مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

ويظهر هذا المعنى من الشيخ المفيد غير أنّه فرّق بين العرش المطلق والعرش المحمول ، ففسّر الأوّل بالملك وقال : العرش الأوّل هو ملكه ، وإستواءه على العرش هو إستيلاءه على الملك ، وأمّا العرش الذي تحمله الملائكة هو بعض الملك وهو عرشٌ خلقه الله تعالى في السماء السابعة ، وتعبّد الملائكة بحمله وتعظيمه ، كما خلق سبحانه بيتاً في الأرض وأمر البشر بقصده وزيارته والحجّ إليه وتعظيمه كما جاء في الحديث : « إنّ الله تعالى خلق بيتاً تحت العرش سمّاه « البيت المعمور » تحجّه الملائكة في كل عام ، وخلق في السماء الرابعة بيتاً سمّاه « الزراح » وتعبّد الملائكة بحجّه والطواف حوله ، وخلق البيت الحرام في الأرض وجعله تحت الزراح ـ إلى أن قال ـ : « ولم يخلق الله عرشاً لنفسه ليستوطنه تعالى الله عن ذلك ، ولكنّه خلق عرشاً أضافه إلى نفسه تكرمة له وإعظاماً ، وتعبّد ملائكة بحمله ، كما خلق بيتاً في الأرض ولم يخلقه لنفسه ولا ليسكنه تعالى الله عن ذلك ، لكنه خلقه لخلقه واضافة لنفسه إكراماً له وإعظاماً ، وتعبّد الخلق بزيارته والحجّ إليه (١).

وقال العلاّمة المجلسي :

اعلم انّ ملوك الدنيا لمّا كان ظهورهم واجراء أحكامهم على رعيتهم إنّما يكون عند صعودهم على كرسيّ الملك وعروجهم على عرش السلطنة ، ومنهما تظهر آثارهم وتتبيّن أسرارهم ، والله سبحانه لتقدّسه عن المكان لا يوصف بمحلّ ولا مقرّ وليس له عرش ولا كرسي يستقرّ عليهما بل يطلقان على أشياء من مخلوقاته » (٢).

وهذا هو الظاهر من بعض الروايات ، روى الصدوق بسنده عن المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عن العرش والكرسي ما هما ؟ فقال : العرش في وجه هو جملة الخلق (٣).

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ٢٩ ـ ٣١.

(٢) بحار الانوار ج ٥٨ ، ص ٢٧.

(٣) بحار الانوار ج ٥٨ ، ص ٢٩.

٢٦١

وها هنا كلام للعلاّمة الطباطبائي (ره) يحقّق ما ذكرنا بشكل بديع ويقول : « إنّ السلطة والاستيلاء والملك والرئاسة والولاية والسيادة وجميع ما يجري هذا المجري فينا اُمور وضعيّة اعتبارية ليس في الخارج منها إلاَّ آثارهما ، مثلاً الرئيس لا يسمّى رئيساً إلاّ لأن يتبعه الذين نسمّيهم مرؤوسين في إرادته وعزائمه ، وليس هنا للرئاسة واقعيّة إلاَّ التخيّل والتشبيه بمعنى تنزيل الرئيس مكان الرأس ، والمرؤوسين مكان البدن ، فكما أنّ البدن يتبع الرأس ، فالمرؤوسون يتبعون الرئيس وقس عليها.

وهذا خلاف ما يوصف به سبحانه من الملك والاحاطة والولاية وغيرها ، فإنّها معاني حقيقية واقعيّة على ما يليق بساحة قدسه ، وعلى ذلك يجب أن يكون للاستيلاء حقيقة تكوينيّة ولعرشه المتعلّق به واقعيّة مثله.

فالايات كما ترى تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وأمر من الاُمور الخارجية » (١).

٥ ـ إنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وهو المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمّة الاُمور (٢) وبعبارة اُخرى هو المقام الذي يبتدأ منه وتنتهي إليه أزمّة الأوامر والأحكام الصادرة من الملك ، وهو في ذلك وإن كان موجوداً مادّيّاً إلاَّ أنّ المحكمات من الايات مثل قوله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / ١١ ). وقوله : ( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات / ١٥٩ ) تدلّ على انتفاء الجسم وانّه ليس من خواصّه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه كونه سريراً مؤلّفاً من مادّة معيّنة ، ويبقى أصل المعنى وهو أنّه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في نظام الكون هو من مراتب العلم الخارج عن الذات ، والمقياس في معرفة ما عبّرنا عنه بأصل المعنى أنّه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم ، وبعبارة اُخرى يدور مداره صدق الاسم وإن تغيّرت المصاديق واختلفت الخصوصيّات.

__________________

(١) الميزان ج ٢ : ص ١٥٩ ـ ١٦٠ بتلخيص منّا.

(٢) الميزان ج ٨ ، ص ١٦٠.

٢٦٢

وعلى ضوء هذا ينفى عن العرش ما يلازم المادّيّة من كونها من خشب أو معدن أو على صورة خاصّة ، ويبقى ما لا يلازم ذلك كوجود مقام تنتهي إليه أزمّة الاُمور ومنه تصدر الأحكام (١).

ولو صحّت تلك النظرية لكان العرش بعض الخلق لا كلّه ويكون وجوداً مجرّداً لا مادّيّاً حتى يناسب كونه مركزاً لصدور الأحكام ومرجعاً لانتهاء الاُمور إليه.

ومثل ذلك يعدّ من مراتب علمه الفعلي لا الذاتي ، فإنّ لعلمه الفعلي مراتب ودرجات ، ويؤيد هذا التفسير بعض الروايات التي تفسّر العرش بالعلم.

روى عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ). قال عليه‌السلام : السموات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش : هو العلم الذي لا يقدر أحد به قدره (٢).

روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، فاستأذنته فأذن بي ، فدخل فسأله عن الحلال والحرام ، ثمّ قال له : أفتقرّ أنّ الله محمول ؟ ، فقال أبو الحسن : كل محمول مضاف إلى غيره محتاج ، والمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل وهو في اللفظ ، مدح ... ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قطّ قال في دعائه يا محمول. قال أبو قرّة : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) وقال : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ) فقال أبو الحسن عليه‌السلام : العرش ليس هو الله والعرش اسم علم وقدرة ، والعرش كل شيء ، وعرش فيه كل شيء ، ثمّ أضاف الحمل إلى غيره ، خلق من خلقه لأنّه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه ، وخلقاً يسبّحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه ، وملائكة يكتبون

__________________

(١) الميزان ج ١٤ ص ١٣٩ ـ ١٤٠ بتغيير طفيف.

(٢) التوحيد : باب ٥٢ الحديث ٢٠.

٢٦٣

أعم العباده (١).

ويؤيّد ذلك ما ذكره أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب الجاثليق : فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء ، ونور كل شيء سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (٢).

وروى سنان بن سدير عن الصادق عليه‌السلام : إنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلّها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والعلم والمشيئة ... فهما في العلم بابان مقرونان ... (٣).

الستون ، والواحد والستون : « الرحمن والرحيم »

وقد ورد لفظ الرحمن في الذكر الحكيم ٥٧ مّرة واسم الرحيم ٩٥ مرّة ، ووقع الجميع وصفاً له سبحانه.

أمّا الرحمن فقد قورن باسمين :

١ ـ « الرحيم » وهو الأكثر ، قال سبحانه : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ).

٢ ـ « المستعان » ، قال سبحانه : ( رَبِّ احْكُم بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ المُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) ( الأنبياء / ١١٢ ).

__________________

(١) البحار : ج ٥٨ ، ص ١٤.

(٢) البحار : ج ٥٨ ، ص ١٠ الحديث ٨.

(٣) التوحيد : الباب ٥٠ ، ص ٣٢١ الحديث ١.

٢٦٤

وأمّا الرحيم فقد قورن بأسماء كثيرة لله سبحانه نشير إليها :

١ ـ « الرحمن » كما عرفت.

٢ ـ « التواب » قال سبحانه : ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / ٣٧ ).

٣ ـ « الرؤوف » قال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / ١٤٣ ).

٤ ـ « الغفور » قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / ١٧٣ ).

٥ ـ « الودود » قال سبحانه حاكياً عن شعيب : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / ٩٠ ).

٦ ـ « العزيز » قال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الشعراء / ٩ ).

٧ ـ « الرب » قال سبحانه : ( سَلامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ) ( يس / ٥٨ ).

٨ ـ « البرّ » قال سبحانه : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / ٢٨ ).

والاسمان مشتقان من « الرحم » وقد مضىٰ معناه في تفسير اسمه « أرحم الراحمين » فلا نعيد. إنّما الكلام في الفرق بينهما ، وسيوافيك بيانه.

الظاهر من الآيات إنّ العرب في العصر الجاهلي ما كانت تعرف « الرحمن ». قال الزجّاج : « الرحمن » اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الاولى ولم يكونوا يعرفونه من أسماء الله فقيل لهم إنّه من أسماء الله ومعناه عند أهل اللّغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة ، لأنّ « فعلان » من أبنية المبالغة تقول رجل « ريّان » و « عطشان » في النهاية من الري والعطش ، وفرحان وجذلان إذا كان في النهاية من الفرح والجذل.

٢٦٥

قال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ( الفرقان / ٦٠ ). أي زادهم ذكر الرحمن بعداً عن الايمان أو قبول الحقّ وقول النبي.

روى ابن هشام في أمر الحديبيّة الذي صالح فيه رسول الله مع قريش ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ فقال : اكتب « بسم الله الرحمن الرحيم » قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب « باسمك اللّهمّ » ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب « باسمك اللّهمّ ». فكتبها ... (١).

وأمّا الفرق بينهما فهناك وجوه :

١ ـ الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلاّ الله بخلاف الرحيم لأنّه يطلق عليه وعلى غيره.

٢ ـ الرحمن : رحمان الدنيا ، والرحيم : رحيم الآخرة.

٣ ـ الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة.

٤ ـ الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة (٢).

والظاهر هو الثاني وهو المروي عن الامام الصادق عليه‌السلام حيث قال : « الرحمن » اسم خاص بصفة عامّة ، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة ، وهو الظاهر من الصدوق حيث قال : « الرحمن » معناه الواسع الرحمة على عباده يعمّهم بالرزق والانعام عليهم وهو لجميع العالم ، والرحيم إنّه رحيم بالمؤمنين يخصّهم برحمته في عاقبة أمرهم كما قال الله عزّ وجلّ : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) والرحمان والرحيم اسمان مشتقّان من الرحمة على وزن ندمان ونديم (٣).

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ، ص ٣١٧.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ، ص ٢١.

(٣) التوحيد للصدوق : ص ٢٠٣.

٢٦٦

وأوضحه الرازي بقوله : « وقال جعفر الصادق عليه‌السلام : اسم الرحمان خاصّ بالحق ، عامّ في الأثر ، لأنّ رحمته تصل إلى البرّ والفاجر ، واسم الرحيم عامّ في الاسم خاص في الأثر لأنّ اسم الرحيم قد يقع على غير الله تعالى ، فهو من هذا الوجه عامّ إلاّ انّه خاص في الأثر لأنّ هذه الرحمة مختصّة بالمؤمنين ».

ثم استدلّ على ذلك بأنّ بناء وضع « الرحمان » للمبالغة يقال رجل غضبان وشبعان ، ورجل عريان هو الذي لا ثوب له أصلاً ، فإن كان له ثوب خلق ، فقد يقال له إنّه عار ولا يقال إنّه عريان ، وأمّا الرحيم فهو رحيم والفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع ، وبمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول وليس في واحد منهما كبير مبالغة.

أضف إلى ذلك انّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني ، وحروف الرحمان أكثر من حروف الرحيم (١).

ثمّ إنّه يمكن استظهاره من بعض الآيات ، نرى أنّه سبحانه إنّما يخاطب الكلّ أو خصوص الكافر يقول ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ( طه / ٥ ). ويقول : ( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا ) ( مريم / ٧٥ ). والأوّل خطاب للعامّ والثاني يخص مفاده بالكافر ، وفي الوقت نفسه يخصّ المؤمنين بالرحيم يقول : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) ( الأحزاب / ٤٣ ) ويقول : ( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبه / ١١٧ ).

وعلى ضوء هذا فالرحمان وإن كان يفيد الرحمة العامّة للكلّ إلاّ أنّ الرحيم يفيد الرحمة الخاصّة بالمؤمنين ، فكان الرحمان كالأصل والرحيم كالزيادة في التشريف ، والأصل يجب تقديمه على الزيادة كقوله : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ) ( يونس / ٢٦ ).

__________________

(١) لوامع البينات : ص ١٥٢ ـ ١٧٢.

٢٦٧

و أمّا حظ العبد من اسميه تعالى فحظ العبد من اسم « الرحمان » أن يكون كثير الرحمة على الناس وحظه من اسم الرحيم أن يكون عطوفاً بالمؤمنين ، فلو صحّ ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « تخلّقوا بأخلاق الله » فمعناه التشبّه بالاله بقدر الطاقة البشرية وصيرورة الإنسان مظهراً لاسمائه إلاّ فيما خرج كقوله : « المصوّر » (١).

الثاني والستون : « الرؤوف »

وقد جاء « الرؤوف » في الذكر الحكيم ١١ مرّة ووقع الجميع اسماً له سبحانه واقترن ب‍ « العباد » تارة ، وبالرحيم اُخرى ، قال سبحانه : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ ) ( آل عمران / ٣٠ ).

وقال : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / ١٤٣ ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس : « الرؤوف كلمة واحدة تدل على رقّة ورحمة ».

قال الله تعالى : ( وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) ( النور / ٢ ).

وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ( الحديد / ٢٧ ).

وقال جرير :

يرى للمسلمين عليه حقّا

كفعل الوالد الرؤوف الرحيم

واطلاقه على الله سبحانه بالتجريد عمّا يلازم الوجود الامكاني من الرقة في القلب ، والتأثّر عن الشيء والأخذ بالنتيجة كما هو الضابطة في كثير من أسمائه سبحانه.

__________________

(١) لوامع البينات : ص ١٦٧ بتلخيص منّا.

٢٦٨

ثمّ انّ الرؤوف قدّم على الرحيم في جميع الايات فما هو وجهه ؟

يمكن أن يقال : إنّ الرحمة كمال حال في الرؤوف يدعوه إلى ايصال الاحسان إلى الغير ، والحال انّ الرحيم معنى يحصل من مشاهدة المرحوم في فاقة وضعف وحاجة ، ومن المعلوم كون الأوّل أكمل في مجال الفضيلة ، ولعلّه لذلك قدّم الرؤوف على الرحيم.

قال الصدوق : « الرؤوف معناه الرحيم والرأفة الرحمة » (١).

الثالث والستون : « الرزّاق »

جاء في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع إسماً له.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / ٥٨ ).

كما انّه سبحانه وصف ب‍ « خير الرازقين » ٥ مرّات.

قال سبحانه : ( وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / ١١٤ ).

قال سبحانه : ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / ٥٨ ).

وقال سبحانه : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المؤمنون / ٧٢ ).

وقال سبحانه : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ / ٣٩ ).

وقال سبحانه : ( قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الجمعة / ١١ ).

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ٢٠٤.

٢٦٩

وقد دل غير واحد من الآيات على أنّ رزق العباد والدوابّ على الله سبحانه.

قال عزّ وجلّ : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ) ( هود / ٦ ). ودلّت بعض الايات على أنّ منبع الرزق ومصدره هو السماء.

قال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / ٢٢ ).

فلو كان المراد من السماء هو السماء المحسوس ، فالمراد من الرزق إمّا هو المطر كما عليه قوله سبحانه :

( وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الجاثية / ٥ ). أو الأعم منه ومن الأنوار والأشعّة الحيوية إلى غير ذلك من الاُمور النازلة من السماء إلى الأرض.

وأمّا الرزق فقد فسّره ابن فارس بعطاء الله جلّ ثناؤه.

وقال الراغب : الرزق يقال للعطاء الجاري تارة دنيويّاً كان أم اُخرويّا ، وللنصيب تارة ولما يصل به إلى الجوف ويتغذى به تارة.

فالأوّل مثل قول القائل : « أعطى السلطان رزق الجند » ، والثاني : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) ( الواقعة / ٨٢ ) أي تجعلون نصيبكم من النعمة تحرّى الكذب ، وأمّا الثالث فقوله : ( فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ ) ( الكهف / ١٩ ) أي بطعام يتغذى به ، وقد يطلق على الرزق الاُخروي.

قال سبحانه في حقّ الشهداء في سبيل الله : ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ( آل عمران / ١٦٩ ).

والظاهر أنّ المراد من الرزق هو كل ما يحتاج إليه الإنسان في مأكله وملبسه ومسكنه ولا يختصّ بما يصل إلى الجوف وإن كان هو الرزق البارز.

قال الحكيم السبزواري : إنّ رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده ، وكماله

٢٧٠

اللائق به ، فرزق البدن ما به نشوؤه وكماله ، ورزق الحسّ ، ادراك المحسوسات ، ورزق الخيال ، ادراك الخياليات من الصور والأشباح المجرّدة عن المادة دون المقدار ، ورزق الوهم ، المعاني الجزئيّة ، ورزق العقل ، المعاني الكلّية والعلوم الحقّة من المعارف المبدئيّة والمعاديّة ، فالرزق في كل بحسبه (١).

قال الصدوق : « معناه انّه عزّ وجلّ يرزق عباده برّهم وفاجرهم » (٢).

وعلى كلّ تقدير فالرزّاق اسم خاص لله سبحانه ، يقال لخالق الرزق ومعطيه ومسببه ، وكونه سبحانه رازقاً بالتسبيب يجتمع مع كون العباد يرزق بعضهم بعضاً أيضاً.

قال سبحانه : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) ( النساء / ٥ ) لأنّ كل ما في يد العبد فهو لله سبحانه فهو ينفق ممّا آتاه الله ، وبذلك يعلم أنّ المفاضلة في قوله سبحانه : ( خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) على هذا الأساس.

وقال الرازي : إنّ رزق الأبدان بالأطعمة ، ورزق الأرواح بالمعارف وهذا أشرف الرازقين ، فإنّ ثمرتها حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوّة الجسد إلى مدّة قرببة الأمد ، ومن أسباب سعة الرزق الصلاة. قال تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ) ( طه / ١٣٢ ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يجعل يده خزانة لربّه فكل ما وجده أنفقه على عباده على غرار قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / ٦٧ ).

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى الواردة في الدعاء المعروف بالجوشن الكبير : ص ٦.

(٢) التوحيد : ص ٢٠٤.

٢٧١

الرابع والستون : « رفيع الدرجات »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر / ١٥ ).

وقد وصف سبحانه في هذه الاية بصفات ثلاث :

١ ـ رفيع الدرجات.

٢ ـ ذو العرش.

٣ ـ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

وفي الأوّل احتمالات :

منها : إنّ الرفيع بمعنى الرافع أي رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة (١).

ومنها : رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة.

ومنها : إنّه كناية عن رفعة شأنه وسلطانه.

أمّا الثاني : أعني « ذو العرش » فقد مرّ في تفسير اسم « رب العرش ».

وأمّا الثالث : فالظاهر أنّ المراد من الروح هو الوحي بقرينة قوله : ( عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) والمراد منهم رسله سبحانه المصطفون بالرسالة ، والمراد من الإلقاء هو إلقاء الوحي في القلب.

واحتمال كون المراد من « الروح » جبرئيل أو غيره ، لا يناسب مع قوله : « يلقي » فهو بإلقاء المعاني أنسب وبذلك فسّرنا قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا

__________________

(١) بل رافع درجة كل موجود نازل الى درجة رفيعة ، كرفعة درجة التراب والنبات الى أعلى منهما ، فالانسان كان تراباً والحيوان كان بناتاً فرفع درجتهما.

٢٧٢

مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / ٥٢ ).

الخامس والستون « الرقيب »

جاء « الرقيب » في الذكر الحكيم ٥ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاث.

قال سبحانه حاكياً عن المسيح : ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) ( المائدة / ١١٧ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء / ١ ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ) ( الأحزاب / ٥٢ ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد مطّرد يدلّ على انتصاب لمراعاة شيء ومن ذلك الرقيب وهو الحافظ ، والمرقب : المكان العالي يقف عليه الناظر (١).

وأمّا « الراغب » : فجعل الأصل له الرقبة وأنّه اشتق منها سائر المعاني ، قال الرقبة : اسم للعضو المعروف ، والرقيب : الحافظ وذلك امّا لمراعاته رقبة المحفوظ وامّا لرفعة رقبته ، قال : ( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ).

وعلى أي تقدير فالرقيب والشهيد بمعنى واحد أو متقاربي المعنى.

قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ٢ ص ٤٢٧.

٢٧٣

و المراد شهادته سبحانه أعمال الاُمّة وحفظه لها.

قال سبحانه : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس / ٦١ ).

وقال سبحانه : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الحديد / ٤ ).

قال الصدوق : « الرقيب معناه الحافظ بمعنى فاعل ، ورقيب القوم حارسهم » (١).

__________________

(١) التوحيد : ص ٢٠٤.

٢٧٤

حرف السين

السادس والستون : « سريع الحساب »

وقد ورد « سريع الحساب » في الذكر الحكيم في ثمانية موارد ووقع الكل وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( البقرة / ٢٠٢ ).

وقال : ( وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( آل عمران / ١٩ ).

وقال : ( أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( آل عمران / ١٩٩ ).

قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( إبراهيم / ٥١ ) (١).

وقد جاء هذا الاسم في ثنايا البحث عن جزاء أعمال العباد سواء أكان خيراً أو شراً ، ولا يختصّ بالثاني لما في قوله سبحانه : ( أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) والحساب في اللّغة بمعنى العد ، تقول حسبت الشيء أحسبه حَسْباً وحُسباناً.

قال تعالى : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ).

__________________

(١) لاحظ : المائدة / ٤ ، والرعد / ٤١ ، والنور / ٣٩ ، وغافر / ١٧.

٢٧٥

و من هذا الباب الحَسَب الذي يعدّ من الإنسان ، قال أهل اللّغة معناه أن يعدّ آباءً أشرافاً (١).

وقال الراغب : « الحساب إستعمال العدد ، قال تعالى : ( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ) هذا ما يرجع إلى الحساب ، وامّا ما يرجع إلى المضاف أعني سريع فالسرعة ضد البطء.

قال تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ). ( وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ ) (٢).

ثمّ إنّ توصيفه بسريع الحساب امّا لأجل نفوذ إرادته وتحقّق كلّ شيء بعد مشيئته بلا بطء وسكون.

قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / ٨٢ ).

أو كونه مجرداً بل فوقه ، وجميع الأمكنة والمكانيات سواء ، وكل حاضر لديه ، وليس هناك ماض ولا استقبال ، « لا يشغله شأن عن شأن » فيسرع في وصول الجزاء لكيلا يمنع الحقّ عمّن له الحقّ.

وسئل أمير المؤمنين عن محاسبة الله فقال : « يحاسب الخلائق كلهم دفعة واحدة كما يرزقهم دفعة » (٣).

فسريع الحساب اسم من أسماء الله الحسنى وهو عامّ شامل للدنيا والآخرة معاً ، وقد عرفت أنّ ملاك السرعة هو تحقّق كل ما أراد بلا فصل. وحضور الكل لديه دفعة واحدة.

قال سبحانه : ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ( الكهف / ٤٩ ).

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ٢ ، ص ٦٠.

(٢) المفردات : ص ٢٣٠.

(٣) شرح الأسماء الحسنى : ص ٤٧.

٢٧٦

وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) ( آل عمران / ٣٠ ).

فكأنّهم يرون أنفسهم مشتغلين بالصلاة وغيرها من الحسنات أو مكتسبين للسيئات فيرون ما كانوا يرتكبونها من السيئات ، فلا يمكن لهم إنكار شيء من صغير وكبير فيحاسب كل نفس بسرعة.

أضف إلى ذلك الشهود وأخصّ بالذكر صحيفة الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.

قال سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ( الاسراء / ١٣ و ١٤ ).

ويقول سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) ( الكهف / ٤٩ ).

ومع هذه الشهود لا يبقى للعبد أي ريب في حسابه وجزائه فهو حقّاً « أسرع الحاسبين ».

نعم شهوده سبحانه على العباد أزيد ممّا ذكرنا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الفصل الذي خصّصناه به عند البحث عن المعاد.

وبذلك علم معنى اسمه الاخر « أسرع الحاسبين » وقد مرّ في محلّه. نعم ليس المراد من الحساب الجزاء ولا العقاب وإن كان الحساب لغاية الجزاء ، وبذلك يعلم الفرق بين « سريع الحساب » و « سريع العقاب » فالفرق بينهما كالفرق بين الغاية وذيها.

٢٧٧

السابع والستون : « سريع العقاب »

وقد جاء في الذكر الحكيم في موردين ووقعا إسماً له سبحانه.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ١٦٥ ).

وقال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف / ١٦٧ ).

أمّا السرعة فقد مضى معناه وأمّا العقاب فعن الخليل أنّه قال : كلّ شيء يعقب شيئاً فهو عقيبه ، ولأجل ذلك يطلق على الليل والنهار العقيبان ، وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب (١) وكأنّ الذنب يخلف العقاب ويعقبه ، قال الراغب : العقب مؤخّر الرجل ، والعقوبة والمعاقبة تختصّ بالعذاب.

قال سبحانه : ( فَحَقَّ عقاب ـ شديد العقاب ـ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) والتعقيب أن يأتي بشيء بعد آخر.

وكونه سبحانه « شديد العقاب » ليس بمعنى كونه كذلك دائماً وإنّما يختصّ ذلك بموارد يستوجب سرعة العقاب ، كطغيان العبد وعتوّه فيسرع إليه العقاب ويأخذه بأشدّه.

ولأجل عدم كونه فعلاً له سبحانه على الدوام ; ضمّ إليه في الآيتين الاسمين الآخرين وقال « إنّه لغفور رحيم » ولو كان فعلاً له سبحانه على نحو الاستمرار لما صحّ الجمع بين الاسمين ، يقول سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( العنكبوت / ٥٣ و ٥٤ ).

__________________

(١) معجم مقاييس اللغة ج ٤ ص ٧٧ ـ ٧٨ بتلخيص.

٢٧٨

وبذلك يتّضح كون العقاب على قسمين : قسم يعمّ الظالم في العاجل وقسم يشمله في الآجل كل ذلك لحكمة خاصّة هو واقف عليها ، غير أنّ رحمته وغفرانه سبقا غضبه وعقابه.

قال سبحانه : ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( يونس / ١١ ).

الثامن والستون : « السلام »

قد ورد لفظ « السلام » في الذكر الحكيم معرّفاً سبع مرّات ومنكراً خمس وثلاثون مرّة ووقع في مورد واحد اسماً له سبحانه ، وقال :

( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / ٢٣ ).

أمّا السلام لغة ، فقد قال ابن فارس : معظم بابه من الصحّة والعافية ، فالسلامة أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى ، قال أهل العلم : الله جلّ ثناؤه هو السلام ، لسلامته ممّا يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء. قال الله جلّ جلاله : ( وَاللهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلامِ ).

وقال الراغب : السلامة : التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة قال : « بقلب سليم » أي متعرٍّ من الدغل وهذا في الباطن ، وقال تعالى : ( مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) وهذا في الظاهر ، وقال تعالى : ( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ ) أي السلامة ، والسلامة الحقيقيّة ليست إلاّ في الجنّة إذ فيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعزّ بلا ذلّ ، وصحّة بلا سقم ، وقيل « السلام » اسم من أسماء الله تعالى وصف بذلك حيث لا تلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق (١).

__________________

(١) المفردات : ص ٢٣٩.

٢٧٩

ولمّا كان السلام من السلامة دعا سبحانه في حقّ يحيى بقوله : ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ( مريم / ١٥ ) ، وإنّما خصّ المواطن الثلاثة بالدعاء لأنّ أوحش ما يكون الخلق فيه هو يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث.

ففي الأوّل يرى نفسه خارجاً عمّا كان فيه ، وفي الثاني يرى قوماً لم يكن عاينهم ، وفي الثالث يرى نفسه في محشر عظيم ، فأكرم الله يحيى في هذه المواضع الثلاثة وخصّه بالسلامة من آفاتها ، والمراد أنّه سلّمه من شرّ هذه المواطن وآمنه من خوفها (١).

أقول : لا شكّ انّ السلام من أسماء الله سبحانه كما هو صريح آية سورة الحشر كما عرفت ، وترديد الراغب فيه لا وجه له ، إنّما الكلام في معناه فهناك احتمالان :

١ ـ أن يكون المراد من السلام انّه ذوالسلام ووصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص والآفات كما يقال رجل عدل.

٢ ـ أن يكون المراد من السلام كونه معطياً للسلامة وهو تعالى خلق الخلق سويّاً وقال : ( مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ) ( الملك / ٣ ) ، وقال : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) ( طه / ٥٠ ).

إنّما الكلام في الفرق بينه وبين « القدّوس » الوارد في الآية أيضاً.

قال سبحانه : ( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ) فما هو الفرق بين الاسمين ويحتمل كون القدّوس من صفات الذات ، والسلام من صفات الفعل فهو منزّه ذاتاً وفعلاً عن النقص.

ويحتمل أن يكون القُدُّوس أكثر مبالغة في التنزيه من السلام فهو يشير إلى براءته سبحانه عن جميع العيوب في الماضي والحاضر والمستقبل ، وعن العيب الظاهر والباطن ، ولكن السلام أضيق دلالة من هذا ، فلعلّه مختص بالبراءة عن

__________________

(١) لوامع البينات للرازي : ص ١٨٧ ، نقلاً عن سفيان بن عيينة.

٢٨٠