مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

غير أن كون الاخوة حافظين غير كونه سبحانه حافظاً ، ولأجل دفع وصمة الشركة قال يعقوب في جواب قول ابنائه : ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : ( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فلولا عناية الواجب بالممكن واستمداده منه لما يكون لحفظهم وزن ولا قيمة ولا حول ولا قوّة.

٢٤١
٢٤٢

حرف الذال

التاسع والأربعون : « ذو انتقام »

وقد جاء « ذو انتقام » في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع الكلّ وصفاً له سبحانه قال : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( المائدة / ٩٥ ) ، وقال سبحانه : ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( آل عمران / ٤ ). وقال سبحانه : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( ابراهيم / ٤٧ ). وقال سبحانه : ( وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) ( الزمر / ٣٧ ).

وأمّا معناه فقد ذكر له أصل واحد وهو انكار الشيء وعيبه ويقال : نقمت عليه انقم ، أنكرت عليه فعله ، والنقمة من العذاب والانتقام كأنّه أنكر عليه فعاقب (١).

وقال الراغب : نقمت الشيء إذا أنكرته أمّا باللسان وأمّا بالعقوبة وقد استعمل في معنى الانكار في عدّة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) ( التوبه / ٧٤ ).

وقال سبحانه : ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج / ٨ ).

وقال سبحانه : ( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا ) ( الأعراف / ١٢٦ ).

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ٥ ص ٤٦٤.

٢٤٣

وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) ( المائدة / ٥٩ ). فإذا كان هو الأصل فكيف استعمل في معنى آخر وهو أخذ الثأر من الخصم والمعاقبة بالمثل ؟ فقد استظهره صاحب المقاييس بقوله : كأنّه أنكر عليه فعاقبه ، يريد أنّ المعاقبة لمّا كانت مسببة عن الانكار فاطلق اسم السبب على المسبب.

ثمّ إنّ الانتقام يستعمل في مورد التشفّي فيما أنّ اساءة المسيئ تدخل ضرراً في الجانب الاخر فيتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي تورث التشفّي لقلبه ، ولكن ذلك من لوازم المعنى في مورد الإنسان وليس جزء لمعناه ، فالانتقام هو مجازاة المسيئ على اساءته فلاموجب لتجريده عن التشفّي عند ما يطلق على الله سبحانه ، وعلى فرض كونه جزء لمعناه فبما أنّه سبحانه أعزّ من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده ، فيطلق عليه مجرداً عنه كما هو سائر الأسماء التي تلازم شيئاً لايصح توصيفه سبحانه به ، كيف وما يصدر منه من المجازاة هو الوعد الحق وقدوعد عباده بأنّه يجزيهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌ ، قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى ) ( النجم / ٣١ ).

وممّا يؤيّد ذلك بأنّه سبحانه ضم إليه أنّه العزيز فقال : ( عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) وهو يشير إلى أنّه منيع الجانب من أن تنتهك محارمه أو يصيب به ضرر.

قال الرازي : ولا يسمّى التعذيب بالانتقام إلاّ بشرائط ثلاثة :

الأوّل : أن تبلغ الكراهة (١) إلى حد السخط الشديد.

الثاني : أن تحصل تلك العقوبة بعد مدّة.

الثالث : أن يقتضي ذلك التعذيب نوعاً من التشفّي ، وهذا القيد لا يحصل إلاّ في حقّ الخلق ، وأمّا في حقّ الخالق فهو محال.

ويدل على القيد الأوّل قوله سبحانه في حقّ فرعون : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا

__________________

(١) وفي النسخة « الكرامة » وهو تصحيف.

٢٤٤

مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الزخرف / ٥٥ ). فرتّب الانتقام على الاسف معرباً عن وجود صلة بينه وبين الانتقام.

ويدل على القيد الثاني قوله سبحانه : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) ( المائدة / ٩٥ ). حيث سمّى الله تعالى تكرار إيجاب الكفّارة ( إذا عاد المحرم إلى الصيد ثانياً ) ، انتقاماً.

وعلى كلّ تقدير فالانتقام في مقابل المعاجلة بالعقوبة ، والأوّل أشدّ من الثاني لأنّ المذنب إذا عوجل بالعقوبة لم يتمكن في المعصية فلم يستوجب غاية النكال بخلاف ما إذا أمهل فيتمكن في التجرّي والتمرّد فيستحقّ الأخذ بالعقاب الأشد.

وأمّا حظ العبد من هذا الوصف فله أن يقع مظهراً لهذا الاسم عند الانتقام من الأعداء فأعدى عدوّه هي النفس التي بين جنبيه ، وأمّا العدوّ الخارجي فيتبع قوله سبحانه : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح / ٢٩ ).

وللعلاّمة الطباطبائي (ره) كلام حول نسبة الانتقام إليه تعالى قال : « الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصّة وهي أن تذيق غيرك من الشرّ ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه.

قال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ ) ( البقرة / ١٩٤ ). وهو أصل حيوي معمول به ، وربّما يشاهد من بعض الحيوانات أيضاً أعمال تشبه أن تكون منها. وعلى أي حال كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه ، فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفّي غالباً ، فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئاً من الخير ، أو أذاقه شيئاً من الشر ، وجد الإنسان في نفسه من الأسى والأسف ما لا تخمد ناره ، إلاّ بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه ، فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني ، وأمّا العقل فربّما أجازه وربّما استنكف.

وأمّا الانتقام الاجتماعي ونعني به القصاصات وأنواع المؤاخذات التي نعثر

٢٤٥

عليها في السنن والقوانين الرائجة في المجتمعات ، فالغرض الداعي إليه هو حفظ النظام عن الهرج والمرج وهذا النوع من الانتقام يعدّ حقّا من حقوق المجتمع ، وإن كان ربّما استصحب حقاً فردياً ، كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية.

وما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنّة من الانتقام هو ما كان حقاً من حقوق الدين الالهي والشريعة السماوية ، وإن شئت قلت من حقوق المجتمع الاسلامي وإن كان ربّما استصحب الحق الفردي في ما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمه فهو الولي الحميد.

وأمّا الانتقام الفردي لغاية التشفّي فساحته أعزّ من أن يتضرّر باجرام المجرمين ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.

وبذلك يظهر سقوط ما ربّما يقال : إذا كان الانتقام لغاية التشفّي فلا وجه لنسبة الانتقام إليه « وجه السقوط » ، إنّ الساقط هو الانتقام الفردي لا الاجتماعي (١).

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره يصحّ في مورد القصاص والحدود والكفّارات التي يحكم بها على المجرم في الدنيا لغاية حفظ النظام عن الاختلال ، ولولاها اختلّ الأمن العام ، وأمّا العقوبات الاُخروية فلا يمكن تفسيرها من تلك الجهة إذ لا مجتمع فيها حتى يكون له حقّ كما أنّه ليست هناك مظنّة كون الاُمور فوضى حتّى تستتبع ذلك فالاُولى ما ذكرنا من أنّ نسبة هذه الصفات إلى الله سبحانه من باب المشابهة والمشاكلة ، ولا يتّصف به المولى سبحانه إلاّ بتجريده عن الملابسات الماديّة.

وأمّا القول بأنّ رحمته الواسعة تأبى عن تعذيب المجرم بعذاب خالد غير متناه فقد اجبنا عنه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

__________________

(١) الميزان ج ١٢ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٢٤٦

الخمسون : « ذو الجلال والإكرام »

وقد جاء هذا الاسم في القرآن الكريم مرّتين قال : ( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / ٢٧ ).

وقال سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / ٧٨ ).

هذا ، وأمّا معنى الجلال فهو من جلّ الشيء إذا عظم وجلال الله عظمته ، والجلل : الأمر العظيم (١) ، وأمّا الاكرام فقد مرّ تحقيق معناه عند البحث عن اسمه « الاكرام » فلاحظ ، وقد قلنا إنّ معناه هو الشرف في الشيء لا في خلق من الأخلاق.

وعلى ضوء ذلك فقوله : « ذو الجلال » يناسب الصفات السلبيّة لأنّه سبحانه أجلّ وأعظم من أن يكون جسماً أو جسمانيّاً أو حالاًّ في محلّ ، كما أنّ قوله ذي الاكرام يناسب الصفات الثبوتيّة لأنّ العلم والقدرة والحياة شرف للموجود بما هو هو.

نعم هنا نكتة لابد من بيانها وهو انّ اسم الاشارة في الآية الاُولى جاء مرفوعاً وفي الآية الثانية جاء مجروراً ، فهي في الآية الاُولى وصف لقوله « وجه ربك » وفي الآية الثانية وصف لنفس الرب ، وهذا يعرب عن أنّ الوجه في الآية الاُولى بمعنى الذات لا الوجه بمعنى العضو المعروف ، وإلاّ فلو كان المراد من الوجه هو العضو فلا معنى لتوصيفه بصاحب الجلال والإكرام لأنّه من صفات ذاته سبحانه لا من صفات وجهه ، ولأجل ذلك جيئ به مجرورًا في الآية الثانية لأنّه هناك وصف للرب لا للاسم ، وباختصار انّ الآية الثانية ترفع الإبهام عن الآية الاُولى ويثبت أنّ الوجه فيها بمعنى الذات.

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ١ ص ٤١٧.

٢٤٧

الواحد والخمسون : « ذو الرحمة »

وقد ورد في الذكر الحكيم اسماً له سبحانه مرّتين وقال : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / ٥٨ ).

وقال : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الأنعام / ١٣٣ ). وقال سبحانه : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) ( الأنعام / ١٤٧ ). وقد مضى معنى الرحمة عند البحث عن اسمه « أرحم الراحمين ».

الثاني والخمسون : « ذو الطول »

لقد جاء الطول ـ بضم الفاء وفتحها ـ في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع وصفاً لله سبحانه باضافة « ذي » إليه ، قال سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / ٣ ).

وقال سبحانه : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / ٨٦ ).

وقال سبحانه : ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) ( النساء / ٢٥ ).

« الطول » ـ بضم الفاء ـ ضد القصر يستعمل في الأعيان والأعراض والزمان قال سبحانه :

( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) ( الحديد / ١٦ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً ) ( المزمّل / ٧ ).

وأمّا « الطول » ـ بفتح الفاء ـ : فقد فسّر بالفضل والمنّ ، قال ابن فارس :

٢٤٨

الطول له أصل صحيح يدل على فضل وامتداد في الشيء (١) وهو بصدد ارجاع المعنيين إلى معنى واحد مع أنّ الجامع بينهما بعيد.

قال الراغب : والطول خص به الفضل والمنّ قال : « شديد العقاب ذي الطول » ، وقال الطبرسي في تفسير ذي الطول : « أي ذي النعم ، وقيل : ذي الغنى والسعة ، وقيل : ذي التفضّل على المؤمنين ، وقيل : ذي القدرة والسعة » ، ثمّ هو ذكر في شرح لغات الآية : « إنّ المراد من الطول : الأنعام التي تطول مدّته على صاحبه كما أنّ التفضل النفع الذي فيه افضال على صاحبه » (٢) ، والكلّ محتمل.

ولكن الظاهر أنّ المراد من الطول : الفضل والأنعام بشهادة قوله : ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ ) فبما أنّ لعدم الاستطاعة أسباباً وعللاً أتى بكلمة طولاً تمييزاً لعدم الاستطاعة معلناً بأنّ المراد عدم الاستطاعة من حيث القدرة المالية التي تصرف في المهر والنفقة ومثله قوله سبحانه : ( اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ) أي أصحاب الثروة والمكنة ، فالاية مشتملة على أسماء أربعة :

١ ـ غافر الذنب. ٢ ـ قابل التوب. ٣ ـ شديد العقاب. ٤ ـ ذو الطول.

وسيوافيك توضيح كلّ واحد في محله.

الثالث والخمسون : « ذو العرش »

وقد جاء لفظ « العرش » في الذكر الحكيم ٢٢ مرّة وورد اسماً له سبحانه في مورد واحد بإضافة لفظ « ذي » قال : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / ١٤ و ١٥ ).

وسيوافيك تفسيره عند البحث عن « الصفات الخبرية » لله عزّ وجلّ (٣).

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ٣ ص ٦٣٣.

(٢) مجمع البيان ج ٤ ص ٥١٣.

(٣) عند تفسير قوله سبحانه : ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ).

٢٤٩

الرابع والخمسون : « ذو عقاب »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له كما في قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / ٤٣ ).

قال ابن فارس : العقب له أصلان أحدهما يدل على تأخير شيء وإتيانه بعد غيره ، والأصل الآخر يدلّ على ارتفاع وشدّة وصعوبة ... وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب.

وقال الراغب : العقب مؤخّر الرجل واستعير العقب للولد وولد الولد ، والعقوبة المعاقبة والعقاب يختص بالعذاب ، قال : ( فَحَقَّ عِقَابِ ) ، ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ).

أقول : وإنّما سمّي العقاب عقاباً لأنّه يتأخّر عن الجرم وهو يستلزمه.

الخامس والخمسون : « ذو الفضل »

وقد ورد « ذو الفضل » معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم ١١ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) ( البقرة / ٢٤٣ ).

وقال سبحانه : ( وَلَٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة / ٢٥١ ).

وقال سبحانه : ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( آل عمران / ٧٤ ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٥٢ ).

٢٥٠

وقال سبحانه : ( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( الأنفال / ٢٩ ) (١).

ترى أنّه سبحانه يعرّف نفسه بكونه ذا الفضل العظيم على المؤمنين وفي الوقت نفسه على الناس أجمعين بل على العالمين كلّهم.

قال ابن فارس : الفضل له أصل صحيح يدلّ على زيادة في شيء من ذلك الفضل الزيادة والخير ، والإفضال : الاحسان.

قال الراغب : كلّ عطيّة لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله : ( وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ ) ـ ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ ) ـ ( ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ).

وعلى ذلك فالعطايا والمواهب السنيّة وكلّ ما يسمّى كرماً فهو فضل ، فالله سبحانه يتفضّل ـ وراء ما أسماه أجراً ـ بعظائم الفضل.

وأمّا حظّ العبد من هذا الوصف فيمكن أن يقع مظهراً لهذا الاسم في عطاياه النافلة بأن يقوم بعون المستنجد بنحل فضل ما له وإن لم يكن واجباً كما إذا أدّى الفرائض الماليّة.

السادس والخمسون : « ذو القوّة »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد قال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / ٥٨ ). ويظهر معناه عند البحث عن اسمه سبحانه : « القوي ».

__________________

(١) راجع سورة يونس / ٦٠ ، النمل / ٧٣ ، غافر / ٦١.

٢٥١

السابع والخمسون : « ذو المعارج »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع اسماً له.

قال سبحانه : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللهِ ذِي المَعَارِجِ * تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج / ١ ـ ٤ ).

أمّا عرج فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً ثلاثة وهي : الميل ، والعدد ، والسموّ والارتقاء.

ثم قال : العروج : الارتقاء ، يقال عرج يعرج عروجا ومعرجا ، والمعرج : المصعد ، قال الله تعالى : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ).

وعلى ذلك فالمعارج مواضع العروج وهو الصعود مرتبة ، بعد مرتبة ومنه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الاُخرى ، وأمّا المراد من هذه الدرجات فهي عبارة عن المقامات المترتبة علوّاً وشرفاً التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله وهو من الاُمور الغيبيّة التي يجب الايمان بها وربّما يفسّر بأنّ المراد مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالايمان والعمل الصالح ، قال تعالى : ( هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ١٦٣ ). وقال : ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الانفال / ٤ ).

وقال : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( المؤمن / ١٥ ).

والوجهان متقاربان غير أنّ الأوّل يخصّ الدرجات بالملائكة والثاني بالمؤمنين ، وقوله سبحانه تعرج الملائكة والروح إليه يؤيّد الوجه الأوّل.

٢٥٢

الثامن والخمسون : « ذو مغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه ، قال سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الرعد / ٦ ).

وقال سبحانه : (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / ٤٣ ).

و « الغفر » في اللغة بمعنى الستر ، قال ابن فارس : عظم بابه الستر ، فالغفر والغفران والغفر بمعنى يقال غفر الله ذنبه ويقال للمغفر لأنّه يستر الرأس وستر الذنوب كناية عن الغضّ عنه وعدم المعاقبة عليه والمعاملة مع المجرم كالبريء ، وسيوافيك مزيد من التوضيح في تفسير اسم « غافر الذنب ».

٢٥٣
٢٥٤

حرف الراء

التاسع والخمسون : « ربّ العرش »

وقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم ٢٢ مّرة واُضيف إليه الرب ٦ مرّات قال سبحانه :

( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( التوبة / ١٢٩ ). وقال تعالى : ( فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء / ٢٢ ). وقال سبحانه : ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / ٨٦ ). وقال عزّ من قائل : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / ١١٦ ).

وقال تعالى : ( اللهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل / ٢٦ ). وقال تعالى : ( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الزخرف / ٨٢ ).

ثم إنّ الذكر الحكيم يبيّن خصوصيات عرش الرب بتوصيفه بالعظيم تارة وبأنّه له حملة ثمانية اُخرى ، يقول تعالى : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقّة / ١٧ ).

وبأنّه تحُفُّه الملائكة ثالثة ، يقول تعالى ( وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ( الزمر / ٧٥ ).

وقد بلغ العرش في العظمة مكاناً بحيث إنّ الله تعالى يعرّف نفسه به ويقول تعالى : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / ١٤ و ١٥ ) ، ويقول تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( غافر / ١٥ ).

٢٥٥

هذا هو العرش وهذه هي خصوصياته في القرآن المجيد ، إنّما الكلام فيما يراد منه في هذه الآيات.

أقول : إنّ « العرش » لغة هو سرير الملك ولا تحتاج إلى ذكر نصوص أهل اللّغة.

قال سبحانه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) ( يوسف / ١٠٠ ).

وقال سبحانه في ملكة سبأ : ( وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) ( النمل / ٢٣ ).

وقال سبحانه : ( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( النمل / ٣٨ ).

( ... قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) ( النمل / ٤١ ).

وبما أنّ الأصل في العرش هو الارتفاع.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ) ( الانعام / ١٤١ ).

وربّما يطلق على البناء المرتفع.

قال ابن فارس : العريش : بناء من قضبان يرفع ويؤلّف حتى يظلل ، وقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : ألا نبني لك عريشاً. وكل بناء يستظل به عرش وعريش ، ويقال لسقف البيت عرش.

قال تعالى : ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ( الحج / ٤٥ ) والمعنى أنّ السقف يسقط ثمّ يتهافت على الجدران ساقطة ، ومن هذا الباب العريش وهو شبه الهودج يتخذ للمرأة تقعد فيه على بعيرها.

٢٥٦

هذا ما يرجع إلى معناه اللغوي وما يستعمل فيه ، لكن الكلام فيما هو المقصود من هذا اللفظ فنقول : ها هنا أقوال نأتي بها :

١ ـ إنّ لله سبحانه عرشاً كعروش الملوك يستقر عليه ويدبّر العالم منه ، وهذا هو الذي تصرّ عليه المجسّمة والمشبّهة من الحنابلة ، وأمّا الأشاعرة الذين يتظاهرون بالتنزيه لفظاً لا معنى يقولون بهذا المعنى ولكنّهم يضيفون إليه « بلا تكييف » أي أن له سريراً واستقراراً لا كسرير الملوك واستقرارهم والكيفية مجهولة.

وهناك قصّة تاريخية نقلها السيّاح المعروف ب‍ « ابن بطوطة » لمّا زار الشام وشاهد أنّ « ابن تيميّة » صعد المنبر وهو يعظ الناس ويقول :

وكان بدمشق من كبار الفقهاء « تقي بن تيميّة كبير الشام يتكلّم إلاّ أنّ في عقله شيئاً ... فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه : إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلّم به فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته ... (١).

وهذا المعنى مردود مرفوض عند أهل التنزيه لأنّه تفسير للعرش تفسيراً حرفياً وغير جائز بداهة في تفسير الكلام العادي فضلاً عن كلام البلغاء ، فإنّ المتّبع في تفسير الكلام هو المعنى الجملي التصديقي لا المعنى الافرادي التصوّري ، فإذا قال الرجل : إن فلاناً مبسوط اليد أو كثير الرماد ، فليس لنا تفسيره ببسط العضو المعروف بحجّة أنّ اليد لفظ موضوع للجارحة ، أو حمل كثرة الرماد على معناه الحرفي الملازم لكون بيته غير نظيف بحيث يشمئزّ الإنسان من الدخول إليه ، بل يجب تفسير الأوّل بالسخاء ، والثاني بكثرة الطبخ الملازم لكثرة الضيافة التي هي رمز للكرم والسخاء.

وعلى ضوء هذا يجب إمعان النظر في مجموع الايات الواردة حول العرش

__________________

(١) رحلة ابن بطوطة : ص ٩٥ طبع بيروت.

٢٥٧

حتّى يتبيّن أنّ المراد هل هو المعنى التصوّري ( السرير ) ، أو هو المعنى التصديقي المختلف حسب المقامات.

فإنّ العرش يطلق ويراد غالباً الملك أعني السلطة والحكم على الناس.

قال الشاعر :

تداركتم الأحلاف قد ثلّ عرشها

وذبيان إذ ذلّت باقدامها النعل (١)

إنّ المراد من العرش هو نظام الحياة والمراد من ثلّه إزالته ، ولأجل ذلك يقال ثلّ عرشه فيما إذا انقلب الدهر عليه وسائت أحواله ، هذا وسيوافيك مزيد توضيح لهذا المعنى عند البحث عن المحتمل الثالث.

٢ ـ العرش : هو الفلك التاسع أو فلك الافلاك في الهيئة البطلميوسيّة فقد كان بطلميوس يفسّر العالم في الكرات الأربعة ( الماء والتراب والنار والهواء ) ثمّ الأفلاك التسعة وكل فلك يحمل سيارة إلى الفلك السابع ، والثوابت في الفلك الثامن ثمّ الفلك التاسع وهو أطلس لا نجم فيه ، ويوصف بمحدّد الجهات وليس بعده خلأ ولا ملأ وهو العرش عند بعضهم ، ونقل العلاّمة المجلسي عن المحقّق الداماد في بعض تعليقاته أنّه قال : العرش : هو فلك الأفلاك (٢).

وهذا القول لا يحتاج إلى النقد بعد وضوح بطلان أصل النظريّة حيث هدّم العلم الحديث أركان هذه النظرية وأصبحت من مخلّفات الدهر.

٣ ـ إنّ العرش والاستيلاء عليه كناية عن إحاطته بعالم الوجود وصحيفة الكون تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ، فإنّ الملوك إذا جلسوا على عروشهم واستقرّوا عليها وحولهم وزراءهم وعمّالهم ، أخذوا بتدبير اُمور البلد بإصدار الأوامر والنواهي وبالإرشادات والتوجيهات المناسبة ، فشبّه استيلاءه سبحانه على عالم الكون

__________________

(١) الشعر لزهير ، ولاحظ : مقاييس اللغة ج ٤ ص ٢٦٥.

(٢) بحار الانوار ج ٥٨ ، ص ٥.

٢٥٨

وصحيفة الوجود وتدبيره من دون أن يطرأ عليه نصب ولاتعب بإستيلاء الملوك على عروشهم على النحو الذي وصفناه.

وعلى هذا المعنى ليس للعرش واقعيّة سوى المعنى الكنائي وهو السلطة على العالم والإستيلاء على الوجود كلّه ، فتكون النتيجة إنّ للاستيلاء حقيقة تكوينيّة دون العرش.

ويمكن تأييد ذلك بأنّ العرش ربّما يطلق على الملك والسلطة وإن لم يكن هناك سرير كسرير الملوك. قال الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم

وأودت عمّا أودت أياد وحمير

قال الجوهري : ثلّ الله عرشهم أي هدم ملكهم ، ويقال للقوم إذا ذهب عزّهم قد ثلّ عرشهم.

وقال آخر :

أظننت عرشك لا يزول ولا يغيّر

وقال آخر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وهذا المعنى متحقق بمجرد تحقّق السلطة وإن لم يكن هناك سرير وراءه.

وعلى الجملة : فهذه النظرية تبتني على كون العرش أمراً اعتبارياً والاستيلاء أمراً حقيقياً.

يلاحظ عليه : إنّ هذا المعنى وإن كان أقرب من سابقيه إلى الفهم القرآني ولكنّه يجب أن يكون للعرش حقيقة كالاستيلاء وذلك لاُمور :

أ ـ لو كان العرش أمراً اعتبارياً فلماذا وصفه بكونه عظيماً وقال سبحانه : ( وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / ٨٦ ).

٢٥٩

بناءً على أنّ العظيم وصفاً للعرش دون الربّ والظاهر أنّ توصيفه بالعظيم توصيف أمر واقعي بأمر واقعي لا توصيف أمر اعتباري بمثله.

ب ـ إنّه سبحانه يذكر للعرش حملة ويقول : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ( غافر / ٧ ).

ج ـ إنّه سبحانه يذكر حملة العرش يوم القيامة وإنّهم ثمانية ويقول سبحانه : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقة / ١٧ ).

والظاهر أنّ مرجع ذلك القول إلى الرابع الذي نذكره ، أو هما قول واحد.

٤ ـ إنّ للعرش حقيقة تكوينية كما أنّ للاستيلاء حقيقة كذلك ، غير أنه ليس شيئاً خاصاً سوى مجموع الكون وصحيفة الوجود فهو عرشه سبحانه ، فالعالم بمجرّده وماديّه وظاهره وباطنه عرشه ، وعليها تدبيره ، ويكون عطف « ربّ العرش العظيم » على قوله « ربّ السموات السبع » من باب عطف العام على الخاص ، فالله سبحانه مستول على ما خلق استيلاءً حقيقيّاً ولا يحتاج في إدارة الكون وتدبيره إلى غيره ، فلو كان هناك نظام الأسباب والمسبّبات والعلل والمعلولات فهو من جنوده في عالم الكون ، وقال سبحانه : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) ( المدثر / ٣١ ). وقال سبحانه :

( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / ٤ ) ، وكذلك الاية ٧ من نفس السورة مع اختلاف يسير في آخرها حيث قام « عزيزاً » مقام « عليماً ».

وقد اختار هذا المعنى شيخنا الصدوق في عقائده حيث قال : « اعتقادنا في العرش أنّه جملة جميع الخلق ـ إلى أن قال ـ العرش الذي هو جملة جميع الخلق حملته ثمانية من الملائكة » (١).

__________________

(١) عقائد الصدوق : ص ٧٤ ، الطبعة الحجرية.

٢٦٠