مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

المعارف التي هي إحدى المعاجز القرآنية.

ولمّا حسب القائل باستقراره سبحانه على عرشه انّ مراد القائلين باحاطة وجوده لكلّ شيء ، وكونه في كلّّ مكان وزمان ، هو الإحاطة المكانية وانّه موجود في كلّّ شيء كوجود الجسم في مكانه بدأ بالاعتراض ، وقال : عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الربّ شيء فان قالوا : أي مكان ؟ قلنا أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء (١).

والعجب انّ الشيخ الأشعري الذي تربّى في حضن الاعتزال قرابة أربعين سنة ووقف على مقالهم عن كثب بل وعلى مقال كلّّ من يقول باحاطة وجوده على كلّّ شيء ، وقيام كلّّ شيء بوجوده ، ومع ذلك أخذ يكرّر كلام إمام مذهبه الثاني قريباً عن عبارته ويتكلّم مثل من ليس له إلمام بالمعارف العقليّة ويقول : « إنّ من المعتزلة والجهميّة والحروريّة قالوا : إنّ قول الله عزّ وجلّ : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ( طه / ٥ ) انّه استولى وملك وقهر ، وإنّ الله عزّ وجلّ في كلّّ مكان ، وجحدوا أن يكون الله عزّ وجلّ على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.

ولو كان هذا كما ذكره فلا فرق بين العرش والأرض السابعة فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كلّّ ما في العالم ، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء وهو عزّ وجلّ مستوٍ على الأشياء كلّها لكان مستوياً على العرش ، وعلى الأرض ، وعلى السماء ، وعلى الحشوش ، والأقذار ، لأنّه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادراً على الأشياء كلّها ولمّا لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إنّ الله عزّ وجلّ مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش ، الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلّها ، ووجب أن يكون معناه استواء يختصّ بالعرش دون الأشياء كلّها.

__________________

(١) السنّة لابن حنبل : ص ٣٣.

١٤١

وزعمت المعتزلة والحروريّة والجهميّة أنّ الله عزّ وجلّ في كلّّ مكان فلزمهم انّه في بطن مريم وفي الحشوش والاخلية وهذا خلاف الذين تعالى الله عن قولهم « علوّا كبيرا » (١).

عزب عن امام الحنابلة ومن تبع مذهبه انّ الاستدلال متفرّع على تفسير العرش بأنّه مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة مستوٍ عليه كاستواء الملوك على عروشهم ، فعند ذلك يتوجّه إليهم السؤال بأنّه لو كان المراد من « استوى » هو الاستيلاء ـ لا الإستقرار ـ فلماذا خصّ الاستيلاء به مع أنّه مستو على الأشياء كلّّها ؟ وأمّا إذا قلنا بأنّ العرش كناية عن صفحة الوجود وعالم الكون فاستيلائه عليه كناية عن استيلائه على عالم الخلق ، فيسقط السؤال بأنّه لماذا خصّ الاستيلاء بعرشه دون غيره إذ ليس هنا شيء وراء صفحة الوجود ، واللغة العربيّة مليئة بالمجاز والكناية ، ولا يلزم في صدق الكناية وجود المعنى المكنىّ به : من سرير واستقرار المستوى عليه ، بل يطلق وإن لم تكن هناك تلك المظاهر ، قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

والذي يعرب عن ذلك أي انّ المراد استيلائه على عرش التدبير ، إنّ الذكر الحكيم لا يذكر استوائه على العرش إلاّ ويذكر فعلاً من أفعاله أو وصفاً من أوصافه ، أمّا قبله أو بعده مثل قوله :

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ( الأعراف / ٥٤ ).

وقوله : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس / ٣ ).

وقوله : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَ

__________________

(١) الإبانة للأشعري : ص ٨٦ ـ ٨٧.

١٤٢

سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( الرعد / ٢ ).

وقوله : ( تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ( طه / ٤ و ٥ ).

وقوله : ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) ( الفرقان / ٥٩ ).

وقوله : ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) ( السجدة / ٤ ).

وقوله : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ) ( الحديد / ٤ ).

إنّ قوله سبحانه ثمّ استوى على العرش يحتمل في بادئ النظر معنيين ولا يتعيّن أحدهما إلاّ بالتدبّر فيما حُفّ به من المطالب وإليك المحتملين :

١ ـ إنّه سبحانه مستقر على العرش كاستقرار الملوك على عروشهم ، غاية ما في الباب إنّ الكيفية مجهولة وهذا خيرة الحنابلة والأشاعرة.

٢ ـ إنّه سبحانه مستول على عالم الخلقة وصفحة الكون وقاهر عليه وبالتالي يدبّر العالم كلّّه بلا استعانة من أحد ومن دون أن يمسّه في هذا تعب ولا لغوب ، وهذا خيرة العدليّة كالاماميّة والمعتزلة وليس هذا تأويلاً له بل سياق جمل الاية يؤيّد ذلك ، فهو ظاهر في هذا المعنى والعدول عن الظاهر تأويل ، لا الأخذ بالظاهر. والميزان في تشخيص الظاهر ، هو الظهور التصديقي الجملي ، لا الظهور الحرفي والتصوّري.

هلمّ معي نستظهر أحد المعنيين من خلال التدبّر في الايات التي تلوناها عليك.

١٤٣

نقول : إنّه سبحانه كلّّما ذكر استوائه سبحانه على العرش ضمّ إليه إمّا بيان فعل من عظائم أفعاله أو وصفاً من أوصافه العليا وإليك بيان ذلك.

١ ـ ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( الأعراف / ٥٤ ـ يونس / ٣ ـ الفرقان / ٥٩ ـ السجدة / ٣ ـ الحديد / ٤ ).

٢ ـ ( خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ) ( طه / ٤ ).

٣ ـ ( رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ( الرعد / ٢ ).

٤ ـ ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ( الأعراف / ٥٤ )

٥ ـ ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( الرعد / ٢ ).

٦ ـ ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) ( الحديد / ٤ )

فعند ذلك فأيّ المعنيين يناسب مع ذكر هذه الامور ؟

هل استقراره على السرير وإن كانت الكيفيّة مجهولة ؟

أو استيلاؤه على العالم وصفحة الكون وكونه قاهراً على الخلق وبالتالي مدبّراً للعالم وانّ الخلق لم يضعفه عن القيام بالتدبير.

حَكِّم وجدانَك ثم اختر أحد المعنيين المناسب لما حفّ به من القرائن اللفظيّة.

لا شك انّ البحث عن عظائم الامور والأفعال يناسب الأخبار عن فعل عظيم له صلة بما جاء فيه من سائر الأفعال والأوصاف وهو استيلاؤه على العالم كلّّه ، ولذلك ربّما يرتّب عليه تدبير الامر ( يونس / ٣ ) واُخرى غشيان الليل النهار وطلبه لها حثيثاً ( الأعراف / ٥٤ ) وثالثة تسخير الشمس والقمر ( الرعد / ٢ ) ورابعة علمه الوسيع بما يلج في الارض وما يخرج منها ( الحديد / ٤ ) فالجملة ظاهرة في الاستيلاء لا ظاهرة في الاستقرار حتى يسمّى تفسيرها بالاستيلاء تأويلاً لأنّ التأويل هو العدول عن

١٤٤

ظاهر الكلام ، فإذا أيّدت القرائن كون المراد هو الاستيلاء فالتفسير بالاستقرار تأويل بلا دليل لا العكس كما هو المعروف في كتب أهل الحديث والحنابلة.

أظنّ أن ّهذا البيان يقنع القارئ في أنّ المراد هو الإستيلاء لا الإستقرار ولو فرضنا أنّه في ريب وتردّد في اختيار أحد المعنيين فنأتي بمثال يقرّب إليه المطلوب وهو :

إذا بلغ طبيب في فنّ الجراحة مقاماً عظيماً فأخذ يصف أعماله العجيبة في ذلك المجال ويقول : إنّي قمت بعمل كذا وكذا فيذكر إبداعاته واعجازاته العلميّة أفيصح أن يرتجل في اثناء هذه المذاكرة ويقول : إنّي مستقرّ على عرشي في بيتي ، ولو تكلّّم بذلك يعدّ كلامه غير منسجم ، فيقول المخاطب في نفسه : أيّ صلة بين ما قام به من الأعمال العجبية في مجال الجراحة وبين استقراره على السرير في بناء رفيع.

وهذا بخلاف ما إذا كان جميع الجمل مربوطة إلى عمله وفعله في الموضوع الذي أخذ بتفسيره وبيانه ، وبهذا المثال تقدر على تقييم المعنى الذي لم يزل يسيطر على ذهن القشريين من الحنابلة وأهل الحديث ، إذ أيّ مناسبة بين هذه الأفعال العجيبة واستقراره على العرش وجلوسه على السرير وان كانت الكيفية مجهولة ، وأمّا إذا قلنا : بأنّ المراد استيلاؤه على صحيفه الكون وانّ الخلق ما أوقعه في التعب واللغوب (١) ولم يضعفه عن القيام بأمر التدبير بشهادة استيلائه عليه ، تكون الجمل مترابطة متناسبة.

__________________

(١) اشارة الى قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) ( ق / ٣٨ ) اقرأ هذه الآية وراجع التوراة. ترى أنّه يقول في سفر التكوين : الإصحاح الثاني : وفرغ في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدّسه لأنّه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا.

١٤٥

ثمّ إنّ إمام الحنابلة لأجل إتخاذ رأي مسبق في معنى الاية ، التبس الأمر عليه في كلامه السابق من جهات ثلاث :

١ ـ لمّا رأى ظهور الايات في إحاطة وجوده سبحانه بالعالم ، عمد إلى تأويلها بالإحاطة العلميّة مع أنّ حصرها فيها خلاف ظاهرها ، لأنّها ظاهرة في الإحاطة الوجوديّة المستلزمة للإحاطة العلمية.

٢ ـ زعم أنّ العرش في الاية عند القائلين بالإحاطة الوجوديّة بمعنى السرير ، فردّ عليهم بأنّه « إذا كان مستولياً على العالم كلّّه ، فلماذا خصّ في هذه الايات استيلائه بالعرش » ولم يقف على أنّ القائلين بالإحاطة الوجوديّة يرون الاستيلاء على العرش بأجمعه كناية عن استيلائه على صفحة الوجود كاستيلاء الملوك على بلدانهم ، غير أنّهم يدبّرون البلد بالجلوس على سررهم ، والله سبحانه يدبّر العالم من دون أن يكون له سرير.

٣ ـ زعم أنّ القائلين بالاحاطة الوجوديّة يفسّرونه بالاحاطه الحلوليّة المكانيّة فأورد « بأنّ المسلمين يعرفون أمكنة ليس فيها من عِظم الربّ شيء » وغفل أنّ الاحاطة هنا إحاطة قيوميّة لا إحاطة مكانيّة ، ولأجل إيضاح الحال نبحث عن هذا النوع من الإحاطة القيوميّة.

« الإحاطة القيوميّة لا الإحاطة المكانيّة »

إنّ نسبة الوجود الإمكاني إلى الواجب جلّ اسمه كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّ المعنى الحرفي قائم بالثاني ، ومتقوّم به ، ولا يتصوّر له الانعزال عنه والاّ لصار باطلاً معدوماً فهكذا الوجود الإمكاني الصادر عنه سبحانه ، فالممكن بذاته قائم بالغير ، متدل به ، لا يتصور له البينونة عن الواجب والعزلة عنه وإلاّ بطل وجوده.

١٤٦

هذا هو المدّعى وأمّا الدليل عليه فهو انّ الامكان قد يقع وصفاً للماهيّة ، وقد يقع وصفاً للوجود فعندما يقع وصفاً للماهيّة يكون معناه مساواة نسبة الوجود والعدم إليها ، فلو وجد فمن جانب وجود علّته ، وإن اتّصف بالعدم فمن جانب عدم علّته وعندما يقع وصفاً للوجود ، فليس هو بمعنى مساواة الوجود والعدم إلى الوجود ، ضرورة إنّه إذا كان الموضوع هو الوجود ، لا معنى لمساواة الوجود والعدم إليه ، بل المراد من اتّصاف الوجود بالإمكان هو تعلّقه بعلّته وقيامه وتدلّيه بها تعلّقاً وتدلّيا وقياماً داخلاً في حقيقة وجوده بحيث لا حقيقة له إلاّ هذا.

وبعبارة اُخرى إنّ الوجود الإمكاني أمّا أن يكون مستقلاً في ذاته أو يكون متعلّقاً بالغير كذلك ، لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ الاستقلال مناط الغنى عن العلّة ومثله يمتنع أن يكون معلولاً بل ويمتنع أن يتّصف بالإمكان ، فتعيّن الثاني أي ما يكون متعلّقا بالغير بذاته ، وما هو كذلك يمتنع عليه العزلة عمّا يتعلّق به ، لانّ المفروض إنّه لا حقيقة له إلاّ التعلّق بالغير فيجب أن يكون معه ، معيّة المتدلّي بالمتدلّى به ، ومعيّة المعنى الحرفي مع المعنى الاسمي ، فالعوالم الامكانيّة بعامّة مراتبها من جبروتها إلى ملكوتها إلى ملكها حاضرة عنده سبحانه ، غير غائبة عنه ، لا كحضور المبصرات الخارجية لدى الإنسان ، بل كحضور الصور الذهنية لدى النفس المبدعة الخالقة لها ، بل أشدّ من ذلك.

ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / ١٥ ).

ومثل هذا كيف يتصوّر له العزلة والبينونة فان فرضهما فرض بطلانه.

هذا البرهان الذي أجملنا الكلام في بيانه يكشف الستر عن حقيقة المعيّة أي معيّة الممكن مع الواجب ، ويفسر الاحاطة الوجوديّة له ، وإنّه ليس المراد حلول الواجب في جوف الممكن ونفوذه في ذرّاته ، كنفوذ الماء بين ذرّات الطين ، بل المراد أنّ مقتضي قيوميّته المطلقة قيام العوالم الممكنة به وحضورها لديه ، وبما أنّ

١٤٧

التعلّق والقيام في الممكنات نفس حقيقتها وواقعها ، فلا يمكن لها الغيبة عن الله سبحانه ولا العزلة عنه ، وإن أردت تقريب هذا في ضمن مثال فنقول :

إنّ النفس فاعل إلهي وفعله مثال لفعله سبحانه ، فالنفس هي مصدر الصور الذهنيّة ومبدعها وليست الصور منعزلة عن النفس مباينة عنها ، بل لها مع الصور معيّة قيوميّة تحيط بها ، ولا تحلّ فيها ولا يربط النفس بأفعالها إلاّ بإحاطتها عليها مع أنّ لها مقاماً آخر ليس للصور فيها شأن ودخل.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر : « إنّ الله تبارك وتعالى ، لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يخل في مكان ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ، ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال » (١).

ولعلّه إليه ينظر قول ابن العربي في خصوصه :

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّداً

وإن قلت بالتشبيه كنت محدّداً

وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً

وكنت إماماً في المعارف سيّداً

فإيّاك والتشبيه إن كنت ثابتاً

وإيّاك والتنزيه إن كنت مفرداً

والمراد من التنزيه هو تصوّر العزلة والبينونة الكاملة الّتي تستلزم استقلال الممكن ، وغناء عن الواجب كما عرفت.

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ١٧٩.

١٤٨

ما هو المقصود من الأقربيّة ؟

وعلى ضوء هذا إنّ قوله سبحانه : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / ١٦ ) تقريب للمقصود بجملة ساذجة تفهمه العامّة « والوريد » هو مطلق العرْق أو عبارة عن العرق الموجود في العنق حيث انّ حياة الإنسان قائمة به فلو قطعنا النظر عن ظاهر الاية فأمر قربه سبحانه إلى الإنسان أعظم من ذلك ولكن الاية اكتفت بما تفهمه العامّة ، وأحال سبحانه المعنى الدقيق منه إلى الايات الاُخر. كيف والاية جعلت للإنسان نفساً وجعلت لها آثاراً ، قال سبحانه : ( وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( ق / ١٦ ) وجعلت سبحانه هو المتوسط بين الإنسان ونفسه ، وبين نفسه وآثارها ، مع أنّه سبحانه أقرب إلى الإنسان من كلّّ أمر مفروض حتى نفسه ، كلّّ ذلك يعرب عن أنّ الاية بصدد تفهيم قرب يقع في متناول فهم العامّة ونظيره قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ( الأنفال / ٢٤ ).

وفي روايات أئمّة أهل البيت تصريحات بالقرب القيومي والاحاطة الوجوديّة نكتفي منها بما يلي :

١ ـ روى الكليني عن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام أنّه ذكر عنده قوم يزعمون أنّه الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال : « إنّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل ، وإنّما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد » (١).

٢ ـ روى الكليني عن محمد بن عيسى قال : كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه‌السلام : « جعلني الله فداك يا سيّدي قد روي لنا أنّ الله في موضع دون موضع على العرش استوى ... » فوقّع عليه‌السلام : « واعلم أنّه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش والأشياء كلّّها له سواء علماً وقدرة وملكاً وإحاطة » (٢).

__________________

(١) الكافي ج ١ ، باب الحركة ، ص ١٢٥ الحديث ١.

(٢) المصدر نفسه : الحديث ٤ ، ص ١٢٦.

١٤٩

٣ ـ روى الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ أمير المؤمنين استنهض الناس في حرب معاوية في المرّة الثانية ، فلمّا حشر الناس قام خطيباً فقال : « سبحان الذي ليس أوّل مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، وحدّ الأشياء كلّّها عند خلقه ـ إلى أن قال ـ : لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن ، ولم يخل منها فيقال له أين ؟ لكنّه سبحانه ... » (١).

٤ ـ روى ابن عساكر « في تاريخ دمشق » :

« إنّ نافع بن الأزرق قائد الأزارقة من الخوارج قال للحسين عليه‌السلام : صف ربّك الذي تعبده ، قال الحسين عليه‌السلام : « يابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه : لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، وبعيد غير مستقصي ، يوحّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلا هو الكبير المتعال » (٢).

وما أليق بالمقام قول القائل :

لا تقل دارها بشرقيّ نجد

كلّ نجد لعامرية دار

ولها منزل على كلّ ماء

وعلى كلّ دمنة آثار

__________________

(١) المصدر نفسه : باب جوامع التوحيد ، ص ١٣٥ الحديث ١.

(٢) تاريخ دمشق : ج ٤ ، ص ٣٢٣.

١٥٠

حرف الباء

السادس عشر : البارئ

قد ورد لفظ البارئ في القرآن ثلاث مرّات ولم يستعمل في غيره.

قال سبحانه : ( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) ( الحشر / ٢٤ ).

وقال سبحانه : ( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ ) ( البقرة / ٥٤ ).

وقال سبحانه : ( فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / ٥٤ ).

قال ابن فارس : البرأ له أصلان إليهما ترجع فروع الباب ، أحدهما : الخلق يقال برأ الله الخلق يبروهم برأً. والبارئ : الله جلّ ثناؤه ، والأصل الاخر : التباعد من الشيء ومزايلته من ذلك البُرء وهو السلامة من السقم. وفي المفردات : البارئ خصّ بوصف الله نحو قوله : البارئ المصوّر ، والبريّة : الخلق.

١٥١

وقال الطبرسي هو الخالق الصانع.

قال اُميّة بن الصلت :

الخالق البارئ المصوّر في ال‍

ارحام ماءً حتى يصير دماً

والفرق بين البارئ والخالق ، أنّ البارئ هو المبدئ ، المحدث ، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال (١).

وقال ابن منظور : « البارئ هو الذي خلق الخلق لا عن مثال وقال هذه اللفظة في الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات ، وقلّما تستعمل في غير الحيوان فيقال : برء الله النسمة وخلق السماوات والأرض » (٢).

وعلى ضوء هذين النصّين يتلخّص الفرق بين البارئ والخالق في أمرين :

١ ـ البارئ هو الخالق لا عن مثال ، والخالق هو الأعم ، ولا يختصّ بالناقل من حال إلى حال كما هو الحال في فعل المسيح ، قال سبحانه ناقلاً عنه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران / ٤٩ ). بل هو أعمّ من ذلك بقرينة قوله سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( يونس / ٣ ).

٢ ـ إنّ البارئ يستعمل في الحيوان كثيراً دون الخالق ، ولأجل ذلك صحّ الجمع بين الخالق والبارئ في بعض الايات كما مرّ.

السابع عشر والثامن عشر : الباطن والظاهر

ورد لفظ « الباطن » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له ، قال سبحانه : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / ٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ١١٢ طبع صيدا.

(٢) لسان العرب ج ١ ص ٣٠.

١٥٢

وورد لفظ « الظاهر » بصوره المختلفة عشر مرّات ووقع اسماً له في مورد واحد ، كما عرفت في الاية السابقة.

قال « ابن فارس » : الظهر له أصل صحيح واحد يدلّ على قوّة وبروز ، من ذلك ظهرَ الشيء يظهر ظهوراً ، ولذلك سمّي وقت الظهر والظهيرة ، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤها ، ومنه يعلم معنى البطن وهو خلاف الظهور أعني الخفاء ، ولعلّه لذلك سمّي أعلى الحيوان ظهراً وأسفله بطناً لظهور الأوّل وخفاء الثاني.

قال الراغب : والبطن خلاف الظهر في كلّّ شيء ، ويقال للجهة السفلى بطن وللجهة العليا ظهر ، وبه شبّه بطن الامر وبطن البوادي ، يقال لكلّ غامض بطن ، ولكلّ ظاهر ظهر ، ومنه بطنان القِدر وظهرانها.

وقد استعمل في الذكر الحكيم كلا اللفظين على هذا المنوال ، قال تعالى : ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) ( الأنعام / ١٢٠ ) ، وقال تعالى : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان / ٢٠ ) ، ومن هذا الباب قولهم لدخلاء الرجل الذين يبطنون أمره : هم بطانته ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ) ( آل عمران / ١١٨ ).

وعلى هذا فالمراد من توصيفه بالظاهر والباطن هو ظهوره وخفائه وأنّه سبحانه جامع بين الوصفين الضدّين.

ولأرباب الإشارات في تفسير هذين الاسمين وجوه أنهاها الرازي إلى أربعة وعشرين وجها (١) وسنذكر الأقلّ منها :

١ ـ الظاهر بآياته التي أظهرها من شواهد قدرته وآثار حكمته وبيّنات حجّته الذي عجز الخلق جميعاً عن إبداع أصغرها ، وانشاء أيسرها وأحقرها عندهم ،

__________________

(١) لاحظ لوامع البينات : ص ٣٢٣.

١٥٣

والباطن كنهه ، والخفي حقيقته ، فلا تكتنهه الأوهام ولا تدركه الأبصار ، فهو باطن كلّّ باطن ومحتجب كلّّ محتجب.

٢ ـ العالم بما ظهر والعالم بما بطن.

٣ ـ الظاهر : الغالب العالي على كلّّ شيء ، فكلّّ شيء دونه ، والباطن : العالم بكلّّ شيء فلا أحد أعلم منه.

٤ ـ إنّ اتّصافه بهذين الوصفين من شؤون احاطته بكلّّ شيء فإنّه تعالى لمّا كان قديراً على كلّّ شيء مفروض ، كان محيطاً بقدرته على كلّّ شيء من كلّّ جهة فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله ، وكلّ شيء فرض ظاهراً فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به ، فهو الظاهر دون المفروض ظاهراً وكلّ شيء فرض أنّه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطناً (١).

التاسع عشر : البديع

قد ورد لفظ « البديع » في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له في آيتين قال سبحانه :

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقره / ١١٧ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الانعام / ١٠١ ).

قال ابن فارس : « الإبداع إبتداء الشيء وصنعه لا عن مثال كقولهم أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدعته لا عن سابق مثال.

__________________

(١) الميزان ج ١٩ ص ١٦٥ ولاحظ توحيد الصدوق : ص ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، ومجمع البيان ج ٥ ، ص ٢٣٠ ، ومفاتيح الغيب للرازي ج ٨ ، ص ٨٥.

١٥٤

قال الراغب : « الإبداع إنشاءُ صنعة بلا احتذاء واقتداء ، ومنه قيل رَكِيّة بديعة أي جديدة الحضر وإذا استعمل في الله تعالى فهو بمعنى إيجاد الشيء من غير آلة ولا مادّة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلاّ لله ».

ويؤيّد ذلك قوله سبحانه ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) ( الاحقاف / ٩ ) : أي مبدعاً لم يتقدّمني رسول ، أو مبدعاً في ما أقوله ومنه اشتق البدعة للمذهب وهو إيراد قول لم يستَنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة ومثله قوله سبحانه : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) ( الحديد / ٢٧ ) (١).

ومنه يظهر أنّ قوله سبحانه « بديع السموات » برهان عقلي على أنّه ليس له ولد ولا صاحبة ، فإنّ مبدع السموات والأرض ومنشئهما هو من أوجدهما لا من شيء ولا على مثال سبق ، وهو لا يجتمع مع اتّخاذ الولد لأنّه فرع اتّخاذ الزوجة أوّلا ، وفرع اللقاح ثانياً ، وفرع الولادة ثالثاً ، والكلّّ ينافي كونه سبحانه بديعاً في فعله ، منشئاً في الإيجاد بلا مادّة ولا مثال سبق.

قال الرازي : « البديع عبارة عن من يوجد الشيء بلا آلة ولا مادّة ولا زمان ولا يخلوا اتّخاذ الولد من واحد منها ، وعلى ذلك فالبديع من صفات الفعل لا من صفات الذات. نعم لو فسّر بأنّه الذي لا مثل له ولا شبيه ، كما يقال هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل كان من صفات الذات ، وهو تعالى أولى الموجودات بهذا الاسم والوصف لأنّه يمتنع أن يكون له مثل أزلاً وأبداً » (٢).

العشرون : البر

قد ورد لفظ « البرّ » ١٥ مرّة في القرآن وقد وقع وصفاً له في آية واحدة. قال

__________________

(١) المفردات : ص ٤٥.

(٢) لوامع البينات : ص ٣٥٠.

١٥٥

سبحانه : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / ٢٨ ).

قد ذكر ابن فارس « للبَر » مثلثاً اُصولاً أربعة : الصدق ، وحكاية صوت ، وخلاف البحر ، ونبت.

أمّا الصدق مثل قوله : صدق فلان وبرّ ، وبرّت يمينه أي صدقت ، وأبّرها أمضاها على الصدق.

وأمّا حكاية الصوت فالعرب تقول : لا يعرف هِراً من برّ ، فالهر دعاء الغنم ، والبرّ الصوت بها إذا سقيت.

وأمّا خلاف البحر مثل قوله سبحانه : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) ( الروم / ٤١ ).

وأمّا النبت فمنه البُرّ وهِيَ الحِنْطَةُ ، الواحدة : بُرّة.

ثمَّ إنّه رتّب على المعنى الأوّل قولهم : يبرّ ذا قرابته ، وقال : وأصله الصدق يقال : رجل برّ وبارّ وبررت والديّ.

وعلى هذا فالبرّ هو الصادق واُطلق على المحسن لأنّه صادق في حبّه ، وقد وصف به سبحانه في القرآن كما وصف به يحيى والمسيح قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) ( مريم / ١٣ و ١٤ ) وحكى عن المسيح وقال : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ( مريم / ٣١ و ٣٢ ).

هذا ما يستفاد من كلام الخبير ابن فارس غير أنّ الراغب في مفرداته جعل الأصل هو خلاف البحر فاشتقّ منه سائر المعاني فقال : البرّ خلاف البحر وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسع في فعل الخير (١) وينسب ذلك إلى الله تعالى

__________________

(١) ولعلّه لأجل انّ البَرّ مركز الخير عند العرب ، والبحر محل الشرّ.

١٥٦

نحو ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / ٢٨ ) وإلى العبد تارة فيقال : برّ العبد ربّه ، أي توسّع في طاعته ، فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة إلى آخر ما ذكره.

وعلى ذلك فيحتمل أن يكون المراد ، الصادق في ما وعده ، والرحيم بعباده ، واختارها الصدوق ونقله الطبرسي وجهاً ، كما يحتمل أن يكون المراد المحسن ، وإليه يرجع ما يقال أي اللطيف وأصله اللطف مع عظم الشأن (١).

الواحد والعشرون والثاني والعشرون : « البصير والسميع » (٢)

قد ورد لفظ « البصير » في القرآن ٥١ مرّة ووقع اسماً له سبحانه في ٤٣آية كما أنّ « السميع » ورد في الذكر الحكيم ٤٧ مرّة ، ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد إلاّ آية واحدة أعني ما ورد في وصف خلق الإنسان. قال سبحانه : ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( الإنسان / ٢ ). ولنرجع إلى تحقيق المعنى الأصيل للفظ « البصير » والظاهر من ابن فارس أنّ له أصلا واحداً وهو وضوح الشيء ثم اشتقّ منه سائر المعاني ومنها إطلاق اسم « البصر » على العين (٣).

ولكن الظاهر من « الراغب » إنّ المعنى الجذري له هو الجارحة الناظرة ومنه اشتقّ سائر المعاني.

قال : « البصر » يقال للجارحة الناظرة نحو قوله تعالى : ( كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) ( النحل / ٧٧ ) و ( القمر / ٥٠ ) و ( إِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) ( الأحزاب / ١٠ ) ويقال للقوّة التي فيها ، ويقال لقوّة القلب المدركة « بصيرة » و « بصر » نحو قوله تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق / ٢٢ ) وقال : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ٢١٥ ، مجمع البيان ج ٥ ، ص ١١٦.

(٢) لوجود الصلة بين هذين الاسمين ، بحثنا عنهما في حرف الباء.

(٣) مقاييس اللغة ج ١ ، ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

١٥٧

مَا طَغَىٰ ) ( النجم / ١٧ ) ، وجمع « البصر » : « أبصار » وجمع « البصيرة » : « بصائر » (١).

وعلى كلّّ تقدير إنّ البصر والسمع من أعظم أدوات المعرفة وأنفعها وأكثر ما يرتبط به الإنسان مع الخارج بهذين الحسّين ، فهما من أشرف الحواسّ الظاهرة ولعلّه ـ لأجل ذلك ـ اُطلق عليه سبحانه « السميع البصير » دون غيرهما من أسماء الحواسّ ، فلا يطلق عليه « الشامّ » و « الذائق » و « اللامس » وإن فسّرت بما يفسّر به « السميع » و « البصير » بمعنى حضور المبصرات والمسموعات ، وهذا يعرب عن كرامة هذين الحسّين وأعظمها نفعاً وأوسعها في ايجاد الصلة للإنسان بالخارج. ونقدّم الكلام في « البصير » على « السميع » حفظاً للترتيب الأبجدي.

والتتبّع في الايات يعطي أنّ البصير قد يطلق ويراد منه حضور المبصرات عنده كما سيأتي بيانه وذلك عند ما استعمل مع « السميع » ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء / ٥٨ ) وقس عليه ما جاء بهذا المنوال وقد يراد منه العلم بالجزئيات والاشراف عليها عن كثب وأنه لا يعزب عنه شيء من الأشياء وذلك عند ما يستعمل متعدّياً بالباء.

قال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء / ٣٠ ) وقال سبحانه : ( وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء / ١٧ ) وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / ٢٤ ) وقال سبحانه : ( مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ) ( الملك / ١٩ ).

والمتعلّق في هذه الايات يختلف سعة وضيقاً فقد تعلّق ب‍ « كلّ شيء » مّرة ، وب‍ « العباد » ثانيا ، وب‍ « أعمالهم » ثالثة ، وب‍ « ذنوبهم » رابعة ، فعندئذٍ لا يصحّ تفسير البصير فيها بحضور المبصرات فإنّ كثيراً من الذنوب وكثيراً من الأشياء ليس أمراً مبصراً مرئيّا بالعيون ، ومع ذلك هو بصير بكلّ شيء ، فالبصير هناك يرادف العلم

__________________

(١) المفردات للراغب : ص ٤٩.

١٥٨

بالجزئيّات بدقّة وامعان ولعلّ « الخبير » تأكيد لمعناه أو هو تأكيد له ، والايات بصدد بيان أنّ علمه سبحانه بما يجري في الكون ليس علماً اجماليّاً بل هو علم تفصيلي يشمل كلّّ ما جلّ ودق ، وكلّّ شيء خَفِي أو ظهر ، وبذلك يبطل قول من ينكر علمه سبحانه بالجزئيات بحجّة أنّها في مظان التغيّر والتبدّل ، فيوجب الحدوث والتبدّل في ذات البارئ ذاهلاً عن أنّ التغيّر في المعلوم لا في جانب العلم ، ولعلّنا نرجع إلى نقد هذه الشبهة عند البحث عن اسم « العالم ».

ولأجل اشتمال هذه الكلمة على الدقّة والامعان يقول سبحانه : ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ) ( القيامة / ١٤ و ١٥ ). ويقول سبحانه حاكياً عن السامري : ( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... ) ( طه / ٩٦ ).

هذا كلّّه حول البصير وأمّا « السميع » فقد استعمل في معنيين : أحدهما سماع المسموعات الذي يرجع معناه فيه سبحانه إلى حضورها لديه ، وعدم غيبتها عن ذاته ، وهذا المعنى هو الأكثر ، وآخر بمعنى « المجيب » مثل قوله : ( سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ( آل عمران / ٣٨ ) و ( إبراهيم / ٣٩ ) والحقّ أن يقال : إنّ السميع في هاتين الايتين كالسميع في غيرهما ، وإنّه استعمل في معنى واحد وهو سماع الدعاء غير أنّ السماع إذا لم يكن مقترناً بالاجابة لا يكون نافعاً للعبد ، فلأجل ذلك فسّر بمجيب الدعاء لا أنّه استعمل اللفظ في المجيب بل الاجابة من لوازم المقصود ، ومثله مايقال : اسمع ما أقول ، أو يقال : لِمَ لا تسمع ما قلت.

وقال سبحانه : ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) ( البقرة / ٢٨٥ ). و « الراغب » فسّر بعض الايات وقول القائل : « اسمع ما أقول » بالطاعة ، والحقّ أنّ السماع استعمل في نفس المعنى اللغوي ولكن لمّا كانت الغاية من السماع هو الفهم ثم العمل دلّ الكلام عليه بما أنّه من لوازم المعنى اللغوي في المقام.

١٥٩

تفسير كونه « سميعاً بصيراً »

إنّ السماع في الإنسان يتحقّق بأجهزة وأدوات طبيعيّة ، ويتحقّق السماع في الإنسان بوصول الأمواج الصوتية إلى الصماخ ومنها إلى المخ ثمّ إلى النفس.

كما أنّ حقيقة الإبصار في الإنسان تتحقّق بأجهزة وآلات طبيعية حيث تنقل الأضواء الحاملة لصورة الشيء المرئي إلى عدسة العين ومنها ـ بعد أعمال فيزياويّة ـ إلى النقطة الصفراء إلى أن يتحقّق الإبصار ، ولكن إطلاقهما على الله سبحانه ليس بتحقّق هذه المقدّمات فيه أيضاً وذلك لأنّ هذه الأدوات والتفاعلات من لوازم تحقّق الإبصار والسماع في الحيوان والإنسان وليست داخلة في حقيقتهما بصورة عامّة ، وبعبارة اُخرى : انّ هذه الآلات والأدوات والأعمال الفيزياوية التي اثبتها العلم إنّما هي من لوازم الابصار والسماع في الإنسان والحيوان اللذين لا يمكنهما القيام بعملية السماع والابصار إلاّ في ظلّ هذه الاُمور ، فلو تمكن موجود من الوصول إلى ما يصل إليه الإنسان من دون أداة وفعل وانفعال فهو أولى بأن يكون سميعاً وبصيراً ، لأنّ الغاية الحاصلة بعد عمل الحسّ هو حضور الأمواج والصور عند النفس فلو أمكن حضورهما لديه بلا أداة أو بلا عمل فيزياوي أو كيمياوي فهو سميع وبصير قطعاً لتحقق الغاية المتوخّاة.

وبما أنّ جميع العوالم الامكانيّة حاضرة لديه ، والله سبحانه محيط بالموجودات إحاطة قيوميّة والعالم الإمكاني قائم به من الذرّة إلى المجرّة ، فتكون المسموعات والمبصرات حاضرة لديه حضور سائر الأشياء ولأجل ذلك إنّ كثيراً من المحقّقين جعلوا كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه ولكن علمه بالجزئيات (١).

والمراد من كونه من شُعب علمه بالجزئيات حضور المسموعات والمبصرات

__________________

(١) الأسفار الأربعة ج ٦ ص ٤٢١.

١٦٠