابع وهو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف والشهود ، والقائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب

__________________

(١) الاقتصاد ، الهادي الى سبيل الرشاد ص ٢٨ ، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد ص ١٩٤.

٢٥

حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف وضميره ، ويدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال والكمال ادراكاً يقينيّاً لا يخالطه الشك ، ولا يمازجه الريب ، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلاّ لصاحب الكشف.

وعلى كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الإلهية وكنه صفاته وأسمائه ، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي النقص والعجز حسب المقدرة الإنسانية.

إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز والفطرة السليمة ، وهناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن وهو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي ، قال :

« إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله : ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ( المائدة / ١٧ ).

أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء العظام ولقمان ومؤمن آل فرعون كقوله :

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / ١٠ ).

وقوله : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / ١٣ ).

وقوله : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ( غافر / ٢٨ ).

وقوله حكاية عن سحرة فرعون ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

٢٦

وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( طه / ٧٢ ). إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته ، ـ علّل ـ باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) ( العنكبوت / ٤٥ ).

وقوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / ١٨٣ ).

وقوله ( في آية الوضوء ) : ( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / ٦ ).

الى غير ذلك من الايات الواردة حول تحريم الخمر والميسر.

وهذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن ويبني على تصديقه ، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع ، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ ، هو الذي نعرّفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبّدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ، والعجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم ومقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم ودليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي (١).

ونذكر من باب المثال قولهم : « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق ، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر وأمّا الجواب : فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن

__________________

(١) الميزان : ج ٥ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٧

الخطأ في كيفية الاستدلال ولكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :

١ ـ صحّة المادّة.

٢ ـ صحّة الهيئة.

والمنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل وأجاب عنه العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

« إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ وأمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدعيه أحد وهذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلاّ عن استعمال صحيح » (١).

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات والذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة ، وهو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة وهو الجدل ، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد والهداية إلى خير مظنون وشر مثله وهو العظة ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / ١٢٥ ).

والظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة والجدل.

ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز ، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة ؟

يلاحظ عليه : إنّ اشتمال الكتاب والسنّة على جميع ما يحتاج إليه لا يلازم

__________________

(١) الميزان ج ٥ ص ٢٨٨.

٢٨

استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب والسنّة ، فليس فهم الكتاب والسنّة غنيَّا عن التدبّر والامعان ، وليس أصحاب الفلسفة والمنطق من الكفّار والملاحدة ، والواجب على المسلم الواعي هو استماع القول ـ من أيّ ابن اُنثى صدر ـ ثم اتّباع أحسنه.

وعلى كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب وعجيب جداً ومن قابَلَ التفكّر والتعقّل واقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته وفطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح والتعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة والهيئة.

وبذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث واسلوب دعوتهم إلى المعارف والحقايق حتى إنّ الأشعري لما تاب عن الإعتزال ولحق بأصحاب أحمد بن حنبل ، واستدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية وكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، رفضته الحنابلة قائلة : بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينياً ، وإنّما الطريق البرهنة بالآية والحديث مكان التعقل.

قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال : قرأت على عليّ القومسي ، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول :

لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا وأكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري : وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً ، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه (١).

هذا وإذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق

__________________

(١) تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص ٣٩١.

٢٩

الفطرة التي دعا إليها القرآن ، ولا يشذ عنها إلاّ من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.

فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم وسنّة نبيه وأحاديث عترته صلوات الله عليهم أجمعين على ضوء البرهان والقياس العقلي.

٣٠

أسماؤه وصفاته

في القرآن الكريم

قد احتلّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في كتب الكلام والتفسير المكانة العليا ، فالقدماء شرحوا معاني أسمائه وصفاته وأفعاله والمتأخّرون اكتفوا من مباحثهابالبحث عن أمرين :

١ ـ مغايرة الاسم للمسمّى.

٢ ـ كون أسمائه توقيفية.

ونحن في هذه الفصول نجمع بين الطريقين فنأتي بما يتعلّق بها من المباحث المفيدة ونعرض عمّا لا يهمّنا جدّاً ثم نفسّر أسماءه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم ، وبناء عليه سيقع البحث في اُمور :

١ ـ الفرق بين الاسم والصفة

دلّت الآيات الكريمة على أنّ له سبحانه الأسماء الحسنى كما ورد ذلك في الأحاديث أيضاً.

قال سبحانه : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

وقال : ( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الاسراء / ١١٠ ).

وقال : ( اللهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( طه / ٨ ).

٣١

وقال : ( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الحشر / ٢٤ ).

وقال : ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) ( الأعراف / ١٨٠ ).

والاسم مشتق إمّا من « السمو » على ما ذهب إليه البصريون ، أو من « السمة » على ما اختاره الكوفيون ، وعلى كلّ تقدير فلو كان الملاك في تسميه اللفظ اسما هو سموّه على المعنى ، وتقدمه عليه أو كونه علامة له ، فالكلمه بأقسامها الثلاثه اسم لوجود كلا الملاكين فيها (١).

ومع ذلك كلّه فالاسم في مصطلح النحويين يطلق على قسم واحد من أقسام الكلمة ، وعرّفوه بأنّه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان ، فالاسم بهذا المعنى يقابل الفعل والحرف ، فالفعل يدل على معنى مستقل مقترن بالزمان ، والحرف يدل على معنى في غيره.

وهناك اصطلاح ثالث للاسم وهو كلّ ماهيّة تعتبر من حيث هي هي فهو أسم أو من حيث انّها موصوفة بصفه معينة فهو وصف ، فالأوّل كالسماء والأرض والرجل والجدار ، والثاني كالخالق والرازق والطويل والقصير. ذكره الرازي وقال : هذا هو الفرق بين الاسم والصفة على قول المتكلّمين (٢).

يلاحظ عليه : إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أنّ الجوامد أسماء ، وأسماء الفاعلين ونظائرها صفات مع أنّه لاينطبق على مصطلح المتكلّمين فإنّ الخالق والرازق من أسمائه سبحانه لا من صفاته ، فكيف يعده من صفاته ومقابل أسمائه والحق أن يقال :

__________________

(١) اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اطلاق الاسم على خصوص قسم من الكلمة لأجل كون معناه سامياً ومرتفعاً بين معاني سائر الكلمات أعني الفعل والحرف فعندئذ يختص بالقسم المعروف عند النحويين.

(٢) لوامع البينات للرازي ص ٢٧ ( طبع القاهره ).

٣٢

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ؟

« الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي ، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأ الفعل ، فالأوّل كلفظ الجلالة له سبحانه والرجل والإنسان لغيره ، والثاني كالعالم والقادر ، والثالث كالرازق والخالق ، وأمّا الصفة فهو الدال على المبدء مجرّداً عن الذات كالعلم والقدرة والرزق والخلقة ولأجل ذلك يصحّ أن يقال الاسم ما يصحّ حمله كما يقال الله عالم وخالق ورحمان ورحيم ، والصفة لا يصحّ حملها كالعلم والخلق والرحمة ، وهذا هو المشهور بين المتكلّمين بل الحكماء والعرفاء ، فالصفات مندكة في الأسماء من غير عكس.

يقول العلاّمة الطباطبائى : لا فرق بين الصفة والاسم ، غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني تتلبّس به الذات ، أعم من العينيّة والغيريّة والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف ، فالحياة والعلم صفتان ، والحي والعالم اسمان (١).

هذا كلّه على ما هو المشهور ويوافقه ظاهر الكتاب العزيز من انّ أسماءه سبحانه من قبيل الألفاظ والمعاني فيكون لفظ الجلالة وسائر الأسماء كالرحمان والرحيم ، والعالم والقادر أسماء الله الحسنى الحقيقية ، ولها معان ومفاهيم فينتقل إليها الذهن عند السماع.

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة

إنّ لأهل المعرفة اصطلاحاً خاصّاً فالأسماء والصفات عندهم ليست من قبيل الألفاظ والمفاهيم بل حقيقة الصفه ترجع إلى كمال وجودي قائم بالذات ، والاسم عبارة عن تعيّن الذات بنفس ذلك الكمال والأسماء والصفات الملفوظة ، أسماء وصفات لتلك الأسماء والصفات الحقيقية التي سنخها سنخ الوجود والكمال ،

__________________

(١) الميزان ٨ / ٣٦٩.

٣٣

والتحقّق والتعيّن ، فلفظ الجلالة ليس اسماً بل اسماً للاسم ، ومثله العلم والقدرة والحياة فليست صفات بالحقيقة ، بل مرايا لأوصافه الحقيقيّة.

فالقولان متّفقان على أنّ الذات مع التعيّن هو الاسم ، والتعيّن بما هو هو ، هو الوصف ، ويختلفان من كونها من قبيل الألفاظ والمفاهيم أو من قبيل الحقايق والواقعيات. يقول أهل المعرفه : إنّ الذات الأحدية ، بما أنّه وجود غير متناه ، عار عن المجالي والمظاهر ، يسمّى « غيب الغيب » وإذا لوحظ في رتبة متأخّرة ، بتعيّن من التعيّنات الكماليّة كالعلم والقدرة ، فهو مع هذا التعيّن اسم ، ونفس التعيّن بلا ملاحظة الذات ، وصف.

يقول الحكيم السبزواري : « فالذات الموجودة مع كلّ منها ( التعيّنات ) يقال لها الاسم في عرفهم ، ونفس ذلك المحمول العقلي هي الصفه عندهم » (١). ويقول في موضع آخر : « والوجود بشرط التعيّن هو الاسم ، ونفس التعيّن هو الصفة » (٢).

ويقول أيضاً : « الاسم عند العرفاء هو حقيقة الوجود مأخوذة بتعيّن من التعيّنات الصفاتية من كمالاته تعالى ، أو باعتبار تجلّ خاص من التجليّات الإلهية » فالوجود الحقيقي مأخوذاً بتعين « الظاهرية بالذات » و « المظهرية للغير » اسم « النور » وبتعيّن كونه « ما به الانكشاف لذاته ولغيره » اسم « العليم » وبتعيّن « كونه خيراً محضاً » و « عشقا صرفاً » اسم « المريد » وبتعيّن « الفياضية الذاتية » للنورية عن علم ومشيئة ، اسم « القدير » وبتعيّن « الدراكيّة » و « الفعاليّة » اسم « الحي » وبتعيّن « الاعراب عمّا في الضمير » المخفي والمكنون العيني اسم « المتكلّم » وهكذا » (٣).

__________________

(١) شرح الاسماء الحسنى ١٩.

(٢) شرح الاسماء الحسنى ٢١٥.

(٣) شرح الاسماء الحسنى ٢١٤.

٣٤

٢ ـ هل الاسم نفس المسمّىٰ أو غيره

من المباحث التي شغلت بال القدماء والمتأخّرين ، هو مسألة اتحاد الاسم والمسمّى وهو بحث لا يحتاج إلى التفصيل ، يقول الرازي : إنّ هذا البحث ممّا لا يمكن النزاع فيه بين العقلاء ، فإن كان المراد من الاسم هو اللفظ الدال على الشيء بالوضع ، وكان المسمّى عبارة عن نفس ذلك الشيء ، فالعلم الضروري حاصل بأنّ الاسم غير المسمّى وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء ( المدلول ) والمسمّى ايضاً ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمّى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء فثبت أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنّما كان بسبب أنّ التصديق ما كان مسبوقاً بالتصوّر وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية (١).

هذا وان شيخ مذهبه « أبا الحسن الأشعري » قد زاد في الطين بلّة فعاد يفصّل فيها ويقول : إنّ الاسم ( يريد مدلوله ) عين المسمّى أي ذاته من حيث هي هي نحو الله فإنّه اسم للذات من غير اعتبار معنى فيه ، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدل على نسبته إلى غيره ، ولا شك انّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته (٢).

ولا يخفى إنّ صحّة كلامه يتوقف على تسليم اصطلاح خاص له.

ففي الشق الأوّل الذي يدعى فيه انّ الاسم عين المسمّى يريد من الاسم المدلول لا اللفظ المتكلّم به وهو اصطلاح جديد لم نسمعه إلاّ منه ومن أمثاله.

كما أنّ حكمه بأنّ الخالق والرازق غيره ، مبني على كون المشتق بمعنى المبدء أي الخلق والرزق ، وانّ معنى المشتق هو نسبة المبدء إلى الذات على نحو خروج الذات عن مدلول المشتق.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي ص ١٨.

(٢) شرح المواقف ج ٨ ص ٢٠٧.

٣٥

وأمّا الثالث فهو نظرية أخرى بين القول بإتحاد صفاته الذاتية مع الذات ومغايرته ، فالمعتزله على الأوّل وأهل الحديث على الثاني ، ولمّا لم ينجح الشيخ في القضاء الحاسم بين النظريتين إختار قولاً ثالثاً وهو أنّه لا هو ولا غيره ، وهو بحسب ظاهره أشبه بارتفاع النقيضين إلاّ أن يفسّر بوجه يرفع ذلك الاشكال.

والشيخ الأشعري يصّر في كتاب « الابانة » على أنّ الاسم نفس المسمّى ولا يذكر وجهه (١).

وما ذكرنا من المبني ( مراده من الاسم المدلول ) لتوجيه كلامه فإنّما ذكره اتباع مذهبه ك‍ « الايجي » في المواقف و « التفتازاني » في المقاصد وشرحه ، والسيد الشريف في شرحه على المواقف.

يؤاخذ على الشيخ بأنّه أي حاجة في جعل هذا الاصطلاح أي اطلاق الاسم وارادة المدلول منه حتى نحتاج إلى هذه التوجيهات.

ثم إنّ القائلين بالاتحاد استدلّوا بوجوه :

١ ـ قالوا : إنّ الله تعالى أمر بتسبيح اسمه وقال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ). ودلّ العقل على أنّ المسبّح هو الله تعالى لا غيره وهذا يقتضي انّ اسم الله تعالى هو هو لا غيره.

٢ ـ وقالو : إنّه سبحانه أخبر انّ المشركين عبدوا الأسماء وقال : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف / ٤٠ ).

والقوم ما عبدوا إلاّ تلك الذوات فهذا يدل على أنّ الاسم هو المسمّى.

__________________

(١) وراجع مقالات الاسلاميين ، ص ٢٩٠ ـ الطبعة الثالثة الفصل الخاص لبيان عقيدة أهل الحديث والسنّة.

٣٦

٣ ـ قالوا : اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب ان لا يكون لله تعالى في الأزل شيء من الأسماء إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

٤ ـ قالوا : إذا قال القائل : محمد رسول الله فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد.

٥ ـ قالوا : إنّ لبيد يقول : « اسم السلام » ويريد نفس السلام حيث قال :

« إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ عاماً كاملاً فقد اعتذر » (١).

وهذه الحجج التي نقلها الرازي تعرب من أنّ للمستدل كالشيخ الأشعري إصطلاح خاص في الاسم ، فهو كلّما يطلق الاسم إنّما يريد المدلول لا اللفظ الدال.

وعلى ضوء ذلك فنقول :

أمّا الدليل الأوّل : فلأنّ الظاهر أنّ الآية تحثّ على تسبيح الإسم وتقديسه وتنزيهه لا على تنزيه المسمّى وذلك لأنّه كما يجب تنزيه المدلول يجب تنزيه الدال ، وذلك بأن لا يسمّى به غيره ، فيكون ذلك نهياً عن دعاء غير الله تعالى باسم من أسماء الله فإنّ المشركين كانوا يسمّون الصنم باللات وكانوا يسمّون أوثانهم آلهة.

ويمكن أن يكون المراد تفسيره بما لا يليق بساحته ولا يصحّ ثبوته في حقه سبحانه.

وهناك وجه ثالث وهو أن تصان أسماء الله عن الإبتذال والذكر لا على وجه التعظيم.

ووجه رابع وهو أنّه يمكن أن يكون تسبيح الاسم كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تكون باعثة لتسبيح الاسم نفسه.

__________________

(١) لوامع البينات للرازي ص ٢١ ـ ٢٢.

٣٧

أمّا الدليل الثاني : فلأنّ المراد من قوله سبحانه : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) إنّه ليس لها من الاُلوهية إلاّ التسمية وهي أسماء بلامسميات ، وهذا كما يقال لمن سمّى نفسه باسم السلطان انّه ليس له من السلطنة إلاّ الاسم وكذا هنا وعلى ذلك فالمراد من قوله : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) اي إلاّ أشخاصاً أنتم سمّيتموها آلهة وليسوا بآلهة.

وأمّا الدليل الثالث : فلا محذور أن لا يكون له اسم ملفوظ في الأزل غير أنّ فقدان هذه الأسماء لا يلازم فقدان المدلولات ، فالله سبحانه كان جامعاً لكمالات هذه الأسماء ومداليلها ، وإن لم يكن هناك اسم على النحو اللفظي.

وأمّا الدليل الرابع : فساقط جداً لأنّ المبتدأ أعني قولنا : محمد يمثّل طريقاً إلى المدلول ، والحكم على ذي الطريق لا على نفس الطريق ، وهذا حكم كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلاً أو حرفاً.

وأمّا الدليل الخامس : فهو تمسّك بشعر شاعر علم بطلانه ببديهة العقل ومن المحتمل جدا انّ اقحام لفظة اسم في البيت لأجل الضرورة وإلاّ فلا وجه للعدول من « السلام عليكما » إلى « اسم السلام عليكما » (١).

والرازي مع أنّه جعل المسألة بديهية ، أخذ في الاستدلال على أنّ الاسم غير المسمّى لاقناع غيره الذي وقع في الشبهة مقابل البديهية ، فقال : الذي يدل على أنّ الاسم غير المسمّى وجوه :

منها : إنّ أسماء الله كثيرة والمسمّى ليس بكثير.

منها قوله تعالى : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) حيث أمرنا أن ندعو الله تعالى بأسمائه ، والشيء الذي يدعي مغاير للشيء الذي يدعى به ذلك المدعو.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تحتاج إلى الذكر والبيان.

__________________

(١) لاحظ لوامع البينات للرازي ص ٢١ ـ ٢٢ ، وشرح المواقف ج ٨ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، وشرح المقاصد للتفتازاني ج ٢ ص ٦٩ ـ ٧٠.

٣٨

بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى

نعم هناك بيان آخر لتوحيد الاسم مع المسمّى غير معتمد على اصطلاح الأشعري من تفسير الاسم بالمدلول الذي هو متّحد مع المسمّى ، وهذا الوجه هو ما أشار إليه علماء العرفان من انّ كلاًّ من العالم والقادر والخالق ليس اسماً للذات المقدسة بل اسم للاسم ، والاسم للذات المقدسة هو الذات المنكشفة بحقيقة العلم أو القدرة.

توضيح ذلك : إنّه قد يطلق الأسم على اللفظ الدال على الذات المتّصفة بوصف الكمال ، دلالة بالجعل والمواضعة وعندئذ يكون الاسم من قبيل الألفاظ والمسمّى من قبيل الأمر الخارجي ، وعلى ذلك فلا مسوّغ للبحث عن الاتحاد.

وقد يطلق على الذات المنكشفة ، بوصف من صفاته الكمالية وذلك لأنّ ذاته سبحانه مبهمة في غاية الإبهام غير معروفة لأحد من خلقه ، وإنّما تعرف عن طريق صفاته الجمالية ، ولولا الصفات لما عرف سبحانه بوجه ، وعلى ذلك يكون المراد من الاسم هو الحقيقية الخارجية المبهمة غاية الابهام ، المنكشفة لنا بواحد من صفاته وعلى هذا يكون المراد من الاسم الذات المنكشفة ، والمراد من الوصف نفس الكمال الواقعي ، والاسم والوصف بهذا المعنى ليسا من الأمور الملفوظة أو الذهنية بل من الاُمور الواقعيّة الحقيقيّة العينيّة وعندئذ يكون ألفاظ الحي ، والقادر ، والعالم أسماء للاسم ، كما يكون الحياة ، والقدرة ، والعلم أوصافاً للوصف لا أسماء وصفاتاً لذاته سبحانه ، فالاسم نفس المسمّى لكن اسم الاسم غيره ، وهذا المعنى الدقيق العرفاني لا يقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث العرفانية وأين هو من تفسير الشيخ ، الاسم بالمدلول والحكم بأنّ المدلول نفس المسمّى ؟

وعلى أيّ تقدير فالظاهر من الروايات أنّ القول بالاتحاد كان ذائعاً في عصر أئمّة أهل البيت وما ذكره الشيخ الأشعري كان توجيهاً لتلك العقيدة الباطلة وإن كان أصحابها غافلين عن ذلك التوجيه ، وإليك ما روي عنهم عليهم‌السلام في

٣٩

ذلك الباب :

١ ـ روى الكليني عن عبد الاعلى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « اسم الله غيره ، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء » (١) فهو مخلوق ما خلا الله ، فأمّا ما عبّرته الألسن أو ما عملت الأيدي فهو مخلوق ـ إلى أن قال ـ : والله خالق الأشياء لا من شيء كان ، والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره (٢).

٢ ـ روي الكليني عن علي بن رئاب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« من عبد الله بالتوهّم فقد كفر.

ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر.

ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك.

ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ، ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته ، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً » (٣).

ترى أنّه عليه‌السلام يقسّم العابد حسب اختلاف المعبود إلى أقسام :

الف ـ فمن عابد لله سبحانه لكن بالتوهّم والشك فهو كافر بالله لأنّ الشك كفرٌ به.

ب ـ ومن عابد للاسم أي الحروف أو المفهوم الوضعي معرضاً عن المعنى المعبّر عنه فقد كفر أيضا لأنّه لم يعبد المعبّر عنه بالاسم لأنّ الحروف والمفهوم غير الواجب الخالق للكلّ فإنّما الاسم بلفظه ومفهومه تعبير عن المعنى المقصود.

__________________

(١) أي لفظ « الشيء ».

(٢) الكافي ج ١ باب حدوث الأسماء ص ١١٢ الحديث ٤ ، وتوحيد الصدوق باب أسماء الله ص ١٩٢ الحديث ٥.

(٣) الكافي ج ١ باب المعبود ص ٨٧ الحديث ١.

٤٠