رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

المؤلف:


المترجم: أ. د. ناصر الدين سعيدوني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ تونس
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٨

المسؤولية فإن الجميع يرغبون فيها ، أما الداي الذي يحكم الجزائر الآن فهو عبدي آغا (١) وقد ضحى أخيرا ببعض موظفيه الكبار الذين تآمروا على شخصه وذلك حتى يضمن سلامته ، وقد احتاط للأمر فاتخذ لهذا الغرض عددا من الجواسيس الذين لا يخفى عن أعينهم إي شيء ، ورغم طيبة هذا الداي فهو يخشى أن تكون نهايته مثل سلفه الذي انتهت حياته بالاغتيال (٢) ، وقد رأيت هذا الداي مصفر الوجه وهو يرتعد في اليوم الأول من عيد الأضحى وهو المناسبة التي يمد فيها يده ليقبلها كل من حضر لتحيته فيكون بذلك عرضة للاعتداء وهدفا سهلا للاغتيال ، وفي غير هذه المناسبة لا يمكن رؤيته أبدا ، فهو يتخذ من تقدمه في السن حجة تعفيه من الاختلاط بالآخرين ، وهو مع ذلك رجل ذو أريحية وصاحب خبرة في الحكم ، وقد برهن فعلا على كفاءته هذه ، فمنذ سنوات استدعى الجند الذين كانوا غير راضين عن حكمه ، وبعد أن وجه إليهم خطابا برر فيه سياسته أعلن تنازله عن كرسي الحكم وأخذ مكانه بين الآغوات الذي كان واحدا منهم قبل توليه منصب الداي وتوجه إليهم قائلا : فليتقدم غيري ليشغل هذا المنصب الخطير ، ولم يعد إلى كرسي الداي إلا بعد أن ألحوا عليه وقبل الجند طلبه بإعلان الولاء له.

مداخيل الداي ذات قيمة معتبرة فقد قدرها لوجي دوتاسي بمائتي ألف

__________________

(١) أنظر ترجمة الداي عبدي باشا : الهامش رقم ٨.

(٢) الداي الذي خلفه كرد عبدي في تولي حكم الجزائر هو محمد داي الذي انتهت حياته بالقتل بسبب نقمة الجند عليه إثر إيقاعه العقاب ببعض رياس البحر الذين اقترفوا أعمال نهب ، فدبرت جماعة من الجند (اليولداش) مؤامرة ضده ونصبت له كمينا على الساعة العاشرة صباحا يوم ١٨ مارس ١٧٢٤ داخل مدينة الجزائر عند ما كان عائدا من تفقد بعض الأبراج ، فصوب نحوه أحد الجنود من على سطح ثكنة البحرية طلقة نارية أصابته بين كتفيه وأردته قتيلا ، فسارع أعوانه وفي مقدمتهم الخزناجي إلى دار الإمارة بالجنينة وأغلقوا الأبواب ليحولوا دون انتشار الفوضى ، وسارعوا بإعلان آغا العرب أو قائد الصبائحية كرد عبدي دايا ، الأمر الذي ساعد على قمع التمرد وإقرار الهدوء. أنظر :

H. D. de Grammont, op. cit.

٤١

قرش أوفلورين في السنة ، الجزء الأكبر منها كان يودع في الخزينة الموجودة في مكان أمين لا يمكن لأي شخص الدخول إليه ما عدا الخزناجي الذي يصاحبه لدى دخوله إليها أحد الأسرى ويكون مجردا من الملابس دفعا للشبهة ، وهذه الخزينة تدخلها مقادير ضخمة من الأموال ولكنها لا تخرج منها أبدا الأمر الذي يسمح لنا بالتكهن بأنها تحتوي على كوم هائل من الذهب والفضة في شكل نقود وأشياء ثمينة (١) ، ومدخل هذه الخزينة محروس بعناية والجند يأمرون الناس المارين بقربه بتعرية رؤوسهم.

تشكل تجارة الأسرى المسيحيين أحد مصادر الدخل الرئيسية ، فكل أسير له قيمة محددة حسب مكانته ، فالقابودان ، وهو قائد السفينة ، يتطلب إطلاق سراحه دفع ألفين وخمسمائة قرش ، بينما معاونه وكذلك صانع السفن أو الجراح فيدفع عن كل واحد منهم ألف وخمسمائة قرش ، أما البحار فعليه تسديد ألف قرش. وعادة ما يكون ثمن إطلاق الأسرى الألمان أعلى من الآخرين لمهارتهم في شؤون البحرية. أما الآباء المشتغلون بقضية تحرير الأسرى (Les Pe؟res de la Re؟demption) والذين يتكفلون بدفع ديتهم فيأتون إلى الجزائر كل سنة ويحالفهم النجاح دائما في تحرير بعض الأسرى ؛ ومن حسن الحظ أن يكون المرء أسيرا لدى الداي ، لأن الآباء المسيحيين المكلفين بفدية الأسرى ملزمون بتخليص أسرى الداي قبل غيرهم.

هذا ويتجمع أسرى الداي في المساء في سجون عامة على هيئة ملاجئ

__________________

(١) توجد خزينة الجزائر الواقعة أسفل المدينة في إحدى الغرف الملحقة بقصر الجنينة ، وكانت تضم كميات كبيرة من الأموال والنفائس ، بعضها في شكل قطع نقدية وبعضها الآخر عبارة عن مقتنيات نادرة وأشياء ثمينة ، وقد حرص حكام الجزائر على عدم الإنفاق منها إلا في حالات نادرة ، مما جعلها بمثابة كنز ثمين لا يقدر بثمن ، وحتى بعد نقلها إلى أعلى المدينة بحصون القصبة بأمر من الداي علي خوجة عام ١٨١٧ ، ظلت تحتوي على ثروات طائلة ، فقد قدر الفرنسيون احتياطاتها من العملة والأشياء الثمينة ، عند استيلائهم عليها سنة ١٨٣٠ ، ب ٤٨. ٦٨٤. ٥٢٧ فرنك (بقيمة ١٨٣٠) ، راجع :

ناصر الدين سعيدوني ، النظام المالي ... ، المصدر نفسه ، ص ص. ١٦٩ ـ ١٨٧.

٤٢

ليلية ٤٥. أما الأسرى الذين يوضعون في خدمة القناصل أو الأفراد المقيمين بالجزائر فيتمتعون بالحرية مقابل تعويض مالي يسدد كل شهر. أما أسرى الخواص من الجزائريين فيدفعون هذا التعويض للأشخاص الذين يمتلكونهم ، ويسمح لهم بالعمل لتوفير مدخول مالي يمكنهم من تسديد ما يتوجب عليهم إزاء مالكيهم. ورغم الحراسة التي يخضع لها هؤلاء الأسرى فإن في استطاعتهم الهروب على متن قوارب صغيرة يقومون بصنعها خفية في بساتين مالكيهم ، وقد حدثت في المدة الأخيرة محاولة هروب من هذا النوع ؛ وعند القبض عليهم في حال محاولتهم الهروب يتعرضون إلى الضرب بالعصا ، والذي يتم بطريقة لا تؤدي إلى موت الأسير إلا نادرا ، لأن الأسير يعتبر جزءا من ثروة سيده (١).

تخرج سفن إيالة الجزائر للبحث عن الغنائم عادة في بداية فصل الربيع ، وإن كان ليس من المؤكد أن ترفع أشرعتها للإبحار هذه السنة نظرا للاستعدادات الإسبانية في ميناء مالقة لمهاجمة الجزائر ، فمن الراجح أن يتوجه الأسطول الإسباني نحو وهران التي ظلت دوما في حوزة الإسبان الذين يحاولون الآن استرجاعها (٢). وهذا ما جعل البحارة الجزائريين يمكثون في

__________________

(١) كان الأسرى الأوربيون بمدينة الجزائر يتمتعون بحرية الحركة والعمل أثناء النهار ، وإن كانوا ملزمين بقضاء الليل في سجون عامة عرفت بالبانيه (Bagnes) ، وهي أشبه بالملاجئ الليلية منها بالسجون المحروسة ، ويبلغ عدد هذه السجون خمسة وهي :

سجن كورغلي ، وسجن علي ماضي ، وسجن البايليك ، وسجن سانت كاترين ، وسجن راباحي ، وسجن سيدي حسان. مع العلم بأن عدد الأسرى الأوربيين بالجزائر تناقص من ٢١ ألف سنة ١٦٦٢ إلى ٢٠٠٠ سنة ١٧٢٤ ، نظرا لتراجع نشاط البحرية الجزائرية أمام تزايد قوة الأساطيل الأوربية.

(٢) حاول الإسبان تنفيذ مخطط توسعي بسواحل المغرب العربي ، وتنفيذا لهذا المشروع استولوا على عدد من المراكز الساحلية الجزائرية منها : المرسى الكبير (١٥٠٥) ووهران (١٥٠٩) ، بقيادة رايمون القرطبي وزعامة الكاردينال خيمينيس (Don F.Xime؟nes de Cesne؟ros). وارتكب الإسبان أثناء استيلائهم على وهران مذابح فظيعة ، فقد

٤٣

المرسى ، وإن كان ذلك لم يحل دون حصول البحارة الخواص منذ حلولنا بالجزائر على أربع غنائم ، وقد تم بيع الأسرى في المزاد العلني ، وحددت قيمة كل واحد منهم حسب سنه وقوته العضلية ومظهره الخارجي ، هذا وإن أكبر خطر يتعرض له البحارة الجزائريون تمثله السفن المالطية ، ففي السنة الماضية ظهرت سفينتان قبالة مدينة الجزائر وتسببتا في إبقاء الميناء مغلقا لمدة أربعة أشهر بحيث لم يعد من الممكن أن يخرج منه أي شيء.

تتكون الغنائم البحرية التي يتحصل عليها الجزائريون في نشاطهم البحري على العموم من سفن إسبانية من نوع طارتان (Tartane) ومن بعض قوارب الصيادين ، أما سفن دولتي هامبورغ ولوبيك بجرمانيا فهي تحمل الآن جوازات سفر سويدية أو هولندية ، ولم تعد هدفا للبحارة الجزائريين كما كان عليه الأمر في السابق.

يوكل الداي وهو رئيس الدولة الاعتناء بشؤون البلاد إلى الديوان الذي يجتمع كل يوم سبت وهو مجلس مؤلف من كبار ضباط الوجاق وهم الآغوات الذين يصلون إلى هذه المرتبة بالتتابع حسب تقدمهم في السن ، ويرأس الديوان آغا يتولى هذه المسؤولية لمدة شهرين يترك بعدها مكانه لآغا آخر ، وأثناء هذه الفترة التي يتولى فيها رئاسة الديوان يصاحبه في انتقاله عدة

__________________

قضوا علي ٤٠٠٠ سكانها وأسروا عىىا كبيرا ممن نحوا من الموت، وأزالومظاهر المدينة الإسلاميه منها وأقاموا حولها العديد من الحصون والاستحكامات العسگرية لمواجهة حصار الجزائريين لهم ،لهم، وقد ظللوا لمدة تسع وتسعين عاما يواجهون الهجمات المنكروة التي كانت تشنها عليهم القوات الجزائرية ، حتي تمكن باي الغرب مصطفى بوشلاغم من تحرير وهران سنة سنة ١٧٠٨ ، وحتى بعد أن أعادالإسبان واحتلالها من جديدسنة ١٧٩١ فانتقلت إليها قاعدة باليليك الغرب من مدينة معكر ، وعمرت مدينة وهران من جديد وأصبح سكانها يقىرون بعشرين ألفا عندما تمكن الفرنيون من الاستيلاء عليها سنة ١٨٣١.

٤٤

شواش ينادون على المارة : أفسحوا المكان أفسحوا ... الآغا قادم! فهو الشخص الوحيد الذي يحظى بهذه المعاملة من دون بقية الضباط السامين (١) ، وهم الكاهية (٢) ومعزول آغا (٣) وسلك الضباط من رتبة بلوك باشي وأوده باشي والبيك باشي ، بالإضافة إلى باقي الضباط الآخرين الذين يتتابعون في ترتيبهم حسب رتبهم. أما رئيس الهيئة الدينية فهو المفتي الذي تبعث به إستانبول مثله مثل القاضي الذي أصبح الآن يثبت في وظيفته من طرف ديوان الجزائر الذي لم يعد يعترف بالسلطان العثماني إلا باعتباره الولي الشرعي للمسلمين.

أما المقاطعات (البايليكات) فتحكم من طرف البايات (٤) أو نواب الداي وتعطى لهم حرية التصرف حسب رغباتهم شريطة أن يدفعوا ما يتوجب عليهم من مداخيل مقاطعاتهم ، فيحملون هذه المداخيل بأنفسهم ويستقبلون في الجزائر بتشريفات تليق بمقامهم ، وهذه التشريفات التي تكلفهم في غالب الأحيان حياتهم ، لا يمكن لهم تجنبها بحيث لا يقبل منهم تحت أي عذر من

__________________

(١) يعرف هذا الضابط السامي بآغا الهلالين لكون سلطته الشرفية على الديوان وما يرتبط بها من امتيازات ومعاملات خاصة تحدد بفترة شهرين قمريين ، يلتحق بعدها بمجموعة الضباط المتقاعدين الذين يعرف كل واحد منهم بمعزول آغا ، والذين يشكلون مع غيرهم من الضباط والأعيان مجلس الديوان الذي يجتمع في المواسم والمناسبات الخاصة والتي توزع أثناءها الجرايات والرواتب على الجند.

(٢) الكاهية موظف سام بديوان الجزائر كان يعتبر بمثابة نائب الداي وتوكل له رئاسة الديوان ، وبعد أن أصبح معزول آغا يتولى رئاسة الديوان كل شهرين ، تحول الكاهية إلى مجرد موظف شرفي يمثل الداي في حضور الديوان أثناء المواسم والأعياد.

(٣) للتعرف على وضعية جماعة معزول آغا ، أنظر هامش رقم ٢٩.

(٤) بالإضافة إلى دار السلطان وهي المقاطعة المركزية التي يشرف عليها الداي مباشرة ويتصرف في شؤونها آغا العرب ، تتألف مملكة الجزائر كما تعرف آنذاك من ثلاث مقاطعات" بايليكات" يتولى حكمها البايات بأمر وتوجيه من الداي ومراقبة من آغا العرب ، وهذه المقاطعات هي : بايليك الشرق ومركزه قسنطينة ، بايليك الغرب ومقره معسكر آنذاك ، وبايليك التيطري وقاعدته المدية

٤٥

الأعذار إرسال ضباط مكانهم لحمل جباية مقاطعاتهم إلى مدينة الجزائر (١).

هذا وإن عادات وتقاليد الجزائر تحددها ضوابط الشريعة الإسلامية ، فالمسلم الصالح يتوجب عليه حسن معاملة أصدقائه ، كما يطلب منه أن يكون شديدا مع أعدائه رحيما بالمنهزمين ، وفي هذا الشأن قارنت حالة الشقاء التي عليها الجزائريون بمرسيليا مع وضعية الأسرى المسيحيين بشمال إفريقيا ، فالأولون لا يستطيعون إلا بشق الجهد جر أغلالهم الثقيلة ، بينما الآخرون وهم الأسرى المسيحيون في الجزائر يقضون نهارهم أحرارا مقابل دفعهم مبلغا ماليا كل شهر ليطلب منهم في المساء التوجه إلى مقراتهم التي لم تكن أبدا غير مريحة بالنسبة إليهم ، وحتى الأسير المسيحي الذي يرتد عن معتقده لا يحظى بالترحيب ، لأنه ليس فقط تسبب في خسارة سيده بعد أن تسقط الفدية عنه بإسلامه وإنما ينظر إليه على أنه لم يعتنق الإسلام عن اقتناع.

وفي هذا الجو يتمتع الكل في الجزائر بحرية المعتقد ، فالأجانب يكرمون والكل في وضعية تمكنهم من القيام بما يرغبون فيه. والأسير المسيحي يستطيع أن يحصل على حكم عادل عن أية معاملة سيئة يتلقاها من سيده عندما يثبت ما يؤكد تظلمه ، في الوقت الذي يلاقي فيه البحارة الجزائريون عقابا مضاعفا عندما يقعون في أيدي أعدائهم الأوربيين الذين هم في حرب لا هوادة فيها معهم (٢).

__________________

(١) تعرف عملية حمل الجباية والرسوم من مراكز المقاطعات إلى مدينة الجزائر بالدنوش ، إذ يتوجب على كل باي حملها بنفسه كل سنة وهي الدنوش الكبرى ، بينما ترسل الجباية في فصلي الربيع والخريف من كل سنة مع خليفة الباي وتعرف بالدنوش الصغرى ، وترتبط الدنوش الكبرى التي يحملها البايات بإجراءات خاصة بحيث يستقبل البايات خارج مدينة الجزائر ، وينزلون في جناح خاص من قصر الداي ، فيحرصون على إرضاء الداي وأعضاء الديوان والشواش ، حتى يتجنبوا المساءلة وحتى لا يتعرضوا إلى العزل أو ينفذ فيهم حكم الإعدام.

(٢) لقد اتصف هابنسترايت هنا بالصدق والنظرة الموضوعية في مقارنة معاملة الأسرى

٤٦

أما محاولات الاغتيال التي يقوم بها رعايا الداي للتخلص منه فتعود إلى خبث طبيعة وسوء نية بعض الأفراد ولا يمكن أن نعتبرها صادرة عن سلوك يتصف به الشعب كله ، مع أن هذه المحاولات تكون في بعض الأحيان تعبيرا عن رفض الطغيان والتصدي للظلم.

أغلب العادات التي يمارسها الجزائريون تستند في أساسها إلى قوانين ، وليس فيها ما يفاجئ الأوربي كغياب النساء عن الحياة العامة ، واحتشامهن الشديد ، فلا يسرن في الأزقة بدون حجاب ، وحتى منازلهن تكاد أشعة الشمس لا تصل إليها ، وعندما يسافرن على ظهور البغال يكن مختبئات في ستائر غريبة ، وقد ترجاني أحد الأتراك من ذوي المكانة المتميزة أن أعالج زوجته ، وعندما طلبت منه أن أرى المريضة أجابني من الأفضل أن تموت على أن يراها أحد.

والجزائريون من أتباع الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغيورين ويستهجنون المتشيعين لعلي (ض) ، ويقومون في الغالب بالحج إلى مكة (المكرمة) ، وبعد أداء هذه الفريضة يرتدون الملابس الخضراء التي تنسب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو اللباس الذي يميز الأشراف الذين يدعون بأنهم من سلالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

__________________

الجزائريين في أوربا والأوربيين في الجزائر ، وهذا ما تجاوزه جل من كتب عن أوضاع الأسرى ونشاط البحرية من الأوربيين ، فلم يروا في نشاط البحرية الجزائرية سوى قرصنة وعملا عدائيا منافيا للحضارة ومضادا للسلم ولحرية التجارة ، مع أنها تعتبر في إطار التعامل الدولي عملا مشروعا من أجل الدفاع عن النفس. أنظر : ناصر الدين سعيدوني ، ورقات جزائرية ، دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر في العهد العثماني ، بيروت ، دار الغرب الإسلامي ، ٢٠٠٠ ، البحرية الجزائرية ، ص ص. ١٨٧ ـ ٢١٣.

(١) طائفة الأشراف بمدينة الجزائر ظلت محافظة على خصوصيتها ومعتزة بأصولها ، لها أمين يرعى شؤونها يعرف بنقيب الأشراف ، ولها زاوية خاصة بها وأوقاف تنتفع بريعها ، قدر مدخولها سنة ١٨٣٠ ب ٥٠٠٠ فرنك. وكان آخر نقيب لهذه الطائفة هو أحمد الشريف الزهار صاحب التقاييد التاريخية عن أحوال الجزائر ، والتي نشرها بعد تحويرها والتعليق عليها الأستاذ أحمد توفيق المدني ونشرت بالجزائر سنة ١٩٧٤ (أنظر قائمة المراجع المعتمدة في التحقيق).

٤٧

هذا ويمتنع المسلمون الأتقياء عن شرب الخمر ، أما الآخرون فيتعاطونه حتى يبلغ بهم السكر حد الهياج ، وفي هذه الحالة يصل بهم الاندفاع إلى حد ارتكاب أكبر التجاوزات التي تتسبب في قتلهم في بعض الأحيان ، وهذا ما يحدث غالبا في أيام العيد ، فبعد أن يمتنعوا عن شرب الخمر طيلة شهر رمضان ، يعودون إلى شربها مع حلول العيد الأضحى ، فيقبلون على تعاطي الخمر طيلة أيام العيد الثلاثة التي تطيب فيها المآكل وإن كانوا لا يجرؤون على تناوله جهارا (١).

لقد صادف أن وصلت إلى الجزائر في الفترة التي تسبق الصيام ، ولا حظت أن المسلمين يمتنعون عن الشرب والأكل أثناء اليوم طيلة الشهر ، وحتى ظهور قمر الشهر التالي. وهذا الصوم ليس منهكا سوى للطبقة الدنيا وهي جماعة البرانية ، الذين يلتزمون به رغم ما يقومون به من أعمال منهكة جدا ، بينما الذين هم في منزلة أرفع ، وهم الحضر ، يتجنبون هذا الإجهاد ويهيئون في الليل ما يقومون بعمله في النهار.

ومع نهاية شهر رمضان وعند رؤية هلال العيد ينقل الخبر على جناح السرعة إلى الداي ليأمر بإطلاق المدافع إعلانا بانتهاء شهر رمضان وحلول العيد (٢) ، الذي يعرف لدى الأتراك ببيرم وفي لغة الفرانكا يطلق عليه لفظ باساكا (Pasaca) لأنه يأتي على منوال عيد الفصح لدى النصارى ، وقد جرت العادة في صبيحة اليوم الأول من عيد الفطر أن يذهب الناس إلى إلقاء السلام وتقديم التهنئة إلى الأفندي الأكبر أوالداي ، وأثناء ذلك يكون هذا الأخير

__________________

(١) كانت مدينة الجزائر ، نظرا لنشاطها البحري ولتنوع أصول سكانها ووجود جماعة كبيرة من الأسرى المسيحيين بها ، تضم العديد من الخمارات المعروفة ب" التبارن" (ج. تبرنة) بلغة الفرانكا ، يقوم على خدمتها الأسرى الأوربيون ويتردد عليها النصارى وجماعات من الجند الإنكشاري ، من أهمها حانات قصر الرياس المعروفة بسبع تبارن.

(٢) يقصد به عيد الفطر المعروف لدى العامة بالعيد الصغير وفي لغة الفرانكا بباساكا وعند الأتراك ببيرم.

٤٨

معرضا لأخطار كبيرة ، لأن أعداءه يسهل عليهم الوصول إليه وتنفيذ مؤامراتهم التي يكونون قد خططوها ضده ، ولقد ذهبنا نحن بدورنا برفقة القنصل الإنكليزي لتقديم تهانينا للداي ، فوجدناه في لباس الحفل الرسمي جالسا على جلد نمر في قاعة المجلس وأعضاء الديوان يحيطون به ، وقد وضعت أمامه مائدة يتناول عليها وجبة الغداء في أطباق من الفخار ، ويكون أول من يبدأ الأكل مع موظفيه السامين ، بعدها يأتي دور قدماء الإنكشارية ويليهم الجند وفي الأخير تترك الموائد للعامة لتناول غدائها قبل أن تقدم للجند القهوة والحلويات.

وأثناء ذلك تتم الاستعدادات لمبارزة رسمية ، اعتاد الأتراك القيام بها بين بعضهم البعض ، فيغطى المكان المخصص لهذه التمارين بالرمل ، ويتقدم إليها المتصارعون عراة إلا من سراويل قصيرة جدا من الجلد المدهون بالزيت مثل أجسادهم لتكون ملساء ، وبعد الصلاة يتبارى المتصارعون واحدا بعد الآخر ، ويقومون حسبما جرت العادة بحركات تؤهلهم للفوز بالجائزة ، فالذي يطرح خصمه على الظهر يعتبر منتصرا ، وعندما لا تحسم المباراة تؤجل إلى آخر أيام العيد لاستئناف المصارعة من جديد ، وتكون مصحوبة كما في اليوم الأول بأنغام موسيقى الإنكشارية ، وبجانب هذه المبارزة يتسلى الشعب أيام العيد بكل أنواع الألعاب التي ليس فيها ما يثير الانتباه ، وأثناء هذه الفترة وحتى بعد مضي عدة أيام من حلول العيد فإنه يتوجب على المرء أخذ الحيطة حتى لا يصادف أحد الأتراك سكيرا في أحد الأزقة ، لأن في ذلك مجازفة قد تؤدي إلى هلاكه ، فالتركي قادر على ارتكاب أي حماقة لأقل إهانة قد يشعر بها ممن يقابله في الطريق.

ضواحي مدينة الجزائر (المعروفة بالفحص) ذات تضاريس جبلية ولها مناظر تدخل البهجة والسرور على النفس ، تتخللها أودية رطبة تتميز بخصوبتها ، تشاهد فيها الكثير من الحدائق بها أشجار العنب والبرتقال واللوز وغيرها من الأشجار المثمرة وغير المثمرة مثل السرو ، ولهذا يفضل

٤٩

الأشخاص الذين لا تضطرهم أشغالهم للبقاء في المدينة قضاء الصيف في المنازل الريفية ، حيث الطرقات تحف بها أشجار الزيتون غير المنتجة فهي ليست كزيتون البروفانس ، إنما تركت على حالتها الطبيعية ولم تقلم ولم يعتن بها ويتخللها نبات الصبار الذي ينموبكثرة ويبلغ ارتفاعا كبيرا ويتخذ الفقراء من ثماره غذاء لهم. كما توجد أيضا بفحص الجزائر أشجار النخيل لكنها غير مثمرة وإن أعطت تمرا فهو بدون نواة ، ومن الراجح أن ذلك يعود إلى نقص الحرارة الذي لا يساعد على اكتمال نمو العراجين التي تحملها ، وأما جمارها أو براعمها فتنموبكميات كبيرة ومذاقها لذيذ جدا ، ويتخذ منها السكان غذاء لهم. وعلى طول المسالك الريفية بضواحي الجزائر ينمو أيضا نوع من شجر الصبار الضخم أو بالأحرى شجر الأغاف (agave) وصبار سيكوتران (I\'aloe؟s sucotrin) ، فالأول يخرج برعما طوله عشرون قدما وتتفرع منه غصون جميلة مما يشكل منظرا بهيجا للعين ، وشجيرات القطلب (arbousier) والتوت منتشرة بكثرة وهي تحمل ثمارها في هذا الفصل. أما الكروم التي يزرعها المسيحيون في حدائقهم فعنبها من النوع الجيد واللذيذ ، والأتراك يحولونه إلى زبيب ، أو يعالجونه بالنار ليستخرجون منه مشروبا روحيا ذا طعم طيب يتناولونه كشراب بجانب الشراب العادي المعروف عندهم.

وأراضي الجزائر صالحة جدا لزراعة الحنطة ، وسكان سهل متيجة الجميل وعرب بايليك وهران يزودون مخازن الداي بهذا المنتوج ، ليقوم هو ببيعه للأجانب الذين أصبحوا بفعل هذه المبادلات من كبار التجار بفرنسا وإسبانيا وجبل طارق.

إن رطوبة الشتاء التي تتعمق كثيرا في التربة تعوض انقطاع المطر الذي يصبح نادرا جدا منذ شهر أبريل وحتى شهر أكتوبر ، فالزهور والنباتات التي شاهدناها في هذا الفصل ساعدت على نموها رطوبة الأرض ، فهي لا تظهر على الأرض إلا مع نهاية شهر ماي ، وعندها تجف سريعا بفعل الحرارة الشديدة.

٥٠

وفي الجزء الجنوبي من مملكة الجزائر توجد أنواع مختلفة من الحيوانات المتوحشة تعيش في عزلة بجبال الأطلس ، ولا يمكن الحصول عليها إلا بأمر من الداي عندما يرغب في تقديم هدايا لإحدى الدول الأوربية أو عند ما يعود الجند الإنكشاريون المشاركون في المحلات (١) التي تجوب تلك الجهات لاستخلاص الجبايات ، لأن هؤلاء الجند يستعملون أي وسيلة تمكنهم من الحصول على هدايا يقدمونها لأصدقائهم ، وقد سبق لي القول بأن ابن الداي ، وهو آغا المحلة ، قدم لي لبوءة صغيرة كهدية ، وأصدر أوامره بأن يبحث لي عن كل أنواع الحيوانات النادرة ، وقد أصبحت حضيرتي من هذه الحيوانات الآن تتكون من اللبوءة الصغيرة وقنفذين وقط متوحش (chat tigre) وابن مقرض (furet) وظبي (antilope) ، وقد اشتريت قطا متوحشا آخر وهو من فصيلة جميلة من القطط ، فضلا عن الوعد الذي أعطي لي للحصول على بعض من طيور النعام. أما بحر الجزائر فوفر لمجوعتي أسماكا نادرة عملت على تجفيفها أورسمها لفائدة المكتب الملكي الذي أقوم بالرحلة لحسابه.

لقد حال رمضان دون حصولي على الحراسة الضرورية لسفري داخل الجزائر ، وهذا ما جعلني الآن لا أستطيع الابتعاد كثيرا عن مكان إقامتي وإن كنت قد وضعت خططا لزيارة نواحي جبال الأطلس على أن يبقى بعض

__________________

(١) المحلات جمع محلة ، وهي حملات فصلية تتوجه فيها فرق الجند (اليولداش) وعلى رأسها الآغا من مدينة الجزائر وكذلك من مراكز المقاطعات (قسنطينة ومعسكر والمدية) بقيادة البايات نحو المناطق الجبلية والسهبية بالداخل لاستخلاص الضرائب وجمع الرسوم وإيقاع العقاب بالعصاة والمتمردين. وهذه الحملات الفصلية عادة ما تخرج قبل نهاية فصل الربيع ومع حلول فصل الخريف ، حيث يرتبط السكان بمواطنهم لرعي قطعانهم وجمع محاصيلهم. ويعرفنا صاحب الرحلة على واقع المحلة بإقليمي التيطري وقسنطينة لمصاحبته الجنود المشاركين فيها. أنظر ناصر الدين سعيدوني ، النظام المالي ... ، المصدر نفسه ، ص ص. ٩٨ و ١٢٢ ـ ١٢٥.

٥١

مرافقي في مدينة الجزائر للعناية بالحيوانات التي جمعتها ، وعند عودتي من سفري المأمول سوف أرسل لفخامتكم في أول فرصة تتاح لي تقريرا عن مهمتي يتضمن وصفا للحيوانات النادرة والأشياء الجديرة بالملاحظة التي أصبحت بحوزتي.

٥٢

الرسالة الثانية

الجزائر في أول جوان ١٧٣٢.

سيدي ،

إن رغبتكم في الحصول على حيوانات نادرة وخاصة منها التي لا زالت على قيد الحياة تتطلب السفر إلى الأقاليم الجنوبية لهذا البلد (أي مملكة الجزائر) لأنه بدون القيام بهذا السفر فإني سأضطر لانتظار الفرصة السانحة لمصادفة أشخاص يستطيعون تقديم المساعدة لي في ذلك ، على أن السفر قد يتحقق فعلا في ظروف لم نكن ننتظرها ، فكانت مناسبة سعيدة بالنسبة لي أن يقوم آغا الصبائحية الذي كنت قد عالجته بجولته الاعتيادية داخل البلاد لجمع الضرائب من الفلاحين من سكان الجبال وكذلك البدو الذين كانوا يمتنعون عن دفع الضريبة المتوجبة عليهم ولا يقدمونها إلا عندما يرغمون بالقوة على ذلك. ولهذا السبب يقوم ضباط مملكة الجزائر مع مجموعة قوية من الفرسان (تعرف بالمحلة) بالتنقل في بعض الأوقات من السنة ، وخاصة مع بداية فصل الصيف قبل نضج المحاصيل ، وقبل أن يتمكن هؤلاء السكان من الانتقال بخيامهم ومواشيهم نحو قمم الجبال ليكونوا بعيدين عن أيدي الأتراك ، فكانت جولة الآغا لهذا الغرض الفرصة الكفيلة بتحقيق ما أطمح إليه ، وبالفعل فقد تمكنت من الحصول على إذن الداي بمصاحبة المحلة ، وقد زودني برسالة موجهة إلى كل الحكام الخاضعين لسلطته تطلب منهم أن يوفروا لي رفقة تقوم بحمايتي أثناء قيامي بأبحاثي.

٥٣

لقد غادرت مدينة الجزائر في ٢٢ أبريل (١٧٣٢) مع بعض من رافقوني في رحلتي ، وقد أرسل معي الداي دليلا وفارسا (صبائحي) ليكونا في صحبتي ، وكانت خطتي في أول السفر أن أنتظر المحلة المصاحبة للآغا خارج مدينة الجزائر للانضمام إليها والسير معها ، وقد أبقيت بعض المرافقين لي في رحلتي في مدينة الجزائر ليتمكنوا من تسجيل الملاحظات أثناء غيابي داخل الجزائر ، وحتى يحافظوا على الأشياء التي تخص سيادتكم ، وبذلك أصبحت الجماعة التي ترافقني في سفري تتكون من السيد إبربارخ (Eberbarch) وشولتز (Schulze) وترو (Trau) وهوبستاني الأمير بكارلسروه (Karlsruhe) ، والطبيب شاو (Dr.Shaw) كاهن القنصلية الإنكليزية الذي تحصل هو أيضا على رخصة السفر (١).

وفي ٢٣ أبريل قطعنا سهل متيجة الجميل والذي يمتد من البحر وحتى سفوح الأطلس بعرض ثلاثين ميل إنكليزي (٢) ، وهو أكبر سهل صادفني في

__________________

(١) هو الطبيب شو (Dr.Shaw) الذي صاحب هابنسترايت في جولته مع جنود المحلة في مقاطعة التيطري ، ولد بكندال (Kendel) بإنكلترا حوالي ١٦٩٢ ، وتوفي بأكسفورد سنة ١٧٥١. مكث في الجزائر اثني عشر سنة (١٧٢٠ ـ ١٧٣٢) ، وتولى مهمة كاهن للوكالة الإنكليزية بها (factorerie) ، وتجول في الولايات العثمانية ، فتعرف على تونس وبلاد الشام وفلسطين وسواحل البحر الأحمر ، قبل أن يستقر بإنكلترا عام ١٧٤٢ ويصبح رئيس كلية بأكسفورد برونلي (Braunley) ، وعضو الجمعية الملكية بلندن. جمع العديد من الملاحظات والمعلومات القيمة عن أقاليم المغرب والمشرق العربيين ، سجلها أثناء أسفاره العديدة ونشرها بعنوان :

رحلات أو ملاحظات تتعلق بأجزاء من شمال إفريقيا والمشرق ، صدرت طبعتها الإنكليزية بأكسفورد سنة ١٧٣٨ ، وظهرت ترجمتها الفرنسية الأولى سنة ١٧٤٣ ، قبل أن يختصرها ويعلق عليها ماك كارثي (Mac Carthy) سنة ١٨٣٠. أنظر قائمة المراجع المعتمدة في التعليق المثبتة في آخر الكتاب.

(٢) سهل متيجة من أهم السهول الساحلية بالبلاد الجزائرية ، يتميز بعمق تربته ووفرة مياهه وانتشار بعض المستنقعات بوسطه ، تحده جنوبا سلسلة جبال الأطلس البليدي وشمالا مرتفعات الساحل ، ويعتبر الطريق الطبيعي بين بلاد القبائل الجبلية وحوض الشلف ، يقدر طول هذا السهل بأكثر من مائة كيلومتر ، أما عرضه فيبلغ في أقصى اتساعه ٣٥ كلم.

٥٤

رحلتي بالأجزاء الشمالية بإقليم موريطانيا (منطقة شمال إفريقيا) ، وذلك أننا أثناء سفرنا كنا ننتقل دائما عبر جبال مرتفعة لا يمكن عبور بعض الأماكن بها ، تفصل بينها أودية صغيرة خصبة ذات مناظر لطيفة.

وسهل متيجة غني جدا بالحنطة وباقي أنواع الحبوب التي تزرع في موسمين سنويا وتعطي محصولين في السنة الواحدة ، وترعى به قطعان من المواشي لا يمكن عدها وهي تدوس بأقدامها الزهور والنباتات النادرة التي لم نجدها أثناء سيرنا إلا وقد قضمتها تلك الحيوانات أو داستها بأقدامها ، الأمر الذي حال دون استعمالها في أبحاثنا. لقد قضينا هذا اليوم في السفر وهذا ما جعل يومنا ينقضي دون أن ننتفع به كثيرا ، ومع حلول المساء وصلنا مدينة البليدة (١) حيث لفتنا الانتباه بسبب الحراسة التي كانت تصاحبنا ، فاجتمع الناس حولنا وكل واحد منهم يريد أن يرى هؤلاء الأجانب الذين من المحتمل أنهم يشاهدونهم لأول مرة ، وكان علينا أن نجتاز جموع الناس وقد لا حظنا أنه كان بصحبتهم أحد القضاة.

وبعد عناء كبير وصلنا إلى المكان المخصص لإقامتنا في أحد منازل حاكم المدينة. وقد أبدى هذا الحاكم استعداده لا ستقبالنا عملا بما جاء في الرسالة التي وجهت له في شأننا ، فبادر بإعطاء الأوامر لإبعاد الجمهور الذي

__________________

(١) مدينة البليدة تقع على بعد ٤٨ كلم من مدينة الجزائر على ارتفاع ٢٣٠ م عند سفح الأطلس المعروف باسمها (الأطلس البليدي) والذي يبلغ ارتفاعه عند كاف الشريعة ١٦٢٩ م. يعود تأسيس البليدة إلى جماعات أندلسية بزعامة سيدي أحمد الكبير ، واستقروا بموقعها سنة ١٥٣٥ بعد أن أقطعهم خير الدين بربروسة أراض زراعية عند انفتاح الوادي الكبير على سهل متيجة ، فتحولت إلى مدينة عامرة (حوالي ١٥٤٠) بعد أن توافد إليها أفراد من القبائل المجاورة ، فغدت من أهم الحواضر الجزائرية لغنى إقليمها ولاستقرار جماعات من الجند الإنكشاري بها بعد انتهاء خدمتهم. تعرضت للعديد من الزلازل العنيفة كان آخرها وأعنفها زلزال عام ١٨٢٥ الذي كاد أن يمحوها من الوجود وتسبب في تناقص سكانها من ٠٠٠. ٢٠ إلى حوالي ٠٠٠. ٣ عند تعرضها للاحتلال الفرنسي سنة ١٨٣٤.

٥٥

هرع نحونا وحاول الوصول إلينا من كل الجهات تدفعه الرغبة في رؤية هؤلاء النصارى وهو الاسم الذي يطلقونه علينا لكوننا مسيحيين. وكما جرت العادة عند نزول الأجانب عند الحاكم بتوصية من الداي فإن اليهود يكلفون بتحضير مائدة الطعام لهم ، وكان نصيبنا في هذه الحالة الحساء والأطباق التقليدية الشائعة في البلاد ، قدمت لنا بحضور الحاكم وبعض الأشخاص الآخرين ، فقدمنا لهم في أول الأمر مسحوق التبغ (الشمة) وكؤوسا من الخمر التي لا يمانع المسلمون غير المتشددين في تناولها عندما يكونون بصحبة النصارى ، وكان زادنا من الخمر ومن بعض الهدايا مفيدا جدا لنا في رحلتنا ، فهي أفضل وسيلة لكسب ثقة السكان وهذا ما خبرناه بالتجربة ، وننصح به كل من يعتزم السفر إلى هذه البلاد.

وفي ٢٤ أبريل تسلقنا الجبل المجاور برفقة أحد الأتراك لتجنب تجمع الناس حولنا ولنكون في مأمن من رجال القبائل الذين يعيشون متفرقين في أكواخ منعزلة ، وهم من سلالة البربر أو سكان البلاد القدامى والذين بقوا لمدة طويلة يحافظون على خصوصيتهم وسط جبال شاهقة كانت لهم بمثابة ملاجئ منيعة. وقد قبلوا منذ مدة قصيرة تسديد ضريبة للبايليك من الزيت والقمح والعسل ، مع أنهم لا تنقصهم الأسلحة والذخيرة للدفاع عن أنفسهم ، ووضعهم هذا من الأسباب الأخرى التي توجب علينا الحيطة عند الذهاب للبحث عن النباتات بحيث نأخذ أسلحتنا معنا في كل جولة نقوم بها وإن كنا لم نضطر إلى استعمالها والومرة واحدة طيلة رحلتنا.

وقد لا حظت أن حمل باقة من النباتات في اليد هو بمثابة جواز مرور معروف ووسيلة ممتازة لضمان السلامة ، لأن من يذهب للبحث عن النباتات ينظر إليه هناك بأنه متطبب أو مداوي بالأعشاب ويطلقون عليه اسم الباربيرو (١) أو الحلاق وهو الاسم الذي يعرف به الطبيب الذي يحظى لديهم بكل احترام

__________________

(١) أنظر هامش رقم ١٠.

٥٦

وتقدير لمهنته هذه ، وفي هذا الصدد قدمت خدمات للمرضى الذين عرضوا علي حسبما أمكنني ذلك ، وقد استعملت في ذلك بعض النباتات الشائعة والتي تنمو بناحيتهم وأوضحت لهم كيفية استعمالها ، وهذا ليس بغرض التخلص منهم ، فقد كان يدفعني إلى ذلك إيماني بأن نعمة الخالق جعلت الدواء الذي يحتاجونه في شكل نباتات تنمو عند أقدامهم ، وكانت أتعابي كطبيب في هذه المعالجات لا تتجاوز غالبا تقديم كأس من الماء البارد أو تناول قليل من الحليب اللذيذ ، هذا وقد اتخذت لنفسي قاعدة في ممارسة الطب في البلدان غير المتحضرة (١) أن لا أرفض تقديم العون لأي شخص ما دمت قادرا عليه ، لأن الامتناع موقف يتصف بالخطورة ، بينما الإقدام على المعالجة دون ترو يعتبر حماس واندفاع غير محسوب العواقب ، وهذا ما تطلب مني القول عند بداية معالجة المريض بأن نتيجة علاجه غير أكيدة ، ودفعني إلى التستر عن مهنتي كلما أمكنني ذلك ، وإن مزاولتي لهذه المهنة بنجاح كانت من أجل الحفاظ على حياتي وليس من أجل كسب النقود.

إن الجبال التي سوف أتكلم عنها في سفري وفرت لي مجموعة جميلة من النباتات الإفريقية أضيفت إلى مقتنياتي وهي امتداد لسلسلة الأطلس الصغير التي تصل في امتدادها حتى الصحراء ، بينما الأطلس الكبير المتاخم لنوميديا وليبيا هو بعيد جدا عن مملكة الجزائر (٢) ، وقد كنت مبتهجا أن أشاهد

__________________

(١) استعمل صاحب الرحلة هابنسترايت تعبير البلاد المتوحشة (sauvage) ، وهو تعبير غير موفق ويتناقض مع موقفه من سكان البلاد (أنظر هامش رقم ١٤) ، وهذا ما نعتبره هفوة منه ، وقد ترجمنا عبارة" المتوحشة" ب" غير المتحضرة" ، لأنها أصح وأقرب إلى ما كان يرمي إليه صاحب الرحلة.

(٢) هناك بعض اللبس في رواية هابنسترايت ، والمؤكد أنه يقصد ب ـ " الأطلس المتاخم لنوميديا وليبيا" سلاسل جبال الأطلس الجنوبية المحاذية لتخوم الصحراء الشمالية والتي تحدها الهضاب العليا من ناحية الشمال ، وهي تتكون من العديد من الكتل الجبلية ، فبعد سلاسل الأطلس الكبير بالمغرب يستمر تواصلها من الغرب إلى الشرق مع جبال القصور وعمور وأولاد نائل والأوراس والنمامشة والظهر التونسي.

٥٧

لأول مرة الأطلس الصغير بصخوره التي لا يمكن اجتيازها في العديد من الأماكن ، وأن أقوم بتسلق بعض منها ، وفي نيتي أن أزور الآخر (الأطلس الكبير) عندما أسافر إلى تونس ونواحيها وأنتقل إلى موريطانيا الطنجية.

وفي ٢٧ أبريل كنا في انتظار الآغا قائد المحلة ، إذ بدون مرافق لا يمكن لنا التقدم أكثر في سفرنا ، وبعد أن قضينا الأيام السابقة في جمع النباتات تابعنا طريقنا بصحبة هذا الضابط (الآغا) قائد المحلة ، والذي من الواجب علينا الاعتراف بجميله نظرا للحفاوة التي أظهرها لنا في هذه الرحلة ، وكانت مجموعة الجند (المحلة) التي يقودها مؤلفة من مائة وخمسين فارسا كل واحد منهم مسلح ببندقية وغدارتين وسيف قصير ، بينما حملت الخيام ومتطلبات السفر على ظهور البغال التي كانت تنطلق قبل طلوع النهار وتتقدم علينا في السير بنحو نصف ساعة حتى يهيئ لكل واحد منا مكانا مخصصا له عند توقفنا.

هذا ومنذ اللحظة التي التحقنا فيها بهذه المحلة لم تعد تشغلنا متطلبات الأكل وغيرها من احتياجات السفر. فسكان تلك الجهات من بربر وعرب كانوا يخصوننا بكميات أوفر من الطعام الذي كان يحضر حسب الطريقة المتبعة في تلك البلاد. ولكوني طبيبا أوباربييرو ، حسب اصطلاحهم ، فقد كان الطعام يقدم لي مباشرة بعد الآغا ، وقد كلفتني هذه المعاملة بعض الأدوية التي كنت قد حضرتها مسبقا ، فقد كنت أقوم بتوزيعها على المرضى من جنود المحلة أو سكان تلك البلاد. ونظرا لاعتزامنا الارتحال ومتابعة سيرنا في الصباح عندما يكون الطقس منعشا فإننا كنا نأوي إلى خيامنا باكرا حتى لا نتعرض للحرارة التي تشتد كثيرا مع تقدم النهار ، وهذا ما سمح لي أن أخصص بقية يومي لتسجيل ملاحظاتي العلمية.

وفي يوم مغادرتنا للبليدة رافقت الآغا في رحلة لصيد الخنزير البري ، فلم ألاحظ شيئا غير عادي غير سرعة الخيل وكثرة سكان الجبال الذين اجتمعوا من أجل جولة الصيد هذه ، ولم يعرض علينا سوى الخنازير البرية

٥٨

التي تم قتلها وهذا ما أزعجني ، فرجوت الآغا أن يمكنني من الحصول على حيوانات نادرة على قيد الحياة وقد وعدني بذلك ، وبعد أن قضينا تلك الليلة في أكواخ العرب بسهل متيجة ، بدأنا نقترب أكثر فأكثر من الجبال فكنا نقضي اليالي كما جرت العادة تحت الخيام أو عند العرب الذين كانوا مضطرين لإخلاء منازلهم لنبيت بها.

في ٢٨ أبريل ، عرفت أن كل ما تتكون منه ثروة العربي ـ إلا إذا كانت له كنوز مخبأة ـ خيمة مسودة من دخان الموقد ينقلها حسب رغبته من مكان إلى آخر وقطيع ماشية وزاد من القمح محفوظ في أحد المطامر وبعض الأثاث ، وسكان الريف هؤلاء يلبسون حسب مقتضيات الوقت ، ويكفي الواحد منهم أن يكون له برنوس من صوف نظيف بعض الشيء ليكسوبه جسمه ليصبح شيخا أو قائد دوار (١) ، وإنه لشرف عظيم أن يمتلك واحد منهم سلاحا ناريا مع كمية من البارود والرصاص ، وهذان الأخيران يعتبران أفضل هدية تقدم إلى هؤلاء الناس ، ولعل ذلك يرجع إلى كون البارود والرصاص يستعملونه في صيد الحيوانات المتوحشة ويساعدهم في الدفاع عن أنفسهم عندما يلتجئون إلى الجبال كما هو حال سكان الجهات الجبلية الأخرى ، ولكونهم يستعملون هذه الأسلحة في التصدي لرجال البايليك فإن هؤلاء الأخيرين يحرصون على تجريدهم من أسلحتهم عندما يكونون موضوع شبهة أو يكون خضوعهم لسلطة البايليك محل شك.

والنساء عند هؤلاء الناس مسخرات للعمل ، فيعتنين بالمواشي ويشتغلن بالزراعة ، وهذا ما يجعل الرجال الذين لا يشتغلون بشؤون المنزل يعيشون حالة من الفراغ ، ومع هذه الوضعية لا تزرع في هذه البلاد سوى الأراضي

__________________

(١) الدوار أو الدشرة بالتعبير المتعارف عليه في الجزائر آنذاك هو مجموعة من الخيام أو المنازل البسيطة التي تشكل في الغالب تجمعا سكانيا بسيطا هو أشبه ما يكون بإحدى القرى الصغيرة.

٥٩

ذات التربة الخصبة التي توفر منتوجا بدون جهد كبير ، كما أن انعدام الماء ناتج عن جهل السكان وكسلهم ، ففي الأماكن التي كان يقدم لنا فيها المخيض لشح الماء عثرنا على منابع يمكن الحصول منها على الماء بأقل جهد ، كما أنه عندما ينقص العشب ويشح كلأ الحيوانات يقدم هؤلاء العرب على بيع إنتاجهم من القمح والصوف والشمع والعسل في المدن المجاورة ، ويتنقلون للبحث عن مكان لهم في الأودية الخصبة حيث تنتشر خيامهم فيه ، في الوقت الذي لا نجد إلا القليل جدا من العرب في مساكن قارة لكونها مجلبة للاحتقار ، فهي في نظرهم مصدر الخضوع والعبودية.

ومع أننا لا يمكن لنا معرفة شيء عن الآثار الرومانية التي توجد في مملكة الجزائر هذه ، حيث أن هؤلاء السكان من العرب لا ينفكون يسعون بدون هوادة لتدمير بقايا آثار المدن القديمة خوفا من أن يستعمل أحجارها الأتراك في بناء حصون تساعدهم على إبقاء العرب تحت سيطرتهم كما حدث في العديد من الأماكن (١).

تلتزم حكومة الجزائر بمعاملة عادلة مع العرب والبربر الذين ظلوا ممتنعين بالجبال والذين في استطاعتهم أن يقدموا مساعدة كبيرة للبايليك عند الحاجة ، إذ يرجح أن في استطاعة هؤلاء السكان في وقت قصير جمع مائة ألف فارس أغلبيتهم مسلحة بالبنادق والسهام للتصدي للإسبان الذين يتوقعون هجومهم في هذا الوقت.

وفي ٢٩ أبريل وصلنا إلى الجبل وصعدنا قسما منه بمشقة كبيرة يتملكنا خوف من القبائل التي تسكنه والتي ظلت حتى الآن تدافع عن حريتها وتمانع

__________________

(١) من أهم الحصون والأبراج التي أقامها حكام الجزائر كنقاط حراسة ومراقبة القبائل الجبلية والعشائر البدوية بالجهات المتاخمة لإقليم دار السلطان والمتحكمة في مناطق التيطري وبلاد القبائل هي أبراج : أم نائل ، ساباو ، تيزي وزو ، بوغني ، حمزة ، سور الغزلان ، الوادي ، بوحلوان.

٦٠