مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

( اللهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ ) ( آل عمران / ٢ ).

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / ١١١ ).

وقال سبحانه : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) ( الفرقان / ٥٨ ).

وقال سبحانه : ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( غافر / ٦٥ ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : ل‍ِ « الحي » أصلان أحدهما خلاف الموت والاخر الاستحياء الذي هو ضدّ الوقاحة ، فأمّا الأوّل فالحياة والحيوان وهو ضدّ الموت والموتان ويسمّى المطر حيّاً لأنّ به حياة الأرض ، والأصل الآخر قولهم استحييت منه استحياء (١).

وقد ذكر الراغب انّ الحياة تستعمل على أوجه :

١ ـ القوّة النامية الموجودة في النبات والحيوان.

٢ ـ القوّة الحسّاسة وبه سمّي الحيوان حيواناً.

٣ ـ القوّة العاملة العاقلة.

٤ ـ ارتفاع الغمّ ، واستشهد لذلك بقول الشاعر :

ليس من مات واستراح بميّت

إنّما الميّت ، ميّت الأحياء

٥ ـ الحياة الاخروية الأبدية.

٦ ـ الحياة التي يوصف بها البارئ فإذا قيل فيه تعالى « هو حيّ » فمعناه لا يصحّ عليه الموت وليس ذلك إلاّ لله عزّ وجلّ (٢).

__________________

(١) المقاييس : ج ٢ ، ص ١٢٢.

(٢) المفردات : ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٠١

والظاهر أنّ للحيّ معنى واحداً والخصوصيّات تعلم من الخارج وإليك توضيحه.

الحياة ومراتبها

لا شك انّ كلّ واحد منّا يميّز بين مادة حيّة ومادة غير حيّة ، وبين جسم حيّ ، وجسم ميّت إلاّ انّه رغم ذلك لا يستطيع أحد إدراك مفهوم الحياة في الموجودات الحيّة ، فالحياة أشدّ الحالات ظهوراً ولكنّها أصعبها مراساً على الفهم ، وأشدها استعصاء على التحديد.

وبعبارة اُخرى : الحياة ضدّ الموت ، وهي وإن كانت أظهر الأشياء مفهوماً لكنّها من أخفاها حقيقة ، ولهذا اختلف في تفسير وتبيين حقيقتها ، وذهب العلماء فيه مذاهب شتّى.

إلاّ أنّها حسب نظر علماء الطبيعة هو ما يلازم آثاراً أربعة في المتّصف بها وهي :

١ ـ الجذب والدفع.

٢ ـ النمو والرشد.

٣ ـ التوالد والتكاثر.

٤ ـ الحركة وردّة الفعل.

بينما ذهب آخرون مذهباً آخر في تعريف الحياة فقالوا :

هي قدرة الوحدة العضوية على مباشرة الوظائف الضروريّة لحفظ الذات ، ووظيفة التكاثر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعاريف تعاريف بخصائص الحياة ، وآثارها ولوازمها وليست لبيان ما تقوم به حقيقة الحياة لما نرى من البعد الشاسع بين الحياة النباتية والحياة البشرية.

٢٠٢

وإلاّ فإنّ خصائص الحياة والأحياء لا تنحصر في ما ذكر ، فإنّ للحياة مراتب ودرجات تتفاوت حسب شدّتها وضعفها.

فالنبات الحيّ ما تجتمع فيه الخصائص الأربع المذكورة.

ولكنّ الحياة في الحيوان تزيد على ذلك بالحسّ والشعور ، فالحيوان كائن حيّ بمعنى أنّه يملك مضافاً إلى الخصائص الأربع خصيصة اضافية وهي خصيصة الشعور والحس بشكل واضح وملموس (١).

وهذا الكمال الزائد المتمثّل في الحسّ والشعور لا يجعله مصداقاً مغايراً للحياة بل يعدّ مصداقاً أكمل لها.

غير أنّ خصائص الحياة لا تقتصر على هذا بل هناك حياة أعلى وأشرف وهو أن يتملّك الكائن الحيّ مضافاً إلى الخصائص الخمس خصيصة الادراك العلمي والعقلي والمنطقي ، فهو حيّ على الوجه الأتمّ والأبسط.

وبعبارة اُخرى : انّ ما ذكروه من الخصائص إنّما حاولوا بها ادخال جميع الكائنات الحيّة حتى النباتات تحت عنوان واحد ، وليس شيء من هذه الخصائص بمقوّم لواقع الحياة ومكوّن لحقيقتها.

أضف إلى ذلك انّ هذه التعاريف صدرت من علماء الطبيعة الذين لا هدف لهم إلاّ التعريف بالحياة في الموجودات الحيّة الطبيعية في عالمي النبات والحيوان ، ولأجل ذلك نجدهم يعرّفون الحياة والأحياء بتلك التعاريف ، ولا عتب عليهم في ذلك لأنّ مهمّتهم ليس هو التعريف الفلسفي للحياة حتى يعمّ جميع مراحلها.

فهذه التعاريف مع أنّها تعريف بالخصائص دون المقوّمات تعريف لقسم خاص من الحياة الموجودة في عالم الطبيعة.

__________________

(١) وإن أثبت العلم الحسّ والشعور في النباتات لكن لا بشكل عام بل في بعض الأنواع.

٢٠٣

وعلى كلّ تقدير فهذه التعاريف تنفعنا في فهم حقيقة الحياة على وجه الاجمال.

أمّا التعريف الجامع للحياة الذي يشمل جميع مراتبها من النبات إلى الإنسان فهو أن يقال : إنّ الحياة حقيقة واقعيّة أثرها هو وجود ما يشبه بالحسّ والحركة في الموجود الحيّ.

فالحركة في النبات عبارة عن أعمال الجذب والدفع والرشد والنمو ، والتوالد والتكاثر وما شابهها.

وأمّا الحسّ والشعور فهو أثر محسوس في الحيوان وثابت في بعض أصناف الأشجار حسب التجربة وهاتان الخصيصتان توجدان في الإنسان بنحو أقوى وآكد وأكمل ، فالحركة فيه تتجلّى مضافاً إلى ما في النبات والحيوان في أنّه مبدأ الأفعال وصنائع عجيبة وغريبة تحيّر العقول ، وتدهش الألباب.

كما أنّه مضافاً إلى أنّه حاسّ ذوشعور ـ يمتلك قدرة عقليّة ـ وفكراً رفيعاً يقدر به على درك رموز الخلق ، وقوانين الكون وعلى حلّ المعادلات وغير ذلك.

فعند ذلك يقف الإنسان على أنّ ما هو ملاك الحياة مع الغضّ عن أنّ لها مفهوماً خاصاً في كلّ مرتبة ـ هو كون الموجود درّاكا (١). وفعّالاً ، وهي موجودة في عامّة المراتب ، غير أنّ تلك الحقيقة تتجلّى في كلّه مرتّبة بشكل.

ففي النبات بالجذب والدفع والنمو والرشد والتوالد والتكاثر مع الحسّ النباتي الذي أثبته العلم والتجربة.

وفي الحيوان يتجلّى في الأفعال المذكورة مع الشعور الخاصّ الذي ربّما يكون في البعض أكمل من البعض.

__________________

(١) ليس المراد منه هو الادراك الموجود في الانسان وما فوقه بل المراد حقيقة الدرك والوقوف على الحقائق أو ما شئت فعبّر.

٢٠٤

وفي الإنسان مضافاً إلى الخصائص الموجودة في الدرجات السابقة يتجلّى في أفعاله العجيبة والغريبة وصنائعه البديعة مع ادراكه المسائل العقلية والفلسفية.

فالناظر إلى حقيقة الحياة في جميع الدرجات إذا غضّ النظر عن خصائص كلّ مرتبة وعن التعريف بالمرتبة ينتقل إلى أنّ الحيّ هو الموجود المدرك الفعال ، فاذا كانت هذه هي حقيقة الحياة فالله تبارك وتعالى حيّ بأكمل حياة.

وإن شئت قلت : إذا أردنا تعريف الحياة الموجودة في كلّ مرتبة من المراتب فلا يمكن إطلاقها على الله سبحانه.

وأمّا إذا نظرنا إلى « حقيقة الحياة » الموجودة في جميع هذه المراتب ، المجرّدة من خصائص تلك المراتب وخصوصيّاتها ، انتزع العقل مفهوماً كلّيّاً ينطبق على جميع المراتب ، وهو كون الشيء فاعلاً ومدركاً أو فعّالاً ودرّاكاً ، وإن كان تجلّي ذلك يختلف من مرتبة إلى اُخرى حسب ضعف المرتبة وقوتها.

وهذه المسألة حقيقة ثابتة في كثير من الأسماء ، فإنّ لفظة « المصباح » يوم وضعت كانت تطلق على الضوء الحاصل من اشتعال غصن شجر ، غير أنّ هذه الحقيقة تكاملت حسب تكامل الحضارة والتمدّن فصارت تطلق على المصباح الزيتي والنفطي والغازي والكهربائي بمفهوم واحد وسيع.

وما ذلك إلاّ لأنّ الحقيقة المقوّمة لصحة إطلاق تلك الكلمة هي كون الشيء منوّراً لما حوله ، فهذه الحقيقة مع اختلاف مراتبها موجودة في جميعها ، وفي المصباح الكهربائي على نحو أتمّ.

إنّ من الوهم أن يتوقّع إنسان مفكّر تحديد حياته سبحانه من خلال ما نلمسه من الحياة الموجودة في النبات أو الحيوان أو الإنسان.

كما أنّ من الوهم أن يتوقع أن تكون حياته تعالى رهن فعل وانفعال كيمياوي أو فيزياوي.

٢٠٥

فإنّ كلّ ذلك ليس دخيلاً في حقيقة الحياة وإن كان دخيلاً في تحقّق الحياة في درجة خاصّة إذ لولا هذه الأفعال في النبات والحيوان والإنسان لامتنعت الحياة ، لكن دخلها في مرتبة خاصّة لا يعدّ دليلاً على كونه دخيلاً في حقيقة الحياة ، كما أنّ اشتعال المصباح بالفتيلة لا يعدّ كون الفتيلة مقوّما للمصباح ، وإنّما هو مقوّم لدرجة خاصّة ، وعندئذ نخرج بالنتيجة التاليه وهي :

إنّ ما هو المقوّم للحياة هو كون الموجود مدركاً وفاعلا أو ما يضاهي هذه الكلمات.

وإن شئت قلت : فعّالاً ودرّاكاً حسب درجته ومرتبته فالفعل والدرك في الحيوان والنبات يتنزّل إلى حد الحس والحركة ، ويتجلّى بهما ، ولكنّه في الإنسان وما فوقه إلى أن يصل إلى مبدأ الوجود والحياة بشكل آخر الذي ربّما يعبّر عنه بالفعل والدرك والخلق والعلم وما يقوم مقامهما.

وقال الامام الباقر عليه‌السلام :

« إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه وعالماً لا جهل فيه وحيّاً لاموت فيه وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً (١).

وقال الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام :

« إنّ الله لا إله إلاّ هو كان حيّاً بلا كيف ولا أين ولا كان في شيء ولا كان على شيء ... كان عزّ وجلّ إلهاً حيّاً بلا حياة حادثة وبلا كون وصوت ولا كيف محدود ولا أين موقوف ولا مكان ساكن بل حيّ لنفسه » (٢).

وفي الختام نقول : إنّ حياته تعالى كسائر صفاته الكمالية صفات واجبة

__________________

(١) توحيد الصدوق : ص ١٤١.

(٢) المصدر نفسه : ص ١٤١.

٢٠٦

لا يتطرّق اليها العدم ولا يعرض لها النفاد والانقطاع ، لأنّ تطرّق ذلك اليها يضادّ وجوب الوجود وضرورته فهو حيّ لا يموت كما يقول سبحانه عن نفسه :

( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( القرفان / ٥٨ ).

٢٠٧
٢٠٨

حرف الخاء

الرابع والثلاثون : « الخالق »

قد ورد لفظ الخالق في الذكر الحكيم ثماني مرّات ووقع اسماً له في آيات سبع كما أنّه ورد لفظ « الخلاّق » مرّتين وسمّي سبحانه به في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الحشر / ٢٤ ).

إلى غير ذلك من الايات.

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ( الحجر / ٨٦ ).

وقال سبحانه : ( بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ( يس / ٨١ ).

وقد مرّ معنى الخلق في الاسم الحادي عشر أعني « أحسن الخالقين » فلاحظ ، غير انّا نركّز هنا على نكتة وهو انّ هناك آيات صريحة في حصر الخالقيّة فيه سبحانه وإنّه لا خالق سواه.

ويقول سبحانه : ( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / ١٦ ).

وقال سبحانه : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ) ( الفاطر / ٣ ). وفي الوقت نفسه يصف نفسه

٢٠٩

( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / ١٤ ) وينسب الخلق إلى غيره ويقول :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ) ( آل عمران / ٤٩ ).

ويقول سبحانه : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / ١١٠ )

ثمّ إنّ الأشاعرة والعدلية اختلفوا في تفسير هاتين الطائفتين من الايات فالطائفة الاُولى حصروا الخالقية فيه سبحانه وأنكروا السببية للأسباب الطبيعية كما أنكروا تأثير الإنسان في أفعاله ، وقالوا : إنّه سبحانه يخلق الجواهر والأعراض وأفعال الإنسان والحيوان والنبات بنفسه مباشرة ، فإذا أراد الإنسان فعلاً يسبقه سبحانه إلى إيجاد الفعل المطلوب له من دون أن يكون للإنسان وإرادته واختياره فيه تأثير حتى أنّهم أنكروا تأثير العلل الطبيعية على وجه الاطلاق وذهبوا إلى أنّ الاحراق فعل الله عند تكوّن النار ولا صلة له بها ، كما أنّ التبريد يوجد به سبحانه مباشرة عند تحقّق الماء من دون ارتباط بينهما وقس على ذلك الكائنات الجوية والظواهر الأرضية فأنكروا النظم الطبيعية كلّ ذلك حرصاً على حفظ ظواهر الايات.

قال الدكتور البوطي (١) :

إنّ من أسماء الله عزّ وجلّ « القيّوم » ومعناه القائم باُمّ المخلوقات على الدوام والاستمرار ، وقد فصل هذا المعنى في مثل قول الله عزّ وجلّ في مثل : ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) ( الفاطر / ٤١ ).

__________________

(١) إنّ الدكتور « محمد سعيد رمضان البوطي السوري » في كتابه « السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي » أدى حقّ الموضوع وأثبت انّ اتباع السلف ليس بمعنى الانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئيّة التي اتّخذوها. ( السلفية مرحلة زمنية مباركة : ص ١٢ ). لكنّه مع الأسف قد حبس نفسه وفكره في اطار الفكر الاشعري وقبله الحنبلي ، ولم يخلص نفسه عنه ونظر إليها نظر تقديس وتنزيه وكأنّ منهجهم قد افرغ من رصاص أو نحاس لا يقبل الخداش ، ومن الموارد التي تبع الدكتور ذلك المنهج بحرفيته مسألة سلب التأثير للفواعل الطبيعية والعلل المادّيّة.

٢١٠

وقوله عزّ وجلّ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) ( الروم / ٢٥ ).

وقد علمنا أنّ امساك الله السموات والارض ورعايته لها وهدايته إيّاها للقيام بما توجّه إليها من الأوامر التكوينيّة وكلّ ذلك مستمر دائم يتجدد لحظة فلحظة.

فهل يتّفق هذا البيان الالهي لاسم الله « القيّوم » مع ما يقرره الفلاسفة من أنّ الله أودع في كلّ شيء طبيعة وقوّة فهو بها يحقّق آثاره ، وينتج معلولاته ، وذلك لأنّه إذا تصوّرنا الأمر على هذا النحو فقد بطلت صفة القيوميّة في ذات الله عزّ وجلّ وبطل معنى قوله : « يمسك السموات والارض أن تزولا » لأنّ الأشياء بعد أن أُودعت فيها قواها أصبحت تؤدّي مهمّاتها استقلالا ودونهما حاجة إلى أي عون مستمر فتصبح كالجهاز العقلي الآلي المعروف اليوم حيث لا يحتاج إلى أكثر من أن يملأ بالمعلومات التوجيهيّة إذ هو بعد ذلك يؤدّي عمله دون أي معونة مستمرة أو حتى رقابة من صاحب هذا الجهاز أو صانع (١).

يلاحظ عليه أوّلا :

انّه إذا كان الوحي الالهي هو المصدر الوحيد في ذاك المجال فالله سبحانه كما ينسب الآثار والأفعال إلى نفسه ينسب إلى جنوده وملائكته وعباده نسبة حقيقيّة سبحانه مع أنّه القيّوم ، ومعناه حسب قول الكاتب القائم بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ينسب التوفّي إلى نفسه مرّة ويقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر / ٤٢ ). وإلى رسله ثانياً ويقول : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / ٦١ ). وإلى الملائكة ثالثاً ويقول : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) ( محمد / ٢٧ ).

ولا نشكّ في أنّ القرآن خال عن الاختلاف والتناقض ، فإذا كان معنى كونه قيوماً قائماً بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ، وكان القول بأنّ هناك سبباً وعلّة اُخرى تقوم ببعض الاُمور في مجال الكون والطبيعة مخالفاً لذلك ، فما معنى نسبة

__________________

(١) المصدر نفسه : ص ١٧٦ ـ ١٧٧.

٢١١

التوفّي إلى الملائكة والرسل ، وهل يمكن أن يقال : إنّ النسبة الثانية والثالثة نسبتان مجازيّتان ؟ أو أنّ هناك وجهاً آخر به تنحلّ عويصة هذا النوع من الايات وهو انّ الممكن بذاته وفعله قائم به سبحانه ، قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، لو قام بفعل أو تأثير فإنّما هو بقدرة مفاضة إليه في كلّ آن وآن ( إن صحّ التعبير بالآن من حيث هي أصغر وحدة زمنية نعرفها ).

وثانياً : إنّه ليس نسبة الممكن إلى الواجب كنسبة البناء إلى البنّاء حيث يستغني البناء عن الباني في بقائه ودوامه لأجل القوىٰ الطبيعيّة المودوعة فيه التي توجب تماسكه والتصاقه وبقائه ، فإنّ ذلك التصوير تصوير خاطئ ، فانّ الباني ليس موجداً للبناء حدوثاً ولا بقاء ، وإنّما هو علّة الحركة ، أي تحريك أدوات البناء من حجر وطين وجصّ وتركيبها ونضدها بشكل خاص ، وفي مثل ذلك يصحّ استغناء البناء عن الباني ولو غاب أو مات ، لبقى كما هو محسوس.

وأمّا نسبة العلل الطبيعية إلى الله سبحانه فليس من تلك المقولة فإنّها في حدوثها وبقائها ، ذاتها وفعلها محتاجة إليه سبحانه قائمة به والوجود ذاتاً وفعلاً ، يفيض من المبدئ دوماً آناً فآناً ، بحيث لو انقطعت الصلة بين رب العزّة والعلل الطبيعية لما كان منها عين ولا أثر ، فلا ترى الشمس ولا ضياءه ولا القمر ولا نوره ، وفي مثل ذلك لا يتصور استقلال الممكن في ذاته وفعاله ، وما ذكره الكاتب مبنيّ على حاجة العالم في حدوثه إلى البارئ لا في بقائه ، وهو تصوّر باطل لا ينسجم مع كونه ممكناً ولو أورد بالتشبيه والتنزيل فلنا أن نقول :

« إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى الله سبحانه نظير نسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي فإنّها لا تستغني عن المعنى الاسمي لا في عالم التصوّر ولا في مقام التحقّق عنه أو كنسبة الصور الذهنيّة إلى النفس ، وفي مثل ذلك التحدّث عن الاستغناء والاستقلال تحدّث خاطئ ».

وبذلك تعلم قيمة قوله « بعد أن اودعت فيها قواها المزعومة أصبحت تؤدّي

٢١٢

مهمّاتها استقلالاً فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم » وهذا يعرب عن أنّه تصور أنّ نسبة العوالم الامكانية إلى الواجب كنسبة البناء إلى الباني ، فإنّ القول بوجود القوىٰ في الأسباب الطبيعية ليس بمعنى استقلالها في الوجود والايجاد بل بمعنى أنّ وجودها وايجادها وجوهرها وآثارها قائمة به ومؤثّرة بحوله وقوّته وأمره وإذنه ، فهو الذي أعطى قوّة الاحراق للنار وقوة التبريد للماء : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) ( يونس / ٥ ).

وينزل منه فيض الوجود إلى الممكنات دوماً وفي كلّ لحظة فلحظة وآن وآن.

وثالثاً : نتنزّل عن كلّ ما ذكرنا ونقول : إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى الله سبحانه لا تقلّ عن نسبة الوكيل إلى الموكل والعبد إلى مولاه ، ومدير الشركة إلى أصحابها.

فالعبد يعمل لمولاه ، والوكيل يشتري ويبيع في متجر الموكّل ، والمدير يخطّط اُمور التجارة ويمهّد لها ، والكلّ مبادئ أفعال وآثار وفي الوقت نفسه ينسب أفعالهم إلى السيّد والموكّل وأصحاب الشركة ، وما ذلك إلاّ لأجل انّهم قاموا بهذه الاُمور ونالوا هذا المنصب بإذنهم وأمرهم وإرادتهم ، وإذا لم يريدوا حالوا بينهم وبين أفعالهم ، ولأجل ذلك فلو باع الوكيل دار الموكّل ينسب الفعل إليهما جميعاً لكن الوكيل غير مستقل والموكّل مستقل ، وفعل الوكيل فعله بالتسبيب.

هذا هو الخط الذي يجب أن يمشي عليه المفسّر في تنسيق هذه الايات وتفسيرها ، والمراد الايات التي ينسب الفعل الواحد إلى الله سبحانه وفي الوقت نفسه إلى الإنسان وإلى غيره وإليك نماذج من هذا النوع من الايات :

١ ـ يقول سبحانه : ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَىٰ ) ( البقرة / ١٢٠ ). فترى أنّه يحصر الهداية في الله سبحانه وفي الوقت نفسه يسمّي النبي هادياً ويقول : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / ٥٢ ). فما معنى الحصر المتقدّم ونسبة الهداية إلى النبي الأكرم ؟

والجمع أنّ الهداية الأصيلة القائمة بالله مختصّة به ، وأمّا الهداية المفاضة

٢١٣

المكتسبة المأذونة فإنّما هو للعبد ، فهناك هداية واحدة تنسب إلى الله أوّلاً وإلى الثاني استقلالاً وتبعاً ، والله سبحانه هاد بلا شكّ والنبي الأعظم هاد حقيقة بلا شائبة مجاز ، لكن بتمكين وإقدار وإذن منه ، ومثل ذلك لا يوجب كون النبي مستقلاً في فعله ويكون كجهاز العقل الآلي.

٢ ـ يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة بالله وحده ، إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ).

في حين نجده في آية اُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة ، إذ يقول :

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة / ٤٥ ).

٣ ـ يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصّاً بالله وحده ، إذ يقول :

( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) ( الزمر / ٤٤ ).

بينما يخبرنا ـ في آية اُخرى ـ عن وجود شفعاء غير الله كالملائكة :

( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ ) ( النجم / ٢٦ ).

٤ ـ يعتبر القرآن الإطلاع على الغيب والعلم به منحصراً في الله ، حيث يقول :

( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ ) ( النمل / ٦٥ ).

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية اُخرى عن أنّ الله يختار بعض عباده لاطلاعهم على الغيب ، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / ١٧٩ ).

٥ ـ ينقل القرآن عن إبراهيم عليه‌السلام قوله بأنّ الله يشفيه إذا مرض حيث يقول : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ( الشعراء / ٨٠ ).

٢١٤

وظاهر هذه الاية هو حصر الشفاء من الأسقام في الله سبحانه ، في حين أنّ الله يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول :

( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ). ( النحل / ٦٩ )

( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) ( الاسراء / ٨٢ ).

٦ ـ إنّ الله تعالى ـ في نظر القرآن ـ هو الرزّاق الوحيد ، حيث يقول :

( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / ٥٨ ).

بينما نجد القرآن يأمر المتمكّنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء ، إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) ( النساء / ٥ ).

٧ ـ الزارع الحقيقي ـ حسب نظر القرآن ـ هو الله كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) ( الواقعة / ٦٣ و ٦٤ ).

في حين انّ القرآن الكريم ـ في آية اُخرى ـ يطلق صفة الزارع على الحارثين ، إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ( الفتح / ٢٩ ).

٨ ـ إنّ الله هو الكاتب لأعمال عباده ، إذ يقول :

( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) ( النساء / ٨١ ).

في حين يعتبر القرآن الملائكة ـ في آية اُخرى ـ بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول :

( بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف ٨٠ ).

٩ ـ وفي آية ينسب تزين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) ( النمل / ٤ ).

٢١٥

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ) ( الأنفال / ٤٨ ).

وفي آية اُخرىٰ نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) ( فصّلت / ٢٥ ).

١٠ ـ مرّ في هذا البحث حصر التدبير في الله حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو الله ، إذ يقول في الاية ٣١ من سورة يونس :

( وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ).

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات اُخرى بمدبّريّة غير الله حيث يقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات / ٥ ).

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الايات تعارضاً غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الاُمور ( أعني الرازقيّة والشفاء و ... ) قائمة بالله على نحو لا يكون لله فيها أيّ شريك فهو تعالى يقوم بها بالاصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعيّة » وفي ظل القدرة الالهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأنّ كل ظاهرة لابدّ أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ، ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية الله من ذلك ، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات ، غاية ما في الأمر انّ نسبة هذه الامور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » فيما يكون نسبتها إلى « الله » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

٢١٦

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) ( الأنفال / ١٧ ).

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة « إذ رميت » نجده يصف الله بأنّه هو الرامي الحقيقي ، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له ، فيكون فعله فعلا لله أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى الله ( الذي منه وجود العبد وقوّته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير ، ولكن شدّة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون الله مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح انّ المقدّمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة بالله وناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلّة التامّة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحققت الظاهرة ، يعدّ هو مسؤولاً عن الفعل.

الخامس والثلاثون : « الخلاّق »

وقد تبيّن حاله ممّا ذكرناه في الاسم السابق.

السادس والثلاثون : « الخبير »

وقد ورد لفظ الخبير في الذكر الحكيم ٤٥ مرّة وجاء اسماً له سبحانه في جميع الموارد ، واستعمل تارة مع « الحكيم » واُخرى مع « البصير » وثالثة مع « العليم » ورابعة مع « اللطيف ».

قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / ١٨ ).

وقال سبحانه : ( وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ( الشورى / ٢٧ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات / ١٣ ).

٢١٧

وقال سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / ١٠٣ ).

ويستظهر معناه ممّا قورن به من كونه حكيماً وبصيراً وعليماً ولطيفاً.

قال ابن فارس : « خبر » له أصلان : الأوّل العلم ، والثاني يدل على لين ورخاوة وغزر ، فالأوّل الخبر : العلم بالشيء ، تقول لي بفلان خبره وخبر ، والله تعالى الخبير أي العالم بكلّ شيء ، وقال الله تعالى : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ، والثاني الخبراء وهي الأرض الليّنة والخبير الأكّار وهو من هذا ، لأنّه يصلح الأرض ويدمّثها ويلينها » (١).

وقال الراغب : « العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر ، وخبرته خبراً وخبرة وأخبرت وأعلمت بما حصل لي من الخبر ، وقيل الخبرة : المعرفة ببواطن الأمر ».

وفسّره الصدوق بمطلق العلم وقال : « الخبير معناه العالم ، والخبر والخبير في اللّغة واحد ، والخبر علمك بالشيء ، يقال لي به خبر أي علم » (٢) والظاهر انّ المراد هو الثاني وهو العلم بكنه الشيء والخبير هو المطّلع على حقيقته وإليه يشير قوله : ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) ( الفرقان / ٥٩ ).

وقوله : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ( فاطر / ١٤ ). نعم الخبير صفة المخلوقين إنّما يستعمل في العلم الذي يتوصل به في الاختبار والامتحان والله منزّه منه (٣).

وأمّا حظ العبد فيمكن أن يكون مظهراً لهذا الاسم بالبحث والفحص عن أسرار الكون ودقائقه ، ومحاسن الأخلاق وقبائحه.

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ٢ ص ٢٣١.

(٢) كتاب التوحيد : ص ٢١٦.

(٣) لوامع البينات للرازي : ص ٢٤٨.

٢١٨

السابع والثلاثون : « الخير »

وقد ورد لفظ « الخير » مرفوعاً في الذكر الحكيم ١٧٦ مرّة ووقع اسماً ووصفاً له سبحانه مرّتين.

قال سبحانه : ( وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧٣ ) ، وقال ( قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( النمل / ٥٩ ).

هذا في ما وقع له وصفاً مفرداً ، وأمّا إذا اُضيف إلى اسم من أسمائه سبحانه فقد جاء في الذكر الحكيم الأسماء التالية :

١ ـ خير الحاكمين. ٢ ـ خير الراحمين. ٣ ـ خير الرازقين. ٤ ـ خير الغافرين. ٥ ـ خير الفاتحين. ٦ ـ خير الفاصلين. ٧ ـ خير الماكرين. ٨ ـ خير المنزلين. ٩ ـ خير الناصرين.١٠ ـ خير الوارثين. ١١ ـ خير حافظا.

وهذا الأخير شبه المضاف ولذلك أتينا به في عداد المضاف ، ونقدّم البحث عن « الخير » غير المضاف ثمّ نأتي بالمضاف من « الخير ».

« الخير » كما قال ابن فارس خلاف الشرّ والضرّ.

قال سبحانه : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ) ( آل عمران / ١٨٠ ).

وقال سبحانه : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / ١٧ ). وفي جميع الأحوال ، وخير مقيّد ونسبيّ وهو أن يكون خيراً لواحد ، وشراً لآخر كالمال فقد أسماه سبحانه في مورد خيراً وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا ) ( البقرة / ١٨٠ ) وفي مورد آخر بخلافه وقال : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ) ( المؤمنون / ٥٥ و ٥٦ ).

فالمال في يد الرجل التقيّ خير يقري به الضيف ويقضي حاجة المستنجد ، و

٢١٩

في يد الرجل الفاسق شرّ ، لأنّه يصرفه في العصيان والطغيان ، والله سبحانه خير مطلق لا شرّ فيه ولا يصدر منه الشرّ وليس للشرّ إليه سبيل.

هذا وربّما يطرح هناك سؤال وهو انّه سبحانه لو كان خيراً محضاً فما هو المبدئ للمصائب والآلام التي ملأت العالم كالزلازل الهدّامة والسيول الجارفة والسباع الضارية ، إلى غير ذلك ممّا يسمّى شرّاً.

أقول : هذا ممّا شغل بال الباحثين طيلة سنين وأجابوا عنه بوجوه :

١ ـ النظرة الأنانيّة إلى الظواهر :

إنّ ما يظن من الحوادث الشاذّة متّسمة بالشرّ إنّما ينبع من نظر الإنسان إلى هذه الاُمور من خلال مصالحه الشخصيّة ويجعلها محوراً وملاكاً لتقييم هذه الاُمور فعندما يراها نافعة لشخصه وذويه ، يصفها بالخير وإلاّ فيصفها بالشرّ ، فهو في هذا الحكم لا ينطلق إلاّ من نفسه ومصالحه الشخصيّة ومن يقرّبه بأواصر القومية ، ولأجل ذلك يصف الطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، والسيل العارم الذي يهدّم منزله ، والزلزلة التي تضعضع أركان بيته بالشرّ والبلاء ، ولكنّه يتجاهل غيره من البشر الذين يقطنون في مناطق اُخرى من العالم ، أو الذين عاشوا في غابر الزمان أو يعيشون في مستقبله أن تكون هذه الحوادث مفيدة لأحوالهم وحياتهم ، وما أشبه هذا الإنسان ورؤيته برؤية عابر سبيل ، يرىٰ جرّافة تحفر الأرض أو تهدم أبنية فيقضي من فوره أنّه عمل ضارّ ومسيئ ، وهو لا يدري أنّ ذلك التخريب والتهديم مقدّمة لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ لمئات الآلاف من المحتاجين إلى العلاج ، ولو وقف على تلك الغاية لما وصف التهديم بالشرّ بل تتلقّاه خطوة نافعة.

إنّ مثل هذا الإنسان المحدود النظرة الأناني في تقييمه مثل الخفّاش الذي يؤذيه النور لأنّه يقبض بصره ، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون ، ويساعدها على

٢٢٠