رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

رحلة العالم الألماني : ج. أو. هابنسترايت إلى الجزائر وتونس وطرابلس

المؤلف:


المترجم: أ. د. ناصر الدين سعيدوني
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ تونس
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٨

المصاحبين له (المحلة) في مكان لا يبعد إلا بيوم واحد عن رأس نيغرو ، رأيت لزاما علي أن أذهب إليه لتسليمه رسالة داي الجزائر ، خاصة وأن الحاكم الذي استقبلنا برأس نيغر أعلمه بوصول أجانب عن البلاد يرغبون في رؤيته ؛ وكان من طيبة باي تونس بعد أن علم بوجودنا بمملكته أن أرسل إلينا أحد مستخدميه مع بعض الفرسان لتأمين سلامتنا أثناء توجهنا إليه ، فوصلنا في المساء معسكره بمدينة باجة مركز إحدى المقاطعات التي تحمل نفس الاسم (١) ، ومثلنا أمام سيادته وهو اللقب الذي يدعونه به (٢) ، فلم يهضم فكرة

__________________

(١) باجة وهي فيغا (Vega) الواقعة بالشمال التونسي بين حوض مجردة وجبال خمير.

خضعت للرومان مع نهاية الحرب البونية الثانية ، تعرضت للهدم من طرف القائد الروماني ميتيلوس (Metellus) في حربه مع يوغرطة (١٠٩ ق. م.) ، وبعد أن عرفت ازدهارا تحت الحكم الروماني ، تعرضت للتخريب على يد الوندال (٤٤٨). وعندما استولى البيزنطيون عليها عملوا على تحصينها كما يشهد على ذلك اليوم برجان مستديران يشرفان على بناء مربع الشكل. ومن معالمها التي تعرف عليها هابنسترايت باب العين حيث العين العتيقة في ساحة صغيرة بجوار بقايا باب قديم.

(٢) وهو الباي حسين بن علي التركي وهو ذو أصول إغريقية من جزيرة كريت ، شغل منصب كاهية أو نائب الباي إبراهيم الشريف ، وعندما وقع هذا الأخير في قبضة الجزائريين ، أجمع قياد الجند والأعيان والعلماء بمدينة تونس على توليه شؤون البلاد لحزمه وحسن سلوكه ، وذلك خوفا من استيلاء الجند الجزائريين على مدينة تونس وتعرضها للنهب.

تولى حسين بن علي الحكم في ٢٠ ربيع الأول ١١١٧ ه‍ / ١٢ يوليو ١٧٠٥ م ، وتمكن من إبعاد الجزائريين عن مدينة تونس مقابل ضريبة ثقيلة قدرت ب ٠٠٠. ١٥٠ ريال ، كما تمكن من إقرار الهدوء وأحبط محاولات إبراهيم الشريف الرجوع إلى الحكم بعد أن أقنع الجزائريين بإطلاق سراحه وتقديم العون له (١١١٨ ه‍ ـ / ١٧٠٦ م) ، ومما زاد في سلطته حصوله على فرمان التولية من السلطان العثماني برتبة" أمير أمراء" وتثبيته في منصب الباي ، فعمل على إعمار البلاد واستتباب الأمن ورعاية شؤون الرعية وتوقيع معاهدات سلم مع العديد من الدول الأوربية ، ووقف في وجه الأسطول الفرنسي الذي حاول مهاجمة حلق الوادي سنتي ١٧٢٣ و ١٧٣١.

١٠١

أن هناك ملكا يبلغ به حبه للعلوم إلى حد إرسال مجموعة أشخاص للتجول في بلدان بعيدة ؛ ومع أن الرسائل التي حملناها له تركت أثرا طيبا جدا لديه ، إلا أنها لم تبدد شكوكه في صدق نوايانا ، ومن حسن حظنا في هذا الموقف أن طبيبه الذي اطلع بواسطة الأوراق الرسمية التي نحملها على خبر مغادرتنا مقاطعة ساكسونيا ، وعلى نيتنا في القيام بسفر إلى تونس شرح له موضوع رحلتنا ، وعندها استقبلنا بحفاوة كبيرة وحظينا بمعاملة جيدة في قصره ، هذا القصر الذي يدل كل شيء فيه على أن صاحبه إنسان متحضر ، بل أعطى فكرة جيدة عن مملكة تونس فيما يتعلق بنظام الحكم.

وفي الغد طلبنا من الباي السماح لنا بزيارة بعض الآثار القديمة فلم يستجب لرغبتنا هذه بحجة أنه يخاف علينا من أن نتعرض للخطر ، معقبا على عدم استجابته لطلبنا بأنه من العار عليه أن يلحق بنا أي مكروه. ومع ذلك سمح لنا أن نتعرف على مدينة باجة التي كانت أسوارها وأسس منازلها من بقايا البنايات الرومانية ؛ ومن بين النقوش التي شاهدناها نقشا أثار اهتمامنا يحمل هذه الكتابة :

" Filio Divi Commodi Frater Imp. XII. cos III. P. P. Q. ad Nap. M. Aurelio Antonin et auspiciis divinis".

أما كتابة النقش المثبت بأعلى باب قصبة المدينة فهو يحمل اسم الإمبراطور كايوس جوليوس أوريليانوس (Caius Julius Aurelianus).

هذا وما كدنا ننهمك في نقل كتابات هذه النقوش حتّى أحاط بنا جمهور غفير كانت نظراته تنم عن حقد دفين ، ولم يلبث أن تزايدت أعداده وبدأ برمي بعض الحجارة علينا ، وعندها تراجعنا وعدنا من حيث أتينا ، وبعد أن ودعنا الباي قضينا الليل خارج القصر في خيمة نصبت لنا ، وذلك حتى نتمكن من السفر في ساعة مبكرة من صباح الغد.

ومع حلول النهار استأنفنا سفرنا وكانت الحرارة شديدة جدا ، فعرجنا في

١٠٢

طريقنا على مناجم الرصاص (١) ، ورأينا أن العاملين فيها لهم مقدرة على معالجة المعدن ، فقد اعتادوا على سحق فلزاته وتذويبها. وشد انتباهنا هناك منظر منبع ماء معدني غير بعيد عن تلك المناجم ، مذاقه طيب وحرارته معتدلة. وقد تبين من اللون الأصفر لأكوام الكلس العديدة ومن طعم الماء أن مياه هذا المنبع بها تكوينات حديدية ، وفي هذه المرة كان علينا أن نبحث عن نبع ماء عادي منعش بدلا من نبع المياه المعدنية هذا ، لأن الحرارة الشديدة في هذا اليوم جعلت الماء الذي نحمله غير سائغ للشراب.

وبعد أن استرحنا بعض الوقت تحت ظل الأشجار ، ممتعين أبصارنا بأشجار الرمان الكثيرة والمحملة بثمارها التي لم تنضج بعد ، أجهدنا أنفسنا في السير للوصول إلى رأس نيغرو قبل حلول الليل ، وقد لاحظنا أثناء الطريق أن هناك ثقوبا مربعة محفورة في الصخور وهي من الكبر بحيث يمكن الجلوس والنوم فيها دون الوقوف ، ونظرا لتماسك الصخر وصلابته الشديدة فإن مثل هذه الثقوب لا بدّ أن تكون قد استعملته في نعتها أدوات حديدية ، وسكان هذه الجهة حسبما أبلغنا دليلنا يعتقدون أنها كانت مساكن للرهبان وقد رأينا ما يشبهها على شاطئ البحر قرب طبرقة.

وبعد الرجوع إلى رأس نيغرو قررت أن أمكث به لبضعة أيام بعد أن أصاب المرض الجماعة المصاحبة لي ، وهذا المرض أمر عادي لا يمكن تجنبه غالبا أثناء اشتداد الحر ، فضلا على أني لا أستطيع فعل شيء في مدينة تونس قبل وصول الباي إليها ؛ وصادف ذلك أنني كنت أرغب في الاحتفال مع رفاق السفر بعيد ملكنا وهو الموافق لليوم الثالث من شهر أغسطس ، وكان من دواعي سرورنا أن ينضم إلينا السيد صوري (M.Soret) حاكم المركز وكل

__________________

(١) تقع مناجم الرصاص والزنك بمنطقتي سجنان وتامرا ، وهي تبعد بحوالي ١٢٠ كلم عن مدينة تونس ، بينما المسافة بين تامرا ورأس نيغرو تقدر ب ٢٠ كلم تحف بها غابات الفلين الكثيفة.

١٠٣

من كان معه ، فرفعت بهذه المناسبة التحية لشخص جلالته (ملك بولونيا) بإطلاق إحدى وعشرين طلقة من مدافع الحصن ، تبعتها مجموعة طلقات بنادق أداها جنود الحامية وهم في حالة استعداد عسكري تام. وشاركنا في احتفالنا هذا كل سكان حصن رأس نيغرو ، وأنهينا يومنا البهيج بموسيقى موريسكية رقص على أنغامها رجالنا وهذا ما جعلنا ننسى كل الصعوبات التي تعرضنا لها وامتلكنا شعور ببداية حياة جديدة خاصة وأن مرافقينا قد استرجعوا صحتهم وبدأنا للتو في الاستعداد للسفر إلى مدينة تونس.

لقد علمنا ونحن في رأس نيغرو أن الإسبان حققوا نجاحا كاملا في حملتهم على وهران ، وأنه من غير الممكن وصف غيظ وغضب الأهالي ومدى شدة حقدهم على المسيحيين عندما بلغهم خبر استيلاء الإسبان على وهران ، فاعتبرنا أنفسنا سعداء جدا أن نكون في منأى عن كل هذه الأخطار ، لأنه في كل الحالات يعتبرنا الأهالي منحازين إلى الجانب المعادي لهم ، وفي وهران نفسها قتل بعض العوام مستشار قنصلية فرنسا ولم يحل دون تعرض باقي الأجانب بها لنفس المصير سوى لجوؤهم إلى منزل القنصل الإنكليزي.

وفي هذه الظروف التي قتل فيها كثير من العرب ، لم يكن التونسيون يختلفون في شعورهم عن الجزائريين مع أن مصالحهم مختلفة ، فقد وقفوا في هذه الكوارث التي حلت بالمسلمين في عمومهم نفس موقف الجزائريين ، فحاولوا الرد عليها بالانتقام من المسيحيين كلما أمكن لهم ذلك ؛ فسكان نواحي رأس نيغرو كانوا أشد هيجانا ضدنا حيث ظنوا أن إطلاق المدافع من الحصن الذي سبقت الإشارة إليه كان تعبيرا عن احتفالنا باستيلاء الإسبان على وهران.

عرف رأس نيغرو بهذا الاسم نظرا للون صخوره الداكنة أو كناية عن حالات الغرق الكثيرة التي تحدث عنده غالبا ، وهو يقع على خط عرض ٣٤ ٣٦ خ شمال خط الاستواء ، وقد بناه أول مرة الجنويون والإنكليز ، ثم أصبح ضمن احتكار الفرنسيين سنة ١٦٨٣ ، فشيدوا به حصنا مهيئا لنصب المدافع المأخوذة من حطام السفن التي تعرضت للغرق بالقرب منه. وأصبح مركزا

١٠٤

تجاريا تصدر منه إلى مرسيليا شحنات معتبرة من القمح والشعير والخضر الجافة والأصواف والجلود التي يشتريها وكلاء المركز من العرب بسعر متفق عليه. فكان على السفن أن تغادر الحصن بقدر ما يمكن من السرعة محملة بهذه الشحنات تجنبا للمخاطر المحدقة بالملاحة على هذا الشاطئ كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

واصلنا سفرنا عن طريق البحر إلى بنزرت (١) على ظهر سفينة من نوع فرقاطة (fre؟gate) تابعة للشركة ؛ وبنزرت قد تكون أوتيكا القديمة (Utique) ) ، وهي إحدى المدن البحرية الرئيسية في العهود القديمة ، وقد حملنا على الاعتقاد بأنها أوتيكا كونها تتفرد بموقع مينائها الذي يتصل بالبحر عن طريق قناة تعبرها

__________________

(١) بنزرت ، حسب أوصاف المؤرخ الروماني بلين (Pline) ، هي مدينة هيبو دياريتوس (Hippo Diarrhytus) التي تعني مقطع الأسود. فتحها المسلمون سنة ٦٦١.

خضعت لخير الدين عند استيلائه على تونس (١٥٣٤) ، وعند تراجعه أصبحت ضمن أملاك الإمبراطور شرلكان (١٥٣٥) ، لكن الإسبان اضطروا للتخلي عنها عند انسحابهم من تونس ، فظلت مدينة بحرية معرضة للهجمات البحرية ، فتعرضت لقنبلة الأسطول الفرنسي سنة ١٧٧٠ ، وبعد خضوع تونس للحماية الفرنسية (١٨٨١) ، اهتم الفرنسيون بتطوير مينائها وجعلوا منها قاعدة عسكرية مهمة.

(٢) أما أوتيكا القديمة (Utique) فهي غير بنزرت ، تقع بالقرب من مصب نهر مجردة بموقع بوشاطر على بعد ١٢ كلم عن الشاطىء بعد أن تراجع البحر عنها. يعود تأسيسها إلى جماعة من الفينيقيين قدموا إليها من صيدا حوالي ١١٠١ ق. م. ، وأصبحت ضمن منطقة نفوذ قرطاج (حوالي ٤٠٨ ق. م.) ، وأعلنت خضوعها للرومان مع بداية الحرب البونية الثالثة (١٤٩ ق. م.) ، فاتخذها الرومان قاعدة لهم في حربهم ضد قرطاج وأعلنوها مدينة حرة (١٤٤ ق. م.) ، وأصبحت تحظى بمنزلة عاصمة إفريقيا الرومانية ، ونزلت بها قوة القائد الروماني ماريوس لمحاربة الملك النوميدي يوغرطة (١٠٧ ق. م.) ، وانخرطت في الحرب الأهلية الرومانية بين مؤيدي قيصر وأنصار بومبيي ، وبها وضع كاتون حفيد الخطيب الروماني الشهير كاتون (Caton) حدا لحياته عند انتصار قيصر عليه في معركة تابسوس (٤٦ ق. م.).

ومع أعادة إعمار الرومان لقرطاج على عهد أغسطس ، فقدت أوتيكا مكانتها وإن حافظت على عمرانها تحت حكم الأباطرة السيفيريين في القرن الثالث ، بعدها تراجعت لتتحول إل أنقاض مع فتح العرب لإفريقيا.

١٠٥

السفن بسهولة مع أنها ضيقة ، وهي تمتد على مسافة ثلاثة أميال بحرية داخل اليابسة ، تعبرها قناة أنشأها الرومان ، وتتعرض بسبب انفتاحها على البحر لظاهرة المد والجزر التي تأتي لها بكمية وافرة من السمك تمكن السكان من صيدها والمتاجرة بها ، وهذا ما هيأ لهذا الوطن حياة رغدة ؛ وقد صادف حلولنا ببنزرت وقت صيد أسماك الحنكليس أو أنقليس (Anguilles) والبكورة (Pelamydes) والبوري (Mulets) والقاروس (Loups) ، وهي أصناف تختلف كميتها في البحر من شهر إلى آخر ، ويعتبر الصيد وفيرا إذا أمكن الحصول على كمية من البوري تملأ قوارب بأكملها ، فيفرغ السمك من بيضه ليجفف على حدة ، وهو ما يعرف بالبطارخ (La Poutargue) الذي يؤكل مع الزيت والخل وهو من الأطعمة الشهية ذات المذاق اللذيذ.

ومدينة بنزرت بنيانها منتظم ويعطي منظرا جميلا ومن بين آثارها القديمة نقش عثرنا عليه وقد كتب عليه هذه الكلمات :

" Imp. Caes. M. Aurelius Antonius Pius Felix Augustus

Parthicus Max. Britanicus Max. Ge anicus Max. trib. Pot. XVIII. Cos III. P. P. resticuit XLIX".

لقد أبدى كل من قنصل فرنسا وقنصل إنكلترا استعدادهما لاستقبالنا في مدينة تونس وتقديم ما يعود علينا بالفائدة في رحلتنا ، وبالفعل تسابقا على استضافتنا ، فأرسل إلينا قنصل فرنسا الفارس سان جيرفي Le chevalier Saint ـ Gervais)) (١) مترجمه مع عربات لنقلنا من بنزرت ، وعندما وصلنا مدينة تونس وجدنا أنفسنا في بيت القنصل الفرنسي وبه كل ما يمكن أن نتمناه في إقامتنا ،

__________________

(١) لسانت جيرفي كتاب عنوانه" مذكرات تاريخية تتعلق بالحكومة القديمة والجديدة لمملكة تونس ، طبع بباريس سنة ١٧٣٦.

Saint ـ Gervais, Me؟moires historiques qui concernent le gouvernement de l\'ancien et du nouveau de Tunis, ٦٣٧١, I vol, in ـ ٨.

[تعليق صاحب الرحلة].

١٠٦

وفي هذه الظروف الجيدة كانت أمنيتي أن أتمكن من إضافة أشياء جديدة إلى مجموعاتي من الحيوانات والمقتنيات النادرة في مملكة تونس التي يسودها النظام ويتوفر بها أمن الأشخاص خاصة بعد أن شملنا الباي برعايته أثناء الاستقبال الذي حظينا به عنده.

١٠٧
١٠٨

الرسالة الرابعة

٥ أكتوبر (١٧٣٢).

سيدي ،

بمجرد أن عاد باي تونس الذي يلقب بالملك (١) من معسكر باجة حيث التقينا به سابقا ، وفي هذه المرة ذهبنا إليه وهو بمدينة تونس لتقديم الشكر ولطلب السماح لنا بالسفر إلى داخل البلاد. وقد أبلغنا بعد بضعة أيام من الانتظار أنه لا يمانع في قيامنا بهذه الجولة لكنه أبدى تحفظا على ذلك بدعوى أن هذا السفر يعرضنا إلى خطر محقق نظرا للحقد الذي يكنه العرب للنصارى والذي تأجج في هذا الوقت بالذات بسبب غزو الإسبان لإفريقيا (٢) ، وعلّل موقفه هذا بأنه استجابة لرسائل التوصية التي كتبها داي الجزائر في

__________________

(١) يحمل باي تونس باعتباره الحاكم المطلق الصلاحية في مملكته لقب الملك ، والمقصود هنا هو الباي حسين بن علي التركي مؤسس الأسرة الحسينية الذي حكم تونس من ١٧٠٥ إلى ١٧٥٩ (أنظر ترجمته : هامش رقم ١١٩).

(٢) يقصد به غزو إسبانيا لوهران والمرسى الكبير ، فقد صمم الإسبان على استرجاع موقعي وهران والمرسى الكبير اللذين فقدوهما سنة ١٧٠٨ بعد أن تعهد الملك فيليب الخامس باستعادتهما ، واستمر الإعداد للحملة ثلاث سنوات ، انتهت بتوجه الأسطول الإسباني في ١٥ يونيو ١٧٣٢ من أليكانت إلى سواحل وهران ، وكان الأسطول يتكون من حوالي ٥٠٠ سفينة نقل و ١٦ سفينة حربية منها فرقاطتان وغليوطتان ، أما عدد الجند المشارك في الحملة فكان ٠٠٠. ٢٨ ، وتولى قيادته الكونت دو منتيمار (Le Comte de Montemar). ورغم هيجان البحر ، فقد تم إنزال القوات بساحل الأندلس غرب وهران في ٢٩ يونيو ، وبعد مواجهة القوات الإسبانية لمقاومة عنيفة من قوات باي الغرب

١٠٩

شأننا والتي تدعوه إلى رعاية شؤوننا ، وسواء كان هذا الموقف السلبي صادرا منه عن سوء نية أو أنه نابع من شكوك لا أساس لها من الصحة على اعتبار أننا أتينا للاطلاع على حالة البلاد ، فإنني أنظر إلى هذا الموقف بأنه أسوء ما تعرضت له في سفري ، ومع ذلك فإن هذا الموقف من باي تونس لم يحد من رغبتي الجامحة للتعرف على الآثار القديمة لنوميديا ، فكنت أتحين أول فرصة تتاح لي حتى أذهب إلى طرابلس ، وفي انتظار تحقيق ذلك عقدت العزم على الذهاب إلى شواطئ البحر كي أمضي وقت فراغي في شيء مفيد وحتى لا أبقى في حالة فراغ ، فقد شغلت نفسي منذ وصولي إلى تونس بجمع بعض الحيوانات التي أمكنني جمعها ، فكان أول ما تحصلت عليه من هذه الحيوانات نعامة صغيرة جميلة الشكل ، وقد أهدى السيد هودسن (M.Hudson) لسيادتكم نعامة أخرى أبهى منظرا ، وقد أتيحت لي الفرصة أن أجري تشريحا على نعامة ثالثة نفقت من جراء مرض أصابها ، كما تحصلت أيضا على خروفين إثيوبيين لهما شكل غير واضح الملامح كما هو مرسوم لدى رويش (Ruysch) في اللوحة ٢٢ تحت اسم أوفيس بيريغرينا Ovis Peregrina) (١)) ؛ وهذا الحيوان يتميز بكونه مكسو بشعر طويل عوض الصوف

__________________

مصطفى بوشلاغم المؤلفة من حوالي سبعة آلاف من الجنود والمتطوعين في معركة حاسمة يوم ٣٠ يونيو ، تمكنت من الاستيلاء على حصون وهران والمرسى الكبير ، ويعود نجاح الحملة الإسبانية إلى تأخر وصول المدد من داي الجزائر الذي كان يخشى توجه الأسطول إلى مدينة الجزائر ، فتأخر في إرسال الإمدادات التي وصلت بقيادة آغا العرب ، وهو ابن الداي كرد عبدي ، متأخرة ، ولم يعد من الممكن طرد الإسبان الذين تحصنوا خلف أسوار وهران والمرسى الكبير ، فاكتفى الجزائريون بالمناوشة وتضييق الحصار ليحولوا دون توسع الإسبان في الجهات القريبة من وهران.

(١) لقد رافق هابنسترايت في رحلته هذه مجموعة من المساعدين منهم المصور رويش الذي عمل على وضع مصور يتكون من لوحات للحيوانات والأشياء التي تم جمعها ، والتي تعتبر الآن في حكم المفقود بعد أن اختفت مع أوراق هابنسترايت.

١١٠

وهو في حجم الشاة العادية ، كما أعطى لي القنصل الإنكليزي قردا من نوع سيركوبيتاك (Cercopithe؟que) ذا وجه غريب.

وتتضمن مجموعتي من الحيوانات أيضا ثلاثة طيور صيد من نوع النسر المعروف جدا في هذه البلاد وأعدادا من الحرباء وطائر النحام (Le Phe؟nicopte؟re ou Flamant) ، وهو طائر يوجد بكثرة على شاطئ بحيرة صغيرة تقع بين البحر ومدينة تونس ، وهو يتميز بجمال منظره بسبب الحمرة القانية التي تكسو منقاره وجناحيه ورجليه. ولم يشغلني ذلك عن جمع بعض القطع المعدنية الرومانية ، وقد تمكنت من جمع العديد منها وكان أغلبها من البرونز ، كما تحصلت على تمثال صغير من المرمر علوه نصف قدم تتميز صناعته بالدقة والإتقان ، عثر عليه عند تهيئة أساس أحد المنازل ، وهو يمثل فينوس (Ve؟nus) وهي تمسك قلبا بيدها.

لم استسغ المكوث بمدينة تونس مثل الأسير ، فقررت مغادرتها وتهيأت لذلك ، فوزعت المهام على مرافقي ، بحيث يظل بتونس شخصان للعناية بالحيوانات التي جمعتها ، على أن أذهب أنا والآخرون إلى طرابلس في أول فرصة تتاح لنا. وأثناء الانتظار وعلى الرغم من أن رفاقي كانوا قلقين بسبب خروجي من المدينة خشية أن أتعرض لأحداث مزعجة ، فإني لم أستطع مقاومة رغبتي في رؤية آثار قرطاج.

ففي ٢ سبتمبر (١٧٣٢) تمكنت من مغادرة المدينة ، وتوجهت لزيارة حنايا المياه (Aqueducs) التي كانت تزود قرطاج في الماضي بالمياه (١) ، وهي

__________________

(١) حنايا قرطاج (Aqueducs) تجلب بواسطتها المياه من حوض زغوان إلى مدينة قرطاج ، طولها الإجمالي ١٢٣ كلم. يعود بناؤها على الأرجح إلى الإمبراطور الروماني هادريان ما بين سنتي ١٢٠ و ١٣١ ، وأعيد ترميمها سنة ٢٠٣ من طرف الإمبراطور سبتيم سيفير ، وبعد أن تضررت على عهد الوندال أصلحها البيزنطيون ، وقطع العرب الماء المنقول عبرها عندما حاصروا مدينة قرطاج بقيادة حسان بن النعمان (٦٩٨) ، وحاول الفاطميون الذين حكموا تونس في القرن العاشر

١١١

تبدأ من زغوان وهو مكان تتجمع فيه العديد من الينابيع مما يوفر كمية وفيرة من المياه تجلب إلى المدينة من مسافة خمسة أميال بطريقة تثير الاهتمام ؛ وهذا الأثر المعماري لم يبق محافظا على شكله بعد أن تهدمت أجزاء عديدة منه وزالت معالمها تماما بفعل عوادي الزمن وأثر الحروب وتخريب السكان الذين استعملوا حجارة أقواس الحنايا لبناء منازلهم وتشييد حصونهم ، ولم يبق منتصبا منه سوى بعض صفوف من الأقواس الكبرى والتي أعطتنا فكرة حقيقية عن طبيعة هذا المعلم الأثري ، فالحنايا كانت تربط ما بين الجبال في طريقها ويختلف ارتفاعها باختلاف عمق الأودية ، وقد قدرنا ارتفاع أحد الأقواس بتسعين قدما ، ووجدنا أن أجمل هذه الأقواس وأكثرها محافظة على شكلها الأول تقع على بعد ميلين إلى الشمال الشرقي من مدينة تونس ، وهي تقدم نموذجا حقيقيا للهندسة الرومانية يتطلب المعاينة المتفحصة لتناسب أبعاده ودقة بناء حجارته الضخمة المنحوتة والشاهقة الارتفاع ولصلابة المواد التي بنيت منها القناة التي تحملها وهي خليط من الجبس والرمل والآجر.

وبالقرب من هذه الحنايا شاهدنا بناء تدل كل مظاهره على أنه يرجع إلى فترة حديثة نسبيا وهو يشتمل على تجويف تحت الأرض طوله مائة قدم وعرضه ثلاثون وعلوه خمسون ، ينزل إليه بواسطة سلم يتكون من عشرين درج ، على أن وجود النتوءات الكلسية (Stalactites) التي لا حظنا عددا كبيرا منها يحملنا على الاعتقاد بأن هذا البناء المغمور في الأرض كان يستخدم فيما مضى كخزان ماء. وبعد هذه المشاهدات كان لزاما علينا تأجيل زيارة آثار قرطاج إلى أن يحين وقت التحاقنا بالسفينة التي تقلنا نحو طرابلس.

__________________

إصلاحها ، قبل أن يعتني بها السلطان الحفصي المستنصر ويدخل عليها تحويرا من حيث مواد وهندسة البناء في القرن الثالث عشر حتى تصبح صالحة لنقل الماء إلى مدينة تونس ، مع العلم بأن هذه الحنايا الرومانية قد تعرضت للاندثار إلا أن أجمل وأعلى أقواسها ما زالت حتى اليوم قائمة في موقع الودنة.

١١٢

أما مدينة تونس (١) فتعتبر بعد القاهرة والإسكندرية من أكبر مدن إفريقيا وأحسنها بناء ، وهي تقع في سهل جميل ، وهذا ما جعل منظر المدينة أكثر لطافة وحسنا ، ومما زاد في جمال مظهرها الجامع الرائع البناء الذي أنشأه الباي الحالي وتولى بناءه مهندس فرنسي جعل تصميمه يماثل نموذج قبة الأنفليد (Invalides) ) بباريس.

أما موقع مدينة تونس فهو متميز جدا إذ يقع على حافة بحيرة تتصل بالبحر بواسطة قناة وهذا ما جعل الحركة التجارية مع المدينة سهلة وسمح بوصول المسافرين والبضائع إليها بواسطة سفن تستعمل المجاديف ، بينما السفن الكبرى التي تتطلب مياه عميقة ، تتوقف على مسافة منها مما أبقى

__________________

(١) غطت مدينة قرطاج على مدينة تونس ، فظلت هذه الأخيرة حتى الفتح الإسلامي قرية متواضعة تعرف بتينيس (Tynes) أو تونيس (Tunes). وبعد استيلاء حسان بن النعمان على قرطاج (٨٢ ه‍) اتخذ من تينيس أو ترشيش ، كما عرفها العرب ، قاعدة بحرية لمواجهة البيزنطيين ، وعرفت تطورا عمرانيا عندما أقام بها بن الحبحاب جامع الزيتونة (٧٣٢ م) ، فتزايدت أهميتها وأصبحت على عهد الحماديين مركز إمارة بني خراسان المستقلة (القرن ٦ ه‍ / ١٢ م). وعندما استولى عليها الموحدون (٥٥٥ ه‍ / ١١٦٠ م) جعلوها قاعدة لإفريقيا ، وعندما انقسمت دولتهم ظهرت بها الدولة الحفصية التي امتدت سلطتها من طرابلس إلى بجاية (٦٢٦ ـ ٩٨١ ه‍ / ١٢٢٩ ـ ١٥٧٤ م) ، وأثناء ذلك توسع عمران تونس واستقر بها المهاجرون الأندلسيون. وعند ضعف الحفصيين ، أصبحت محل نزاع بين الإسبان والعثمانيين ، فاستولى عليها شرلكان (١٥٣٥) ، واسترجعها سنان باشا (١٥٧٤) ليجعل منها عاصمة لباشوية عثمانية قبل أن يؤول حكمها إلى الأسرة الحسينية التي أسسها حسين بن علي التركي (١٧٠٥) الذي تعرف عليه صاحب الرحلة.

(٢) يعرف بجامع الباي حسين ، استغرق بناؤه سنتي ١٧٢٦ و ١٧٢٧ ، وتميز بمنارته ذات الثمانية أضلع ، وألحقت به مدرسة وهيأ بجواره الباي حسين تربة ليدفن بها ، وأوقف عليه أملاكا للإنفاق عليه ، ورتب به دروسا ، وأقيمت به أول صلاة في ٢٦ أبريل ١٧٢٧ ، وتولى الخطابة به أبو العباس أحمد الحنفي ، فكان من أهم الجوامع الحنفية بمدينة تونس. أنظر : أحمد بن أبي الضياف ، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان ، تونس ، الدار التونسية للنشر ، الجزء الثاني ، ص. ١٢٥.

١١٣

المدينة في منأى عن قنابل السفن الأوربية عكس مدينتي الجزائر وطرابلس المعرضتين مباشرة لهذه القنابل لكونهما تقعان على شاطئ البحر.

يبعد ميناء تونس عن المدينة بفرسخين ويدافع عنه حصن يعرف بقلعة حلق الوادي (١) ، وهذا الحصن يحمي أيضا القناة التي تصل البحر بالبحيرة المتاخمة لمدينة تونس ، وهذا ما جعله بمثابة القلعة التي تدافع عن المدينة ، فقد تصدى طويلا لقوات شرلكان سنة ١٥٣٥ عندما بادر هذا العاهل بإعادة مولاي حسن ملك تونس الذي كان تحت حمايته إلى مملكته بعد أن طرده منها القرصان الشهير بربروسة (٢).

__________________

(١) قلعة أو حصن حلق الوادي ، استمدت اسمها من كونها لسانا بحريا يصل تونس بالبحر تفصله مرتفعات عن قرطاج ، وعرفت لدى الأوربيين بلاغوليت (La Goulette) ، وهي كلمة إيطالية محرفة (Goleta) من تسمية حلق الوادي العربية. ارتبط تاريخ هذه القلعة بمدينة تونس التي تفصلها عنها مرتفعات البلفيدير (Belve؟de؟re). شهدت العديد من المعارك الحاسمة منها استيلاء خير الدين بربروسة على مدينة تونس (١٥٣٤) ، وحملة شرلكان على تونس (١٥٣٥) الذي حول قلعة حلق الوادي إلى مقر الحكم الإسباني بتونس مع بسط الحماية الإسبانية على الدولة الحفصية. اهتم بها الدون خوان النمساوي ، فعمل على تجديد عمارتها (١٥٧٣) بعد انتصاره في معركة الليبانت البحرية على العثمانيين ، لكن الأسطول العثماني بقيادة سنان باشا والقوات المساندة له تمكن من الاستيلاء عليها واسترجاع تونس وإلحاقها بالدولة العثمانية (١٥٧٤).

(٢) هو خير الدين بربروسة (Barberousse) الذي عرف مع أخيه عروج بالأخوين بربروسة ، بأنهما من أشهر رياس البحر العثمانيين ، استطاعا بعد انتقالهما من جربة إلى تونس ومنها إلى الجزائر ، أن يتصديا للتوسع الإسباني بسواحل بلاد المغرب العربي ، فاستقرا بمدينة الجزائر بطلب من حاكمها سليم وتأييد من سكانها ، وعملا على توحيد البلاد وطرد الإسبان ، وبعد استشهاد عروج في وادي المالح بالغرب الجزائري (١٥١٨) وتصميم الإسبان على احتلالها ، التحقت الجزائر بنصيحة من خير الدين وبطلب من أعيانها بالدولة العثمانية ، فأمدها السلطان سليم بألفي إنكشاري ، وبذلك استطاع خير الدين القضاء على القلعة الإسبانية أمام مدينة الجزائر وتحويل الجزائر إلى قاعدة بحرية متقدمة للدولة العثمانية ، مما أدى إلى تصفية الوجود الإسباني بالجزائر وتونس وطرابلس ، وإحباط حملة شرلكان

١١٤

إن تشييد قلعة حلق الوادي تسبب في اختفاء ما بقي ماثلا من أنقاض قرطاج ، فقد خربت من أجل بنائها أجمل الأعمدة وأقواس النصر ومنشآت أخرى. وقبالة هذه القلعة يوجد حصن آخر بني على جبل غرب المدينة لتعزيز الدفاعات عنها (١). هذا ويجلب الماء إلى مدينة تونس بواسطة حنايا تتميز بهندستها الجميلة وهي مكونة من مجموعة كبيرة من الأقواس العالية.

أما منازل المدينة فهي كبقية بيوت شمال إفريقيا سقوفها مسطحة وهي في مجملها مكسوة بالجبس حتى يمكن أن يتجمع فيها ماء المطر وينقل عبر قنوات ليحفظ في صهاريج تحت الأرض ، وتستخدم هذه السطوح أيضا كأماكن للنوم في ليالي الصيف الحارة ، أما البيوت فهي نظيفة وجدرانها مغطاة بمربعات الزليج الملون ، ومفروشة بالزرابي مما يعطي للمرء إحساسا بالراحة والانشراح لتناسق أشكالها وجمال ألوانها.

يتجنب الباي الإقامة بمدينة تونس ، فهو مستقر بقصره بقلعة بارد والواقعة على بعد فرسخ من المدينة ، وقد وجدنا هذا المكان المحصن طريفا جدا في هندسته ورائعا في منظره يتميز بنظافة غرفه المزخرفة وبأحواض الرخام والسواقي الكثيرة التي توجد فيه ، يعقد به مجلس الأمير في أحسن نظام ، ويقضي فيه الباي وقته ، وقد يفضل الإقامة في خيمة وسط معسكره ـ كما وجدناه عندما التقينا به في باجة ـ على الذهاب إلى مدينة تونس خشية أن يتعرض للقتل وهو المصير الذي يتربص بالبايات من طرف منافسيهم وأعدائهم.

__________________

(١٥٤١) ، ووضع أسس متينة لإيالة الجزائر ، في الوقت الذي التحق فيه خير الدين بربروسة بإستانبول ليصبح قائدا (قابدان) للأسطول العثماني (١٥٤٣ ـ ١٥٤٦).

(١) لعله الحصن الصغير الواقع بالقرب من الملاسين شمال غرب مدينة تونس وشمال سبخة منوبة ، على الطريق المؤدي إلى قصر باردو. أما الحصون الأخرى المحيطة بمدينة تونس والتي تشكل خط دفاع داخلي عن المدينة فهي حصون باردو والرابطة والأندلس وعلي رايس والبرج الجديد ، بينما يمثل حصن حلق الوادي نقطة الدفاع الرئيسية عن المدينة من جهة البحر.

١١٥

يطلق على رئيس الحكومة بمملكة تونس تسمية الباي وهو لقب عسكري يعرف به عادة قائد الجيش أو رئيس الفرق العسكرية المتجولة في الريف (المحلة) ، ولكون السلطة الحقيقية بيد ضباط الحامية أو الوجاق ، فإن الداي بتونس يخضع للباي (١) ، ويكلف برئاسة الديوان حسب الصلاحيات المحددة له ، ويليه في المنزلة الشرفية الكاهية وهو المكلف بتطبيق أحكام العدالة بحيث يقوم بتنفيذ الأحكام فورا ويتم الفصل في كل القضايا بسرعة ، وغالبا ما يكون العقاب ضربا بالعصا ، أما المسيحيون فيفصل في شؤونهم القناصل التابعون لهم ، بينما يتولى أمر اليهود أحد القضاة العارفين بشؤونهم.

يتألف ديوان مملكة تونس من الآغوات والبلوكباشيات والأوداباشيات ويرأسهم الداي أو الكاهية ، ويتداولون في المسائل العامة ويبدون رأيهم في القضايا الخاصة ، بينما يتولى السلطة الفعلية الباي الذي مضى على توليه الحكم سبعة عشر سنة ، وقد آلت إليه مقاليد الإيالة إثر اغتيال سلفه إبراهيم الشريف وهو في طريقه عائدا من الجزائر حيث كان أسيرا (٢). وهذا ما جعل هذا الباي في خوف دائم من أن يلقى مصير سلفه.

__________________

(١) وهذا عكس الجزائر حيث يتولى السلطة الداي الذي يختاره الديوان عادة ، بينما البايات يعينون من قبله لحكم المقاطعات الثلاث (البايليكات) ويقيمون بمراكزها : المدية وقسنطينة ومعسكر.

(٢) إبراهيم الشريف : تمكن من وضع حد نهائي لحكم الأسرة المرادية بتونس بعد أن قضى على الباي مراد الثالث الملقب ببوبالة في شهر محرم ١١١٤ ه‍ / يونيو ١٧٠٢ م. عقد صلحا مع حكام الجزائر ليأمن تدخلاتهم ، وتقلد وظيفة الباي ، واكتسب لقب الداي ، ونال فرمان الباشوية من السلطان العثماني ، لكنه انتهج سياسة مواجهة مع حاكم طرابلس التي هاجمها وتراجع عنها بسبب تفشي الوباء بين جنوده ، ثم دخل في نزاع مع حكام الجزائر لإثبات ملكيته على جزيرة زنبرة التي أراد الباب العالي إلحاقها بالجزائر ، ووقع في الأسر مع أخيه ، فانهزم أمام جند الجزائر بقيادة الداي مصطفى باشا (ربيع الأول ١١١٧ ه‍ / يونيو ١٧٠٥ م) بالقرب من الكاف. انتخب كبراء الجند وجماعة العلماء والأعيان بمدينة تونس خليفته حسين بن علي التركي لتولي حكم الإيالة التونسية وتأسيس حكم الأسرة الحسينية بها.

١١٦

لقد شاهدنا علي باشا وهو أخو الباي عندما كان في السجن بالجزائر والذي كان في فترة سابقة قد أعلن الحرب على أبيه بمساعدة من سكان الجبال والتحق بالجزائر طلبا للعون من حكومتها ، ولكنه وضع في السجن بطلب من أبيه باي تونس لأن هدايا الباي كانت أكثر تأثيرا على ديوان الجزائر من توسلات ابنه علي باشا (١). ومما يلاحظ في هذا الشأن أن أبناء الباي ليس لهم الحق في خلافة آبائهم في منصب الباي ، بل الجماعة الأقوى في الأوجاق هي التي تختار الشخص الذي ترتضيه ؛ ويتولى الديوان المصادقة

__________________

(١) عرفت إيالة تونس نزاعا محتدما أواخر القرن السابع عشر ، انتهى بالقضاء على حكم الأسرة المرادية (١١١٤ ه‍ / ١٧٠٢ م) بعد أن تمكن الآغا إبراهيم الشريف إثر عودته من إستانبول من قتل الباي مراد الثالث الملقب ببوبالة وعقد صلح مع حكام الجزائر ، لكنه لم يلبث أن أسره الجزائريون ، فخلصت وظيفة الباي لحسين بن علي التركي مؤسس الأسرة الحسينية التي حكمت تونس من ١٧٠٥ ولم تنته إلا بإعلان الجمهورية بتونس ١٩٥٧ وقد فشل حسين بن علي في إقرار نظام متعارف عليه لتوريث الحكم ، مما أدى إلى حدوث نزاع مع ابن أخيه علي باشا تحول إلى حرب أهلية بين مؤيدين (الحسينية) وأنصار ابن أخيه (الباشية) ، الذي حرمه عمه حسين بن علي من ولاية العرش وعهد بها إلى ابنه من محظيته الجنوية ، وبعد سنة ونصف من النزاع المسلح اضطر علي باشا إلى الانسحاب إلى الجزائر.

وحتى يظل علي باشا في الجزائر ، عمل عمه حسين بن علي على استرضاء داي الجزائر كرد عبدي باشا ليبقي ابن أخيه محتجزا عنده مقابل إتاوة سنوية بقيمة ٠٠٠. ١٠ سكة ، لكن الجزائريين لم يلبثوا أن تدخلوا لصالح علي باشا (١١٤٨ ه‍ / ١٧٣٥ م) ، مما مكنه من دخول تونس وإعلان نفسه بايا مكان عمه حسين بن علي الذي تحول إلى داخل تونس جلبا للأنصار ، وبعد خمس سنوات من النزاع (١١٥٣ ه‍ / ١٧٤٠ م) ، ألحق به الأمير يونس بن علي باشا الهزيمة وانتهى أمره بالقتل واضطر ولداه محمد الرشيد وعلي إلى اللجوء إلى الجزائر ، وبذلك استتب الأمر لعلي باشا الذ حكم تونس حتى سنة ١١٦٩ ه‍ / ١٧٥٦ م. أنظر : أحمد بن أبي الضياف ، المصدر نفسه ، الجزء الثاني.

وكذلك : محمد الصالح مزالي ، الوراثة على العرش الحسيني ، تونس ، الدار التونسية للنشر ، ١٩٦٩ ، ص ص. ٢٣ ـ ٢٥.

١١٧

على هذا الاختيار (١) ، وليس من الضروري أن يكون الباي من أصول تركية خالصة أي من أب وأم تركيين ؛ فالكراغلة وهم من آباء أتراك وأمهات عربيات وكذلك الأعلاج ذوو الأصول المسيحية لهم الحق أيضا في تولي هذا المنصب السامي.

ويوجد في مملكة تونس أيضا باشا تبعث به القسطنطينية ممثلا للسلطان ؛ ولكنه موظف شرفي فليس له صوت في الديوان ولا يتولى أية سلطة في الحكومة ، والباي يعتبره مجرد وزير مقيم للباب العالي بتونس. ومن مظاهر سيادة تونس أن مبعوثيها يحظون باستقبال جيد في البلاطات الأوربية ؛ ويعين لهذه المهام أشخاص ذو ومواهب ، خاصة وأن أغلب ضباط المملكة التونسية لهم إلمام باللغات الرئيسية للأمم الأوربية وأن اللغة الإيطالية الدارجة شائعة بتونس وهي تكاد تصبح لغة وطنية للبلد ، وهي بمستواها القريب من الإيطالية الفصحى قريبة الشبه بلغة الفرانكة المستعملة في الجزائر والتي نصف كلماتها إسبانية.

ويتصف أهل تونس عادة باللياقة ، فهم مهذبون جدا لاختلاطهم بالأوربيين ، وكبار القوم الذين أوكلت تربيتهم في الصغر للأسرى المسيحيين يحملون فكرة جيدة إلى حد ما عن الأوربيين ، وهذا ما جعلهم يحاولون أن يوفروا لنا كل أنواع الخدمات ، أما الآخرون فلهم نفس القيم والعادات المتبعة في الجزائر وإن كانت كيفية معاملتهم للأجانب تختلف كثيرا عما هو شائع في الجزائر ، فالجزائريون وإن كانوا مؤدبين مع المسيحيين إلا أنهم يتحفظون دائما في أسلوب تعاملهم مما ينم على الاعتزاز بالنفس وبالبرودة في التعامل

__________________

(١) ينطبق هذا الوضع على الجزائر ، بينما يختلف الوضع في تونس حيث فقد العنصر التركي تماسكه ولم يعد يحتكر السلطة التي أصبحت وراثية في الأسرة المرادية ثم الحسينية التي ارتبطت بالبلاد وتوارث أفرادها الحكم ، بينما أصبح الديوان بمثابة هيئة شرفية تجتمع في المناسبات وليس لها صلاحية تعيين موظفي الدولة.

١١٨

وهو سلوك معهود لدى القراصنة.

القوة البحرية التونسية قليلة الأهمية ، فهي لا تتجاوز بعض السفن الحربية الراسية بمرسى بورتوفارينا (Porto ـ Farina) ) على بعد ثلاثة أميال من مدينة تونس ؛ وسفن هذه القوة البحرية من نوع الغليوطات تشكل خطرا على السفن التجارية وعلى سفن الشحن الصغيرة ، وهذا ما يمكنها من الحصول في غالب الأحيان على غنائم من الإسبان والبنادقة والإيطاليين وبعض الدول الأوربية الأخرى. وفي هذا الصدد لم نلتق في تونس بأسرى ألمان ما عدا من لم يكن منهم من رعايا الإمبراطور ، بينما نجد الكثير من الأسرى الإغريق والبنادقة ، ولعل ذلك يعود إلى أن حكومة تونس هي الآن في حالة سلم مع الإمبراطور وجمهورية جنوة. (٢)

لقد غادرت مدينة تونس في يوم ١٣ سبتمبر (١٧٣٢) مع ثلاثة ممن رافقوني في سفري وأثناء ذلك اغتنمت الفرصة التي سنحت لي فوقفت على آثار قرطاج الشهيرة وهي تقع بالقرب من حلق الوادي حيث كانت السفينة تنتظرنا للإبحار ، فشاهدنا موقع أسوار قرطاج الضخمة ووقفنا على بعض معالمها التي لا تزال قائمة ، وتبين لنا أن المدينة كانت مشيدة على ثلاثة

__________________

(١) مرسى بورتو فارينا (Porto Farina) وهي روسينونا (Ruscinona) حسب المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس ، أو غار الملح لوجود تكوينات ملحية بجوارها ، يحدد موقعها عند سفح جبل الناظور شمال بحيرة تشكلت من مياه المنخفض الذي يكونه المجرى القديم لوادي مجردة ، وتقدر مساحتها بحوالي ٣٠ كلم مربع. وقد كانت هذه البحيرة فيما مضى متصلة بالبحر عن طريق منفذ لا يتجاوز طوله خمسين مترا ، والذي أصبح اليوم مطمورا بالرمال بحيث لا يصلها ماء نهر مجردة إلا في فترات الفيضانات. استقر بها اللاجئون الأندلسيون في مطلع القرن السابع عشر وحافظت على عمرانها ، ويبلغ عدد سكانها الآن حوالي ٠٠٠. ٤ نسمة ، وهي تبعد عن مدينة تونس بحوالي ٤٥ كلم وليس ثلاثة أميال كما ذكر صاحب الرحلة.

(٢) أبرم باي تونس حسين بن علي التركي معاهدة سلم مع إمبراطور النمسا سنة ١١٣٧ ه‍ / ١٧٢٥ م ، كفلت له ولحلفائه حرية التجارة وأمنت رعاياه من الوقوع في أسر البحارة التونسيين.

١١٩

جبال ، وأن موقعها عبارة عن شبه جزيرة وهذا ما عزز قوتها.

لقد كانت مدينة قرطاج في الماضي تهيمن على الشمال الإفريقي وعلى إسبانيا وقسم من إيطاليا ، وقد اشتهرت بقوتها البحرية بفضل انتصارات حنبعل على الرومان ، لكنها تعرضت للدمار الشامل لتبنى مدينة تونس وحصنها (حلق الوادي) من أنقاضها (١) ، ولعل الصهاريج التي لا تزال ماثلة حتى الآن من بين

__________________

(١) قرطاج : تقع على الشاطئ الغربي لخليج تونس ، أسست حسب الأسطورة المتداولة عندما استقرت بموقعها علسة أو ديدون مع مهاجرين من مدينة صور سنة ٨١٤ ق. م. ، فعرفت ب" قرط حدشت" أي المدينة الحديثة ، نتيجة تنافس ضمن الأسرة الحاكمة بصور على عهد الملك بيغماليون. واستقلت بشؤونها ، ومع حلول القرن الخامس قبل الميلاد كونت مستعمرات لها بغرب المتوسط من صقلية وحتى إسبانيا ، وتوسعت في الداخل وفرضت نفوذها على الممالك النوميدية ، وحاولت فرض سلطتها على التجمعات الإغريقية بصقلية ، لكنها واجهت قوة روما الناشئة ودخلت معها في صراع مرير عرف بالحروب البونية التي مرت بثلاثة أطوار وهي : الحرب البونية الأولى (٢٦٤ ـ ٢٤١ ق. م.) ، انتهت بجلاء قرطاج عن صقلية وسردينيا وكورسيكا ، والحرب البونية الثانية (٢١٨ ـ ٢٠٢ ق. م.) التي اشتهر فيها القائد القرطاجي حنبعل ، الذي خسر هذه الحرب في معركة زاما ، وأصبحت بذلك قرطاج تحت رحمة روما التي استعدت عليها حليفها الملك النوميدي ماسينيسا ، والحرب البونية الثالثة (١٤٩ ـ ١٤٦ ق. م.) التي طبقت فيها مقولة خطيب مجلس الشيوخ الروماني كاتون (Caton) " لا بد من تخريب قرطاج" ، وبعد مقاومة للحصار الروماني لمدة ثلاث سنوات تمكن القائد الروماني سيبيون الإميلي بأمر من مجلس الشيوخ الروماني من تدمير قرطاج وإزالة معالمها.

اضطر الرومان بعد فترة إلى إعادة تعمير قرطاج لموقعها الإستراتيجي ، فسارع قيصر إلى إنشاء مدينة رومانية مكانها (٤٤ ق. م.) ، ونجح بعده الإمبراطور أغسطس في إعادة الحياة لها ، فأصبحت بعد مدة العاصمة الإدارية والثقافية لإفريقيا الرومانية ، وغدت مركز الديانة المسيحية بإفريقيا منذ أواخر القرن الثاني الميلادي ، ثم اتخذ منها الوندال عاصمة لدولتهم بإفريقيا (٤٣٩) ، وجعلها البيزنطيون ، بعد طرد الوندال من إفريقيا (٥٣٤) ، مقرا لحكمهم وقاعدة لأسطولهم. لقد تراجع عمران قرطاج وتضاءل سكانها منذ القرن الرابع الميلادي ، ولم يعد لها دور بعد فتح المسلمين لها (٦٩٢) واتخاذ تونس قاعدة بحرية لهم ، فغدت مجرد أنقاض تستعمل حجارتها في تعمير مدينة تونس القريبة منها والتي أصبحت بمثابة بديل لها ، وتحولت إلى ميدان تنقيب أثري منذ بدأه فلوبير (Flaubert) (١٨٥٧) بموقع سالامبو (Salammbo)

١٢٠