رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

المؤلف:


المترجم: أ. د. ناصر الدين سعيدوني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ تونس
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٨

نص الترجمة العربية لـ

رحلة ج. أو. هابنسترايت إلى

الجزائر وتونس وطرابلس

(١٧٣٢)

وفي ١٦ فبراير (١٧٣٢) أرست بنا السفينة بميناء الجزائر ، وفي هذا اليوم تناولنا آخر قطعة من الخبز الذي كان بحوزتنا ، والذي كنا نقتصد في توزيعه ليفي بحاجتنا أثناء السفر ، وكما جرت العادة فإنه لا يمكن النزول إلى البر بدون إشعار الداي بذلك ، وهذا ما دفعني إلى إخبار القنصل الإنكليزي بلاك (Black) بوصولنا ، وكان ملكنا الذي قمنا بالرحلة لحسابه (١) يود أن نضع أنفسنا تحت حماية ملك فرنسا وجمهورية هولندا ، لكني رأيت من الأفضل لنا أن نبحث عن المعونة عند الأمة التي وصلنا إلى الجزائر تحت علمها ، وهي إنكلترا ، وبالفعل فقد قدم القنصل الإنكليزي السيد بلاك إلى الميناء لاستقبالنا ، واصطحبنا معه إلى منزله حيث قدم لنا القهوة كما جرت العادة ، وبعد ذلك

__________________

(١) هو الملك أغسطس الثاني (١٧٣٣ ـ ١٦٧٠)(Auguste II) ومنتخب منطقة الساكس في اختيار الإمبراطور الجرماني وملك بولونيا (١٦٩٧ ـ ١٧٣٣) ، تخلى عن معتقده البروتستانتي ليمكن له اعتلاء عرش بولونيا بعد وفاة الملك يوحنا الثالث سوبباسكي ، تحالف مع العاهل الروسي بطرس الأكبر ضد شارل الثاني عشر ملك السويد ، وقد أرغمه هو الآخر على التخلي عن ملك بولونيا لفائدة ستانيسلاس ليزنسكي ، لكن انتصار حليفه بطرس الأكبر في معركة بولتافا (١٧٠٩) جعله يحتفظ بعرش بولونيا بمساعدة الجيوش الروسية (١٧١٠) ، وعندما توفي خلفه ابنه أغسطس الثالث (١٧٣٣ ـ ١٧٦٣) الذي احتفظ بعرش بولونيا ضد منافسه ستانيسلاس ليزنسكي بدعم من النمسا وروسيا.

٢١

توجهنا لملاقاة الداي (١) الذي سألني عن الغرض من رحلتي وعن البلاد التي قدمت منها ، وعن الأشخاص المرافقين لي في رحلتي هذه (٢) ، وبعد أن تأكد من أننا قدمنا إلى دولته تشريفا له بأبحاثنا وقد أعرب له أثناء ذلك القنصل الإنكليزي عن نوايانا الحسنة تجاه دولته ، مؤكدا له أن ليس لدينا مخططات تضر بحكومته ، بعدها أبلغنا الداي بواسطة أحد المترجمين" أن بلاده مفتوحة لكم في رحلتكم

__________________

(١) الداي المعني بالكلام هو كرد عبدي باشا (والأصح كور أي الأعور) ، وقبل ذلك كان يتولى منصب آغا العرب (قائد الحامية) ، وأثناء حكمه للجزائر (١١٣٦ ـ ١١٤٥ ه‍ / ١٧٢٤ ـ ١٧٣٢ م) عرف بشخصيته القوية ومواقفه الشجاعة وبمنشآته العمرانية ، فأنشأ مسجد المقرئين المعروف بالمكارون ، ووسع ضريح الولي سيدي عبد الرحمن الثعالبي سنة ١١٤٢ ه‍ / ١٧٣٠ م ، وانتهج سياسة حازمة مكنته من إخماد انتفاضة عشائر الحنانشة بالشرق الجزائري سنة ١١٤٠ ه‍ / ١٧٢٨ م ، وتمكن من إقرار النظام في صفوف الجند ، وأظهر استقلاله عن الدولة العثمانية ، فرفض طلبها بإقرار صلح بين الجزائر وإسبانيا (١١٣٧ ه‍ / ١٧٢٥ م) وامتنع عن استقبال بعثة السلطان العثماني وقد ناصره في هذا الموقف أعضاء الديوان وفي مقدمتهم المفتي الحنفي وقائد الحامية المعروف بآغا العرب أو آغا الصبائحية ، سنة ١١٤١ ه‍ / ١٧٢٩ م ، وحتى يحول دون حدوث أي تمرد في صفوف الجند أسند وظيف آغا العرب وهو قائد الحامية إلى ابنه.

تعرض الداي كرد علي في آخر حياته إلى نكسة خطيرة عندما تمكن الإسبان من احتلال وهران والمرسى الكبير مجددا في ١١٤٥ ه‍ / ١٧٣٢ م ، رغم الاحتياطات التي اتخذها ، فحمل نفسه مسؤولية عدم وصول المدد للمدافعين عن حصون وهران في الوقت المناسب ، وشعر بإهانة بالغة جراء ذلك ، فاعتزل الناس وانقطع عن الطعام واستسلم أكثر فأكثر لتعاطي الحشيش الذي اعتاد على تناوله ، فقضى نحبه عن سن يناهز ٨٨ سنة في خريف عام ١١٤٥ ه‍ / ١٧٣٢ م ، بعد مدة قصيرة من مغادرة هابنسترايت لمدينة الجزائر ، وتولى مكانه صهره بابا إبراهيم بن محمد الخزندار دون أن يجد معارضة في ذلك بعد أن استشهد ابن الداي المؤهل لخلافة أبيه على الأرجح في محاولة طرد الإسبان من وهران.

(٢) الأشخاص المرافقون لهابنسترايت والذين أشار إليهم في رحلته هم : شولتز (Schulze) وإبرباخ (Eberbach) والبستاني ترو (Trau) ، كما رافقه في رحلته في مقاطعة التيطري الكاهن والطبيب الإنكليزي الدكتور شو (Dr.Shaw) أنظر ترجمته في الهامش ٤٧).

٢٢

وأنكم تستطيعون الاعتماد على حمايته" ، وقبل أن ننصرف من عنده أعطى لكل واحد منا برتقالة حلوة المذاق تعبيرا عن القبول الحسن الذي حظينا به لديه.

لقد حملت معي من مرسيليا مشروبات روحية وعلبا من المربى ، فقمت بتوزيعها على موظفي قصر الداي من الضباط حسبما تقتضيه العادة عند القيام بالزيارة ، وبعد هذه الإجراءات لم يعد أي أحد يثير مخاوفنا ، سواء كان تركيا أو عربيا داخل المدينة أو خارجها ، بل أصبحنا محل تقدير لكوننا أجانب ولأننا نمتهن حرفة الطب أو التداوي بالأعشاب ، فقد اعتادوا على تسميتنا بالباربيرو (١) ، ومرد ذلك أنهم كانوا يروننا في أغلب الأحيان نحمل في أيدينا زهورا ونباتات ، وهذا يعتبر في حد ذاته أحسن وسيلة لضمان سلامتنا.

لم تكن جهودي في إخفاء كوني طبيبا ذات جدوى ، فقد اعتقدت أنه من الخطإ بل من المضر لمشاريعي في البحث أن أرفض وصف الأدوية لبعض كبار الشخصيات وخاصة الآغا (٢) ، وهو ابن الداي الذي عرف المفعول الجيد للوصفات التي كنت أقوم بتحضيرها ، فقدم لي هدية في شكل لبوءة

__________________

(١) كلمة باربيرو (Barbiero) في لغة الفرانكا (والتي هي خليط من لغات شعوب البحر المتوسط) ، يقصد بها المشتغل بالطب أو المداوي بالأعشاب ، وغالبا ما يرادفها في اللسان الدارج كلمتا حلاق أو مزين لارتباط ممارسة الطب بالحجامة ، مع العلم بأن مهنة الطب تكاد تقتصر في العهد العثماني ، في الموانئ البحرية ومنها مدينة الجزائر ، على بعض الأطباء الأوربيين الذين اعتادوا معالجة بعض الشخصيات واكتسبوا من جراء ذلك احتراما وتقديرا لمعارفهم الطبية ، وهذا ما ساعد هابنسترايت الطبيب على النجاح في مهمته ومكنه من اكتساب صداقة الداي وابنه آغا العرب.

(٢) آغا العرب هو قائد فرق الجند بمدينة الجزائر والمتصرف في فرسان المخزن بإقليمها (دار السلطان) ، يكلف من طرف الداي بالمحافظة على الأمن وقمع حركات التمرد وضمان المواصلات واستخلاص الجباية ، وهذا ما وسع من صلاحيات هذا القائد العسكري وجعله يحتل المرتبة الثانية في سلك الموظفين المساعدين للداي ، بل جعله الحاكم الحقيقي لأوطان دار السلطان بسهل متيجة والساحل (وهي أوطان : بني خليل ، بني موسى ، الخشنة ، السبت أو حجوط ، يسر) وملحقاتها ببلاد القبائل وجهات التيطري

٢٣

وقنفذين صغيرين ، وأعطى أوامره بأن يبحث لي عن النعام وحيوانات نادرة أخرى ، ونفس السلوك أبداه معي الآخرون ، فكلما قدمت خدمة لأحد إلا وحاول أن يظهر لي عرفانه بالجميل بتقديم هدايا كالتي قدمها لي الآغا. وهذا ما جعلني آمل أن أحقق الهدف الرئيسي من رحلتي فيما يتعلق بالبحث عن الحيوانات الممكن العثور عليها في منطقة شمال إفريقيا (١) ، وقد اعتقدت أنه بإمكاني تنمية مجموعتي من الحيوانات التي تحصل عليها المحلة من سكان الريف أثناء جمعها للضرائب ، إذ اعتادت أن تحمل معها عند عودتها إلى مدينة الجزائر بعض الحيوانات المتوحشة.

لقد سنحت لي الفرصة أثناء رحلتي هذه أن أتعرف على سلوك وعادات هذه البلاد ، وهذا ما سوف أعرضه فيما يلي من أجل تصحيح معلومات مارمول ودابير وتاسي فيما كتبوه عن مملكة الجزائر (٢). فمدينة الجزائر عاصمة المملكة التي تحمل اسمها والتي عرفت في الماضي باسم موريطانيا القيصرية ، كما كانت تعرف في الماضي أيضا مملكة فاس باسم

__________________

(قيادات ساباو ، بني جعاد ، بني سليمان ، عريب) ، وجعل منه المراقب الفعلي لبايات المقاطعات الأخرى (قسنطينة ، المدية ، معسكر) ، وقد سمحت له مكانته العسكرية بقيادة فرق الجيش التي تتشكل منها المحلة المكلفة بمراقبة الريف وجمع الجباية من سكانه بأوطان دار السلطان وبايليك التيطري.

(١) فضلنا استعمال تعبير منطقة شمال إفريقيا على تسمية موريطانيا التي لم تكن معروفة في العهد العثماني ، والتي اقتبسها صاحب الرحلة من الكتب التاريخية القديمة لجهله بالواقع التاريخي الذي جعل تلك المنطقة تعرف بالمغرب العربي تاريخيا وبشمال إفريقيا جغرافيا.

(٢) تميزت كتابات غالبية القناصل والرحالة الأوربيين وجل رجال الدين المسيحيين بمعاداة الوجود العثماني بإيالات المغرب العثمانية (الجزائر وتونس وطرابلس الغرب) ، وخاصة منهم رجال الدين الأسبان والفرنسيين والإيطاليين مثل هايدو (Hae؟do) ودان (Dan) ودابر (Dapper) وكوبان (Le R.Pe Coppin) وجرمان مووات (S.G.Mouette) ودولاموت. (Le pe؟re Phi.De la Motte) أنظر قائمة بأهم الكتابات الغربية حول المغرب العربي الملحقة بالكتاب.

٢٤

موريطانيا الطنجية. وهذه البلاد" مملكة الجزائر" تعرف عادة لدى الكتاب الأوربيين ببرباريا (Barbarie) أو البلاد المتوحشة (١) ، وحسب دلالة هذه الكلمة فإنها تعني أنها مأهولة بأشخاص متوحشين وشرسين وهذا ما نعتبره منافيا للحقيقة إذ يجب أن ينصف القسم الأكبر من سكان هذه البلاد ، فهم أفراد بعيدون عن التوحش ، يقدرون الأجانب ولهم رغبة ملحة في التعاون معهم ، فلفظ المتبربرين أو البرابرة يراد به سكان الصحراء أو أنه مقتبس من الإغريق أو الرومان الذين كانوا يطلقون على كل الشعوب التي لا تتكلم لغتهم هذه التسمية.

تقع مملكة الجزائر بين خطي عرض ٣٣ خ و ٣٧ ٢٠ خ شمال خط الاستواء ، وبين ١٥ و ٢٠ من خطوط الطول غرب جزيرة الحديد (٢) ، ويحدها من الشمال البحر المتوسط ومن الغرب مملكة فاس ومن الشرق مملكة تونس ، أما في الجنوب فتوجد جبال الأطلس والتي نرى قممها في هذا الوقت (شهر فبراير)

__________________

(١) برباريا (Barbarie) تعريف اعتاد الأوربيون وخاصة رجال الدين والقناصل إطلاقه على أقطار المغرب العربي في العهد العثماني ، باعتبارها بلادا تمارس القرصنة ويتصف سكانها بالتوحش والقسوة ويتخذ حكامها موقفا عدائيا من الأوربيين ، وهم في ذلك يعبرون عن موقف عدائي تعود أصوله إلى مفاهيم الإغريق والرومان عن الشعوب التي لا تنتمي إلى حضارتهم.

ولعل ما يميز موقف هابنسترايت في هذا الشأن هو كونه تنبه إلى هذا التحامل واعتبره موقفا غير مبرر ، بل أكد بأن سكان أقطار المغرب العربي هم أبعد ما يكونون عن حالة التوحش ، وهذا ما يميزه عن غيره من غالبية الرحالة الأوربيين الذين كتبوا عن منطقة شمال إفريقيا.

(٢) ربما يقصد بها جبل طارق أو إحدى جزر المحيط الأطلسي ، مع العلم بأن تلك التحديدات لم تعد معمولا بها بعد أن اعتمد خط غرينيتش كأساس لتحديد خطوط الطول شرقا وغربا ، والذي يحدد موقع البلاد الجزائرية بمقتضاها بين خطي الطول ١٠ شرق و ٨. ٣٠ غرب غرينيتش ، وخطي العرض ١٩ و ٣٧ شمال خط الاستواء أي على امتداد ٢٠٠٠ كلم وبمساحة إجمالية تبلغ ٢. ٣٨١. ٧٤٣ كلم مربع منها ٣٨١. ٠٠٠ كلم مربع شمال الصحراء.

٢٥

مغطاة بالثلوج (١). وهذا القطر أو مملكة الجزائر المسمى قديما موريطانيا القيصرية كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، كان يحكمه الملك يوبا الثاني (Juba II) والذي أطلق عليه هذا الاسم" قيصرية" نسبة إلى حاميه ووليه الإمبراطور أغسطس ، وكان الملك يوبا هذا مرتبطا بحزب بومباي (Pompe؟e) ، وعندما أسر من طرف أغسطس حمل إلى روما ولقي الرعاية من أغسطس لخصاله وحسن سلوكه ، وهذا ما دفعه إلى إعادته إلى مملكته وأن يزوجه بكليوباترا (سيليني) ابنة الملكة المصرية الشهيرة كليوباترا (Cle؟opa؟tre) ، وقد عثرت بالفعل على قطعة معدنية تؤرخ لهذا الحدث (٢).

لقد عرفت هذه البلاد (مملكة الجزائر) العديد من التغيرات ، ففي بداية

__________________

(١) يقصد بها سلسلة جبال الأطلس البليدي التي تشرف على سهل متيجة وترى من مدينة الجزائر والتي يبلغ ارتفاعها عند كاف الشريعة ١٦٢٩ متر ، وكذلك جبال بلاد القبائل (جبال جرجرة) التي تظهر قممها مكللة بالثلج من مرتفعات مدينة الجزائر عندما يصفو الجو في فصلي الشتاء والخريف.

(٢) لقد التبس على صاحب الرحلة موقف الرومان من الملك النوميدي يوبا الأول وابنه يوبا الثاني ، فالصحيح أن الملك يوبا الأول بن هيميصال (Juba I) الذي حكم نوميديا ما بين ٦٠ و ٤٦ ق. م. هو ملك نوميديا الذي وقف في الحرب الأهلية الرومانية إلى جانب بومبي ضد قيصر ووضع حدا لحياته عند انتصار هذا الأخير في معركة تابسوس (Thapsus) (٤٦ ق. م.) ، فأخذ قيصر ابنه إلى روما رهينة واكتسب بها ثقافة لاتينية ـ إغريقية راقية ، وزوجه أغسطس كليوباترا سيليني (ابنة الملكة المصرية كليوباترا من أنطونيوس) ، ونصبه حاكما على موريطانيا باسم يوبا الثاني (٢٥ ق. م. / ٢٣ م) ليتولى محاربة قبائل الجنوب (الجيوتول) التي كانت تهدد خط الدفاع الروماني (الليمس) ، وقد اتخذ يوبا الثاني يول (شرشال) عاصمة له وأطلق عليها اسم ولي نعمته تمجيدا له اعترافا بجميله ، فعرفت بقيصرية (Caesarea) ، واشتهر بتآليفه العلمية في التاريخ الطبيعي والجغرافيا ولم تصلنا منها سوى مقتطفات عرفت بليبيكا وعربيكا (Lybica Arabica) ، وخلفه ابنه بطوليموس (٤٠ ـ ٢٣)(Ptole؟me؟e) الذي أمر الإمبراطور الروماني كاليكولا بقتله في مدينة ليون للتخلص منه والحاق مملكته" موريطانيا القيصرية" بالإمبراطورية الرومانية.

٢٦

القرن الخامس الميلادي أخضعها جنسريق (Gense؟ric) على غرار إسبانيا لسيطرة الوندال ، وقد طرد القائد البيزنطي بليزير (Be؟lisaire) منها الوندال سنة ٥٣٣ م ، وظلت تحت سيادة بيزنطة حتى فتحها العرب سنة ٦٦٣ م ، وظل هؤلاء يحكمونها بهدوء وبدون مشاكل إلى عهد شرلكان وأثناء ذلك استولى عليها الأتراك وكان الإسبان آنذاك يحتلون وهران وحصونها ، وفي تلك الفترة كان سليم ملك مدينة الجزائر يخشى أن لا يستطيع الوقوف في وجه الإسبان فطلب العون من القرصان الشهير عروج بربروسة ، فاستولى هذا الأخير على البلاد التي استدعي للدفاع عنها واغتال سليم الذي استقدمه ، كما أنه هلك بدوره بعد ذلك في حروبه ضد الإسبان الذين كانوا يحكمون وهران ، فانتخب الجند أخاه خير الدين ليخلفه ، فاعترف بسيادة الدولة العثمانية على البلاد (الجزائرية) وقبل أن يدفع الضريبة للسلطان العثماني سليم (الأول) ، ومنذ ذلك العهد أصبحت البلاد الجزائرية ضمن أملاك السلطان العثماني الذي كان يرسل إليها بين الحين والآخر جماعات الإنكشاريين لتعزيز حاميتها (١).

إن حملة شارلكان البائسة على الجزائر وإقليمها معروفة إلى حد كبير (٢) ١٩ ، ويتناقل الناس هنا أن الحصن المعروف لدى السكان بقلعة

__________________

(١) من المعروف أن البلاد الجزائرية دخلت طوعا تحت السيادة العثمانية في الربع الأول من القرن السادس عشر أثناء الصراع المحتدم من أجل السيادة على حوض البحر المتوسط بين إسبانيا الكاثوليكية والدولة العثمانية ، فبعد استشهاد عروج بجهات تلمسان (الوادي المالح) (١٥١٨) وانتهاج الإسبان سياسة توسعية ، طلب أعيان الجزائر بنصيحة من خير الدين بربروسة الانضمام إلى الدولة العثمانية للحصول على المدد ، وبالفعل التحقت الجزائر بالدولة العثمانية وأمدها السلطان سليم الأول بألفي انكشاري كان لهم الفضل في إبعاد الخطر الإسباني والاستيلاء على القلعة الإسبانية التي كانت تهدد مدينة الجزائر والمعروفة بالبنيون (١٥٢٩).

(٢) حملة الإمبراطور شرلكان على مدينة الجزائر (١٥٤١) تعتبر من الأحداث المهمة في تاريخ المغرب العربي ، فقد وضعت حدا نهائيا للمخططات الإسبانية الهادفة إلى الاستيلاء على شمال إفريقيا والقضاء على النفوذ العثماني بها وإخضاعها للهيمنة

٢٧

الإمبراطور قد تم بناؤه من طرف شرلكان في ليلة واحدة (١). أثناء حصاره لمدينة الجزائر.

لقد ظل الباب العالي يرسل إلى الجزائر باشوات يمثلون السلطان حتى سنة ١٧١٠ ، وعندما رفض الديوان الممثل للحامية استقبال الباشا ممثل السلطان ، أصبح الداي أورئيس الحامية منذ ذلك اليوم صاحب السيادة في حكم الجزائر وقد أطلق عليه قناصل الدول الأجنبية لقب ملك ، وهو يتمتع بسلطة مطلقة وإن ظل يرسل كل سنة هدية إلى إستانبول اعترافا منه بأحقية السلطان العثماني في تولي أمور المسلمين وشرعيته في تمثيلهم ، وهذا ما جعل دايات الجزائر يحتفلون بتولية السلاطين العثمانيين بإستانبول ويستقبلون في الجزائر بين الحين والآخر القابيجي باشي (Capigi ـ Bachi) أو المرسلون فوق العادة من قبل السلطان العثماني (٢).

__________________

الإسبانية. للتعرف أكثر على أحداث حملة شرلكان ، أنظر هامش رقم ٨٢.

(١) أما قلعة الإمبراطور (Fort lEmpereur) المعروف ببرج الطاووس أو برج السلطان قالاس الواقع أعلى مدينة الجزائر ، فقد عسكر في مكانه الإمبراطور شرلكان عند حملته على مدينة الجزائر فعرف به ، أما إنشاؤه فيعود إلى ما بعد تلك الحملة ، فقد شيده حسن بن خير الدين حاكم الجزائر (١٥٤٣) وطور تحصيناته حسن فينيزيانو وأدخل عليه تعديلات (١٦٥٦) ، وزوده ب ٥٦ مدفعا ، وأثناء الاحتلال الفرنسي لمدينة الجزائر (١٨٣٠) تعرض للتدمير بفعل انفجار مخزن البارود الموجود به.

أما الحصن الذي بني في ليلة واحدة أو في يوم وليلة فهو حصن أربع وعشرون ساعة المعروف ببرج" بوليلة" أو برج" ستّي تاقليلات" الذي أنشأه حاكم الجزائر علج علي عند مصب وادي المغاسل خارج باب الوادي (١٥٩٦) ، وكانت به ثمانية بطاريات تشكل دفاعات مدينة الجزائر في الناحية الغربية.

(٢) بعد فترة الاضطرابات التي طبعت الحكم العثماني المباشر للجزائر على عهد الباشوات (١٥٨٨ ـ ١٦٥٩) ، وبعد أن فشل قادة الجند (الآغوات) في فرض سلطتهم ومواجهة هجمات الأساطيل الأوربية (١٦٥٩ ـ ١٦٧١) ، تولى ديوان الجند شؤون الحكم ، فانتخب أحد أعضائه ليتولى الحكم تحت اسم الداي ، وأصبح الديوان ينظر في شؤون الحكم.

٢٨

إن سكان مملكة الجزائر ليسوا كلهم من أصول واحدة ، فالحكومة بيد الأتراك الخلص أي الذين ينحدرون من آباء وأمهات أتراك وهم في الغالب يستقدمون من المشرق أو قد يأتي بهم القراصنة بالقوة إلى الجزائر (١) ، والأتراك ينظرون إلى الجزائريين نظرة يشوبها الاحتقار وينعتونهم بأنهم مجموعة من العصاة أو الخارجين عن القانون فلا يجندون أحدا منهم في الحامية ، ونفس النظرة تحملها النساء التركيات عن الجزائريين ، على أن الرجال الأتراك يضطرون إلى الزواج من الأسيرات المسيحيات أو مع نساء البلاد أي الجزائريات ، ولكن أولادهم لا يستطيعون احتلال المراتب الكبيرة في المملكة ، وهؤلاء المنحدرون من آباء أتراك وأمهات جزائريات يحملون اسم الكراغلة (Cololis) ) ويكونون مع العناصر التركية جيشا تعداده مائة ألف

__________________

مع بقاء ممثل شرفي للسلطان بالجزائر يعرف بالباشا (١٦٧١ ـ ١٧١١). على أن تطور الحكم أدى إلى تزايد صلاحيات الداي باعتباره الحاكم المطلق الصلاحية ، وتحول الديوان إلى مجلس للضباط ترتبط اجتماعاته بالمناسبات والمواسم التي توزع فيها الجرايات على الجند ، بينما منصب ممثل السلطان وهو الباشا فقد تم إلغاؤه واكتسب الداي لقبه ، فأصبح يحمل بجانب مهامه كداي لقب الباشا الذي يتحصل عليه بفرمان سلطاني ويكسبه شرعية لدى الديوان والجند وباقي السكان ، وهذا ما سمح لنظام الحكم في الجزائر أن يستقل فعليا عن الدولة العثمانية ، فاكتسبت بذلك الجزائر مقومات الدولة المستقلة ذات السيادة في إطار التضامن العثماني وتحت رعاية السلطان الشرعية منذ ١٧١٧ وحتى الغزو الفرنسي في ١٨٣٠

(١) هؤلاء هم الأوربيون الذين يقعون في الأسر ويندمجون في الطائفة التركية بمدينة الجزائر ، ويعرفون بالأعلاج.

(٢) الكراغلة أو القرغلان تحوير للفظ التركي قول أوغلي أي أبناء العبيد ، على اعتبار أنهم عبيد السلطان حسب العرف العثماني ، وهم جماعة المولدين من آباء أتراك وأمهات جزائريات ، وقد اكتسبوا مكانه مميزة بالنسبة لباقي السكان من غير الأتراك وإن لم يسمح لهم بتولي المناصب السامية التي ظلت حكرا على الأتراك القادمين من المشرق ، وهذا ما سبب توترا في علاقتهم بديوان الجزائر وأدى إلى طرد جماعات منهم من مدينة الجزائر إلى وادي الزيتون ببلاد القبائل (١٦٩٣).

٢٩

رجل (١). وهذا الجيش المعروف بالحامية يقسم كل سنة إلى ثلاثة أقسام تستخدم في مختلف الأوقات لإرغام القبائل البربرية والعربية على دفع الضريبة (٢). ومن الجند من يشتغل بالقرصنة في البحر ومنهم من يعمل بالحاميات المعسكرة في مواقع محددة بالمدينة.

كل الأتراك بالجزائر يمتهنون الجندية ويستطيعون حسب النظام العسكري أن يصلوا إلى أعلى المناصب ، فالداي نفسه كان جنديا في صفوف الحامية ، وهذا ما يخول له الحصول على جرايته عندما توزع المرتبات كل شهر ، وهي تقدر بحوالي عشر قطع نقدية من صنف إيكو (E؟cus) ) أما الحامية التركية المعروفة بالنوبة والتي ترابط بمدينة الجزائر فهي موزعة على ثماني ثكنات مهيأة لإقامة الجند (٤) ، هذا ويتسلم الجند غير المتزوجين أربعة

__________________

(١) يقدر عدد الأسرى المسيحيين بمدينة الجزائر بحوالي ألفي أسير ، في وقت كان فيه مجمل سكان مدينة الجزائر يتراوح ما بين ٨٠ و ١٠٠ ألف نسمة.

(٢) يشكل الجند أو القوة العسكرية المعروفة بالأوجاق أو الحامية العمود الفقري لنظام الحكم في الجزائر العثمانية ، وجماعات الجند هذه تتكون من قسمين : الجنود العاملون في البحر المعروفون بالرياس ، والجنود المستقرون بالبلاد وهم اليولداش ، وهؤلاء الأخيرون منهم من يقيمون بالحصون والمواقع العسكرية ويشكلون النوبات (ج. نوبة) ، ومنهم من يشاركون في الحملات داخل البلاد لجمع الجبايات وإخضاع العصاة ويعرفون بفرق المحلة ، وهم كما ذكر صاحب الرحلة هابنسترايت ثلاثة أقسام أو مجموعات رئيسية ، الأولى يتولى آغا العرب قيادتها وهي التي رافقها وعادة ما تنضم إليها قوى باي المدية ، والثانية خاصة ببايليك الشرق ويتولى قيادتها باي قسنطينة ، وهي التي سوف يرافقها صاحب الرحلة بجهات عنابة وقسنطينة ، والثالثة تخص بايليك الغرب ويتولى قيادتها باي معسكر. وتتحدد مهمة فرق المحلة هذه في استخلاص الضريبة من سكان الريف وقمع حركات التمرد وإبقاء السكان خاضعين للسلطة المركزية بالجزائر بقيادة الداي.

(٣) استعمل صاحب الرحلة تعبير إيكو (E؟cu) وهي العملة الفرنسية القديمة ، استمدت اسمها من شعار المملكة ، كانت قيمتها تقدر (١٦٤١) ب ٦٠ فلسا (Sous) ، وهو يقصد بها ريال الجزائر أو البوجو الذي تقدر قيمته سنة ١٨٣٠ ب ٨٠. ١ فرنكا.

(٤) يتوزع الجند (أو فرق النوبة) المكلفون بالمرابطة في الحصون والمواقع العسكرية داخل

٣٠

أرغفة في اليوم بالإضافة إلى جرايتهم ، ويتوقف إعطاء الخبز لهم عند ما يتزوجون ، وهذا ما حد من الزواج وجعل عدد الكراغلة ، وهم أبناؤهم من الجزائريات ، محدودا.

يمتلك الجيش المعروف بالحامية السلطة العليا بمملكة الجزائر ، فهو يقيل الدايات ويعين آخرين مكانهم حسب رغبته وغالبا ما تنتهي حياة الدايات بالقتل حتى أصبح الداي الذي يموت دون أن يتعرض للاغتيال ينظر إليه وكأنه ولي صالح ويصبح قبره محل تقدير لكون هذه النهاية نادرة جدا (١). هذا وإن جنود الحامية كلهم يعتبرون متساوين فليس لهم رئيس يخضعون له سوى قائدهم المباشر ، والأشخاص الذين يتميزون منهم بحكم التقدم في السن والوظيفة يتسلمون أجرة أعلى من الآخرين كل واحد حسب سنه ومهمته ، والذين يصلون منهم إلى أعلى المراتب يتقاضون عشرة ريالات في الشهر ،

__________________

مدينة الجزائر وخارجها على ثماني ثكنات وعدد من الحصون. أما الثكنات فهي :

المقرئين ، والبانجية ، والخراطين أو صالح باشا ، وأوسطة موسى ، وثكنة علي باشا ، ويالي أده ، والثكنة القديمة (أسكي) أو الخضارين الفوقانية ، والثكنة الجديدة (يكي) أو الخضارين السفلية.

أما حصون مدينة الجزائر ونواحيها فأهمها حصون القصبة ، وبرج باب عزون ، وبرج الإنكليز ، والبرج الجديد ، وبرج ٢٤ ساعة ، وحصن الإمبراطور ، وبرج النجمة ، وبرج مرسى الذبان ، وبرج الحراش ، وبرج الكيفان ، بالإضافة إلى العديد من مواقع المدفعية (البطاريات) المنتشرة على ساحلها الشرقي حتى تامنتافوست ، وساحلها الغربي حتى سيدي فرج.

(١) بالفعل تعددت حوادث اغتيال الدايات من طرف الموظفين المنافسين أو الجنود الناقمين.

وقد لقي أغلب الآغوات والكثير من الدايات حتفهم بفعل حركات التمرد العديدة والاغتيالات المتكررة ، وحتى بعد استقرار نظام حكم الدايات الباشوات في أواخر العهد العثماني فقد تعرض ستة دايات للاغتيال من مجموع ثمانية تولوا حكموا الجزائر بين ١٧٩٨ و ١٨٣٠.

٣١

ويصلون في سلم الترقية إلى رتبة معزول آغا وهي كلمة تعني الرجل الحر (١) ، فيظل صاحب هذه الرتبة يتسلم جرايته حتى وإن لم يقم بأي عمل ، ونفس الامتيازات يتمتع بها الأعلاج وهم النصارى الذين اندمجوا في العنصر التركي ، ولكنهم ظلوا مبعدين عن تولي منصب الداي.

والحضر وهم السكان الأوائل للمدينة ، وقد فرض عليهم الأتراك وضعية التبعية المطلقة ، فليس لأحد منهم الحق في حمل السلاح ، كما أن أملاكهم معرضة للمصادرة لأقل خطإ يصدر منهم في حق الأتراك ، وهم في مجموعهم يشتغلون كعمال وتجار ، أما رجال القبائل المستقرون لمزاولة الزراعة أو البدو الذين يعيشون في الريف بعيدا عن المدينة فيتمتعون بحرية كبيرة ، وهم ينقسمون إلى قبائل أو عشائر تعيش تحت الخيام وعند ما ينتقلون من مكان إلى آخر يحملون معهم كل ما يملكونه من أقوات ومتاع وحيوانات. وكل مجموعة من هذه القبائل المتنقلة تشكل دوارا يعود التصرف فيه إلى أحد الشيوخ الذي يلزم بدفع الضريبة عندما يأتي الجند أو المحلة لتحصيلها (٢) ، وقد اعتاد هؤلاء العرب الرحل الهروب إلى الصحراء عندما يقترب وقت تسديد

__________________

(١) معزول آغا وهو الضابط الذي انتهت صلاحياته وأصبح غير ملزم بمتطلبات الخدمة العسكرية ، ويصل جل الضباط من صنف الآغا إلى منزلة آغا الهلاليين إذ يمارسون سلطة شرفية لمدة شهرين يتقاعدون بعدها ليصبحوا ضمن صنف معزول آغا حيث يظلون يتسلمون رواتبهم الشهرية ويحضرون جلسات الديوان العام الذي يجتمع في المواسم الدينية والمناسبات العامة.

(٢) المحلة لفظ يطلق على الجند المتنقل في الأرياف مقابل النوبة التي تعني الجند المقيم بالأبراج أو الثكنات ، فقد جرت العادة على توجه فرق الجند في فصلي الربيع والخريف بقيادة آغا العرب بالنسبة لمدينة الجزائر ، وتحت إشراف البايات في مقاطعات قسنطينة ومعسكر والمدية ؛ وتتحدد مهمة المحلة في إقرار الأمن واستخلاص الضرائب ومراقبة القبائل الجبلية والعشائر البدوية ، وتساعد جند المحلة في مهامهم القبائل الجبلية المعروفة بفرسان المخزن ورجال القوم مقابل الامتيازات التي ينالونها والغنائم التي يتحصلون عليها أثناء غاراتهم على القبائل المعادية للبايليك أو التي تحاول التهرب من دفع ما يتوجب عليها من جباية ورسوم.

٣٢

الجباية ، ولهذا كان داي الجزائر يرسل فرق الجند المعروفة بالمحلة إلى مواطنهم وقت الحصاد ليتمكن من استخلاصها. أما العرب الذين يقطنون نواحي الأطلس ، فهم لا يعتبرون من الرعايا الخاضعين ، إذ يتصدون لجند المحلة عندما يتوجه إليهم ، ولهذا السبب أصبح من غير الممكن السفر أو الانتقال داخل البلاد بدون حراسة قوية.

وبالإضافة إلى الحضر من سكان مدينة الجزائر الذين يخضعون بمحض إرادتهم لنير الحكم التركي ، فإن مدينة الجزائر مأهولة بعدد كبير من اليهود ، ويسدد كل واحد منهم ضريبة تقدر بريالين في الشهر (١) ، وهذا ما يدر على الخزينة مقدارا معتبرا من المال. وهناك أيضا بمدينة الجزائر عرب ينتمون إلى الأقاليم الداخلية (٢) ، فالبساكرة نسبة إلى بلدهم الأصلي بسكرة ، يعملون في

__________________

(١) يؤلف اليهود بمدينة الجزائر إحدى الطوائف المهمة لكثرتهم ولتحكمهم في النشاط التجاري ، فقد قدر عدد اليهود بها ما بين ٠٠٠. ٧ و ٠٠٠. ٨ نسمة ، وقد أوكلت العناية بشؤونهم إلى أحد أعيانهم المعروف بمقدم اليهود ، وهو بمثابة أمين لجماعة اليهود يتعامل باسمهم مع موظفي البايليك ، ويتوجب عليه دفع ضريبة شهرية في شكل رسم عن كل يهودي لخزينة البايليك تقدر بحوالي ألف ريال بوجو (الريال بوجو قيمته ١. ٨٦ فرنك فرنسي سنة ١٨٣٠). أنظر : ناصر الدين سعيدوني ، النظام المالي للجزائر أواخر العهد العثماني (١٧٩١ ـ ١٨٣٠) ، الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ١٩٨٥ ، ص. ١٠٥.

(٢) يعرفون بالبرانية لكونهم دخلاء على المدينة وينسبون إلى مواطنهم الأصلية ويكلفون ببعض الأعمال المتواضعة التي يأنف من تأديتها سكان المدينة من حضر وأندلسيين ، لكونها مهنا متواضعة وإن كانت توفر لأصحابها مدخولا ماليا محترما. ويقدر عدد البرانية بعشرة آلاف نسمة ، وأهم جماعاتهم : بنو ميزاب الذين كانوا يعملون في الحمامات ومطاحن الحبوب ، وجماعة قبائل جرجرة التي اشتغل أفرادها في مختلف المهن اليدوية والحراسة ، بالإضافة إلى البساكرة الذين كانوا يشتغلون في الحراسة الليلية وفي أعمال التنظيف ، والأغواطيون الذين كانوا يعملون في الكيل والوزن ونقل البضائع ، والجيجليون الذين كانوا يشتغلون في أفران الخبز والمطابخ ، والزنوج (الوصفان) المسخرين للعمل في المنازل. أنظر : ناصر الدين سعيدوني ، الجزائر في التاريخ (العهد العثماني) ، الجزائر ، ١٩٨٢ ، البنية الاجتماعية في المدن (ص ص. ٩٩ ـ ١٠٥).

٣٣

تنظيف الشوارع والمنازل ويقومون بالحراسة في الليل ويوضعون تحت مراقبة أحد الأمناء من جماعتهم يتوجب عليه تسديد قيمة أي شيء قد يسرق من المنازل أثناء الحراسة الليلية ، ولهذا السبب فإنه من النادر أن نسمع عن تعديات أو سرقات في الليل.

أما الأسرى الأوربيون وأغلبهم من الإسبان والبرتغاليين والإيطاليين والألمان ، فإن عددهم قليل جدا بمدينة الجزائر ، وهم عادة ما يحظون باحترام الأتراك ويكونون في حماية إحدى الدول الأوربية التي تكون في حالة سلم مع حكومة الداي ، هذا وتتكفل البعثة الفرنسية برعاية رجلي دين من الرهبان (Les Pe؟res) أحدهما يحمل لقب المبعوث الرسولي لكل من تونس وطرابلس والجزائر (Vicaire Apostolique) ، أما المستشفى الإسباني فيسيره متصرف ويساعده أحد رجال الدين (الآباء) المنتمين لسلك رهبنة عتق الأسرى (Ordre de la Re؟demption) ، وهو يقوم بأعمال خير جمة لفائدة جميع الأسرى ويلحق به جراح (chirurgien) وصيدلي (apothicaire) يقومان بمعالجة المرضى (١).

يتوفر القناصل الفرنسيون والإنكليز والسويديون والهولنديون على أماكن إقامة ملائمة في المدينة وضواحيها ، ويسددون مقابلها كل سنة مبالغ مالية

__________________

(١) دأبت هذه الممثليات القنصلية وكذلك تلك الإرساليات الدينية المهتمة بتحرير الأسرى الأوربيين ، وأغلبها إرساليات دينية فرنسية وإسبانية وإيطالية ، على تقديم خدمات طبية في إطار نشاطها الديني ، ووظفت من أجل ذلك بعض رجال الدين باعتبارهم ذوي معرفة بأمور الطب والصيدلة ، فكانوا يقومون بإنشاء مارستانات خيرية أهمها مارستان البعثة الدينية الإسبانية الذي أقامه الأب سيباستيان دويون سنة ١٥٥١ لفائدة الأسرى المسيحيين ، وقد أعيد تجديده عام ١٦١٢ وأصبح يتلقى دعما ماليا من الحكومة الإسبانية ، ولا يقل عنه أهمية مارستان البعثة الفرنسية الذي أنشأه الراهب تراريدو سنة ١٦٦٢ داخل أحد السجون العامة قرب باب عزون ، ومستوصف لازاريت الذي قدم له الملك الفرنسي لويس الثالث عشر الدعم المالي. وبجانب هذه المستوصفات ، أولى حكام الجزائر رعايتهم لبعض الملاجئ والمصحات منها مصحة خاصة بالأمراض العقلية بزنقة الهواء.

٣٤

لأصحابها ؛ وليس هناك مقرات (auberges) يأوي إليها الأجانب ، وهذا ما كان في صالحنا فقد انتفعنا بصفة خاصة من هذه الوضعية ، فأقمنا مدة مكوثنا بمدينة الجزائر عند السيد بلاك الذي عاملنا بالأريحية والكرم المعهودين لدى مواطنيه من الإنكليز ، ونفس المعاملة لمسناها لدى القناصل الآخرين الذين حملنا إليهم رسائل في شأن رحلتنا ، حتى أننا لم نلمس في مدينة الجزائر مع من تعاملنا معه سوى سلوك متحضر ، هذا ويوجد بمدينة الجزائر أيضا أفراد من الإغريق لهم كاهن يرعى شؤونهم الدينية.

إن مدينة الجزائر حقا من المدن المهمة في إفريقيا ، فهي قد واجهت في كل الأوقات جيوش أقوى الدول ، وهي على الأرجح مدينة جوليا القيصرية (Julia Cesarea) التي شيدها يوبا تمجيدا للإمبراطور أغسطس (١) ، مع أننا لا نجد بها أية آثار رومانية ؛ وقد سميت عند العرب بالجزائر بسبب وجود جزيرة قبالتها بالقرب من الساحل ، وهذه الجزيرة أصبحت اليوم موصولة بالمدينة برصيف بحري.

بنيت مدينة الجزائر على منحدر جبلي وهذا ما جعل أزقتها متدرجة يعلو بعضها البعض مثل مدرجات مسرح روماني ، وهذا التدرج في أزقتها مع

__________________

(١) لقد جانب هابنسترايت الصواب ، فمن المؤكد أن قيصرية هي مدينة شرشال التي حول الملك يوبا الثاني اسمها من يول ـ كما كانت تعرف منذ العهد القرطاجي ـ إلى قيصرية تمجيدا لولي نعمته القيصر الروماني أغسطس أو أوكتافيوس. أما مدينة الجزائر فهي إيكوزيم (IKosim) الفينيقية ، والتي عرفت في العهد الروماني بإيكوزيوم (Icosium) ، بعد أن أصبحت إحدى المستوطنات الرومانية المهمة في القرن الأول الميلادي ، وتعرضت للتدمير عند اجتياح الوندال لها ، وظلت خربة حتى أعاد عمرانها الأمير بلوكين بن زيري بن مناد الصنهاجي (٣٣٩ ه‍ / ٩٦٠ م) ، فعرفت بجزائر بني مزغناي ، وتحولت إلى مدينة مستقلة أواخر العهد الزياني ، واستنجد سكانها بالأخوين بربروسة للقضاء على الحصن الإسباني المقام على الجزر المواجهة لها والمعروف بقلعة الفنار" البنيون" ، فتغير بذلك مصيرها لتصبح قاعدة المغرب الأوسط أو البلاد الجزائرية منذ ١٥١٨.

٣٥

البياض الناصع لمنازلها ذات السطوح المشرفة على البحر هو الذي يكسبها منظرا متميزا جدا. أما الميناء فهو متكون من قلعة حصينة جدا تعرف ببرج الفنار ومن رصيف مبني بالحجارة يربط البرج بالمدينة (١).

وبالإضافة إلى برج فنار توجد أبراج أخرى تدافع عن مدينة الجزائر ، فهناك برج في الطرف الأعلى من المدينة يعرف بحصن الإمبراطور ، بالإضافة إلى برجين آخرين يمكن مهاجمة الميناء منهما ، كما توجد على شاطئ البحر بين مدينة الجزائر ورأس ماتيفو ثلاثة حصون صغيرة مزودة بالمدفعية (٢). وفي كل الأحوال فإن الاقتراب من الشاطئ يشكل خطرا على السفن بسبب الصخور التي تغمرها المياه ، وهذا ما يبعد عن المدينة أي أسطول معاد. هذا وإن ميناء الجزائر معرض للرياح الجنوبية الغربية حتى أنه في شهر يناير الماضي تسببت هذه الرياح في غرق وإتلاف بعض السفن التي كان راسية بالميناء ، أما من الجهات الأخرى فإن الميناء يعتبر آمنا إلى حد ما.

ومن جهة البر توجد مدينة الجزائر التي تدافع عنها أربعة حصون وهي حصن الإمبراطور والبرج الجديد وبرج باب عزون وبرج باب الوادي ، والمدينة في حد ذاتها تعتبر محصنة جدا نظرا للأسوار والخنادق التي تحيط بها ، أما أزقتها فهي غير مستقيمة وضيقة ووسخة ويصعب السير فيها بسبب

__________________

(١) اكتملت منشآت ميناء الجزائر في القرن السادس عشر بعد أن وصلت الجزر الأربعة الصخرية الواقعة قبالة مدينة الجزائر ، إثر استيلاء خير الدين بربروسة على الحصن الإسباني المعروف بالبينيون (١٥٢٩) ، وقد استعملت أنقاض هذا الحصن في إقامة رصيف يربط الميناء بالمدينة ، عرف بطريق خير الدين (١٥٦٠) ، وأثاء ذلك بنيت تحصينات عديدة مكان الجزر التي وصلت ببعضها ، وزودت ببطاريات المدافع ، فأصبح ميناء الجزائر موقعا عسكريا يصعب على الأساطيل المعادية مهاجمته واقتحامه.

(٢) أهم التحصينات ومواقع المدفعية (البطاريات) بالساحل الشرقي لمدينة الجزائر والذي يشكل انحناؤه خليج الجزائر ، ابتداء من مدينة الجزائر (باب عزون) ، هي : برج باب عزون ، برج تافورة ، برج سفيد الحامة ، بطارية واد خنيس (حسين داي) ، برج القنطرة (الحراش) ، برج الكيفان ، برج تامنتافوست.

٣٦

كثرة المارة ولوجود عدد كبير من الجمال والبغال ، بحيث يتوجب عليك أخذ الحيطة حتى لا تلامس أو تصطدم بأحد الأتراك المارين ، لأنه ليس في مقدور أي أجنبي أن ينصفك في حالة اصطدامك بهم ، وفي هذه الحالة فمن الأفضل ألا تحتك بعجرفة هذا الصنف من الناس.

أما منازل المدينة فهي منتظمة وبناؤها جيد بالنسبة لنوعيتها ؛ ويحرص في بنائها على أن يكون كل جزء من المنزل منفصلا عن الأجزاء الأخرى ولا سيما الأجنحة الداخلية حتى تظل النساء في معزل ، بحيث لا يمكن أن يراهن أحد ، وكذلك يستخدم الرواق كمكان للتوقف بحيث يخلع الحذاء قبل الدخول إلى المنزل إذا تطلب الأمر ذلك ، وينفتح المدخل على فناء مبلط بقطع رخام مربعة مشكلة من أربع إلى ست خانات ، وعادة ما يكون الفناء مربع الشكل محاط بصف أوصفين من الأروقة ، أما الغرف فهي مستطيلة تزينها صور أوراق الأشجار وأشكال المنمنمات المحفورة على الجبس ، وللمنازل أسطح مهيأة لأن تكون مكانا للاستراحة ، وتشاهد في المنازل الزهور والنباتات والأثاث الجميل ، وطريقة المحافظة عليها تدل على التزام السكان بقواعد النظافة والنظام ، ولا ينفذ ضوء النهار إلى المنازل من جهة الشارع حيث لا توجد إلا منافذ صغيرة لا يمكن رؤية الخارج منها ، وإنما يصل الضوء إليها من الفناء المنفتح على الغرف.

المنازل الريفية كثيرة جدا بفحص المدينة وهو الاسم الذي يطلق على الجهات المجاورة لها ، وهي مريحة جدا للسكن ، وغرفها ذات هندسة تساعد على الحد من الحرارة الشديدة في الصيف ، وليس هناك أحلى من منظر بساتين البرتقال المنتشرة حولها والتي أثارت انتباهي للانتظام التام لصفوف أشجارها.

حمامات مدينة الجزائر مريحة ومزينة والذين يستعملونها تقدم لهم خدمات جيدة. أما المساجد فهي متقنة البناء ، منها عشرة مساجد كبيرة ذات منارات ، أما التي تقل عنها شأنا فعددها يفوق الخمسين ، وتقع المقابر خارج

٣٧

المدينة (١) وهي تعتبر مزارات وخاصة منها أضرحة المرابطين التي تتخذ أماكن للعبادة ويكون الجناة في مأمن عند احتمائهم بأحد المساجد أو الأضرحة ، وكل مسيحي نزق أوطائش يدخل إليها ينظر إليه السكان وكأنه اعتنق الإسلام.

وأماكن العبادة هذه لا يمكن للمار بها التعرف على ما بداخلها ، أما أرضيتها فهي مغطاة بالحصائر والزرابي وأبنيتها تشدها عرصات قوية تتدلى بينها في اتساق ونظام قناديل من الزجاج.

وهذه المساجد تظل مفتوحة طيلة اليوم لأداء الصلوات ، وتقام خمس صلوات في النهار والليل ، وبواسطتها يمكن تقسيم اليوم فيقال ساعة آذان الصبح والظهر والعصر ، أي وقت الصباح ومنتصف النهار والمساء لأن في هذه الأوقات يرفع الآذان من المنارات إيذانا بحلول وقت الصلاة ، ففي آذان الظهر يعلق فوق المنارة علم أبيض وبعد منتصف النهار (العصر) يعلق علم أخضر ولهذا يسمونه بانتيرا نيفا (Panthera niva) أي ساعة نشر علم السفينة ، وفي المساء بانتيرا أباسا (Panthera abassa) أو ساعة طي العلم (٢).

وقصر الملك أي الداي يستعمل في نفس الوقت كقصر للعدالة ، فالداي يجلس منذ الصباح وحتى المساء في أحد أركان فناء هذا القصر المستخدم كقاعة استقبال ، وفي إمكان كل واحد أن يعرض قضيته ، وقبل ذلك يتخلى عن سلاحه ،

__________________

(١) يقدر عدد مساجد مدينة الجزائر ، حسب معلومات الدكتور شو الذي تعرف عليه صاحب الرحلة في الجزائر ، بعشرة مساجد كبيرة وخمسين مسجدا صغيرا ، بالإضافة إلى ثلاث مدارس كبيرة ، ومن أشهر هذه المساجد الجامع الكبير أو المسجد الأعظم والجامع الجديد ، بالإضافة إلى جوامع : كتشاوة ، وميزوموتو ، وعلي بتشنين ، وشعبان خوجة ، وسفير ، والرابطة ، وعبدي باشا ، والسيدة ، وسيدي رمضان ، والمقرئين أو البلاط.

(٢) ارتبطت أوقات النهار بمواقيت الصلاة ، فترفع الأعلام على المآذن وبعض السفن مع حلول وقت الظهر عند منتصف النهار ، وبعد الظهيرة مع صلاة العصر ، وكذلك وقت غروب الشمس وهو وقت صلاة المغرب. وقد جرت العادة أن تكون هذه الأعلام ذات ألوان خاصة ويحرص على طيها في نهاية كل يوم.

٣٨

وكلمة" شرع الله" أو عدالة الله لها في هذا المقام وزن كبير ، بحيث أن كل فرد مهما علا شأنه يحصل على تطبيق حكم العدالة بمجرد النطق به ، والأجانب يتوجب عليهم إظهار الاحترام لقصر الداي بنزع قبعاتهم عند مرورهم أمامه.

وبعد محكمة الداي تأتي محكمة القاضي والتي تشكل في الواقع محكمة أولية ، ومنها يمكن رفع الشكوى إلى محكمة الداي ، ولا يتطلب الانتهاء من القضية وقتا طويلا ، فهي لا تستغرق سوى ما يتطلبه حضور المتقاضين وسماع الشهود وتقديم الشكوى ، وتنفيذ الحكم يتم في اليوم نفسه ، والأتراك تتم معاقبتهم في سرية حفظا لكرامتهم ، بينما تنفذ الأحكام علانية في الحضر وباقي طوائف السكان الآخرين عند باب عزون ، والأسرى المسيحيون غالبا ما يضطرون للقيام بمهنة الجلاد التي ليس فيها ما يعيرهم أو ينقص من مكانتهم لأن أمر تنفيذ الإعدام يتولاه الشواش وهم الضباط الرئيسيون بقصر الداي في هذا الشأن.

يعود التصرف في شؤون سكان الريف إلى آغا الصبائحية (١) ، وهو الآن ابن الداي الحالي ويتم تنفيذ العقوبة في هؤلاء السكان الخاضعين في خيمة تنصب لهذا الغرض. هذا ويتم تنفيذ الحكم في الجرائم الكبرى بطريقة غير عادية ، فاليهودي أو النصراني الذي ينقص من معدن العملة تقطع يديه ويشنق ويطاف بجثته على ظهر حمار في أرجاء المدينة ، وهذه العقوبة نفذت حديثا

__________________

(١) يعود التصرف في سكان الريف بإقليم مدينة الجزائر المعروف بدار السلطان والمؤلف من أوطان متيجة والساحل (أنظر هامش رقم ٥) إلى آغا العرب أو قائد الحامية الذي يأتمر بأوامره شيوخ الدواوير وقياد العشائر بهذا الإقليم ، وهذا ما زاد في صلاحياته وجعله بمثابة الحاكم الفعلي للجزائر ، وإن كان يخضع إلى الداي الذي ينصبه في هذه الوظيفة وقد يعزله منها لأي سبب ، ونظرا لأهمية هذا المنصب فإن صاحبه يكون محل ثقة وربما يختار من أفراد أسرة الداي أو أبنائه ، كما هو الحال مع الداي كرد عبدي الذي كلف ابنه بهذا المنصب الخطير ، وهذا ما لاحظه هابنسترايت وأشار إليه في رحلته.

٣٩

وأرغم الجراحون من الأسرى على القيام بالإجراءات المتعلقة بها ، أما الضرب بالعصا فهو أكثر الأمور شيوعا ، فهو يطبق حالا في المتهمين في الأمور الأقل أهمية بحضور القاضي ؛ ولليهود قاض خاص بهم ، بينما النصارى لهم الحرية في رفع تظلماتهم أمام قناصل دولهم.

وقبور الدايات الذين يموتون بدون التعرض للقتل من الصعب العثور عليها ، فهي توجد في أماكن داخل المدينة وتتخذ مزارات للتبرك بها ، أما الذين يموتون نتيجة القتل فيدفنون بدون إقامة المراسيم بالمقابر الواقعة خارج باب الوادي حيث تشاهد ستة قبور دايات تم اغتيالهم في نفس اليوم الذي تولوا فيه منصب الداي (١) ، والقبر السابع الذي بجوارهم هو للداي الذي تغلب على منافسيه بفعل قوة مناصريه ، أما باقي القبور فمظهرها يختلف بحسب مكانة أصحابها بين قبر رفيع المقام وآخر أقل شأنا ، ويعلوقبور رؤساء البحرية (من فئة قابودان باشا) علم يرفرف فوقها ، وأحباء الشخص المتوفى يقومون بزيارة قبره والقيام ببعض الطقوس التي اعتادوا عليها مثل نثر الزهور على القبر ورشه بالعطر (٢) ، وهناك بعض الرجال يرابطون بأضرحة رجال الدين تبركا بها أو لحراستها. هذا ويتم غسل الأموات في أحد الأماكن المخصصة لذلك ، ومنها يحمل الميت بصحبة أقاربه لدفنه وإقامة صلاة الميت عليه.

يختار لمنصب الداي أحد الأتراك بإجماع الآراء أو بتغلب إحدى الجماعات في فرض مرشحها ، وعلى كل فإن تولي هذه المرتبة السامية يتوجب فيها أن يكون متوليها تركيا ، ورغم المخاطر المترتبة عن تولي هذه

__________________

(١) ارتبط ذلك بفترة الفوضى التي تسبب فيها ضباط الحامية (الإنكشارية) ، وانقسم أثناءها الديوان إلى شيع وجماعات متنافسة.

(٢) ذهب صاحب الرحلة إلى أن قبور رؤساء البحرية كانت ترش بالخمر ، ومن الراجح أن ذلك لبس في التعبير أو خطأ في الترجمة الفرنسية ، إذ أن الصحيح أن العادة جرت بأن ترش تلك القبور بالعطور أو ماء الورد.

٤٠