رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

المؤلف:


المترجم: أ. د. ناصر الدين سعيدوني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ تونس
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٨

في دفع الضريبة لحكام الجزائر ، ولهذا تم تنبيهنا بأن لا نبتعد عن المحلة ولا ننساق إلى ذلك بفعل حب الاستطلاع عند توقفنا لجمع النباتات بعيدا عن جماعة الجند (المحلة) ؛ وقد أمضينا يوما كاملا في قطع هذا الجبل الذي يسمونه جبل الجزائر (١) ، وبعد اجتيازه نصبنا خيامنا في سهل بوحلوان في مكان يعرف بقاع الواد ويدل عليه اسم هذا المكان لأنه الموضع الذي يوجد به منبع وادي جر الذي اجتزنا مجراه أربع عشرة مرة في اليوم (٢).

وفي ٣٠ أبريل وصلنا إلى مليانة أو ميلية ، وقد استقبل فيها الآغا بالمراسيم الشرفية المعهودة ولم نعثر فيها على شواهد تدل على تاريخها القديم سوى نقش موجود بحصنها ، وهذه المدينة مبنية على نتوء صخري عند جبل زكار وقد حاولت تسلق هذا الجبل ، وكان علي بذل جهد كبير حتى أبلغ قمته (٣) ، على أن تقدم المساء واقتراب حلول الظلام ولكون الطريق إليه تعترضه الصخور الوعرة التي لا يمكن عبورها أرغمني على أن أتخلى عن هدفي وأن أعود على أعقابي إلى المدينة بعد أن جمعت بعض العينات من معدن النحاس والحديد التي وجدتها متناثرة على الأرض ، وأثناء وجودي في مليانة كنت متضايقا لعدم تمكني من زيارة حمامات باكومام ماريده

__________________

(١) يعرف بهذا الاسم لأن الطريق الرئيسي الذي يربط مدينة الجزائر بالغرب الجزائري يعبره ، كما يعرف بجبل صماتة نسبة إلى القبيلة التي تقطنه وتتولى حراسته عند معبر الخندق ، وهذا الطريق يساير في هذه الناحية الخانق الطبيعي بين جبلي موزاية وصماتة ويتوغل في وادي جر قبل أن يصل إلى معبر الخندق الإستراتيجي الذي يحرسه فرسان مخزن بوحلوان وتؤمن السفر عبره حامية برج بوحلوان. أنظر الخريطة رقم ١ الملحقة بالكتاب.

(٢) يعتبر وادي جر المعبر الطبيعي بين سهل متيجة في الشرق وسهول الشلف في الغرب ، تحف به جبال موزاية وصماتة ، ويشكل بمنعرجاته الكثيرة خانقا يسلكه طريق الجزائر ـ وهران ، ويضطر المسافر إلى قطع مجراه في العديد من الأماكن لا تقل عن أربعة عشر معبرا.

(٣) يقصد به جبل زكار الغربي الواقع شمال مدينة مليانة التي بنيت على إحدى منحدراته الجنوبية ، ويبلغ ارتفاعه ١٥٨٠ م.

٦١

(Bacoumam Mareda) الواقعة على بعد مسافة قصيرة (١).

وفي ٢ ماي تابعنا طريقنا عبر أراضي قبيلة جندل وتوقفنا في بلاد عمورة (٢) ، ورأينا في تلك النواحي بقايا آثار مدينة كانت في الماضي كبيرة جدا ولم نستطع أن نعرف شيئا عن اسمها الحقيقي بعد أن بحثنا دون جدوى عن بعض النقوش ، واكتفينا بمعاينة معالم صهاريج وحنايا مياه وبقايا سور متين البناء.

إن مكان هذه الآثار لا يبعد كثيرا عن موقع معسكرنا وهذا ما شجعني على أن أعود إليه من جديد بصحبة أحد العرب بنية اكتشاف أشياء جديد ، لكني لم أجد سوى بقايا الآثار التي سبقت الإشارة إليها والتي تبين لنا أن هذه المدينة قد دمرت من أساسها ، وفي طريق عودتي إلى المعسكر عرض لي حادث جعلني أندم على جرأتي ، وذلك أن دليلي العربي بدل أن يسلك بي طريقا مباشرا كان يتعمد تضليلي حتى أضيع في وسط الجبال ، وإن كنت لا أجزم هل صدر ذلك منه عن جهل أو عن سوء نية مبيتة ، ومع اقتراب حلول الليل وعندما تبين لي انحرافه عن سلوك الطريق المؤدي إلى المعسكر هددته بإشهار بندقيتي في وجهه وأ رغمته على أن يتوجه نحو المكان الذي حددته له.

فوصلت إلى المعسكر وقد بلغ مني الإنهاك والتعب مبلغا كبيرا بعد أن تحتم علي أن أجتاز في طريق العودة أحد الأودية أربع مرات ، ومنذ هذه الحادثة

__________________

(١) هي المعروفة اليوم بحمام ريغة نسبة للقبيلة التي كانت تنتشر حوله ، وهو يقع على المنحدرات الشمالية الشرقية لزكار الشرقي على ارتفاع ٥٣٠ م. وقد عرفت خصائصه العلاجية منذ العهد الروماني ، وظل حتى اليوم مقصد المعالجين بمياهه المعدنية التي تتراوح حرارتها ما بين ٣٩ و ٦٧ درجة.

(٢) تقطن قبيلة جندل على حدود بايليك التيطري وبايليك الغرب ، يتوقف بها عادة المسافرون المتوجهون من المدية إلى مليانة وبالعكس ؛ فيما تقع أراضي قبيلة عمورة ـ التي مر بها صاحب الرحلة ـ في الجهات الشمالية لمدينة المدية المعروفة بمنطقة التل الشمالي.

٦٢

قررت أن لا أخرج في جولاتي مستقبلا دون أن يكون في صحبتي على الأقل أحد الفرسان.

لقد بلغنا في رحلتنا حدود بايليك التيطري (١) الذي يحكمه باي يقيم الآن تحت الخيام خارج المدينة استعدادا لشن حملات تأديبية ضد العرب الممتنعين عن سلطته. وفي هذه الأثناء أبلغ السكان الآغا بأن هناك أسودا بالناحية تفترس الخرفان ، فانتقل إلى المكان الذي أرشدوه إليه بنية قتل بعضها ، وقد عايشت عن قرب الاستعدادات لحملة الصيد هذه دون أن أشاهد ما أسفرت عنه بعد أن تعذر العثور على هذه الأسود ، مع أنه من المؤكد أن هذا الجبل تعيش فيه أسود لأن اللبؤة التي أهديت لي تم العثور عليها في هذا الجبل.

بدلا من مشاهدة الأسود في هذه الحملة ، شاهدت ضبعا تمكن من الهروب رغم إصابته بسهم ، ففقدت الأمل في معاينته وتفحص جلده. وهذا الحيوان (الضبع) شره جدا حتى أنه يقدم على أكل الجثث ، وله مهارة في البحث عنها والعثور عليها تحت التراب. ويعتقد سكان هذه الناحية أن رأسه يمكن أن تستخدم في ممارسة السحر ولهذا يحرصون كثيرا على الاحتفاظ بها ، ولعل هذا من الأسباب التي حالت دون حصولي على هذا الحيوان رغم كل الجهود التي بذلتها.

لقد قضينا الليل في مكان يعرف بالمرابط وهو مقر أحد رجال الدين الذين يعتقد فيهم البركة والمعروفين بالأولياء أو المرابطين ، وهم مفيدون جدا

__________________

(١) بايليك التيطري يشكل إحدى المقاطعات الرئيسية بالبلاد الجزائرية أثناء العهد العثماني ، يحد جنوبا المقاطعة المركزية (دار السلطان) ويفصل بين مقاطعتي الشرق (قسنطينة) والغرب (وهران ومعسكر) ، ويتألف من قبائل متعددة تتكون منها القيادات التي تشكل البايليك ، وهي : التل الظهراوي ، والتل القبلي ، وديرة ، وأولاد مختار ، وأولاد هلال وعنتر ، وقيادة الوسط حول مدينة المدية. أنظر الخريطة رقم ١ الملحقة بالكتاب.

٦٣

للبايليك لدعوتهم سكان الريف إلى الخضوع وعدم العصيان ، وفي هذا المكان حصلت على أول الحيوانات خلال رحلتي ، فقد قدم لي الآغا هدية تتمثل في حيرم (bubade) أو بقر وحش (Le bacheraraach) صغير كان قد أعطاه له المرابط ، وهو حيوان أشبه بالأيل إلا أن له قرون غزالة ، وقد يبلغ حجمه عند اكتمال نموه حجم البقرة وهو يعيش في الصحراء حيث لا يمكن القبض عليه إلا عندما يكون صغيرا ، وقد اشتريت بعض الماعز لتغذيته من حليبها لأنه لا يزال في طور الرضاعة

في ٤ ماي وصلنا إلى مواطن قبيلة وامري ، ولم نر هناك شيئا يلفت الانتباه سوى طريقة تطبيق الأحكام حسب الأسلوب التركي ، فقد جرت معاقبة أحد أعيان العرب ضربا بالعصا للاشتباه في سلوكه ، وهذه العقوبة تسلط عادة لأقل إهانة قد تصدر من أي شخص ، فقد يعاقب بمائة ضربة عصا رجال القبائل الذين لا يقومون بتقديم الزاد المطلوب منهم توفيره للمحلة عندما تحط رحالها بأرضهم (١).

وفي ٥ ماي وصلنا إلى المدية (٢) ، فاستقبل الآغا عند حلوله بها بثلاث

__________________

(١) تعرف عادة تقديم الزاد والتكفل بضيافة فرق الجند ب" ضيفة المحلة" ، وهي تعتبر من الواجبات التي يلزم بها سكان الريف ويحرص على القيام بها شيوخ القبائل عندما تحط المحلة رحالها عندهم ، بحيث يتعرض من يحاول التهرب من أدائها إلى العقاب والتغريم ؛ ولهذا كانت أغلب القبائل تسارع إلى تقديم ما يتوجب عليها من جباية ورسوم حتى تتجنب توجه المحلة نحوها والنزول بأراضيها وبالتالي التكفل بضيافتها.

أنظر : ناصر الدين سعيدوني ، دراسات تاريخية في الملكية والوقف والجباية ، بيروت ، دار الغرب الإسلامي ، ٢٠٠١ ، ص ص. ٣٠٦ و ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٢) مدينة المدية مركز مقاطعة التيطري ، تقع على بعد ٩٠ كلم جنوب جنوب غرب مدينة الجزائر. يعود تأسيس المدية إلى الأمير بولكين بن زيري (٣٤٠ ه‍ / ٩٦٠ م) ، وأصبحت ضمن أملاك الموحدين ثم الزيانيين ، وخضعت فترة لحكم المرينيين ، وخضعت للأخوين عروج وخير الدين بربروسة سنة ١٥١٧ ، وجعل منها حسن بن خير الدين عاصمة مركز مقاطعة بايليك التيطري عندما أحدث نظام المقاطعات (البايليكات) سنة ١٥٦٥ ، وكان

٦٤

طلقات مدفع تعبيرا عن الترحيب به ، والمدية هي مدينة بها حصن بني على نتوء صخري ليسهل الدفاع عنها ضد القبائل العربية ، ويشهد على تاريخها القديم وجود حنايا مياه رومانية جميلة لا تزال تؤدي الغرض من بنائها حتى اليوم ، فعن طريقها ينقل الماء إلى المدينة من الجبل المجاور ، وهذا ما حافظ على هذه العينة من آثارها القديمة حتى الوقت الحاضر وحال دون تخريبها ، فلولا الحاجة إلى هذه الخدمات التي تقدمها هذه الحنايا لكانت معالمها قد تهدمت وتحولت إلى أنقاض منذ عهد بعيد لعدم اكتراث السكان بهذه الآثار. ولم يفتني رسمها كباقي المعالم التي صادفتني في سفري ، وكنت في كل هذه المناسبات التي أقوم فيها برسم هذه المناظر ألتزم الحيطة لأن السكان ينظرون إلى كل من يقوم بذلك وكأنه جاسوس أو خائن ، فضلا على أن هناك دوافع أخرى تدعوني للحذر بل قد تسبب لي قلقا وخوفا ، فقد أصبحت أنا ومرافقي في سفري هذا موضع شبهة نظرا للاستعدادات الإسبانية للهجوم على الجزائر ؛ وأصبح السكان هنا ينظرون إلينا وكأننا قدمنا إلى البلد لاستطلاع أوضاعه ، وهذا ما جعلني أعتقد أن الدليل الذي كان يصاحبنا هنا والذي هو أحد قضاة أوطان التيطري لم يوضع في خدمتنا إلا بغرض مراقبتنا والاطلاع على نشاطنا ، إذ ليس هناك داع لأن يرافقنا أحد ما دمنا مصاحبين للمحلة وتحت حماية الآغا.

مدينة المدية مشهورة جدا بآبارها الكثيرة التي تتميز بمياهها النوعية ، وهذا شيء نادر في تلك الجهات ، وقد كان هذا الماء موضع اهتمامنا منذ وصولنا ، فأخذنا من كل بئر كمية مختلفة من الماء لتحليلها ومعرفة خصائصها ، وأثناء ذلك علمت أن هناك رجل دين صالح (ولي أو مرابط) يقيم على بعد مسافة يوم من المدية عنده نعامة ، فأعلمت الآغا بذلك فأرسل في

__________________

آخر بايات المدية الباي مصطفى بومزراق الذي عرف بمقاومته للفرنسيين الذين استولوا على المدية سنة ١٨٣١ وجعلوها إحدى مراكزهم الإدارية منذ سنة ١٨٤٠.

٦٥

البحث عنها وبعد ما حصل عليها أهداها لي ، فأرسلتها إلى مدينة الجزائر مع بقر الوحش ، وتكفل السيد شولتر بمرافقتها في حراسة بعض الفرسان ، وقد كان ذلك ممكنا لأن هذا الطائر وهو النعامة يتنقل بسهولة ولا يتطلب حمله عند الانتقال من مكان إلى آخر ، على أن إرساله إلى ألمانيا على بعد ستة آلاف ميل من الجزائر شيء لن يتأتى إلا بصعوبة كبيرة ، لأنه لا يستطيع تحمل قطع هذه المسافة الطويلة.

لقد أطال الآغا توقفه بنواحي المدية ، وهذا ما مكنني من القيام بجولات قصيرة في الجبال المجاورة ، فقمنا بزيارة لكهوف تعرف بغيران الحديد ، آملين أن نعثر فيها على بعض التكوينات المعدنية ، وقد علمنا أثناء ذلك أنه في فترة سابقة ليست ببعيدة اكتشف فيها الأسرى المسيحيون معدني النحاس والفضة ، لكن إنتاجها كان محدودا إذ لم نر بها سوى حجارة تحتوي على مكونات معدني الحديد والبيريت (ferrugineuses ,Pyrites) ، وأثناء انتقالنا إليها كان غذاؤنا خروفا أخذه مرافقنا من أحد الرعاة في الطريق دون أن يستطيع هذا الأخير أن يفتكه منه ، وقد رجوت الذي استولى على الخروف أن أدفع ثمنه للراعي عن طيب خاطر ، فأجابني قائلا أن هذا السلوك مخالف لما جرت عليه العادة ، وأثناء هذه الجولة تسلقت جبل الفرنان الموجود في تلك الناحية ووجدت به نقوشا كتابتها غير مكتملة لتعرض أغلبها للتلف.

وفي ١٢ ماي وصلنا عند قبيلة أولاد إبراهيم حيث وجدنا بها رجلا صالحا (مرابطا) قدم من صحراء عين القطران لتحية الآغا ، وقد أهدى لي حيرما أو بقر وحش ، وكنت محظوظا لكون هذا الحيوان أنثي ، وهذا ما أسرني كثيرا لأن الحيرم الآخر كان ذكرا ، وقد ذكر لي المرابط عندما اجتمعت به أن هناك منبع ماء بالصحراء له طعم الزفت أو القار ويحتوي على خصائص طبية تساعد على الشفاء من كل أنواع الأمراض (١) ، ووعدني بأن يرسل لي زجاجة

__________________

(١) من المؤكد أنه يشير هنا إلى عين القطران الواقعة بالجبال المشرفة على سيدي عيسى

٦٦

منه لمعاينتها ، الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن ، ومما يلاحظ أن رجال هذه القبيلة العربية التي نزلنا عندها كانوا محل ريبة من البايليك ، فقد احتجزت أسلحتهم وتعرض أعيانهم للضرب بالعصا.

وفي ١٣ ماي علمنا بوجود عيون ماء معدني في تلك النواحي ، فرجوت الآغا أن يمكنني من الوصول إليها ، وبالفعل ذهبت إليها بصحبته شخصيا ، وكنت أول من شرب الماء الذي ينبع من إحدى الصخور ، فكان له مذاق طيب ، وتبعني في ذلك الآغا ورجاله ، وقد أكد لي بعض من شرب كمية من ماء هذا النبع أن له نفس تأثير المياه المعدنية ، وبعد التحليل تبين لي أنها مياه تحتوي على محلول الحديد والكبريت (vitriolique et ferrugineuse) ، ونصحت كل من استشارني أن يستعمله بحذر متمنيا أن عملي هذا يجعل قبيلة بن سالم مغتبطة باكتشاف الفوائد الصحية لهذا النبع الموجود بأراضيها.

لقد قضينا الليل في أكواخ العرب ومن الغد ارتحلنا إلى أولاد ثان المقيمين وسط جبال شاهقة ، وكعادتي ذهبت للبحث عن النباتات ، فعثرت على حرباء حية ذات لون أخضر لم يلبث أن تغير لونها عندما أمسكتها بيدي ، وكانت نيتي أن أحتفظ بها حية وأنقلها معي مع حرباء أخرى أهديت لي ، ومع أني كنت غير مقتنع بأن هذه الحرباء كانت تعيش فقط على استنشاق الهواء ، فإني كنت أرمي لها كل يوم بعض الذباب لكونها عاجزة عن الإمساك به لوحدها ، وبعد أربعة أيام بقيت فيها بدون أكل لم يظهر عليها أي تحول ، وهذا ما أكد لي أنها تكتفي بالقليل مما تتناوله ولكنها لا تتغذى من الهواء فقط.

وفي ١٥ ماي نصبنا خيامنا في وطن قشتولة ، وفي هذا اليوم أمر الآغا

__________________

غير بعيد من وادي الجنان الذي ينبع من جبل ديرة ويعرف في مجراه نحو شط الحضنة بوادي اللحم (أنظر الخريطة رقم ١ الملحقة بالكتاب) ، وتعرف عليها أيضا الطبيب شو ووصفها بهذه العبارة : " إن ماءها ممزوج بالنفط يعالج بها الجمال". أنظر :

Shaw, op. cit., P. ٠٢٣.

٦٧

أربعة فرسان بمرافقتي إلى برج حمزة (Pourtchatampa) (١) ، وكانت رغبتي كبيرة في معاينة هذا المكان ، فقد ذكروا لي بأن به بعض الآثار الرومانية ، فكانت حقا جولة موفقة لم أندم على القيام بها ، إذ شاهدت آثار مدينة كبيرة ، ووقفت عندها على نهاية سلسلة جبال الأطلس الكبير وبداية المناطق الصحراوية ، وقد استقبلنا حاكم البرج وأطلعناه على رسائل التوصية التي بحوزتنا ، فاستقبلنا بحفاوة وأهدى لنا غزالة صغيرة ، ومع أن هذه الحيوانات الضعيفة جدا لا تتحمل كثيرا الرطوبة ، فإنه لو حالفنا الحظ في نقلها إلى ساكسونيا مع غزالة أخرى كانت لدينا تكبرها بعض الشيء ، فسوف تكون محل معاينة مباشرة واختبار مركز.

وفي المساء عند ما أخذنا مكاننا للنوم أحسسنا بهزة أرضية ، فسمعنا في أول الأمر دويا كبيرا وصوتا عميقا في شكل دمدمة شعرنا بعدها باهتزاز المكان الذي كنا ننام فيه بشدة ، وقد تأثرت بهذا الزلزال مدينة الجزائر في نفس الوقت ، ولحسن الحظ فإن هذا الزلزال اقتصرت آثاره بالنسبة لنا على إثارة الهلع في نفوسنا ، وكانت خشيتنا من أن تتبع هذه الهزة ارتدادات قوية ، وهذا أمر غالبا ما يحدث في موريطانيا (شمال إفريقيا) ، فمدينة الجزائر وضواحيها لا زالت بها آثار تدمير زلزال سنة ١٧١٦ ماثلة للعيان (٢).

__________________

(١) لقد اخطأ صاحب الرحلة في تحديد هذا الموقع ، فالصحيح أن هذا الموقع هو سور الغزلان (أنظر هامش رقم ٧٦) ، وليس برج حمزة (أنظر هامش رقم ٧٧).

(٢) لقد عرفت البلاد الجزائرية العديد من الهزات الأرضية العنيفة منذ العصور القديمة وحتى الآن ، وقد كان لها تأثير مدمر على العمران ، هذا وتعرضت مدينة الجزائر في العهد العثماني للعديد من الزلازل المدمرة أهمها حدث سنوات ١٦٣٢ ، ١٦٣٩ ، ١٦٦٥ ، ١٦٧٦ و ١٧١٦ ، ١٧٢٣ ، ١٧٢٤ ، ١٧٣٥ ، وقد تميز زلزال ١٧١٦ بشدته وهو الزلزال الذي أشار إليه صاحب الرحلة وعاين آثاره المدمرة ، فقد ألحق هذا الزلزال خرابا بمدن الجزائر وشرشال وبجاية ، بعد أن تكررت هزاته المدمرة أيام ٣ و ٥ و ٢٦ فبراير ١٧١٦ ، وقضى حسب بعض المصادر على حوالي عشرين ألف نسمة من سكان مدينة الجزائر وما حولها ، واضطر السكان إلى التحول إلى فحص المدينة بعد أن تهدمت أغلب منازلهم

٦٨



وفي ١٦ ماي وقفنا على الآثار التي بني عليها البرج والتي تدل على أن هذا المكان كانت به مدينة كبيرة ، فقد وجدنا الكثير من القبور الرومانية عليها نقوش لاتينية بعضها يكاد الزمن يمحي حروفها تماما وبعضها الآخر لا زال مطمورا في التربة ، وهناك أحد النقوش في حالة جيدة تدل على أنه قبر لرجل مع أمه وابنه وهناك نقش حجري آخر يفهم من كتابته أن هذه المدينة المهدمة هي مستعمرة أوزيا (Colonia Auziensis) ) التي ورد ذكرها في لوحة مسالك أنطونين. (Itinraire d\'Antonin)

وفي ١٧ ماي سارعنا إلى الالتحاق بمعسكر الآغا ، فوجدناه بوطن حمزة (Hampsa) ) ، وكان قبل ذلك قد تفقد محلة باي التيطري الذي لا زال مخيما بها بصحبة فرسانه للتصدي للقبائل التي تقطن الجبال المجاورة ، وكان الآغا قد شن غارة عليها منذ فترة واستطاع في ظرف أيام قليلة أن يأخذ منها ثمانمائة (٨٠٠) جمل وألفي (٢٠٠٠) خروف (٣).

__________________

وصاحب ذلك فوضى وأعمال سرقة ونهب اضطرت الداي إلى اتخاذ إجراءات قمعية شديدة لوضع حد لها.

(١) أوزيا (Auzia) وهي مدينة سور الغزلان الحالية ، تعتبر من المواقع الرومانية المهمة في شمال إفريقيا لوقوعها على خط الدفاع ضد القبائل الجنوبية المعروف بالليمس. تعرضت إلى التخريب منذ أواخر العهد الروماني وبعده ، وأنشأ حسن بن خير الدين في القرن السادس عشر مكانها برجا لمراقبة القبائل الجبلية بديرة وونوغة ، ولتأمين طريق قسنطينة أثناء فترات تمرد القبائل.

(٢) برج حمزة وهو سوق حمزة الذي أسسه حمزة بن الحسن بن سليمان العلوي في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي ، وقد اكتسب هذا الموقع أهميته لكونه يقع على الطريق الرئيسي بين مدينتي الجزائر (١١٨ كلم) وقسنطينة (٣٠٠ كلم) ، فأقيم يه حصن به ١٨ مدفعا ليكون نقطة مراقبة لقبائل جرجرة وعشائر عريب وبني سليمان ، ولكونه مقرا لحامية من الجنود يقدر عددها بنحو خمسين رجلا يحرسون الطريق ويشاركون في المحلات ويواجهون القبائل المتمردة التي استطاعت احتلال الحصن سنتي ١٧٥٦ و ١٧٥٧. أصبح برج حمزة ، بعد أن استولى عليه الفرنسيون سنة ١٨٣٩ ، يعرف بالبويرة التي أصبحت اليوم إحدى المدن الجزائرية الرئيسية.

(٣) أمام تهرب القبائل الجبلية والعشائر البدوية من سلطة حكام الجزائر وامتناعها عن تقديم

٦٩

.

لقد علمت أن باي التيطري هذا يمتلك نعامة ، فرجوت الآغا أن يكلمه في شأنها فوعدني بذلك ، ومن الغد ابتهجت بالحصول على هذا الطائر الجميل الذي اعتاد السفر مع المحلة ، وهذا ما يسمح له بالسير مع جنود المحلة في طريق عودتهم إلى الجزائر بدون صعوبة. وأثناء ذلك شاهدنا جبال جرجرة الشاهقة تغطي قممها الثلوج رغم حرارة الجو المرتفعة في تلك الجهات. وفي طريق عودتنا سارعنا إلى نصب خيامنا عند قبيلة بني هارون حيث تنتشر حولها مجموعات من القبائل التي ظلت تحافظ على حريتها وتمتنع عن دفع الضريبة للبايليك ، وهي الآن في حرب معلنة مع حكومة الداي ، ولهذا أعطيت لنا الأوامر بأن نكون في كل الحالات على استعداد للحرب عندما يتوجب علينا غدا السير بمحاذاة الجبال.

وفي ١٩ ماي اجتزنا في سفرنا أودية تحف بها جبال شاهقة بحيث يمكن أن يتعرض من يعبرها للهلاك من جراء الحجارة التي تلقى من أعلى الجبل (١) ، ومع ذلك لم نصادف الأعداء ؛ ولعل ذلك يعود على الأرجح

__________________

ما يطلب منها من جباية ومغارم ، تحولت الحملات الفصلية (المحلات) إلى غارات مفاجئة على مواطن تلك القبائل والعشائر ، غالبا ما تنتهي بالاستيلاء على ما تجده أمامها من محاصيل ومواشي ، كما ذكر صاحب الرحلة ، وهذا ما أساء إلى العلاقة بين حكام الجزائر وسكان الريف ، بل تسبب في حركات تمرد واسعة النطاق ميزت الفترة الأخيرة من الحكم العثماني بعد أن شحت مصادر الجهاد البحري وتحول الحكام إلى الداخل للحصول على المزيد من المداخيل العينية ، فتراجعت بذلك الزراعة وتحول قسم كبير من السكان إلى الجهات الجبلية الحصينة وبعضهم حول إلى المناطق السهبية لممارسة الرعي وذلك حتى يسهل عليهم تجنب الحملات الفصلية (المحلات) التي غالبا ما تتسبب في إفقارهم وحرمانهم من مصادر رزقهم

(١) يعرف هذا الوادي اليوم بخانق الأخضرية (باليسترو) الذي يشكله نهر يسر (طوله ٢٢٠ كلم) عند عبوره المناطق الجبلية بين بلاد القبائل وجهات التيطري ، ويكون بذلك ممرا طبيعيا يصل إقليم مدينة الجزائر (دار السلطان) بالجهات الداخلية ، يمر عبره الطريق السلطاني نحو الشرق والرابط بين مدينتي الجزائر وقسنطينة ، ويحرسه برج حمزة ، ويقيم بجواره فرسان مخزن الزواتنة ؛ وهذا الطريق رغم أهميته يتميز بخطورته وقد ينقطع أثناء

٧٠

لاعتقاد سكان تلك الجهات أن القوات المصاحبة للآغا (المحلة) قوية جدا ، خاصة وأنها كانت تنتظر أن يلتحق بها هذا اليوم مدد مؤلف من عدة مئات من الفرسان ، وفي ٢٦ ماي غمرتنا غبطة بالغة عندما وصلنا مدينة الجزائر.

__________________

حركات العصيان التي اعتادت القبائل الجبلية بجرجرة القيام بها ، الأمر الذي يضطر معه حكام الجزائر إلى التحول مؤقتا في انتقالهم نحو المسلك الجنوبي الذي يمر ببرج سور الغزلان تجنبا لكمائن القبائل الجبلية المتمردة. أنظر الخريطة رقم ١ الملحقة بالكتاب.

٧١
٧٢

الرسالة الثالثة

٣١ أغسطس (١٧٣٢).

لقد قدمت تقريرا لسيادتكم عن السفر الذي قمت به في الأجزاء الجنوبية لمملكة الجزائر بعد فترة قصيرة من عودتي إلى مدينة الجزائر ، وقد قمت بما يتوجب علي في هذه المهمة ، فكان اهتمامي منصبا على أن أؤمن إرسال الحيوانات التي حصلت عليها مع باقي الأشياء الأخرى التي جمعتها في سفري ، وقد واجهتني في ذلك عراقيل مصدرها الاضطراب الذي وجدت عليه مدينة الجزائر من جراء الإنذارات الكثيرة بشأن الأسطول الإسباني الذي يمكن أن يكون هدفه احتلال مدينة وهران أو محاصرة مدينة الجزائر أو القيام بالعمليتين معا ، وتتسبب تلك الإنذارات في فرار قسم كبير من السكان إلى خارج المدينة ، ومنهم الأشخاص المرافقون لي والذين تركتهم بالمدينة أثناء سفري مع محلة الآغا.

لقد أصبح الخوف من محاصرة الإسبان لمدينة الجزائر شيئا مؤكدا في الثاني من شهر ماي عندما اقتربت أربع سفن حربية مالطية من المدينة إلى حد مرمى المدافع ، في سعيها للتعرف على موقع المدينة وعلى وضعية الميناء ومقدار عمقه ، وقد رفعت هذه السفن علم دولة السويد المسالمة لدولة الجزائر وذلك حتى تتمكن من الاقتراب أكثر من حصن مرسى الجزائر (١) ،

__________________

(١) للتعرف على تحصينات ميناء الجزائر ، أنظر هامش رقم ٣٦.

٧٣

ولكنها لم تلبث بعد ذلك أن أنزلت ذلك العلم ورفعت بدله علم مالطة وقامت بإطلاق قذيفة مدفعية قبل أن تتراجع بعيدا داخل البحر ، وهذا ما أحدث فوضى عارمة في المدينة ، إذ اعتبرت هذه الحادثة بمثابة إعلان حرب أو إنذار بقدوم الأسطول الإسباني.

قامت حكومة الداي بكل الاستعدادات الممكنة للدفاع عن المدينة ، فأجلت عنها السكان الذين قد يصبحون عبثا ثقيلا عليها في حالة الحصار ، وتأكدت من امتثال القبائل الجبلية للطاعة واستعدادهم لتقديم العون ، ووزعت مجموعات الجند على الحصون. وقد تبين لنا من تلك الإجراءات أن الجزائريين لا تنقصهم الرغبة في الدفاع وأن لهم من الإمكانيات ما يجعلهم يقاومون مقاومة شديدة ؛ ولذا يجب علينا أن ننصف هذا الشعب وخاصة الحامية التركية ، فنعترف بأنهم يستميتون من أجل الدفاع عن أنفسهم ويستبسلون عند التصدي لأي هجوم يتعرضون له ، وهذا ما أكسبهم هيبة جعلت سكان الجبال كثيري العدد وذوي التسليح الجيد حسب طريقتهم يرتعدون خوفا أمام مجموعة قليلة العدد من الجند الجزائري الذين يأتون إلى مواطنهم لاستخلاص الضرائب منهم.

على أنه من المؤكد أن انعدام الطاعة في صفوف الجند ونقص التدريب على استعمال الأسلحة جعلت الجزائريين عاجزين عن التصدي لأي دولة أوربية ، فموقع مدينة الجزائر المتدرج نحو البحر جعلها عرضة للقنابل المدمرة.

وهذا ما حدث لها بالفعل سنة ١٦٨٣ عندما قصفها الفرنسيون من البحر (١).

__________________

(١) تميزت سياسة الملك لويس الرابع عشر بالعداء تجاه حكام الجزائر ، فشن الفرنسيون عدة حملات بحرية على مدينة الجزائر للتخلص من الإتاوات التي فرضت عليهم مقابل نشاطهم التجاري ، وكذلك من أجل فرض النفوذ الفرنسي بمياه البحر المتوسط الغربي.

ومن هذه الهجمات البحرية الفرنسية التي تسببت فيها سياسة لويس الرابع عشر العدوانية ضد الجزائر في النصف الثاني من القرن السابع عشر ، نذكر الهجمات التي حدثت في السنوات التالية : ١٦٦٣ بقيادة دوبوفور ، و ١٦٦٥ بقيادة كولبير ، و ١٦٨٢ بقيادة دوكين ،

٧٤

وفي مقابل ذلك فإن مدينة الجزائر تتفوق في الدفاعات بفضل قلاعها وحصانة موقعها الطبيعي بفعل الجبال العالية التي تحيط بها ، إذ يتحتم على كل مهاجم لها احتلال تلك المرتفعات قبل القيام بأي عمل عسكري ذي أهمية ، فالإمبراطور شرلكان ورغم كل قوته لم يتمكن من النيل منها ، وإن كان فشله في حملته عليها يعزى إلى فعل العاصفة البحرية التي حطمت أسطوله أكثر من كونه يعود إلى حصانة مدينة الجزائر (١) ، فالحصن الذي قام ببنائه والذي لا زال حتى الآن يحمل اسمه ويعرف لدى السكان" بحصن الإمبراطور" ، شيد للدفاع عن المدينة وحماية الميناء ، إلا أنه من الممكن أن يكون هو السبب في فشل حملة الإمبراطور عندما وقع في أيدي أعدائه ، وهذا أمر ممكن الحدوث حسبما تبين لنا ذلك من معاينة موقع الحصن (٢).

إن خبر اقتراب الأسطول الإسباني حدث غير مألوف في البحر المتوسط منذ عهد فيليب الثاني ، فقد أحدث فزعا لدى حكومة الجزائر حتى أن الداي نفسه رأى أنه من الأنسب أن يرسل مختلف الأشياء الثمينة إلى قنصل السويد ليحتفظ بها له ، وأثناء ذلك لم يكن الجزائريون متأكدين من أن

__________________

و ١٦٨٨ بقيادة ديستري ، و ١٦٨٩ بقيادة الفارس بول. أنظر ناصر الدين سعيدوني ، البحرية الجزائرية ، المصدر نفسه ، ص ص. ٢٠٦ ـ ٢٠٨.

(١) لم يتقبل الأوربيون هزيمة الإمبراطور شرلكان في حملته على مدينة الجزائر عام ١٥٤١ والتي جند فيها ٤٥١ سفينة و ١٢. ٣٣٠ بحارا ، في وقت كان فيه خير الدين بربروسة في إستانبول يتولى قيادة الأسطول العثماني ، وينوب عنه في حكم الجزائر وكيله حسن آغا.

وقد حاول الأوربيون إيجاد مبررات لهذه الهزيمة مثل وقوع العاصفة وتخليه على الحصن الواقع أعلى مدينة الجزائر والمعروف بحصن الإمبراطور ، مع العلم بأن تراجع قوات الإمبراطور يعود أساسا إلى استبسال فرق الإنكشارية ومشاركة السكان في الدفاع عن المدينة بقيادة حسن آغا ، واستهانة شرلكان وقادته بقوة وشجاعة المدافعين عن المدينة ، الأمر الذي أرغمهم على التراجع الذي تحول إلى هزيمة ساحقة كادت أن تنتهي بالقضاء على الإمبراطور شرلكان لو لا تمكنه من الانسحاب إلى بجاية ومنها إلى إسبانيا.

(٢) للتعرف أكثر على حصن الإمبراطور ، أنظر هامش رقم ٢٠.

٧٥

القوة البحرية الإسبانية تهدد وهران أو تتوجه إلى الجزائر ، مما اضطرهم إلى تقسيم قوتهم التي لم تكن في الواقع كافية للدفاع عن أي واحد من هذين الموقعين البعيدين عن بعضهما ، وهذا ما زاد في قلقهم ، وإن كانوا في العلن يخفون مخاوفهم ويظهرون استهانتهم بقوة الإسبان ، في الوقت الذي تصاعدت فيه لدى العامة روح العداء للمسيحيين وتمنوا ـ في حالة فرض الحصار ـ أن لو يستطيعون وضع المسيحيين في فوهة المدافع ويقذفون بهم ليتحولوا إلى قطع متناثرة في وجه العدو كما حدث لبعضهم عندما هاجموا الجزائر في فترة سابقة (١). وفي ظل هذا الوضع ، فإنني أنهي لسيادتكم بأنه من المفيد لي أن أبتعد بسرعة عن المدينة حتى لا تكون مقتنياتي عرضة للظروف المستجدة.

إن حالة الغموض التي تعيشها مدينة الجزائر ونواحيها قضت على كل أمل لي في أن أضيف أشياء جديدة إلى مجموعتي من الحيوانات الغريبة والمقتنيات النادرة ، وبدأت كباقي المسيحيين الآخرين بالاستعداد للرحيل وأخذت جانب الحيطة والحذر في ذلك حتى لا يبدومني ما يدل على نيتي في الهرب ، وهذا ما استوجب علي أن أتحفظ في سلوكي إلا فيما يخص تحركاتي المتعلقة بمهمتي العلمية.

لقد أديت بعد رجوعي مباشرة من سفري زيارة إلى الداي لتقديم الشكر له على ما قدمه لي من حماية ورعاية وطلبت منه بهذه المناسبة الإذن لي بمواصلة سفري ، فأجابني ضاحكا أن ذلك قد يكون مصدره خوفي من قنابل

__________________

(١) إشارة إلى ما وقع لمندوب حصن فرنسا (الباستيون) وممثل فرنسا لوفاشي (P.Jean Levacher) أثناء النزاع الجزائري الفرنسي (١٦٨٢ ـ ١٦٨٣) الذي تسببت فيه سياسة لويس الرابع عشر المتغطرسة ، فبعد أن تكررت هجمات الأسطول الفرنسي بقيادة دوكين (Duquesne) على مدينة الجزائر ، أمر ميزومورتو الذي تولى الحكم آنذاك بوضع لوفاشي في فوهة المدفع ردا على السياسة الفرنسية وقذف به كقذيفة مدفع في مواجهة الفرنسيين ، وقد احتفظ الفرنسيون بهذا المدفع عند استيلائهم على الجزائر عام ١٨٣٠ وأطلقوا عليه اسم المدفع القنصلي."Le consulaire "

٧٦

الإسبان ، ومع ذلك وافق وبدون تردد على مغادرتي الجزائر مع مقتنياتي شريطة أن أترك له الأدوية التي كان لها مفعول في معالجة ابنه وأعلمه كيفية استعمالها ، فقمت بتحضيرها له وسلمت الوصفة الخاصة بها لحرسه الشخصي ليتمكن من استخدامها في معالجة ما يلم به وبأصدقائه من الأمراض ، ما دمت لا أستطيع أن أقنع هؤلاء الناس بأن كل مرض من الأمراض يتطلب دواء خاصا ، فهم يعتقدون بأن دواء واحدا كفيل أن يشفي كل الحالات المرضية ، فضلا عن كونهم يحملون نظرة جيدة عن كفاءة الأطباء النصارى في هذا الشأن ويدعونهم بالعلماء تعبيرا عن التقدير الخاص الذي يحضون به لديهم.

وعند ما سلمت الدواء للداي فتح كيس نقوده وهم بتسليم مبلغ مالي لي ، فأفهمته بلطف بأني لم أقم بذلك من أجل أن أتقاضى ثمنه ، لكن كان لزاما علي قبول المبلغ الذي قدمه لي الداي ، لأن المترجم أكد لي أن ممانعتي وإصراري على رفضه قد يتسبب في غضب الداي ، وبالفعل كانت هذه الهدية جديرة بمقام من قدمها وهو الداي الذي ارتقى من صانع للغليونات إلى مرتبة ملك إن صح إطلاق هذا اللقب على أحد القراصنة (١). كانت هذه الهدية تتكون من ثلاثة أكياس من النقود من صنف القروش التي تعتبر أصغر نقود الجزائر ، والتي لها نفس قيمة الريالات الفرنسية القديمة. (E؟cus)

لقد انتهزت هذه الفرصة فالتمست من الداي أن أحصل على لبؤة كان

__________________

(١) لم يوفق صاحب الرحلة في هذا التعبير الذي يظهر نظرة الأوربيين إلى مسألة الجهاد البحري والقائمين عليه وهم رياس البحر ، فاعتبروا هذا النشاط البحري من قبيل القرصنة التي لا تخول صاحبها تولي المناصب السامية ، كما أن تقاليد المساواة التي كانت سائدة في صفوف الحامية بالجزائر كانت تتناقض مع ما هو متعارف عليه بأوربا حيث تخضع المناصب والمهام إلى اعتبارات المكانة الاجتماعية ومنزلة الأسر العريقة ، وهذا ما جعل كاتب الرحلة لا يتقبل كون داي الجزائر قبل توليه الحكم مارس الجهاد البحري وامتهن حرفة ذات مردود مادي محترم وهي صناعة الغلايين ، الأمر الذي جعله يتحفظ في إطلاق لقب" ملك" عليه مع كونه كان يعرف لدى عامة الناس بهذا اللقب.

٧٧

يمتلكها ، لكن حنكته جعلته يعلل رفضه بأن هذه اللبؤة كانت ضمن الهدايا التي سوف يقوم بإرسالها للسلطان العثماني ، وهو الآن يتهيأ لإرسالها إلى إستانبول ، ثم عقب على كلامه هذا بأنه سوف يخص الملك الذي أرسلني بأول ما يحصل عليه من هذه الحيوانات شريطة أن أعود لتسلمها ، فآليت على نفسي عهدا أمامه بأنني سوف أرجع لزيارته ، وأثناء ذلك أبدى الداي التفاتة تنم على الحفاوة التي حظيت بها عنده ، حيث سلمني رسائل توصية منه إلى حكام قسنطينة وتونس وطرابلس ، فالأول وهوباي قسنطينة كان تابعا لسلطته والأخيران يعتبران مجرد حلفاء له.

وقد يكون من اللائق لسيادتكم ملك بولونيا أن تطلعوا على محتوى الرسالة الموجهة إلى باي طرابلس ، خاصة وأنها تعطي في نفس الوقت فكرة عن أسلوب هذه الشعوب في المراسلة وهذا نصها : الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ، السلام عليكم وعلى أهلكم وحكومتكم ووطد الله حكمكم ، أخونا وسيدنا [أحمد] باشا طرابلس ابن السيد يوسف ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، تلازم رفيع مقامكم بكرة وعشية ، فالمعروض على سمعكم الشريف وفهمكم اللطيف ، أن هذا المسيحي السيد الأرفع ومرافقيه قدموا إلى بلاد الجزائر للبحث عن النباتات ومن أجل إيجاد أدوية جديدة ، وقد بقوا بضعة أيام في بلادنا وطلبوا مني كتابة خطاب لكم في شأنهم ، فالرجاء أن تشملوا حامله بحمايتكم هو ومرافقوه حتى يتمكنوا من أداء مهمتهم ، هذا وإن احتجت شيئا منا فنحن في خدمتكم ، كتب هذا الخطاب في ١٥ شهر ذي الحجة من العام الهجري ١١٤٤. (١)

وفي هذه الظروف انصب اهتمامي على إرسال الحيوانات التي كانت

__________________

(١) حاولنا الرجوع إلى العبارات التقليدية التي كانت تستهل بها الرسائل في تلك الفترة ، كما أننا أضفنا اسم حاكم طرابلس وهو أحمد لأنه سقط من النص الأصلي ، مع العلم بأن اسمه الكامل هو أحمد بن يوسف بن محمد القرامانلي (أنظر ترجمة هذا الحاكم :

هامش ١٤٧).

٧٨

بحوزتي عن طريق البحر وضمان وصولها إلى وجهتها المحددة ، وقد وعدني القنصل الهولندي أن يتولى أمرها أحد ربابنة السفن الهولنديين ، وكان من المفروض أن يبحر هذا الربان بسفينته من الجزائر إلى مرسيليا ، لكن هذا الربان تحجج بجميع أنواع الأعذار غير المقنعة حتى لا يحمل تلك الحيوانات في سفينته ، فظل معرضا عن سماع طلباتي وغير مستعد للاستجابة لتوسلاتي ما دامت غير مرتبطة بمصلحته ، فكنت بحق في هذا الوضع ضحية حالة العداء التي كانت تسود مدينة الجزائر إزاء مختلف البيوتات التجارية الأوربية أو الممثليات المسيحية ، ومع أني بذلت جهودي في أن تكون علاقتي حسنة مع كل هذه البيوتات ، لكن الظروف السائدة اضطرتني أن أعطي الأفضلية لمن كان منها له اعتبار لدى حكومة البلاد ، وهذا ما جر علي عداوة الآخرين في هذه الظروف التي كنت فيها تحت محك الأحداث التي كانت تعيشها الجزائر من جراء تهديد الأسطول الإسباني لها.

لقد توصلت أخيرا إلى اتفاق مع سفينة إنكليزية صغيرة ، فتكفلت بنقلي إلى عنابة مع الأشخاص المرافقين لي في سفري ومنها يمكن لي مواصلة السفر إلى مرسيليا مع الحيوانات والأشخاص القائمين على خدمتها ، وقد سمح لي تأخر إقلاع هذه السفينة أن أحضر عيد بيرم الذي يعرف أيضا بعيد الخروف (١) (Pascia de Carnieros) لأن فيه يتم ذبح الخرفان وأكل لحومها بصفة فردية أو جماعية ، وهذا العيد يشبه إلى حد ما عيد الفصح لدى اليهود ، فالمسلمون يحيون هذه المناسبة إجلالا لذكرى تضحية إبراهيم بالخروف بدل ابنه إسماعيل تقربا من الله تعالى كما ورد ذلك في القرآن الكريم ، وصادف حلول العيد هذه السنة اليوم الأول من شهر جوان (١٧٣٢) ؛ وفي هذا اليوم تقدم التهاني للداي في قصره ، وبعدها تحضر كبار الشخصيات وليمة فاخرة

__________________

(١) يقصد به عيد الأضحى أو العيد الكبير أو بيرم عند الأتراك أو عيد الخروف بلغة الفرانكا.

٧٩

على شرفه وتنظم بهذه المناسبة مبارزات بين الجنود الأتراك يفوز بها من يستطيع لي رقبة خصمه وطرحه أرضا ، فيحظى بمرتبة المنتصرين ، وتعطى له صرة وهي عبارة عن كيس من القروش ، وهو مبلغ غير ذي بال إذا ما قورن بما أحصل عليه كطبيب أجنبي يرعى صحة الداي.

وفي أثناء ذلك خطر للآغا ابن الداي أن يستبقيني عنده أياما أخرى لأنه كان يرغب في أن يصور له الرسام الذي بصحبتنا حصانه حتى يتمكن من ترويض المهرات بعرض صورة الحصان أمامها أملا في أن تلد تلك المهرات أحصنة لها نفس لون حصانه وخصائصه ، فلم نجد بدا من الاستجابة وتلبية رغبته تقديرا للمودة التي أظهرها لنا أثناء إقامتنا في مدينة الجزائر وسفرنا معه داخل إقليمها.

لقد غادرنا مدينة الجزائر في ٦ جوان (١٧٣٢) بعد طلب الإذن من الداي الذي أبدى رغبته بالمناسبة في رؤية رسومنا ومشاهدة حيواناتنا وأسماكنا. وبعد ستة أيام من الإبحار وصلنا عنابة في ١٢ جوان ، وقد كانت سواحل إفريقيا طيلة الرحلة على مرأى منا ، فقد تجاوزنا رأس بوقرعون ورأس الحديد ثم رأس الحمراء ، وقد صادف السفينة في إبحارها هبوب رياح متنوعة الاتجاهات تتخللها فترات ركود. والجدير بالملاحظة هنا أن التيارات البحرية كانت دائما ذات فائدة للبحارة بفعل تأثيرها بحيث تتمكن السفينة دائما من التحرك قدما في سيرها رغم انعدام الرياح ، تساعدها في ذلك حركة التيارات الدائمة بالمتوسط التي تتجه نحو الشرق والتي يمكن أن نعزي قوتها ، اعتمادا على بعض الحقائق الطبيعية ، إلى تأثير جزر الأرخبيل (١). وأثناء الإبحار في هذا الاتجاه كنا نتسلى أحيان برؤية الدلافين وأسماك أبو سيف أو الدوراد

__________________

(١) ربما يقصد بجزر الأرخبيل بعض الجزر الواقعة بالمحيط الأطلسي مثل جزر آصور ، وهذا شيء مستبعد والصحيح أن هذه التيارات مرتبطة بمضيق جبل طارق الذي تتميز حركة المياه به بتيارات بحرية تتجه نحو الشرق.

٨٠