مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

لديه حضوراً واقعيّاً ، وليس للعلم حقيقة وراء حضور المعلوم لدى العالم ولعلّ هذا هو مراد من قال من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لا جارحة له ، وإلاّ فالتعليل المذكور لا يكون دليلاً على عدم كونه سميعاً حقيقة.

قال الحكيم السبزواري : الله سبحانه يسمع جميع الأصوات التي كانت وستكون بسمع واحد حضوري اشراقي ، ومن أسماءه الحسنى : « من لا يشغله سمع عن سمع » فمناط السمع حضور الأصوات ، حتى لو فرضت حضور الأصوات لك ، بلا قرع صماخ لكنت سميعاً فما ظنّك بمن حضور إله ، أشد من حضورها لانفسها ، فلا قيمة دفت من يقول من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لا جارحة له بل الأمر كما قال شيخ الاشراق : إنّ علمه تعالى يرجع إلى بصره وسمعه لا أنّ بصره وسمعه يرجعان إلى علمه (١).

أقول كما أنّ ارجاع سمعه إلى علمه بحجّة أنّه لا جارحة له غير صحيح ، كذلك ارجاع علمه في جميع الموارد إليهما غير تامّ إلاّ إذا كان المراد ارجاع خصوص علمه بهما لا مطلق علمه كما هو واضح.

وربّما يقال : « من أنّه إذا كان ملاك توصيفه سبحانه بالسميع والبصير هو حضور المسموعات والمبصرات فليكن هذا مبرّراً لتوصيفه بأنّه ذائق شامّ لامس لحضور المذوقات والمشمومات والملموسات عنده » وهذا غير تام لما عرفت أنّ شرافة الحسّين وكرامتهما وعظم نفعهما صار سبباً لتسميته سبحانه بهما دون غيرهما من أسماء الحواس الظاهرة ، مضافاً لما عرفت في باب توقيفيّة الأسماء وإنّ كلّّ اسم يكون موهماً لكونه جسماً أو جسمانياً فتكون التسمية به ممنوعة. نعم أهل الحديث والحنابلة والسلفية يصفونه سبحانه بهما على وجه يوهم كونه سبحانه سميعاً وبصيراً بنفس المعنى الموجود في الإنسان والحيوان ، وآخر ما يوجد عند المتظاهرين بالتنزيه منهم أنّهم يقولون : إنّه سميع وبصير بلا كيف.

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى : ص ٣٦ ، للحكيم السبزواري.

١٦١

قال الأشعري : « ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهميّة والخوارج » (١).

وقال في موضع آخر : « وزعمت المعتزلة أنّ قول الله عزّ وجلّ ( وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( الحج / ٦١ ). معناه عليم. ثم أجاب بأنّه إذا قال عزّ وجلّ : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) ( طه / ٤٦ ) وقال : ( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) ( المجادلة / ١ ) فهل معنى ذلك عندكم « علم » فإن قالوا نعم ، قيل لهم : فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله أسمع وأرى : أعلم وأعلم إذ كان معنى ذلك العلم. ثم قال : إذا كان معنى سميع وبصير هو أنّه عالم فيلزم أن يكون معنى قادر هو عالم ـ إلى آخر ما ذكره ـ (٢).

يلاحظ عليه :

أوّلا : انّه لو قيل بأنّ كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه بالكلّيّات فلا شك أنّه خاطئ في رأيه لأنّ السمع والبصر من أدوات المعرفة الجزئيّة والسميع والبصير من يعرف المسموعات والمبصرات عرفاناً شخصياً جزئياً ، وأمّا لو قيل بأنّه من شعب علمه بالجزئيات الذي يعبّر عنه بالعرفان والمعرفة فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ أبو الحسن من إنكار كونه سميعاً وبصيراً وما نسب إلى المعتزلة من أنّهم ينفون أن يكون لله السمع والبصر غير صحيح فانّهم يثبتان لله سبحانه هذين الأمرين لكن بالتطور الذي قد عرفته ، وسيجيء نظيره في الحياة ، فالله سبحانه « سميع » بالحقيقة « بصير » واقعا والمسموعات والمبصرات مشهودة له لكن بلا حاجة إلى الحسّ وإعماله.

قال الصدوق : « وليس وصفنا له تبارك وتعالى بأنّه سميع بصير ، وصفاً بأنّه

__________________

(١) الابانة : ص ١٩.

(٢) الابانة : ص ١١٧ و ١١٨.

١٦٢

عالم بل معناه ما قدّمناه من كونه مدركاً وهذه الصفة صفة كلّّ حيّ لا آفة به » (١).

وبذلك يعلم أنّ قوله « أسمع وأرى » يفيد معنيين متغايرين فقوله « أسمع » إشارة إلى حضور المسموعات وقوله « أرى » إشارة إلى حضور المبصرات عنده.

وثانيا : إنّ تفسير « السميع » و « العليم » بالعالم لا يستلزم تفسير القادر به لما عرفت من أنّ حضور المبصرات والمسموعات لدى العالم نوع معرفة له لكن معرفة جزئيّة مشخّصة لا معرفة كلّّية ، وأمّا القدرة فلا صلة له بالعلم ، فالسمع والبصر من أدوات المعرفة والعلم دون القدرة.

وثالثا : إنّ الوحدة المصداقية ، لا تلازم الوحدة المفهوميّة فكم فرق بين القول بأنّ واقع كونه بصيراً وسميعاً ، هو علمه بالمبصرات والمسموعات ، لا بشيء آخر ، والقول بأنّ مفهومهما هو نفس مفهوم العلم وانّ الموضوع في الكلّ واحد والمدّعىٰ هو الأوّل ، وما ذكر من الاشكال إنّما يترتّب على الثاني ، وعلى ذلك فلا يلزم من القول بأنّهما من شعب علمه تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) : « اعلم واعلم ».

وكم للشيخ الاشعري من هذه التخليطات.

نعم الأشعري وإمام الحنابلة ومن لفّ لفّهما غير الراسخين في تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيات ربّما يروق لهم اثبات أجهزة كالعين والسمع له سبحانه ولكن لا يتظاهرون بذلك بل يتظاهرون بالتنزيه باضافة « بلا كيف » ، وقد عرفت أنّ هذه اللفظة لا تفيد شيئاً في مقام التنزيه.

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ١٩٧.

١٦٣

روايات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال

قال الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والبصير لا بتفريق آلة والشاهد لا بمماسّة » (١).

وقال عليه‌السلام : « ويسمع لا بخروق وأدوات » (٢).

وقال عليه‌السلام : « بصير لا يوصف بالحاسّة » (٣).

وقال الامام الصادق عليه‌السلام : « سميع بصير ، أي سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه » (٤).

وقال الامام الباقر عليه‌السلام : « إنّه سميع بصير : يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع » (٥).

وفي هذا الحديث إشارة إلى اتّحاد صفاته بعضها مع بعض والمجموع مع الذات لكن اتّحاداً في الخارج والمصداق لا في المفهوم.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٥٥.

(٢) نهج البلاغة : الحكمة ١٨٦.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٢.

(٤) و (٥) التوحيد للصدوق : ص ١٤٤.

١٦٤

حرف التّاء

الثالث والعشرون : « التوّاب »

قد ورد لفظ التوّاب في الذكر الحكيم ١١ مرّة ووقع في الجميع اسماً له سبحانه قال : ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / ٣٧ ).

قال ابن فارس : التوب كلمة واحدة يدلّ على الرجوع. يقال : تاب من ذنبه أي رجع عنه ، يتوب إلى الله توبة ومتاباً فهو تائب ، والتوب : التوبة ، قال الله : ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (١).

أصل التوبة الرجوع عمّا سلف ، والندم على ما فرّط ، فالعبد إذا تاب يقال له تائب إلى الله بندمه على معصيته ، وإذا قبل توبته يقال الله تعالى تائب على العبد بقبول توبته.

والحاصل أنّه إذا تعدّى بكلمة « إلى » يكون بمعنى التوبة وإذا تعدّى به « على » يكون بمعنى قبول التوبة ، أمّا الأوّل فقال سبحانه : ( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) ( البقرة / ٥٤ ) وقال سبحانه : ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) ( هود / ٣ ) وقال سبحانه : ( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( النور / ٣١ ) إلى غير ذلك من الايات.

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ١ ص ٣٥٧.

١٦٥

وأمّا الثاني فكما قال سبحانه : ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / ٣٧ ) وقال : ( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / ٥٤ ) وقال : ( لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) ( التوبة / ١١٧ ) (٣).

وبذلك يعلم أنّ معنى التوّاب هو قابل التوبة عن العباد وذلك لأجل وروده بعد قوله « فتاب عليه » أو « فتاب عليكم » وهو بمنزلة العلّة للجملة المتقدّمة.

١٦٦

حرف الجيم

الرابع والعشرون : « الجبّار »

قد ورد هذا اللفظ في موارد عشرة في القرآن الكريم ووقع وصفاً له في مورد واحد قال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / ٢٣ ) وهو من الصفات التي إذا وقع وصفاً له سبحانه يتبادر منه المدح وإذا وصف به غيره يتبادر منه الذم. قال سبحانه : ( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) ( غافر / ٣٥ ) وقال سبحانه : ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ( هود / ٥٩ ) ويمكن توضيح ذلك بوجوه :

١ ـ قال ابن فارس : الجبر هو جنس من العظمة والعلوّ والاستقامة. فالجبّارُ الذي طال وفات اليد. يقال فرس جبّار ونخلة جبارة (١).

وقال الرازي : الجبّار : العالي الذي لا ينال ، ومنه نخلة جبّارة : إذا طالت وعلت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ ) ( المائدة / ٢٢ ) أي عظماء ، فيقال : رجل جبّار إذا كان متعظّماً متجبّراً لا يتواضع ولا ينقاد لأحد وهذا الاسم في حقّ الله سبحانه يفيد أنّه سبحانه وتعالى بحيث لا تناله الأفكار ولا تحيط به الأبصار ، ولا يصل إلى كنه عزّه عقول العقلاء ، ولا ترقي إلى مبادي اشراق جلاله علوم العلماء ، وهو بهذا المعنى من صفات التنزيه (٢).

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ١ ص ٥٠١.

(٢) لوامع البينات : ص ١٩٧.

١٦٧

يلاحظ عليه :

الظاهر أنّ الجبّار بمعنى واحد صفة مدح في حقّه سبحانه ووصف ذمّ في غيره ، وعلى ضوء ذلك فيجب أن يفسّر على وجه يكون نفس المعنى في مورد مدحاً وفي مورد آخر ذمّاً من دون أن يكون هناك معنيان ، وما ذكر من المعاني للجبّار لا يحقّق ذلك المطلوب وإليك البيان :

١ ـ الجبّار : العالي الذي لا ينال

هذا المعنى هو المتبادر ممّا ذكره « ابن فارس » و « الرازي » ولو صحّ لا يحقّق ما هو المطلوب بأن يكون معنى واحد مدحاً في حقّ الواجب وذمّاً في حقّ الممكن ، فإنّ كون الشيء عالياً لا ينال مدح على كلّ حال ، وتعليل كونه ذمّاً في حقّ الممكن بعدم كونه كذلك ، لا يستلزم كونه وصف ذمّ في ذلك المورد وإلاّ يلزم أن يكون وصف العالم في حقّ الجاهل وصف ذمّ إذا ادّعى لنفسه.

٢ ـ الجبّار : العظيم الشأن في الملك

وهذا هو المستفاد من كلام الطبرسي حيث قال : الجبّار ب‍ « العظيم الشأن في الملك » ولا يستحق أن يوصف به على الاطلاق إلاّ الله تعالى ، فإن وصف به غيره فإنّما يوضع اللفظ في غير موضعه فيكون ذمّاً » (١).

يلاحظ عليه : بنفس ما لوحظ به على كلام الرازي ، فإنّ ما ذكره من المعنى صحيح في حقّ البارئ سبحانه ، إنّما الكلام في وجه كونه وصف ذم في حقّ غيره فالظاهر من الآيات أنّه كذلك بنفس معناه وصف ذم لا لكون المبدء غير موجود فيهم. فكم فرق بين كون الشيء وصف ذمّ ، وبين كونه في حدّ ذاته مدحاً ، ولكنه لأجل كونه مدعياً لما ليس فيه وصف ذمّ.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ١٧٩ ، وج ٥ ص ٢٦٧.

١٦٨

٣ ـ « الجبّار » : من يصلح الشيء بضرب من القهر

هذا المعنى يظهر من « الراغب » في مفرداته. قال الجبر : إصلاح الشيء بضرب من القهر ، وقد يقال في الاصطلاح المجرد مثل قوله علي عليه‌السلام : « يا جابر كل كسير » (١) ويطلق على الإنسان بمعنى من يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها. وهذا لا يقال إلاّ على طريق الذم (٢).

أقول : ما ذكره محتمل في حقّه سبحانه ويمكن تقريره بوجه واضح وهو أنّه سبحانه وتعالى باعتبار جمع شتيت اُمور خلقه ، ولمّ شعثهم وشعب ما تفرّق عنهم ، واستصلاح ما فسد منهم ، ورتق ما فتق منهم ، فهو جبّار من في السموات ومن في الارض دائماً (٣).

ولكن عدّه وصف ذم بهذا المعنى أيضا في حقّ الغير أمر مشكل ، فإنّ من يجبر النقيصة بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ليس مذموماً إلاّ من جهة عدم وجود المبدأ فيه ، وهو غير كونه بذاته ذمّاً وقدحاً والظاهر أنّ قوله « بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها » ليس داخلا في معنى الجبّار وذلك لأنّه على هذا الاحتمال يصدق على الله سبحانه وعلى الناس بمعنى واحد وإلاّ يلزم أن يكون مشتركا لفظياً فاذا اطلق على الله سبحانه يكون القيد هو الايجاب أعني يستحقّها مكان لا يستحقّها.

والذي يمكن أن يقال : إنّ المراد منه قهر الناس على ما يريده من دون أن يكون له ذلك الحق ويؤيّده توصيفه بالشقيّ في آية ، والعنود في آية اُخرى ، وهما يناسبان مع كونه بمعنى القهر والجبر ضد الاختيار. قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) ( مريم / ١٤ ) وقال عن لسان المسيح ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ( مريم / ٣٢ ) وقال سبحانه : ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَ

__________________

(١) وفي المصباح المنير : جبرت العظم الكسير : اصلحته.

(٢) المفردات : ص ٨٦.

(٣) شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص ٣٩.

١٦٩

اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ( هود / ٥٩ ) فبحكم المقابلة أي مقابلة جبّار مع البرّ ، وتوصيفه بالشقاء والعناد ، يعلم معنى الجبّار الموصوف به الانسان ، كما أنّ المراد من قوله سبحانه : ( قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) ( المائدة / ٢٢ ) هو كونهم شديدي البطش والبأس وهو يلازم قهر الناس على الحرب والمقابلة.

الخامس والعشرون : « الجامع »

وقد ورد اللفظ في القرآن الكريم ثلاث مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في آيتين قال : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) ( آل عمران / ٩ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٤٠ ) ونظير الاية الاُولى قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) ( التغابن / ٩ ) وقوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) ( هود / ١٠٣ ).

والظاهر أنّ المراد من كونه جامعاً هو جمع الخلق في موقف القيامة بشهادة قوله سبحانه : ( هَٰذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ) ( المرسلات / ٣٨ ) وقوله سبحانه : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللهُ ) ( الدخان / ٤٠ ـ ٤٢ ) ، والذي يوضح ذلك أنّ قوله ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ) بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة الوارد في الاية المتقدمة : أعني ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / ٨ ). فعلّل سؤاله الرحمة بأنّه سبحانه يجمع الناس في يوم القيامة الذي لا يغني فيه أحد عن أحد ، وعلى ضوء ذلك فما ذكره الرازي من الوجوه كلّها ساقطة فلاحظ (١).

__________________

(١) الايات البينات : ص ٢٤٣.

١٧٠

حرف الحاء

السادس والعشرون : « الحسيب »

وقد ورد اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع وصفاً له في موارد ثلاث قال سبحانه : ( وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ) ( النساء / ٦ ).

( إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) ( النساء / ٨٦ ).

( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ) ( الاحزاب / ٣٩ ).

وقال ابن فارس : إنّ ل‍ « حسب » اُصولا أربعة :

١ ـ العدّ. تقول : حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً ...

٢ ـ الكفاية. تقول : شيء حساب أي كاف ...

٣ ـ الحسبان. وهي جمع حسبانة وهي الوسادة الصغيرة ...

٤ ـ الأحسب الذي ابيضّت جلدته ...

والمتناسب في المقام هو المعنيان الأوّلان. أمّا الاية الاُولى فالمناسب فيها هو المعنى الأوّل بقرينة ما قبله. فالاية واردة في الارتزاق من أموال اليتامى.

قال سبحانه : ( وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ) ( النساء / ٦ ).

وعلى هذا « الحسيب » بمعنى المحاسب كالنديم بمعنى المنادم ، والجليس بمعنى المجالس قال تعالى : ( كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ( الاسراء / ١٤ ) و

١٧١

معنى الاية كفى بالله محاسباً فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ ، وإلى ذلك يرجع تفسيره بأنّه بمعنى « رقيبا » يحاسبهم عليه. فإنّ الحساب لغاية الرقابة والحفظ ، ومثله من فسّره بالحفيظ فانّ الكلّ من الغايات المترتبة على العدّ والحساب. وربّما يحتمل أن يكون من الأصل الأوّل بمعنى « وكفى بالله حسيبا » أي شاهداً على دفع المال إليهم وكفى بعلمه وثيقة.

وأمّا الاية الثانية أعني قوله تعالى : ( وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) ( النساء / ٨٦ ) فالظاهر أنّه أيضاً من الأصل الأول وإليه يرجع تفسيره ب‍ « حفيظا » فانّ الحفظ نتيجة العدّو الحساب.

وأمّا الاية الثالثة : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ) ( الاحزاب / ٣٩ ) فالظاهر أنّه من الأصل الثاني أي كفى كفاية بقرينة قوله : ( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ ) ويحتمل أن يكون من الأصل الأوّل أي حافظاً على أعمال خلقه ، ومحاسباً ومجازياً عليها.

السابع والعشرون : « الحفيظ »

وقد ورد « الحفيظ » في القرآن الكريم احدى عشرة مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آيتين :

قال سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) ( هود / ٥٧ ).

وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) ( سبأ / ٢١ ).

وفي آية ثالثة جاء وصفاً للكتاب قال سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / ٤ ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد يدلّ على مراعاة الشيء ... و

١٧٢

التحفّظ وقلّة الغفلة والحفاظ : المحافظة على الامور.

وقال الراغب : الحفيظ : الحافظ.

ولكن المناسب للآيتين الأوّليتين تفسيره « بعليم » ، نعم هو في الاية الثالثة بمعنى الحافظ ، يظهر ذلك بالامعان في معنى الايات.

الثامن والعشرون : « الحفيّ »

قد ورد « الحفي » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له في آية واحدة. قال حاكياً عن ابراهيم عند ما هجر آزر : ( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) ( مريم / ٤٧ ).

وقال في غيره سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ ) ( الأعراف / ١٨٧ ).

قال ابن فارس : « إنّ للحفي اُصولاً ثلاثة : المنع ، واستقصاء السؤال ، والحفاء خلاف الانتعال ... » (١).

ومن الأصل الثاني قوله سبحانه : ( إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ... ) ( محمد / ٣٧ ) أي أن يجهدكم بمسألة جميع أموالكم ويبالغ في المسألة تبخلوا.

وأمّا الحفيّ عند ما وقع وصفاً له فهو بمعنى البرّ اللطيف ولا يرجع معناه إلى الاصول التي طرحها ابن فارس ولأجل ذلك فسّره الراغب بما ذكرناه وقال : الحفيّ : البرّ اللطيف وأضاف : يقال أحفيت بفلان وتحفّيت به : إذا عنيت بإكرامه ، والمناسب لسياق الاية هو هذا لأنّ الاية تذكر وعد ابراهيم لأبيه آزر انّه سيستغفر له وكأنّه يريد : ويقبل سبحانه دعائي لأنّه حفيّ بي.

__________________

(١) مقاييس اللغة ج ٢ ص ٨٣.

١٧٣

التاسع والعشرون : « الحكيم »

قد ورد لفظ « الحكيم » في القرآن الحكيم ٩٧ مرّة ووقع اسماً له سبحانه في ٩٢ مورداً.

وأمّا الموارد الاُخر ، فقد وقع وصفاً للاُمور التالية : ١ ـ الذكر ، ٢ ـ الكتاب ، ٣ ـ القرآن ، ٤ ـ الأمر ، قال سبحانه : ( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / ٥٨ ) ، وقال تعالى : ( آيَاتُ الْكِتَابِ الحَكِيمِ ) ( يونس / ١ ولقمان / ٢ ) وقال : ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ( يس / ١ ـ ٢ ) وقال : ( كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ( الدخان / ١ ).

وأمّا معناه في اللغة فقد مضى البحث عنه في تفسير أحد أسمائه : « أحكم الحاكمين » فقلنا : إنّ له أصلاً واحداً وهو المنع ، وسمّيت حكمة الدابّة بها ، لأنّها تمنعها ، يقال : حكّمت الدابّة وأحكمتها ، والحكمة هذا قياسها ، لأنّها تمنع من الجهل.

وممّا يجدر بالذكر أنّه لم يقع الحكيم اسماً له سبحانه إلاّ معه اسم آخر من علمه وعزّته وغيرهما ، وإليك الايات التي ورد فيها اسم الحكيم مع سائر الأسماء ونذكر من كل قسم آية واحدة.

١ ـ العليم : قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( البقره / ٣٢ ).

٢ ـ العزيز : قال سبحانه : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( البقرة / ١٢٩ ).

٣ ـ الخبير : قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / ١٨ ).

٤ ـ التوّاب : قال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) ( النور / ١٠ ).

١٧٤

٥ ـ عليّ : قال سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / ٥١ ).

٦ ـ واسع : قال سبحانه : ( وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) ( النساء / ١٣٠ ).

٧ ـ حميد : قال سبحانه : ( تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصلت / ٤٢ ).

وأمّا معناه فقد اختلفوا فيه على أقوال :

١ ـ ذهب « الأزهري » إلى أنّه من صفات الله كالحكم والحاكم ومعاني هذه الأسماء متقاربة والله أعلم بما أراد بها وعلينا الايمان بأنّها من أسمائه.

يلاحظ عليه : أنّ القرآن نزل للتدبّر والتعقّل لا للتلاوة فقط وارجاع معاني ألفاظها إلى الله سبحانه ، وإنّما يرجع إليه كنه حقائقها.

٢ ـ قال ابن الاثير : الحكم والحكيم بمعنى الحاكم وهو القاضي فهو فعيل لمعنى فاعل.

يلاحظ عليه : أنّه لا ينطبق على جميع الايات. مثلا يصحّ في قوله سبحانه : ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / ٣٨ ) ولا يصحّ في قوله : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الانفال / ١٠ ) أو قوله : ( وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / ٧١ ) أضف إلى ذلك أنّ القاضي ليس من معاني الحاكم وإنّما يستعمل فيه بمناسبة خاصّة.

٣ ـ هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل.

٤ ـ الحكيم : ذوالحكمة والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم وبه فسّر العلاّمة الطباطبائي قوله : ( وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ( يس / ٢ ) قال : وقد وصف القرآن بالحكيم لكون الحكمة مستقرّة فيه وكذلك حقايق المعارف وما يتفرّع

١٧٥

عليها من الشرائع والعبر والمواعظ (١).

٥ ـ الحكيم بمعنى العالم. ذهب إليه الجوهري ، قال الحكم والحكمة من العلم ، والحكيم : العالم ، والحكم : العلم والفقه. قال الله تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) أي علما وفقهاً ، وفي الحديث : إنّ من الشعر لحكمة أي أنّ في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه وينهى عنه (٢).

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ تفسير الحكيم بالعليم فإنّما هو في ما إذا كان مجرّداً عن العليم مع أنّه استعمل في الذكر الحكيم منضمّاً إليه. قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ).

وقال الصدوق : معناه انّه عالم والحكمة في اللغة العلم ، ومنه قوله عزّ وجلّ ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ومعنى ثان أنّه محكم وأفعاله محكمة متقنة من الفساد ، وقد حكمته وأحكمته لغتان ، وحكمة اللجام سمّيت بذلك لأنّها تمنعه من الجهل الشديد وهي ما أحاطت بحنكِه (٣).

والظاهر أنّ الحكيم أخذ من الحكم بمعنى المنع فلو اُطلق على العلم فلأنّه يمنع الجهل ، ولكنّه إذا وصفت به الأفعال يكون المراد منه كونها محكمة متقنة مصونة محفوظة عن الفساد وبما أنّه وقع في كثير من الايات تعليلاً للحكم يستظهر أنّ المراد هو المتقن فعله ، مثلاً إنّ الملائكة تعتذر عن عدم علمهم بالأسماء بقولهم : ( لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ). ثمّ تعلّل قصورها عن علمها بها بقوله : ( إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) أي ما قمت به من تعليم آدم وعدم تعليمنا فهو ناشئ عن علمك بالواقع أو فعلك المتقن ، ومثله قوله سبحانه الذي حكم فيه بقطع يد السارق وأتمّ كلامه بقوله ( وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) وهذا الحكم صدر عن الله الغالب المتقن

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن : ج ١٧ ص ٦٢.

(٢) لسان العرب : ج ١٢ ، مادة « حكم » ص ١٤٠.

(٣) التوحيد للصدوق : ص ٢٠١.

١٧٦

حكمه وفعله وقس على ذلك سائر الايات ، وإلى ذلك يرجع تفسير الحكيم بذي الحكمة ، فهو سبحانه حكيم في تشريعه ، حكيم في تكوينه ، متقن في كل ما يشرع ويكون ، المراد من الاتقان اتقان التدبير وحسن التقدير الذي يدلّ عليه قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) ( الفرقان / ٢ ).

ومنه يعلم أنّ تفسيره بالمنزّه عن فعل ما لا ينبغي من فروع هذا المعنى ، فإنّ التحرّز من العبث من فروع الاتقان ، قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ) ( ص / ٢٧ ).

والحاصل انّ الحكم بمعنى المنع ، والحكيم يراد به المتقن بصلة بين الاتقان والمنع ، فمن أتقن فعله تشريعاً وتكويناً فقد منع من طروء الزوال والفساد ، ومن تحرّز عن العبث في فعله فقد صان فعله عن الفساد والزوال.

وعلى ضوء ذلك يستفاد من الحكيم أمران : أحدهما كون الفعل في غاية الإحكام والإتقان.

ثانيهما : كون الفاعل لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب.

والثاني من لوازم الأوّل.

وعلى ذلك فهو من صفات الذات بوجه ومن صفات الفعل بوجه آخر فبما أنّ القيام باتقان الفعل والتجنّب عن العبث سيتوقّف على العلم الوسيع فهو من صفات الذات ، وبما أنّ الفعل يوصف بالحكمة والاتقان وبالحقّ والتنزّه عن الباطل فهو من صفات فعله ، وإليك البحث في كلا المقامين على وجه الاجمال.

الحكيم : المتقن فعله

أمّا اتقان الفعل فيكفي في ذلك معطيات العلوم الطبيعيّة فقد كشفت عن الإتقان الهائل في الفلكيّات والطبيعيّات ويكفي في ذلك ملاحظة كل عضو من أعضاء الانسان فقد حفّ بقوانين وسنن تُدهش النفوس وتبهر العقول.

١٧٧

قال سبحانه :

( وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / ٨٨ ) وقال الإمام علي عليه‌السلام : « قدّر ما خلق فَأحكم تقديره » (١).

وقال عليه‌السلام : « مبتدأ الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه ، بلا إقتذاء وتعليم ولا احتذاء لمثال صانع حكيم » (٢).

ثم إنّ بعض المغرورين أثاروا شكوكاً حول حكمته تعالى وسألوا عن فوائد الاُمور التالية :

١ ـ الزائدة الدوديّة.

٢ ـ اللوزتان.

٣ ـ ثدي الرجل

٤ ـ صيون الاذن

٥ ـ الفضاء الوسيع

ولكن الاعتراض بهذه الأعضاء نتيجة الجهل المطبق وذلك لضآلة علوم الانسان وقلّة اطّلاعه على سنن الكون ورموزه فوضع عدم العلم بالفائدة مكان عدمها مع أنّ العلم كشف عن فوائدها وقد أوضحنا حالها في أبحاثنا الكلامية (٣).

الحكيم : المنزّه عن فعل ما لاينبغي

هذا هو المعنى الثاني للحكمة غير المعنى الذي سبق توضيحه وإن كان من

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٩١.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٩١.

(٣) لاحظ : الله خالق الكون ص ٣٧٠ ـ ٣٧٨.

١٧٨

لوازمه عند الدقّة ، وأساس ذلك هو توصيف الأفعال بالحسن والقبح الذاتيّين ، وتمكّن العقل من دركهما وعلى ضوئه توصيفه سبحانه بالحكيم أي من لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وقد اختلفت كلمة المتكلّمين في حسن الأفعال وقبحها هل هما عقليان وإنّ للعقل درك حسن الفعل بذاته وقبحه كذلك أو لا ؟ فالعدليّة على الأوّل ، وأهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة على الثاني حيث ذهبوا إلى أنّه لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، فلا حسن ولا قبح لها قبل الشرع ، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن ، وكل ما نهى عنه فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضية فنهى عمّا أمر وأمر بما نهى تنقلب القضيّة من حيث الحسن والقبح. هذا والخوض في هذه المسأله بمبادئها ومقدماتها يحوجنا إلى القيام بتأليف كتاب مفرد ولأجل ذلك نأتي هنا بملخّص القول الذي فصّلناه في منشوراتنا الكلامية (١).

١ ـ ما هو المراد من الحسن والقبح العقليين

أ ـ المراد من الحسن والقبح العقليّين الذاتيّين ، ثبوتهما للأفعال بما هي من غير حاجة إلى ضمّ حيثيّة تعليلية أو تقيّدية بل وزان الحسن والقبح في الأفعال وزان الزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فكما أنّه لا يحتاج الزوجية في ثبوتها له إلى شيء وراء فرض كون الشيء أربعة فهكذا الحسن والقبح لا يفتقر توصيف الأفعال بأحدهما سوى فرض وجودها. هذا هو الذي ذهب اليه المحقّقون وهو المختار عندنا وعلى هذا فالحسن حسن على كل حال ، والقبيح قبيح على كل حال غير أنّ الانسان ربّما يضطر إلى ارتكاب القبيح لترك الأقبح فيكون الفعل موصوفاً بالقبح لكن رخّص لأجل دفع المحذور الأهم ، وفي مقابل هذا القول أقوال اُخر نسبت إلى العدليّة نشير إلى رؤوسها.

ب ـ إنّهما ثابتان لذوات الأفعال لكن لا على وجه العليّة التامّة بل على وجه الاقتضاء فمن الممكن أن تعارض ذلك الاقتضاء جهة خارجية تمنعها عن مقتضاها و

__________________

(١) لاحظ : بحوث في الملل والنحل ج ٢ ، ص ٢٧٦ ـ ٢٩٥ ، والالهيات ج ١ ، ص ٢٤٩ ـ ٢٥٤.

١٧٩

القائلون بهذا القول يتمسّكون بالصدق والكذب ، فيتبدّل حسن الصدق إلى القبح إذا كان ضارّاً ، وقبح الكذب إلى الحسن إذا كان نافعاً.

ج ـ إنّ الأفعال انّما تتّصف بالحسن والقبح إذا قيست إلى الجهات الخارجية فالعدل بما أنّه سبب لبقاء النظام ، والظلم بما أنّه هادم له يوصفان بالحسن والقبح فليست الأفعال في حدّ ذاتها حسنة ولا قبيحة وإنّما توصف بهما بالنظر إلى الجهات الخارجية ، وإلى ذلك القول يرجع كل من قال بأنّ حسن العدل وقبح الظلم من القضايا المشهورة التي اتّفق العقلاء على حسن الأوّل وقبح الثاني.

د ـ التفصيل بين الحسن والقبح فالأوّل يكفي فيه نفس الذات دون الثاني ، ونسب هذا القول إلى أبي الحسين البصري وكأنّه يريد أن الحسن يستند إلى نفس الذات والقبح يرجع إلى أمر خارج عنها.

ه‍ ـ إنّهما يتبعان للفعل بالوجوه والاعتبارات ، فليس شيء منها مستنداً إلى نفس الذات ولا يعد من الصفات اللازمة للأفعال وذلك كضرب اليتيم فإنّه حسن لو كان بنيّة التأديب ، وقبيح لو كان بنيّة الايذاء.

ولك أن ترجع مجموع أقوال القائلين بالحسن والقبح العقليين إلى اُصول ثلاثه :

أ : إنّ الحسن والقبح من الامور الذاتيّة ، فلو قلنا بأنّ نفس الفعل علّة تامّة فهو القول المختار ، وإن قلت إنّه من قبيل المقتضي فهو القول الثاني.

ب : إنّ الحسن والقبح ليسا من الامور الذاتيّة بل من الامور الاجتماعيّة والعقلائيّة ، فكل فعل وقع في اطار مصلحة الفرد والمجتمع فهو حسن ، وما وقع في خلافه فهو قبيح ، وإلى هذا القول يرجع كل من أراد اثبات الحسن والقبح للأفعال بتعليلها بالمصالح الفردية والإجتماعية.

ج ـ إنّ الحسن والقبح يتبعان نيّة الفاعل وهدفه ، فربّ فعل يصير حسناً إذا

١٨٠