رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

المؤلف:


المترجم: أ. د. ناصر الدين سعيدوني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ تونس
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٨

١
٢

٣
٤

الفهرس

تقديم........................................................................... ٩

الرسالة الأولى.................................................................. ٢١

الوصول إلى مدينة الجزائر والتعرف على الداي................................... ٢١

تسمية البلاد الجزائرية وتحديد موقعها............................................ ٢٤

نبذة عن تاريخ مملكة الجزائر................................................... ٢٦

أصول سكان الجزائر ومكانة الأتراك المتميزة...................................... ٢٩

الحضر واليهود............................................................... ٣٢

الأسرى المسيحيون........................................................... ٣٤

مدينة الجزائر : موقعها وتحصيناتها............................................... ٣٥

منازل مدينة الجزائر وحماماتها ومساجدها......................................... ٣٧

العدالة والقضاء.............................................................. ٣٨

وضعية الدايات وتعرضهم للاغتيالات........................................... ٤٠

خزينة الجزائر................................................................ ٤٢

فدية الأسرى المسيحيين والغنائم............................................... ٤٢

تنظيم الديوان وإدارة المقاطعات................................................ ٤٤

عادات وتقاليد الجزائر وجو الحرية الذي توفره للأسرى المسيحيين................... ٤٦

صيام رمضان ومراسم عيد الأضحى............................................ ٤٨

ضواحي مدينة الجزائر......................................................... ٤٩

ملاحظات حول نباتات وحيوانات مملكة الجزائر.................................. ٥٠

٥

الرسالة الثانية.................................................................. ٥٣

الخروج مع المحلة إلى سهل متيجة والبليدة........................................ ٥٤

وضعية سكان الريف ومعاملة الحكام لهم........................................ ٥٩

عبور وادي جر والوصول إلى مليانة............................................. ٦٠

المرور بقبيلتي جندل ووامري والوصول إلى المدية................................... ٦٢

التعرف على المدينة والجهات القريبة منها........................................ ٦٤

المرور بأولاد إبراهيم وبن سالم وأولاد ثان........................................ ٦٦

النزول بوطن قشتولة والتعرف على سور الغزلان وبرج حمزة......................... ٦٧

التعرف على آثار أوزيا (سور الغزلان)........................................... ٦٩

النزول عند بني هارون والعودة إلى مدينة الجزائر................................... ٧٠

الرسالة الثالثة.................................................................. ٧٣

استعداد حكومة الجزائر لصد الهجوم الإسباني وشيوع حالة الخوف والترقب بين السكان ٧٤

انعكاس الوضع على هابنسترايت واضطراره للسفر خارج مدينة الجزائر............... ٧٦

استقبال الداي لها بنسترايت وإعطائه رسائل توصية لإتمام مهمته العلمية............. ٧٧

الاستعداد للسفر ومغادرة الجزائر إلى عنابة....................................... ٧٨

التوقف بعنابة ومغادرتها للالتقاء بمحلة باي قسنطينة.............................. ٨١

أسلوب جمع الضرائب وفرض الغرامات ومعاملة شيوخ القبائل...................... ٨٤

التعرف على بعض الآثار الرومانية بنواحي تيفاش وخميسة.......................... ٨٦

السفر إلى قسنطينة والتعرف على آثارها......................................... ٨٨

موقع قسنطينة ومناظر خانق وادي الرمال........................................ ٩٠

٦

تعرض هابنسترايت لنقمة السكان.............................................. ٩١

التوقف بحمام المسخوطين ووصف منابعه والتعرف على آثاره....................... ٩٢

قبر القديس أغسطين بعنابة................................................... ٩٤

المرور بحصن فرنسا والوصول إلى القالة ومشاهدة صيد المرجان...................... ٩٥

الانتقال إلى طبرقة ثم الوصول إلى رأس نيغرو..................................... ٩٩

زيارة معسكر باي تونس بباجة والعودة إلى رأس نيغرو والمكوث فيه لعدة أيام........ ١٠١

الوصول إلى بنزرت والانتقال منها إلى مدينة تونس.............................. ١٠٥

الرسالة الرابعة................................................................ ١٠٩

مقابلة باي تونس في مقر إقامته بباردو........................................ ١٠٩

التعرف على حنايا قرطاج.................................................... ١١١

وصف مدينة تونس وقلعة حلق الوادي........................................ ١١٣

حكومة مملكة تونس : الباي والديوان والحامية.................................. ١١٥

طبائع أهل تونس وقوتها البحرية.............................................. ١١٨

معاينة آثار قرطاج.......................................................... ١١٩

السفر إلى طرابلس بحرا والتوقف بجزيرة لا مبادوزا ووصف ديرها................... ١٢٢

الوصول إلى طرابلس والتعرف على حاكمها الباشا.............................. ١٢٦

التعرف على بعض آثار طرابلس ولبدة والعودة إلى ألمانيا......................... ١٢٧

المراجع المعتمدة في تحقيق رحلة هابنسترايت....................................... ١٢٩

ملاحق

ملحق رقم (١)

محطات رحلة هابنسترايت................................................... ١٣١

٧

ملحق رقم (٢)

قائمة بأهم الكتابات الغربية المتعلقة بولايات المغرب العثمانية..................... ١٣٣

ملحق رقم (٣)

خرائط توضح خط سير هابنسترايت.......................................... ١٣٦

ملحق رقم (٤)

صور عن الأماكن التي تعرف عليها هابنسترايت................................ ١٤٠

ملحق رقم (٥)

فهرس الأعلام والأماكن..................................................... ١٦٥

٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

رحلة ج. أو. هابنسترايت إلى

الجزائر وتونس وطرابلس (١٧٣٢)

تقديم

تشتمل الكتابات الأوربية عن أقطار المغرب العربي مذكرات الرحالة وتقارير القناصل وانطباعات المسافرين وحكايات البحارة وإفادات الجواسيس وتقاييد رجال الدين. وهي مع اختلاف أهدافها وتباين اتجاهاتها وتضارب معلوماتها في بعض الأحيان ، تعتبر مصدرا تاريخيا من الدرجة الأولى ، نظرا للمعلومات التي توفرها للباحث ولتنوع وجهات النظر التي تعبر عنها والظروف التي كتبت فيها ، فهي لا تقل أهمية عن الكتابات المحلية وحتى السجلات الرسمية ، بل تصبح في غياب الوثائق الأرشيفية وشح المصادر المحلية مصدرا أساسيا لا يمكن أن يستغني عنه أي باحث في دراسته للحياة الاجتماعية والثقافية ، إذ تعرفه على النشاط الاقتصادي والوضع السياسي للفترة الحديثة من تاريخ المغرب العربي.

لقد حظيت الكتابات الغربية حول أوضاع أقطار المغرب العربي منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر باهتمام الكتاب الأوربيين ، وكان للفرنسيين قصب السبق في ذلك ، إذ حققوا ونشروا العديد منها ، وهذا ما ساعد على توفرها في المكتبات ومكن الباحثين من الانتفاع بها ، فغدت المرجع الأساسي

٩

للعديد من المؤلفات التاريخية خاصة منها ما يتعلق بتاريخ الجزائر وتونس في العهد العثماني ، فلم يعد من الممكن لأي باحث جاد تجاوز ما كتبه ونشره في هذا الشأن كل من مارمول ، وهايدوودان ، ودابر ، وداراندا ، ولاموت ، ولافاي ، وطولو ، ودارفيو ، وبايصونال ، ودي فونتال ، وشووبوتان ، وشالر (١).

لقد شكلت تلك الكتابات الغربية منذ منتصف القرن الثامن عشر ، بحكم الهيمنة الثقافية الأوربية في مجال البحث والتأليف والنشر ، المرجع الأساسي للفترة العثمانية من تاريخ المغرب العربي ، وقد أصبح كتاب غرامون (H.de Grammont) الذي اعتمد على هذه الكتابات التاريخية منذ صدوره عام ١٨٨٧ (٢) النموذج الذي قلما تجاوزه من كتب عن تلك الفترة ؛ وقد رسم هذا الكتاب المرجعي ملامح الفترة العثمانية ببلاد المغرب العربي ، فتحددت الصورة النمطية حسب النظرة الأوربية ، وغدا الوجود العثماني في الأساس هيمنة واستعمارا وتأخرا وجمودا ، واعتبر الجهاد البحري قرصنة واعتداء ، بينما أصبح تصدي الحكام لمخططات الهيمنة الخارجية موقفا عدائيا غير مبرر ، أما الجهاز الإداري فهو مجرد آلة مسخرة لممارسة الظلم وتكريس الاستعباد ، فيما غدت العادات والتقاليد مظهرا للتأخر والانغلاق.

إن هذا التصور الأوربي لتاريخ المغرب العربي في الفترة العثمانية ينطلق من نظرة خارجية ويعبر عن موقف عدائي ، جعل الدارسين لتاريخ المغرب العربي الحديث في موقف حرج ، بل في تناقض مع شروط المنهجية سواء من حيث المواصفات الموضوعية أو المعالجة العلمية ، فهم لا يستطيعون بحكم حاجتهم إلى المضمون التاريخي لهذه الكتابات الأوربية أن

__________________

(١) أنظر القائمة الملحقة بالكتاب والمتضمنة أهم الكتابات الغربية حول المغرب العربي في العهد العثماني.

(٢) H. D. de Grammont, Histoire d\'Alger sous la domination turque) ٥١٥١ ـ ٠٣٨١ (, Paris, E. Leroux, ٧٨٨١.

١٠

يستغنوا عنها ، كما أنهم من جهة أخرى لا يمكنهم قبول توجهاتها الاستعمارية أو التسليم بأحكامها المتحيزة.

إن التغلب على هذه الإشكالية وتجاوز هذا التناقض يتطلب في نظرنا التسلح بالمنهج النقدي والأسلوب التحليلي في التعامل مع هذه الكتابات ، والتوجه في نفس الوقت إلى البحث عما ظل بعيدا عن أيدي الباحثين من الكتابات الأوربية الأكثر موضوعية وحيادا وخاصة ما كتب من طرف علماء مستكشفين لم تكن لهم خلفيات معادية للوجود العثماني ولم يتأثروا بالمخططات الاستعمارية الهادفة للسيطرة على البحر المتوسط واحتلال أقطار المغرب العربي ، كما هو الحال بالنسبة لغالبية الرحالة والعلماء الألمان والإسكندنافيين والهولنديين والروس وإلى حد ما الإنكليز والأمريكان (١) ، فقد

__________________

(١) نذكر من هذه الكتابات التي تعود إلى العهد العثماني مع تحديد تاريخ تسجيلها أو إصدارها :

١. وليم لا يثغو الأسكتلندي. (W.Lithgow)) ٤١٦١ (

٢. الدكتور توماس شو الإنكليزي. (Dr.Th.Shaw)) ٨٣٧١ (

٣. كوكوفتسوف الروسي. (M.G.Kokovotsov)) ٧٧٧١ (

٤. جيمس ل. كاثكارت. (J.L.Cathcart)) ٥٨٧١ (

٥. فون ريهبندر الألماني. (J.Ad.Von Rehbinder)) ٠٠٨١ (

٦. وليم شالر الأمريكي. (W.Shaler)) ٦٢٨١ (

٧. ليسكين البولوني. (Liskenne)) ٠٣٨١ (

٨. سيمون بفايفر الألماني. (S.Pfeiffer)) ٠٣٨١ (

لزيادة الاطلاع ، راجع قائمة بأهم الكتابات الغربية الملحقة بالكتاب وكذلك :

ـ ناصر الدين سعيدوني ، ورقات جزائرية ، دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر في العهد العثماني ، بيروت ، دار الغرب الإسلامي ، ٢٠٠٠ ، ص ص. ٢١ ـ ١٠٠.

ـ W. Marais, Un Sicle de recherches sur le pass de l\'Afrique musulmane, in Histoire et Historiens dAlge؟rie, Paris, ١٣٩١.

ـ G. Tubert ـ Delof, Bibliographie critique du Maghreb dans la litte؟rature franc؟aise) ٢٣٥١ ـ ٥٥٧١ (, Alger, S. N. E. D., ٦٧٩١.

١١

كانت كتاباتهم أقرب إلى الاتزان وأميل إلى الموضوعية بالمقارنة مع نظرائهم من الفرنسيين والأسبان والإيطاليين وخاصة منهم بعض رجال الدين (١) ، فقد عرفوا بموقفهم العدائي ونظرتهم المتحيزة فيما سجلوه عن أقطار المغرب العربي في العهد العثماني ، هذا دون أن نقلل من الأهمية العلمية لبعض المصادر الفرنسية وخاصة ما كتبه علماء مستكشفون أو عسكريون مستطلعون (٢).

وفي هذا الإطار تحتل رحلة الطبيب وعالم النبات الألماني ج. أو. هابنسترايت (J. E. Hebenstreit) مكانة خاصة ، فهي تقدم صورة لأقطار المغرب العربي (الجزائر ـ تونس ـ طرابلس) في النصف الأول من القرن الثامن

__________________

(١) نذكر من هذه الكتابات التي ألفها رجال دين ينتمون إلى إرساليات وهيئات دينية ، حسب تاريخ تأليفها أو إصدارها :

مارمول دال كارفاخال. (L.d.Marmol y Carvajal)) ٠٠٦١ (

دييغو دو هايدو. (P.Diego de Hae؟do)) ٢١٦١ (

الأب دان. (P.Dan)) ٧٣٦١ (

داراندا. (E.DAranda)) ٢٤٦١ (

الأب أو. دابر. (O.Dapper)) ٨٦٦١ (

الأب دولاموت. (١٧٠٣)(De la Motte)

كامولان. (P.F.Camelin)) ٠٢٧١ (

الأب لافاي. (J.B.Lafaye)) ٦٢٧١ (

لزيادة الاطلاع ، أنظر قائمة بأهم الكتابات الغربية الملحقة بالكتاب.

(٢) نذكر منها على سبيل المثال :

الفارس دارفيو. (Le Chevalier L.DArvieux)) ٢٠٧١ (

بايصونال. (J.A.Peyssonnel)) ٥٢٧١ (

دي فونتان. (L.R.Desfontaines)) ٤٨٧١ (

فانتور دو بارادي. (Venture de ـ Paradis)) ٩٨٧١ (

العقيد بوتان (Colonel Boutin)) ٨٠٨١ (.

لزيادة الاطلاع ، أنظر قائمة بأهم الكتابات الغربية الملحقة بالكتاب.

١٢

عشر أقرب ما تكون إلى الاعتدال والموضوعية والنظرة المتزنة بالمقارنة مع باقي الكتابات المعاصرة لها من أمثال كتابات لاكوندامين (١٧٣١) ، وج. مورغان (١٧٣١) ، وج. ب. طولو (١٧٣٢) ، بل تعتبر مع اختصارها أكثر دقة مما تضمنته رحلة الطبيب الإنكليزي الدكتور شو (١٧٣٨) (١) ؛ وهذا ما شجعنا على ترجمتها والتعليق عليها وتقديمها للقارىء لتكتمل الجوانب التي لم تركز عليها باقي الكتابات الغربية عن الفترة العثمانية من تاريخ المغرب العربي.

لقد ظلت هذه الرحلة بعيدة عن أيدي الباحثين ، فلم يحاول الكتاب الفرنسيون الرجوع إليها لصعوبة الوصول إليها ، وأهملوا نشرها وتحقيقها رغم اختصارها وغزارة معلوماتها ، ولعل ذلك يعود إلى كونها لا تقدم لهم الصورة التاريخية التي تتماشى ونظرتهم لأقطار المغرب العربي الحديث. كما أن صاحبها ظل مجهولا رغم بحوثه العلمية في مجال الطب وعلم النبات ، فلا نعرف عنه سوى معلومات متواضعة ، فهو كما جاء في النسخة الفرنسية لهذه الرحلة ، من أهالي مدينة نوشتادت أون أورلا (Neustadt / Orla) الواقعة بمقاطعة الساكس بألمانيا ، درس الطب في شبابه بجامعة يينا (Iena) ، واستقر بلايبزيغ (Leipzig) ، وتحصل على عمل بفضل توصية من عالم النبات ريفيناس (Rivinas) حيث اشتغل عند أحد التجار الأغنياء ، فأوكلت إليه مهمة العناية بالنباتات النادرة ، وهذا ما سمح له بمواصلة دراسته والحصول على

__________________

(١)La Condamine, Voyage au Levant ـ Alger en ١٣٧١, pub. par M. Emerit, in Revue africaine T. ٨٩ / ٤٥٩١, pp. ٤٥٣ ـ ١٨٣ J. ـ A. Morgan, A Complete History of Algiers, London, ١٣٧١, trad. par B. de la Primaudie, Paris, ٧٥٧١) ٢ (vols. (. ـ J. B. Tollot, Nouveau voyage fait au Levant) ١٣٧١ ـ ٢٣٧١ (, contenant les descriptions d\'Alger, Tunis de Barbarie, Paris, A. Cailleau, ٢٤٧١. ـ Dr. Th. Shaw, Voyage dans plusieurs provinces de la Barbarie) d\'Alger et de Tunis (, Oxford, ٨٣٧١, le؟re trad. en franc؟ais, La Haye, ٣٤٧١, ٢ e؟me trad. par Mac Carthy, Paris, ٠٣٨١.

١٣

مؤهل سمح له بمزاولة مهنة الطب.

وأثناء ذلك عرف هابنسترايت بسلوكه المنضبط وإخلاصه في أداء عمله ، وهذا ما ساعده على أن يحظى بثقة ملك بولونيا ومنتخب الساكس أغسطس الثاني (١٦٧٠ ـ ١٧٣٣) ، فكلفه برئاسة بعثة علمية إلى شمال إفريقيا للتعرف عن كثب على نباتات وحيوانات تلك المنطقة ، والعمل على جمع عينات منها لفائدة القصر الملكي ، فنجح إلى حد كبير في القيام بتلك المهمة ، وعرف كيف ينال ثقة حكام الجزائر وتونس وطرابلس ، وأظهر حسن التصرف في إقامة علاقات ودية مع هؤلاء الحكام ومساعديهم ، وقد كانت معارفه الطبيعية وملاحظاته الدقيقة خير عون له على القيام برحلات استطلاعية داخل الجزائر وتونس بصحبة الأفراد المرافقين له. على أن الظروف لم تساعده على التعرف أكثر على تونس وطرابلس ، بعد أن سادت روح العداء للوجود الأوربي نتيجة احتلال الإسبان لوهران والمرسى الكبير سنة ١٧٣٢ ، مما اضطره إلى تحديد تحركاته وإنهاء مهمته وإن كان يأمل في استكمالها بقطع الصحراء الكبرى والوصول إلى السنغال والتعرف على دواخل إفريقيا.

لقد سارع هابنسترايت إلى العودة إلى ألمانيا بعد أن بلغه نبأ وفاة الملك الذي أرسله في هذه المهمة العلمية ، في ٤ ماي ١٧٣٣. فحظي مجددا برعاية الملك الجديد أغسطس الثالث الذي أعجب بمواهبه وقدر فيه إخلاصه في أداء المهمة التي كلف بها وتفانيه في نقل ما جمعه من مقتنيات تتعلق بالتاريخ الطبيعي من أشياء نادرة وبعض الحيوانات والنباتات الإفريقية ، فعينه أستاذا للطب في لا يبزيغ ، وهذا ما ساعده على نشر بعض مؤلفاته العلمية ، فيما ظلت تقاييده عن مهمته بشمال إفريقيا ضمن أوراقه الخاصة ، عند ما استدعي لتقديم الإسعافات لجيش أمير سكسونيا بالجبهة إبان اندلاع حرب السبع سنوات التي تسبب فيها طموح الملك الفرنسي لويس الرابع عشر وتحديه للتحالف الأوربي المعادي له ، وأثناء هذه الحرب أصيب هابنسترايت بحمى معدية أدت إلى وفاته وهو يؤدي واجبه في جبهة القتال في الخامس من شهر ديسمبر من

١٤

عام ١٧٥٧ ، وهذا ما حال دون ظهور نتائج أبحاثه العلمية ونشر مذكراته الخاصة ومنها تقاييده عن رحلته إلى كل من الجزائر وتونس وطرابلس سنة ١٧٣٢.

لم يتعرف القراء على رحلة هابنسترايت إلا بعد وفاته بمدة تجاوزت عشرين عاما ، فقد اطلع عليها العالم الموسوعي بيرنويي (Bernouilli) ، واعتبرها ذات فائدة تاريخية كبرى للمعلومات الغنية التي تشتمل عليها والملاحظات الدقيقة التي تتضمنها ، فحرص على نشرها ضمن مجموعته المختصرة عن الرحلات (Sammlung Kleiner Reisen) التي دأب على إصدارها ببرلين ولايبزيغ ابتداء من عام ١٧٨٠ ، واختيار لهذه الرحلة عنوانا باللاتينية ينم عن اهتمامه ، فعنونها ب" قائمة أو جدول بالآثار الرومانية المكتشفة بإفريقيا الشمالية" (De Antiquatitus Romanis African Repertis) ، والتي حاول هابنسترايت تتبع معالمها والوقوف على أماكنها ووصف ما بقي منها ماثلا للعيان.

وبذلك أمكن للعالم الفرنسي المهتم بالرحلات إيريس (Eyries) من نقل نصها الأصلي إلى اللغة الفرنسية ونشره في مجلة الحوليات الجديدة للرحلات والعلوم الجغرافية

(Nouvelles Annales des Voyages et Sciences Ge؟ographiques) ، والتي كانت تهتم بالتعريف بالأسفار وبالمسائل المتعلقة باللغات والعادات والفنون والجديد من الاكتشافات والبحوث ، حسبما هو محدد في الصفحة التي تحمل عنوانها ، وقد أدرج إيريس نص هذه الرحلة مع تعريف بمؤلفها في الصفحات التسعين الأولى من المجلد ٤٦ لعام ١٨٣٠ ، والذي نشرته مكتبة جيد وأولاده الواقعة بشارع سان مارك فايرو بباريس.

ولقد اطلعت على مضمون الرحلة في الثمانينيات من القرن العشرين أثناء البحث في ودائع المكتبة الوطنية بباريس لتحضير رسالة دكتوراه حول أوضاع الريف الجزائري أواخر العهد العثماني ، فأثارت انتباهي لمعلوماتها القيمة حول

١٥

الجزائر وخاصة أوضاع سكان الريف ، فراودتني فكرة ترجمتها إلى العربية ، لكن ظروف العمل ومشاغل الحياة حالت دون نحقيق هذه الأمنية آنذاك ، فظلت منسية في رفوف المكتبة الوطنية الفرنسية حتى سمحت لي الظروف مؤخرا بترجمتها ونشرها.

لقد جاءت رحلة هابنسترايت في شكل رسائل وجهها إلى راعي الرحلة ملك بولونيا ومنتخب الساكس يطلعه فيها على ما شاهده أو تعرف عليه أو جلب انتباهه في أثناء سفره في الجزائر وعند انتقاله بتونس أو توجهه إلى طرابلس الغرب ، فجاءت وصفا دقيقا لأوضاع تلك الأقطار وتعبيرا صادقا عن آرائه ، إذ لم يهتم فيما سجله إلا برصد الواقع كما تعرف عليه ، وهذا ما جعلها في الواقع تقريرا أدبيا عن مهمة علمية الهدف منها التعرف على طبيعة البلاد وسكانها والبحث عن الحيوانات والنباتات الإفريقية والوقوف على معالم الحضارة الرومانية ، وهذا ما يلاحظه القارئ من تصفح مضمون الرسائل الأربعة التي تتألف منها الرحلة ؛ فالرسالة الأولى تبدأ بمغادرة هابنسترايت مدينة دريسدن (Dresden) بألمانيا في ٢٣ أكتوبر ١٧٣١ وتوجهه إلى مرسيليا في شهر نوفمبر وركوبه السفينة إلى الجزائر في ٢٤ جانفي ١٧٣٢ ، وقد بدأ في تسجيل ما شاهده أولاحظه بالجزائر منذ ١٦ فبراير من نفس السنة ، واهتم فيها أساسا بتقاليد السكان وأوضاعهم وبسلوك عبدي باشا داي الجزائر ونظام الجيش والظروف التي تميزت بها محاولة الإسبان استرجاع مدينة وهران والمرسى الكبير بعد أن طردوا منها (١٧٠٨).

أما الرسالة الثانية فتحمل تاريخ أول جوان (يونيو) ١٧٣٢ ، وتتضمن أخبار جولته مع فرقة الجند (المحلة) بقيادة الآغا داخل الأقاليم الداخلية وعبر مدن مليانة والمدية وسور الغزلان وبرج حمزة (البويرة).

بينما الرسالة الثالثة كانت بتاريخ ٣١ أغسطس ١٧٣٢ ، ويروي فيها مشاهداته منذ انتقاله من مدينة الجزائر إلى عنابة وحلوله بقسنطينة ثم بعد ذلك إلى القالة ومنها إلى طبرقة ورأس نيغرو وباجة حيث التقى بباي تونس حسين بن علي.

١٦

أما الرسالة الرابعة والأخيرة فهي مؤرخة في ٥ أكتوبر ١٧٣٢ ، وقد أدرج فيها أخبار سفره من تونس إلى طرابلس ، التي اقتصر فيها على بعض الملاحظات بعد أن لم يتمكن من الانتقال إلى الأقاليم الداخلية لتخوف الحكام من تدهور الأوضاع بسبب ظروف استيلاء الإسبان على وهران والمرسى الكبير (١٧٣٢).

إن رحلة هابنسترايت رغم اختصارها وقصر الفترة الزمنية التي استغرقتها ، وهي حوالي عشرة أشهر ، إلا أن غنى معلوماتها ودقة ملاحظاتها ، تؤكد لنا قيمتها التاريخية وتجعلها لدى الباحثين من المصادر المهمة التي تعرف بأوضاع أقطار المغرب العربي في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، ولعل أهميتها تكمن في أنها :

١. تلقي الضوء على فترة مهمة وخطيرة ، وهي الربع الأول من القرن الثامن عشر الذي تحولت فيه ولايات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب من مجرد ولايات عثمانية تابعة للدولة العثمانية إلى كيانات سياسية مستقلة بشؤونها وإن ظلت هذه الولايات المستقلة مرتبطة بالسلطة الشرعية للسلطان العثماني باعتباره راعي شؤون المسلمين ورمز وحدتهم السياسية وتضامنهم الديني.

فالرحلة بما تضمنته من معلومات تقدم إيضاحات على هذا التحول وتعرفنا على تطور الحكم بالجزائر بعد أن ألغي المنصب الشرفي للباشا الممثل الشخصي للسلطان لفائدة الداي ، فأصبح حكام الجزائر المعروفون بالدايات الباشوات مستقلين فعليا عن الدولة العثمانية منذ ١٧١٧. كما أن تونس تأكد كيانها السياسي مع استقرار الحكم في سلالة حسين علي التركي الذي استقل بحكمها منذ ١٧٠٥ والذي أعجب هابنسترايت بشخصيته. ونفس الوضع عرفته طرابلس الغرب التي استقل بشؤونها الباشا أحمد القرامانلي منذ ١٧١١ وورث الحكم لأسرته ، وقد نال تقديرا خاصا من هابنسترايت الذي تعرف عليه وقدر مواهبه.

٢. تتضمن معلومات معتبرة عن علاقة الحكام بطوائف السكان بالمدن والمجموعات القبلية في الريف ، وتعرفنا على صلاحيات الديوان وسلوك

١٧

الحكام ومكانة الجيش (فرق الإنكشارية) في النظام السياسي وخاصة الفرق المتجولة في الريف (المحلات) التي تعتبر أساس النظام السياسي والهياكل الإدارية ، كما تعرفنا على طبيعة السياسة الدفاعية للحكام وطريقة تعاملهم مع الدول الأوربية.

٣. تقدم عرضا شاملا وملاحظات دقيقة عن السياسة الجبائية لحكام المغرب العربي في القرن الثامن عشر القائمة على تجريد الحملات العسكرية ، وانتهاج أسلوب الشدة مع سكان الريف ، مما أثر سلبا في فترة لا حقة على صلة السلطة (البايليك) بالسكان (الرعية) ، وأدى إلى حدوث انتفاضات خطيرة زادت في ضعف تلك الأجهزة الحاكمة وجعلها منغلقة على نفسها وعاجزة عن مواجهة الضغوط الأوربية المتزايدة.

٤. تلقي الضوء على الجو السائد والظروف التي نتجت عن احتلال الإسبان لوهران ، وتقدم لنا وصفا دقيقا عن الاستعدادات التي قام بها حكام الجزائر وعن تفاعل السكان مع هذا الجهد وموقفهم المعادي للأوربيين الذين اعتبروهم عيونا للإسبان في استيلائهم مجددا على وهران والمرسى الكبير (١٧٣٢) بعد أن طردوا منهما سنة ١٧٠٨.

٥. تظهر الرحلة مدى اهتمام الأوربيين بعالم البحر المتوسط وخاصة الولايات العثمانية منه ، وتوجههم لدراسة الأوضاع الطبيعية والأحوال الاجتماعية والإمكانات الاقتصادية السائدة به ، مما سوف يوفر للسياسيين والعسكريين في فترة لاحقة معلومات تساعدهم على تحديد سياساتهم وتنفيذ مخططاتهم الاستعمارية.

٦. تؤكد الرحلة تواصل الأوربيين مع الحضارة الرومانية ، وتظهر مدى عنايتهم برصد الآثار الرومانية ، فقد كانت هذه الآثار الشغل الشاغل لصاحب الرحلة ، فهو يحرص على الوقوف عليها ، ويحاول جاهدا التعرف على دلالاتها وهو بذلك يعبر عن توجه أوربي لإحياء معالم الحضارة الرومانية بشمال إفريقيا ، وذلك قبل أن تتكفل البعثات الأثرية بالتنقيب عنها ودراستها في القرن التاسع عشر.

١٨

هذا وقد كان صاحب الرحلة يعبر بصدق عن مشاعره ويبدي آراءه بصراحة في الأوضاع السائدة في أقطار المغرب العربي ، ويعرب عن موقف متفهم لميول الشعوب وخصائص الجماعات وخاصة طبائع أهالي الريف ، وهذا ما سمح له بتجاوز النظرة السطحية لدى غالبة الرحالة الأوربيين التي تحكم على ظاهر الأشياء ، وساعده على التعرف على ما كان يتميز به التونسيون ويختص به الجزائريون ، كما استطاع أن يتلمس الصلات الأخوية والروابط الروحية التي تجمعهم خاصة في مواجهة الأخطار الخارجية.

لقد حرصنا في ترجمتنا لهذه الرحلة على إثبات العديد من التعليقات والهوامش ليتمكن القارئ من الاستفادة من معلوماتها والتعرف على الأحداث التي تعرض لها والأشخاص والأماكن والمواقع التي أشارت إليها. كما وضعنا عدة خرائط تحدد خط سير صاحب الرحلة في انتقاله عبر الجزائر وتونس ، مع إثبات قائمة بالمصادر والمراجع التي يمكن الرجوع إليها للتعرف أكثر على الظروف التي كانت سائدة في أقطار المغرب العربي في القرن الثامن عشر.

في الأخير ، لا يسعني في ختام هذا التقديم إلا أن أتوجه بخالص الشكر والامتنان للذين وجدت منهم المساعدة والتشجيع في ترجمة هذه الرحلة والتعليق عليها وفي مقدمتهم الابن البار معاوية الذي كان لي نعم العون في إنجاز هذا العمل ، والأستاذ د. علي تابليت ود. منير حشاني اللذين مكناني مشكورين من النسخة الإلكترونية للنص الفرنسي للرحلة ، وكذلك الأستاذ عبد الناصر خالف الذي تفضل بإعادة طبعها في ورق عادي لتسهيل العمل عليها.

ناصر الدين سعيدوني

مونتريال ـ كندا

في ١٠ ـ ٧ ـ ٢٠٠٧

١٩
٢٠