مفاهيم القرآن - ج ٦

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: ٥٢٧

خاتمة المطاف

وممّا يقضي منه العجب أنّ جلّ من ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلفيّة ينكرون ذكر الله تعالى بالاسم المفرد ( الله ) دون ذكره في جملة ذات معنى تامّ ، وينسبون من يذكر الله باسمه المفرد وحده إلى الضلال ويستدلّون على ذلك بأنّ جميع ما ورد من صيغ الأذكار في القرآن والسنّة جمل أو كلمات ذات دلالة على معنى يتضمّن حكماً كاملاً مثل لا إله إلا الله ، استغفر الله وليس فيها لفظ الجلالة المفرد ، فذكر الله بهذا اللفظ المفرد باطل ، ويضيف ابن تيميّة بأنّ الاستمرار على ذكر الله بهذا اللفظ المفرد من شأنه أن يزجّ الذاكر شيئاً فشيئاً في أوهام الحلول ووحدة الوجود (١).

لقد عزب عنه ومضافاً إلى أنّ اطلاقات الأدلّة (٢) كاف في ذلك أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يذكر الله باسمه المفرد ويقول : ( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ( الانعام / ٩١ ).

وإمّا ما ذكره به في آخر كلامه من أنّ الاستمرار على ذكر الله عسى أن يزجّ الرجل في أوهام الحلول شيئاً فشيئاً لا قيمة له فانّه اجتهاد تجاه النص أولاً ، وهو بنفسه موجود في سائر الأسماء ثانياً.

الثاني : الأحد

قد ورد لفظ « الأحد » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم ٧٤ مرّة وقد وقع وصفاً له سبحانه في موردين فقط.

__________________

(١) مجموع الفتاوى ج ١٠ ص ٥٥٦.

(٢) مثل قوله سبحانه : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الدهر / ٢٥ ) ، وقوله سبحانه : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) ( الأعراف / ٢٠٥ ).

١٢١

قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ).

قال ابن فارس : أحد والأصل « وحد » ، وعن الزجّاج : إنّه مأخوذ من « الواحد » وقال الأزهري : أنّه يقال : وحد يوحد فهو وَحَد ، كما يقال : حسن يحسن فهو حسن ثم انقلبت الواو همزة فقالوا « أحد » ، والواو المفتوحة قد تقلب همزة كما تقلب المكسورة والمضمومة ومنها امرأة اسماء بمعنى وسماء من الوسامة.

وقد ذكروا فروقاً بين الواحد والأحد وإليك البيان :

١ ـ إنّ الواحد اسم لمفتتح العدد فيقال : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، ولا يقال أحد ، اثنان ، ثلاثة ، قال الصدوق : الأحد ممتنع من الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب ، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرهما داخل في الحساب فتقول : واحد في اثنين أو ثلاثة ، و « الأحد » ممتنع عليه هذا ، فلا يقال : أحد بين اثنين (١).

٢ ـ إنّ لفظه « أحداً » إذ وضعت في حيّز النفي تفيد عموم النفي بخلاف لفظة « الواحد » فهو منصرف إلى نفي العدد لا إلى نفي الجنس ، فلو قيل ما في الدار واحد يصحّ أن يقال بل فيها اثنان ، وامّا لو قيل ما في الدار أحد بل اثنان كان خطأ.

٣ ـ إنّ لفظ الواحد يمكن جعله وصفاً لكلّ شيء يقال رجل واحد ، ثوب واحد بخلاف الأحد فلا يصحّ وصف شيء في جانب الاثبات بالأحد إلاّ الله الأحد فلا يقال رجل أحد ولا ثوب أحد فكأنّه تعالى استأثر بهذا النعت.

وأمّا في جانب النفي فقد يذكر هذا في غير الله تعالى أيضاً فيقال : ما رأيت أحداً وعلى هذا فالأحد والواحد كالرحمان والرحيم.

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ١٩٧ بتلخيص.

١٢٢

فالأوّل مختص دون الثاني ، فكذلك الأحد فهو مختص به في مقام التوصيف دون الواحد ، وقال الراغب ( من أقسام استعمالاته ) أن يستعمل مطلقاً وصفاً وليس ذلك إلاّ في وصف الله ( قل هو الله أحد ) (١).

وقد احتمل الرازي أنّ تنكير أحد في قوله « قل هو الله أحد » لأجل أنّه صار نعتاً لله عزّ وجلّ على الخصوص فصار معرفة فاستغنى عن التعريف.

ويحتمل أن يكون التنكير لأجل التنبيه على كمال الوحدانية كقوله سبحانه : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ) ( البقرة / ٩٦ ). أي على حياة كاملة مضافاً إلى استعمال الأحد في الأدعية معرفة.

قال الأزهري سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد هل هو جمع الأحد ؟ فقال : معاذ الله ليس للأحد جمع ولا يبعد أن يقال الآحاد جمع واحد كما أنّ الاشهاد جمع شاهد (٢).

ثمّ إنّه اجتمع في قوله سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ألفاظ ثلاثة من أسماء الله وكلّّ واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى الله.

أمّا الأوّل أعني لفظة « هو » فقد جاء به من دون ذكر مرجع وقد زعم النحويّون غير البارعين في المعارف الإلهية انّه للشأن ولكن يمكن أن يقال : إنّه ليس للشأن وإنّما يرجع إليه سبحانه والتعبير به من دون ذكر المرجع يناسب البارعين الذين نظروا إلى صفحة الوجود فلم يروا موجوداً مستحقاً لاطلاق اسم الوجود أو الموجود إلاّ ايّاه فكأنّه ليس في الدار غيره ديّار فكان قوله « هو » كافياً في حق هذه الطائفة لأنّه إذ لم يكن في صفحة الوجود إلاّ هو كانت الإشارة المطلقة لا تتوجه إلاّ إليه وغيره يحتاج إلى مرجع.

__________________

(١) المفردات : ص ١٢.

(٢) لوامع البينات : ص ٣٣١.

١٢٣

ثمّ انّه سبحانه أوضحه بقوله « الله » ولعلّه لتفهيم طبقة اُخرى تليهم في المعرفة وهم الذين يرون الكثرة في الوجود وانّ هناك واجباً وممكناً فاحتاج ضمير الإشارة إلى مميز وذلك هو قوله الله ، وعلى هذا فالمجموع « هو الله » راجع إلى الطبقتين.

وأمّا الطبقة الثالثة الذين يجوّزون الكثرة لا في الوجود بل في الإله ، فردّ سبحانه وهمهم بقوله « هو الله أحد » لهدايتهم (١).

ثم انّه سبحانه كرر لفظة « أحد » في سورة الإخلاص ووصف نفسه به مرّتين وقال : قل هو الله أحد ثم قال : ولم يكن له كفواً أحد ، فهل اُريد من اللفظة في كلا الموردين معنى واحد أو اُريد معنيان ؟ وبعبارة واضحة هل اللفظتان تشيران إلى قسم واحد من التوحيد أو إلى قسمين ، فالظاهر أنّ الاية الثانية ناظرة إلى التوحيد الذاتي بمعنى انّه واحد لا مثيل له ولا نظير بل لا يتصور له التعدد والاثنينية ، وأمّا الاية الاُولى فهي ناظرة إلى التوحيد الذاتي لكن بمعنى البساطة ونفي التجزئة عن الذات.

وقد فسّره الصدوق بذلك في توحيده فقال : الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أي ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا أعضاء (٢).

قال الطبرسي : الأحد هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ولا في صفاته (٣).

ويقول الجزائري في « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

إنّ الواحد ، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر ، والأحد الفرد الذي لا يتجزّأ ولا ينقسم.

يقول العلامة الطباطبائي (ره) :

« والأحد وصف مأخود من الوحدة كالواحد غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما

__________________

(١) لوامع البينات : ص ٣١١ ، وتوحيد الصدوق : ص ١٩٦.

(٢) توحيد الصدوق : ص ١٩٦.

(٣) مجمع البيان : ج ٥ ص ٥٦٤.

١٢٤

لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً » (١).

وفي ضوء هذا يمكن أن يقال : إنّ قوله سبحانه ولم يكن له كفواً أحد بشهادة لفظ « كفوا » ناظر إلى نفي المثيل والنظير له سبحانه ، فهو واحد في الذات فلا ذات كذاته كما هو واحد في الفعل فلا خالق ولا مدبّر سواه وانّ قوله : « قل هو الله أحد » ناظر إلى نفي أي نوع من التركيب والتجزئة في ذاته سبحانه ، وبذلك يعلم أنّ هذه السورة نزلت ردّاً لمزعمة النصارى بل اليهود أيضاً فالنصارى بحجّة أنّهم قالوا بالتثليث واليهود بحجة أنّهم يقولون : إنّ العزير ابن الله محجوجون بما ورد في هذه السورة فالله سبحانه واحد لا مثيل له ، بسيط لا جزء له. فلو كان مرجع التثليث عند المسيحية إلى أنّ كلّّ واحد من « الأب » و « الابن » و « روح القدس » إله مستقل متفرّد في الالوهية فله كفو بل كفوان مع أنّه سبحانه « لم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثيل ولا نظير فلا يتكرر ولا يتعدد ، وإن لم يكن كلّّ واحدٍ إلهاً مستقلاً بل كلّّ واحد يشكّل جزء من الالوهية فالله سبحانه هو المركب من هذه الثلاثة فهو سبحانه عندهم مركّب لا بسيط متجزئ منقسم. فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ).

وقد ورد في ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ما يؤيّد هذا الاستظهار. قال الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب أعرابي سأله يوم الجمل عن تفسير قوله : « إنّ الله واحد » فقال عليه‌السلام في كلام مبسوط :

« وإمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا وقول القائل انّه عزّ وجلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا » (٢).

وبذلك تقف على أنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى التوحيد في الواحديّة و

__________________

(١) الميزان ج ٢٠ ص ٥٤٣.

(٢) توحيد الصدوق : ص ٨٣ ـ ٨٤.

١٢٥

التوحيد في الأحديّة فيفسر الأوّل بنفي المثل والثاني بنفي التركيب والتجزئة والتقسيم.

وبذلك يمكن اصطياد البرهان على كون صفاته سبحانه الثبوتيّة الكماليّة عين ذاته كما عليه الاماميّة من العدليّة وبعض المعتزلة ، لا زائد عليه كما عليه الشيخ الأشعري ومن تبعه لوضوح انّ حديث الزيادة يستلزم التركيب والتجزئة ، وهما آيتا الامكان ، والامكان ينافي الوجوب ، وإلى ذلك يشير الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه بشهادة كلّّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه أي قرن ذاته بشيء غيره ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (١).

وهذا بعض الكلام حول « الاحد » ، وسيوافيك ما يفيدك عند البحث عن اسم « الواحد ».

الثالث والرابع : الأوّل والآخِر

لقد ورد لفظ « الأوّل » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم ٦٢ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة ، قال : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / ٣ ).

قال ابن فارس : الأوّل : ابتداء الأمر والاخر نقيض المتقدّم (٢) وقال الراغب : « فالأوّل هو الذي يترتّب عليه غيره » (٣).

وقد وصف سبحانه في الآية بصفات متضادّة غير مجتمعة حيث تصفه بأنّه

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١.

(٢) المقاييس ج ١ ص ١٥٨ و ٧٠.

(٣) المفردات : ص ٣١.

١٢٦

الأوّل وفي الوقت نفسه الاخِر ، كما تصفه بأنّه الظاهر وفي الوقت نفسه بأنّه الباطن فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً ، ولو كان ظاهراً فكيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن ، ومع ذلك كلّه فالله سبحانه جمع بين هذه الصفات جمعاً حقيقياً واقعياً لا مجازياً وذلك بإحاطته على الموجودات الامكانية وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فكما لا يمكن خلو المعنى الحرفي عن الاسمي فهكذا لا يمكن خلو الوجود الإمكاني عن الوجود الواجبي ، وليس حديث نفي الخلو حديث الممازجة بل المقصود الاحاطة القيومية التي له سبحانه بالنسبة إلى العالم كلّه ، فالعالم بما فيه من الكبير إلى الصغير ومن المجرّة إلى الذرّة ، ومن المادّي إلى المجرّد ، قائم به سبحانه قيام المعلول بعلّته ، نظير قيام الصور الذهنيّة بالنفس فهو مع الأشياء كلّها ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ) فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّّ شيء فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً ، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً ، وكلّّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّّ جهة ، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليست أوليّته تعالى ولا آخريته زمانيّة ولامكانيّة بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرض وكيفما تصوّرت.

وعلى ذلك فالأوّل والآخر من فروع اسمه « المحيط » فبما أنّ وجوده محيط بكلّ شيء فهو الأوّل قبل الاشياء والاخر بعد الأشياء.

ولأجل ذلك روي عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : « ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده ». وهذا هو العرفان الكامل.

والظاهر أنّ توصيفه بالأوليّة والآخريّة مبني على إحاطة وجوده بالأشياء ويؤيّده قوله في الاية التالية ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ) وإمّا تفسير الاية باحاطة قدرته كما عن بعض المفسّرين فلا ينافي ما ذكرناه بل هو يرجع إلى ما ذكرنا لكون قدرته نفس ذاته فإحاطة قدرته لا تنفك عن إحاطة ذاته ، وعلى ذلك فمعنى الاية

١٢٧

هو أوّل الأشياء وآخرها ، وانّه لو فرض شيء فهو أوّله كما أنّه آخره بحكم المحيطيّة والمحاطيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ الوصفين تعبيران عن أزليّته وأبديّته فبما أنّه واجب الوجود وانّ وجوده نابع من صميم ذاته غير مكتسب من مقام آخر ، يكون أزليّاً فلا يكون لوجوده ابتداء كما لا يكون لوجوده انتهاء ، وبعبارة اخرى فرض كون وجوده واجباً بالذات يستلزم أن لا يتطرّق إليه العدم أبداً لا في السابق ولا في اللاحق وهو يساوق أزليّته وأبديّته وهو يستلزم أن لا يكون له ابتداء ولا انتهاء ولا أوّل وآخر ، ولو وصف بالأوليّة والآخرية يكون المراد منهما أنّه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء ، وهذا معنى آخر غير ما ذكرنا.

والفرق بين المعنيين واضح فإنّ توصيفه بهما في المعنى الأوّل ينبع من كونه محيطاً بالأشياء كما أنّ توصيفه بهما في المعنى الثاني ينبع من كونه واجب الوجود ممتنع العدم ، وهو خيرة الصدوق في توحيده حيث قال : « إنّه الأوّل بغير ابتداء والاخر بغير انتهاء » (١).

ثمّ إنّ هذه الآية قد وقعت مجالاً لأرباب الاشارات فذكروا في تفسيرها وجوهاً كثيرة تناهز ٢٤ وجهاً (٢) كلّها من قبيل التفسير الإشاري ، وقد ذكرنا في محله أنّ قسماً منه تفسير جائز وقسماً آخر تفسير ممنوع.

الخامس : « الأعلى »

وقد ورد لفظ « الأعلى » في الذكر الحكيم ٩ مرّات ووصف به سبحانه في

__________________

(١) توحيد الصدوق : ص ١٩٧ ، وذكر ابن فارس في المقاييس : « إنّ العرب تقول : أوّل ذي أول. وأول أول ويريد قبل كل شيء » ج ١ ص ١٥٨.

(٢) لوامع البينات : ص ٣٢٣ ـ ٣٢٦.

١٢٨

آيتين قال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ).

وقال سبحانه : ( وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَىٰ ) ( الليل / ١٩ ـ ٢٠ ).

وربّما وصف به مثله ( بالفتح ) سبحانه قال : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَىٰ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٦٠ ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الروم / ٢٧ ).

والأعلى في الآيتين الأوليّتين ـ كما هو الظاهر ـ وصف للرّبّ ، وفي الأخيرتين وصف للمثل ( بالفتح ) ، والمراد من « المثل » هو الوصف والتوصيف (١).

و « الأعلى » من العلو وهو الرفعة قال ابن فارس : « العلوّ : أصل واحد يدل على السموّ والإرتفاع ، لا يشذ عنه شيء ، من ذلك العلىٰ والعلوّ ، ويقولون : تعالى النهار : ارتفع ».

أقول : المراد من العلوّ ، هو العلوّ من حيث الرتبة والدرجة لأنّه المبدأ لكلّّ شيء ، والمفيض له والمحيط به ، فذاته سبحانه أرفع من كلّّ موجود محدود ، يعلو كلّّ عال ويقهر كلّّ شيء فبما أنّه عال وله العلوّ المطلق ، فله الوجود الكامل ، وهذا يلازم كونه ذا أسماء حسنى ومعه يجب تسبيح اسمه وتنزيهه عمّا لا يليق من الأسماء.

وكما انّه عليّ في ذاته ، عال من حيث الصفات والأوصاف ، ولله سبحانه

__________________

(١) قال سبحانه : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ ) ، والمراد من ضرب المثل للرسول هو توصيفه بصفات لا تليق به ، مثل توصيفه بأنّه « رجل مسحور » كما جاء في الآية المتقدمة عليها حيث قال سبحانه : ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ).

١٢٩

الصفات العليا فله العلم الذي لا يطرأ عليه الجهل ، والقدرة التي لا تعرضه عجز ، والحياة التي لا يحدّدها موت ، فهو سبحانه أعلى من أمثال السوء التي يتصف بها غيره.

فالله سبحانه أعلى ذاتاً ووجوداً ، وأعلى صفة وسمة. أمّا علوّ ذاته فلأجل كونه واجب الوجود ومبدع الممكنات وموجدها ، وأمّا علوّ صفاته فلأنّ كلّّ وصف كمالي يوصف به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء ، فله السهم الأعلى ولغيره الأدنى وذلك لعدم محدوديّة صفاته بخلاف غيره.

ثم انّه ربّما يفسّر « الأعلى » بالقاهر. قال الصدوق : وأمّا الأعلى فمعناه العليّ والقاهر ويؤيّد ذلك قوله عزّ وجلّ لموسى عليه‌السلام : ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَىٰ ) ( طه / ٦٨ ) اي القاهر وقوله عزّ وجلّ في تحريض المؤمنين على القتال : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) ( القصص / ٤ ). أي غلبهم واستولى عليهم ، وقال الشاعر في هذا المعنى :

فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركنا هم صرعى لنسر وكاسر

ثم قال ، وهناك معنى ثان وهو إنّه متعال عن الأشباه والأنداد أي متنزّه كما قال : ( وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( يونس / ١٨ ).

والظاهر تعيّن المعنى الثاني وهو الذي عبّرنا عنه بالرفعة وجوداً وصفة ثم الرفعة كما تتحقق بالصفات الكمالية على ما أوضحنا ، تتحقق بالتنزّه عن الأشباه والأنداد وهو الذي ذكره الصدوق ، وأمّا المعنى الأوّل فالظاهر أنّه لازم المعنى الثاني فانّ العلو رتبة بل ومكاناً يستلزم القهر والغلبة ، فالقهر والغلبة ، من لوازم المعنى وليست نفس المعنى.

١٣٠

السادس : « الأعلم »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « الأعلم » ٤٩ مرّة ولم يوصف به غيره سبحانه.

قال سبحانه : ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقال سبحانه : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ) إلى غير ذلك من الموارد.

وصيغة « أعلم » صيغة المفاضلة ومعناه انّه يثبّت العلم لنفسه وغيره ولكنّه يفضّل علمه على غيره غير أنّه يعدل عنه في موارد بقرائن خاصّة مثل قوله سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الانعام / ١٢٤ ) فعلّقوا إيمانهم وتصديقهم على أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل الله بأن ينزّل عليهم الملك والوحي ، فاجيبوا بقوله سبحانه ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) والمناسب لمقام الرد هو انسلاخ صيغة التفضيل من المفاضلة أي إنّه العالم دونهم بحجّة انّهم علّقوا ايمانهم على صدق النبي على أن يكونوا أنبياء مثله وهذا دليل على جهلهم المطبق ، فهم جهلاء والله سبحانه هو العالم ، ونظير ذلك قوله سبحانه نقلاً عن « لوط » في حق بناته : ( يَا قَوْمِ هَٰؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ( هود / ٧٨ ) وقوله سبحانه حاكياً عن يوسف ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ( يوسف / ٣٣ ) والمناسب لمقام العصمة كون السجن محبوباً إليه دون غيره أعني الفحشاء ، والحبّ بمعنى كونه موافقاً للغريزة الجنسية خارج عن مجال البحث قال سبحانه : ( قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) ( الفرقان / ١٥ ) والمراد انّها خير دون الجحيم بل هي شر ، وعلى ذلك فالأصل في الصيغة هو الحمل على المفاضلة إلاّ إذا دلّ الدليل على خلافه ، نعم أدب العرفان والعبوديّة يقتضي توصيفه سبحانه فقط بالعلم.

١٣١

السابع : « الأكرم »

وقد وردت هذه اللفظة في الذكر الحكيم مرتين الاُولى قوله سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / ١٣ ) والثانية قوله سبحانه : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) ( العلق / ٣ ).

قال الراغب في مفرداته : « الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله : ( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٤٠ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه.

وعلى ذلك فمعنى قوله ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) اي الأكثر كرماً الذي يفوق عطاؤه ما سواه ، فهو يعطي لا عن استحقاق وما من نعمة إلا وتنتهي إليه سبحانه.

قال الطبرسي : أي الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم لأنّه يعطي من الكرم ما لا يقدر على مثله غيره ، فكلّ نعمة توجد فمن جهته تعالى أمّا بأن اخترعها وأمّا بأن سبّبها وسهّل الطريق إليها.

هذا ويمكن أن يقال :

إنّه من الكرم بمعنى الشرف سواء كان في الشيء نفسه أو في خُلق من الأخلاق. يقال : رجل كريم وفرس كريم ، وأمّا السخاء والعطاء والصفح عن ذنب المذنب فهو من آثاره ، قال في المقاييس نقلاً عن ابن قتيبة : الكريم : الصفوح والله تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين (١) وعلى ذلك فمعنى قوله ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) هو الأكمل في الشرف ذاتاً وفعلاً.

__________________

(١) معجم مقاييس اللغة ج ٥ ص ١٧١ ـ ١٧٢.

١٣٢

الثامن : « أرحم الراحمين »

وقد جاء « أرحم الراحمين » في الذكر الحكيم أربع مرّات وصفاً له سبحانه. قال سبحانه : ( وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الاعراف / ١٥١ ). وقال سبحانه : ( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٦٤ ) ، وقال سبحانه : ( قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٩٢ ). وقال سبحانه : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الأنبياء / ٨٣ ).

وجاء فيه « خير الراحمين » وصفاً له سبحانه مرّتين. قال : ( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١٠٩ ). وقال : ( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١١٨ ).

قال ابن فارس : « الرحم أصل واحد يدل على الرقّة والعطف والرأفة يقال من ذلك : رحمه يرحمه إذا رقّ له وتعطّف عليه ، والرحم ، والمرحمة والرحمة بمعنى ، والرحم علاقة القرابة ثم سمّيت رحم الأنثى رحماً من هذا لأنّ منها ما يكون ما يرحم ويرقّ له من ولد ».

قال الراغب : « والرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل في الرقة المجرّدة وتارة في الاحسان المجرّد عن الرقّة نحو « رحم الله فلانا » وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلاّ الإحسان المجرّد دون الرقّة ، وعلى هذا روي : « إنّ الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميّين رقّة وتعطّف ... ».

وظاهر هذا أنّ الرقّة والتعطّف داخل في معنى الرحمة غير أنّ البرهان العقلي يجرّنا عند توصيفه سبحانه به إلى تجريده عن الرقّة لاستلزامها الإنفعال وهو محال على الله سبحانه.

قال العلاّمة الطباطبائي : « الرحمن الرحيم من الرحمة وهي وصف انفعالي و

١٣٣

تأثر يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره ، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته إلاّ أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة » (١).

التاسع : « أحكم الحاكمين »

وقد ورد « احكم الحاكمين » في القرآن وصفاً لله سبحانه مرّتين.

قال : ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) ( هود / ٤٥ ).

وقال سبحانه : ( أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين / ٨ ).

والحكم في اللغة بمعنى المنع لإصلاح ، وسمّيت اللجام حَكَمة الدابّة لأنّها تمنعها ومنه قول الشاعر :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم ان اغضبا

ثمّ استعير في الحكم الفاصل والقضاء الباتّ بأنه كذا وكذا أو ليس بكذا وكذا لأنّه يمنع الخصمين عن التعدّي ، وسمّيت الحكمة حكمة لأنّها تمنع الرجل من فعل ما لا ينبغي.

قال سبحانه : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء / ٥٨ ) وقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة / ٩٥ ) فكما وصفه القرآن بأنّه « أحكم الحاكمين » كذلك خصّ له الحكم وقال : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / ٦٢ ) وقال : ( وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( القصص / ٧٠ ) وقال : ( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) ( الزمر / ٤٦ ) إلى غير ذلك من الايات. بقي الكلام في المراد من قوله « أحكم الحاكمين ».

__________________

(١) الميزان ج ١ ص ١٦.

١٣٤

وأمّا قوله « أحكم » فهل المراد أنّه سبحانه أقضى القاضين ؟ كما نقله الطبرسي وجهاً ، فقال : فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب.

الظاهر أنّ صيغة التفضيل في المقام بعد تسليم كونه بمعنى القضاء متضمّنة لمعنى الاحكام والاتقان خصوصاً في الاية الاُولى حيث أنّها وردت بعد قول نوح : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) فلا يناسب تفسيره بأنّك أقضى القاضين إلاّ بتضمين « أحكم » معنى الإتقان ومعناه إنّك فوق كلّّ حاكم في إتقان الحكم وحقّيّته ونفوذه من غير اضطراب ووهن فما جرى على ابني من الغرق في الماء عين حكمك الحكيم وقضاؤك الرصين.

العاشر : « أحسن الخالقين »

وقد ورد « أحسن الخالقين » وصفاً لله سبحانه في الذكر الحكيم مرتين. قال سبحانه : ( ... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / ١٤ ). وقال سبحانه ناقلاً عن إلياس : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ * اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ) ( الصّافات / ١٢٥ ـ ١٢٦ ) فهو سبحانه يصف نفسه في هاتين الايتين بأنّه « أحسن الخالقين » كما أنّه يصف فعله حسناً على الاطلاق في الايات الاُخر قال :

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ( السجدة / ٧ ).

وقال : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / ٦٤ ).

أمّا الخلق لغة فقد فسّر بمعنى تقدير الشيء ، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته. قال زهير :

ولانت تفري ما خلقت و

بعض القوم يخلق ما يفري

١٣٥

ومن ذلك الخُلق : وهي السجيّة لأنّ صاحبه قد قدر عليه ، والخلاق : النصيب لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.

ويؤيّد كونه متضمّناً معنى الإيجاد قوله سبحانه : ( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / ٨٨ ) فانّ الصنع في الاية مكان الخلق وليس الصنع صرف التقدير بل العمل عن تقدير. قال سبحانه : ( أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) ( المؤمنون / ٢٧ ).

قال الراغب : ثم إنّ الخلق تارة يستعمل في إبداع الشيء من غير مادّة ولا احتذاء قال سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ( الأنعام / ١ ) أي أبدعهما بدلالة قوله ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / ١٠١ ) وأخرى في ايجاد الشيء من الشيء نحو : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ( الأعراف / ١٨٩ ). وقال : ( خَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) ( الرحمن / ١٥ ) ثم قال : والخلق الذي هو الابداع لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / ١٧ ) وأمّا الذي يكون بالإستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / ١١٠ ) (١).

والظاهر أنّ الراغب بصدد الجمع بين مفاد الاية المثبت لكون الخلق صفة مشتركة بين الله وبين غيره ، وبين الآيات الحاصرة لها في الله سبحانه حيث يقول : ( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / ١٠٢ ) فحصر الخلق في ابداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء في الله سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى الإستحالة فأثبته للمسيح ، وبذلك ارتفع الخلاف بين الآيتين ، وإليه ذهب الطبرسي حيث قال : وفي الاية دليل على أنّ اسم الخلق قد يطلق على فعل غير الله إلاّ أنّ الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط ، فإنّ المراد من الخلق ايجاد الشيء مقدّراً

__________________

(١) المفردات للراغب : ص ١٥٧ ـ ماده خلق.

١٣٦

تقديراً لا تفاوت فيه ، وهذا إنّما يكون من الله سبحانه وتعالى دليله قوله : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ ) (١).

يلاحظ عليهما : أنّ الخلق من غير أصل يوصف به سبحانه وغيره فانّ النفوس المجرّدة تخلق الصور في صقع النفس من غير مادة ، وإنّما يرتفع الإختلاف بين القسمين من الايات بأنّه لا مانع من تخصيص الخلق بالله سبحانه وتشريك الغير معه أيضاً وذلك لأنّ الخلق بمعنى فعل الفاعل ، المستقل في فعله ، غير المعتمد في خلقه على شيء ، غير المستعين في عمله من أحد يختصّ بالله سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى فعل الفاعل ، غير المستقل في فعله ، المعتمد في وجوده وفعله على الواجب ، المستعين في كلّّ آن من الفياض المطلق ، فهو للإنسان خاصّة ، ويجمعهما لفظ الخلق وهو على وجه وصف مشترك ، وعلى وجه مختصّ بالله سبحانه.

الحادي عشر : « أسرع الحاسبين »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد. قال سبحانه : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / ٦٢ ). كما وصفه في آية بأنّه أسرع مكراً.

قال سبحانه : ( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / ٢١ ).

وسيأتي البحث عنه عند الكلام في وصفه : « سريع الحساب ». كما يأتي البحث عن الاخر في البحث عن « خير الماكرين ».

الثاني عشر والثالث عشر : « أهل التقوى وأهل المغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم هذان الاسمان في مورد واحد ووقعا اسمين له

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ ص ١٠١ ، طبع صيدا.

١٣٧

سبحانه. قال سبحانه : ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) ( المدثر / ٥٦ ).

قال الطبرسي : أي هو أهل أن تتّقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب. روي مرفوعاً عن أنس قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية وقال : قال الله سبحانه : أنا أهل أن اُتّقىٰ فلا يجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي الهاً فأنا أهل أن أغفر له (١).

والظاهر أنّ الأهل في الاية بمعنى الجدير. قال الراغب : « يقال فلان أهل لكذا أي خليق به » (٢) ومنه اشتقّ المؤهّل أي الجدير ، والمؤهّلات : القابليات.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ قوله : ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) تعليل لقوله ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتمّ إلاّ بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم (٣).

الرابع عشر : « الأبقى »

قد ورد لفظ « الأبقى » في الذكر الحكيم سبع مرّات ، وقد وصف به عذابه ورزقه وما عنده والاخرة ، وورد في آية واحدة وصفاً له سبحانه فقال : ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧٣ ).

ومضمون الآية إجابة على ما هدّد به فرعون السحرة وقال : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧١ ) والآيتان ( أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) على وتيرة واحدة والضمير في صيغة التفضيل يرجع إلى

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٣٦٢.

(٢) المفردات : ص ٣٠.

(٣) الميزان ج ٢ ص ١٨٥.

١٣٨

الله سبحانه. إنّما الكلام في تعيين المتعلّق ، فربما يقال : إنّه الثواب أي والله خير لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك ، وربما يقال : إنّ المتعلّق هو العقاب والمراد : والله خير ثواباً للمؤمنين وأبقى عقاباً للعاصين وهذا جواب لقوله : ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى ولكن الظاهر أنّ المراد أوسع من ذلك وكأنّه قيل : إنّما آثرنا غفرانه على احسانك ، لأنّه خير وأبقى أي خير من كلّّ خير وأبقى من كلّّ باق ـ لمكان الاطلاق ـ فلا يؤثر عليه شيء ، وبذلك يعرف معنى المقابلة بين كلام فرعون والسحرة فإنّه يصف نفسه في الاية الاُولى بالأبقى والسحرة تقابله بأنّه سبحانه أبقى.

الخامس عشر : « الأقرب »

وقد وردت اللفظة في القرآن ١١ مرّة ووردت توصيفاً له سبحانه مرتين قال : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / ١٦ ) وقال سبحانه : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة / ٨٥ ) وفسرت الأقربيّة بالعلم : أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد ويكون معنى الآية : نحن أعلم به. وتحقيق الكلام في مفاد الاية يتوقف على بيان معنى الأقربيّة الواردة فيها فنقول :

إنّ الأقربيّة ليست أقربيّة مكانيّة كما أنّ قربه سبحانه من العبد ليس منحصراً بالافضال عليه بل لقربة سبحانه من العبد ، وأقربيته إليه من حبل الوريد معنى آخر لا يقف عليه إلاّ المرتاض في المعارف الإلهية والخارج عن أسر التعطيل وحبال التشبيه.

انّه سبحانه يصرّح بأنّه مع عباده أينما كانوا ويقول : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ).

ويعد نفسه رابع الثلاثة وسادس الخمسة ويقول : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / ٧ )

١٣٩

كما أنّه يصف نفسه الهاً في السماوات والأرض ويقول : ( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) ( الأنعام / ٣ ) إلى غير ذلك من الايات التي تدل على إحاطة وجوده سبحانه بكلّ شيء وكونه مع كلّّ شيء.

ثمّ إنّ المسلمين في مقابل هذه الايات على طائفتين :

الاُولى : أهل الحديث والحنابلة والمتقشّفون المغترّون بالظواهر التصوّريّة البدئيّة غير المتعمّقين في الايات والأحاديث ، فهؤلاء أخذوا بظاهر قوله سبحانه : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ( طه / ٥ ) ففسّروا الإستواء بالإستقرار لا بالإستيلاء والسلطة ، فجعلوه مستقرّا على عرشه وسريره فوق السماوات وأقصى ما عند المتظاهرين بالتنزيه إضافة قولهم : بلا كيف أي لا نعلم كيفية سريره واستقراره ، قال الشيخ الأشعري : « نقول : إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول الاستقرار » (١).

وهؤلاء ـ الذين حبسوا القاهر المحيط في نقطة خاصّة من العالم ـ تحيّروا أمام هذه الايات التي دلّت على احاطة وجوده لكلّ شيء وصحيفة الكون ، فلجأوا إلى التأويل المبغوض عندهم فقالوا في تفسير الآية في سورة المجادلة : المراد انّه سبحانه هو بعلمه رابعهم ، وبعلمه سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، نعني بعلمه فيهم ، كما أوّلوا قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) بأنّ المراد هو إله من في السموات ، وإله من في الارض وهو على العرش ، وقد أحاط علمه بما دون العرش ، ولا يخلو من علم الله مكان ، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان (٢).

إنّ اتّخاذ الرأي المسبق في إحاطته سبحانه على الأشياء وتحديد وجوده بالاستقرار على السرير الموضوع على العرش ، لا ينتج سوى هذا أي التلاعب بآيات

__________________

(١) الإبانة للأشعري : ص ١٨ و ٨٥.

(٢) السنّة لابن حنبل : ص ٣٤ و ٣٦ طبع القاهره.

١٤٠