الشّفاء ـ طبيعيّات

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

الشّفاء ـ طبيعيّات

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الدكتور محمود قاسم
الموضوع : العلوم الطبيعيّة
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: گل‌وردى
الطبعة: ٢
ISBN: 978-600-161-072-1
الصفحات: ٢٧٦

هذه الرديئة كانها أصلية لم يحس بها ، ولذلك لا يحس بحرارة الدق وإن كانت أقوى من حرارة الغب. وأما إن كانت الأصلية موجودة بعد وهذه الطارئة مضادة لها أحس بها ، وهذا يسمى (١) سوء المزاج المختلف ، وهذا المستقر يسمى سوء المزاج المتفق ، والألم والراحة من الألم أيضا من المحسوسات اللمسية. ويفارق اللمس فى هذا المعنى سائر الحواس ، وذلك لأن الحواس الأخرى منها ما لا لذة (٢) لها فى محسوسها ولا ألم ، ومنها ما يلتذ ويألم بتوسط أحد (٣) المحسوسات. فأما (٤) التي لا لذة فيها فمثل البصر لا يلتذ بالألوان ولا يألم ، بل النفس تألم من ذلك وتلتذ من داخل. وكذلك الحال فى الأذن ، فإن تألمت الأذن من صوت شديد والعين من لون مفرط كالضوء فليست (٥) تألم من حيث تسمع أو تبصر ، (٦) بل من حيث تلمس ، لأنه يحدث فيها (٧) ألم لمسى ، وكذلك تحدث فيها بزوال ذلك لذة لمسية. وأما الشم والذوق فيألمان ويلتذان إذا تكيف بكيفية منافرة أو ملائمة. (٨) وأما اللمس فإنه قد يألم بالكيفية الملموسة ويلتذ بها ، وقد يألم ويلتذ بغير توسط كيفية هى المحسوس (٩) الأول ، (١٠) بل بتفرق الاتصال والتئامه. ومن الخواص التي للمس أن الآلة الطبيعية التي يحس بها وهى لحم عصبى أو لحم وعصب تحس بالمماسة ، وإن لم يكن بتوسط (١١) البتة ، فإنه (١٢) لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات ؛ وإذا استحال (١٣) عنها أحس ، (١٤) ولا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها. وليس يجب أن يظن أن الحساس هو العصب فقط ، فإن العصب بالحقيقة هو مؤد للحس اللمسى إلى عضو غيره وهو اللحم. ولو كان الحساس نفس العصب فقط ، لكان الحساس فى جلد الإنسان ولحمه شيئا منتشرا كالليف ، وكان حسه ليس لجميع (١٥) أجزائه ، بل أجزاء ليفية فيه ، بل العصب

__________________

(١) وهذا يسمى : ويسمى هذا ف.

(٢) ما لا لذة : لا لذة م.

(٣) أحد : ساقطة من

(٤) فأما : وأما ك.

(٥) فليست : فليس د ، ك ، م

(٦) أو تبصر : وتبصر م.

(٧) فيها (الأولى والثانية) : فيه ك ، م.

(٨) أو ملائمة : أو مشافية م.

(٩) المحسوس : المحسوسة ك.

(١٠) الأول : الأولى ك.

(١١) بتوسط : متوسط د ، ك.

(١٢) فإنه : فإنها م

(١٣) استحال : استحالت م.

(١٤) أحس : أحست م.

(١٥) لجميع : بجميع ك ، م.

٦١

الذي يحس اللمس مؤد وقابل معا. والعصبة المجوفة مؤدية للبصر لكنها غير قابلة ، إنما القابل ما إليه تؤدى وهو البردية أو ما هو مستول (١) عليه وهو الروح.

نبين إذن أن من طباع اللحم أن يقبل الحس ، وإن (٢) كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر ومن قوة عضو آخر يتوسط (٣) بينهما العصب. وأما إن كان المبدأ موجودا فيه فهو حساس بنفسه وإن كان لحما ، وذلك كالقلب. وإن انتشر فى جوهر القلب ليف عصبى ، فلا يبعد أن يكون (٤) ليلتقط (٥) عنه (٦) الحس ويؤديه إلى أصل (٧) واحد يتأدى عنه إلى الدماغ ، وعن الدماغ (٨) إلى أعضاء أخرى ، كما سيتضح (٩) بعد. وكالحال (١٠) فى الكبد من جهة انبثاث عروق ليفية فيه ليقبل عنه ويؤدى إلى غيره ، (١١) ويجوز أن يكون انبثاث الليف فيه ليقوى قوامه ويشتد لحمه ، وسنشرح هذه الأحوال فى مواضع أخر مستقبلة. (١٢)

ومن خواص اللمس أن جميع الجلد الذي يطيف بالبدن حساس باللمس ولم يفرد له جزء منه. وذلك لأن هذا الحس لما كان طليعة تراعى الواردات على البدن التي تعظم مفسلتها إن تمكنت من أى عضو وردت عليه ، وجب أن يجعل جميع البدن حساسا باللمس ؛ ولأن الحواس الأخرى قد تتأدى إليها الأشياء من غير مماسة ومن بعيد ، فيكفى أن تكون آلتها عضوا واحدا إذا أورد (١٣) عليه المحسوس الذي يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته وتنحت بالبدن عن جهته. فلو كانت الآلة اللامسة بعض الأعضاء ، لما شعرت النفس إلا بما يماسها وحدها من المفسدات. ويشبه أن تكون قوى (١٤) اللمس قوى كثيرة كل واحدة منها تختص بمضادة ، فيكون ما يدرك به المضادة التي بين الحار والبارد غير الذي يدرك به المضادة التي بين الثقيل والخفيف. (١٥) فإن هذه أفعال أولية للحس يجب أن يكون لكل جنس منها قوة (١٦)

__________________

(١) مستول : مشتمل د ، ك.

(٢) وإن : فإن د ، ك ، م.

(٣) يتوسط : توسط د ، ك م.

(٤) يكون : ساقطة من م

(٥) ليلتقط : يلتقط ك ، م

(٦) عنه : منه ك

(٧) أصل : الأصل م.

(٨) وعن الدماغ : ساقطة من م

(٩) سيتضح : سنوضح د ، ف ، م

(١٠) وكالحال : كالحال م.

(١١) غيره : غيرها م.

(١٢) مواضع أخر مستقبلة : موضع آخر نستقبله د ، ف ، م.

(١٣) أورد : ورد ف. (١٤) قوى : ساقطة من م.

(١٥) غير الذي ... والخفيف : ساقطة من د.

(١٦) قوة : ساقطة د.

٦٢

خاصة ، إلا أن هذه القوى لما انتشرت فى جميع الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة ، كما لو كان اللمس والذوق منتشرين فى البدن كله انتشارهما فى اللسان لظن مبدأهما قوة واحدة ، فلما تميزا فى غير اللسان (١) عرف اختلافهما. وليس يجب (٢) ضرورة أن تكون لكل واحدة من هذه القوة آلة تخصها ، بل يجوز أن تكون آلة واحدة مشتركة لها ، (٣) ويجوز أن يكون هناك انقسام فى الآلات غير محسوس ، وقد اتفق فى اللمس أن كانت الآلة الطبيعية بعينها هى الواسطة. ولما كان كل واسطة يجب أن يكون عادما فى ذاته لكيفية ما يؤديه ، حتى إذا قبلها (٤) وأداها أدى شيئا جديدا ، فيقع الانفعال عنه ليقع الإحساس به. والانفعال لا يقع إلا عن جديد كان كذلك أيضا آلة اللمس. لكن المتوسط الذي ليس هو مثلا بحار ولا بارد (٥) يكون على وجهين : أحدهما على أنه لا حظ له من هاتين الكيفيتين أصلا ؛ والثاني ما له حظ منهما ولكن صار فيه إلى الاعتدال ، فليس بحار ولا بارد ، بل معتدل متوسط. ثم لم يمكن أن تكون آلة اللمس خالية أصلا عن هذه الكيفيات ، لأنها مركبة منها ، فوجب أن يكون خلوها عن هذه الأطراف بسبب المزاج والاعتدال لتحس ما يخرج عن القدر الذي لها. وما كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى الاعتدال ، كان ألطف إحساسا. ولما كان الإنسان أقرب الحيوانات كلها من الاعتدال كان ألطفها (٦) لمسا. ولما كان اللمس أول الحواس ، وكان الحيوان الأرضى لا يجوز أن يفارقه ، وكان لا يكون إلا بتركيب معتدل ليحكم به بين الأضداد ؛ فبين من هذا أنه ليس للبسائط وما يقرب منها حس البتة ولا حياة إلا النمو فى بعض (٧) ما يقرب من البسائط. فليكن هذا مبلغ ما نقوله فى اللمس.

__________________

(١) فى غير اللسان : ساقطة من م

(٢) يجب : + أن يقال ف.

(٣) لها : ساقطة من م.

(٤) قبلها : أقبلها ك.

(٥) ولا بارد : أو بارد م.

(٦) ألطفها : ألطف ف.

(٧) فى بعض : لبعض د.

٦٣

الفصل الرابع (١)

فى الذوق والشم

وأما الذوق فإنه تال للّمس ، ومنفعته أيضا فى الفعل الذي به يتقوم البدن وهو تشهية الغذاء واختياره ، ويجالس اللمس فى شىء وهو أن المذوق يدرك فى أكثر الأمر بالملامسة ، ويفارقه فى أن نفس الملامسة لا تؤدى (٢) الطعم ، كما أن نفس ملامسة الحار مثلا تؤدى الحرارة ، بل كأنه محتاج إلى متوسط يقبل الطعم ويكون فى نفسه لا طعم له وهو الرطوبة اللعابية المنبعثة من الآلة المسماة الملعبة. فإن كانت هذه الرطوبة عديمة الطعوم (٣) أدت الطعوم بصحة وإن خالطها طعم ، كما يكون للممرورين من المرارة ، ولمن فى معدته خلط حامض من الحموضة شابت (٤) ما تؤديه بالطعم الذي فيه (٥) فتحيله مرّا أو حامضا. ومما فيه موضع نظر هل هذه الرطوبة إنما تتوسط بأن تخالطها أجزاء ذى الطعم مخالطة تنتشر فيها ثم تنفذ فتغوص فى اللسان حتى تخالط اللسان فيحسه ، (٦) أو تكون نفس الرطوبة تستحيل إلى قبول الطعم من غير مخالطة ، فإن هذا موضع نظر. فإن كان المحسوس هو المخالط فليست الرطوبة بواسطة مطلقة ، بل واسطة تسهل وصول الجوهر المحسوس الحامل للكيفية نفسها إلى الحاس وأما الحس نفسه فإنما هو بملامسة (٧) الحاس للمحسوس بلا واسطة. وإن كانت الرطوبة تقبل الطعم وتتكيف به فيكون المحسوس بالحقيقة أيضا هو الرطوبة ويكون أيضا بلا واسطة ، ويكون الطعم إذا لاقى آلة الذوق أحسته ، فيكون لو كان للمحسوس الوارد من خارج سبيل إلى المماسة الفائضة من غير هذه

__________________

(١) الفصل الرابع : فصل ٤ ف

(٢) لا تؤدى : + إلى م.

(٣) الطعوم : للمطعوم د.

(٤) شابت : شاب د

(٥) فيه : فيها ف.

(٦) فيحسه : فيحسها ف.

(٧) بملامسة : ملامسة م.

٦٤

الواسطة لكان ذوق ، لا كالمبصر الذي لا يمكن أن يلاقى آلة الإبصار بلا واسطة. وإذا مست الآلة المبصرة (١) لم تدرك (٢) البتة ، لكنه بالحرى أن تكون هذه الرطوبة للتسهيل وأنها تتكيف وتختلط (٣) معا ، ولو كان سبيل (٤) إلى الملامسة (٥) المستقصاة من غير هذه الرطوبة لكان يكون ذوق. فإن قيل : ما بال العفوصة تذاق وهى تورث السدد وتمنع النفوذ؟ فنقول : إنها أولا تخالط بوساطة هذه الرطوبة ثم يؤثر أثرها من التكثيف وقد خالطت. والطعوم التي يدركها الذوق هى الحلاوة والمرارة والحموضة والقبض والعفوصة والحرافة والدسومة والبشاعة والتفه. والتفه يشبه أن يكون كأنه عدم الطعم ، وهو كما يذاق من الماء ومن بياض البيض. وأما هذه الأخرى فقد تكثرت بسبب أنها متوسطات وأنها أيضا مع ما تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا ، فيتركب من الكيفية الطعمية ومن التأثير اللمسى شىء واحد لا يتميز فى الحس ، فيصير (٦) ذلك الواحد كطعم محضن (٧) متميز ، فإنه يشبه أن يكون طعم من الطعوم المتوسطة بين الأطراف يصحبه تفريق (٨) وإسخان وتسمى (٩) جملة ذلك حرافة ، وآخر يصحبه طعم وتفريق من غير إسخان وهو الحموضة ، وآخر يصحبه مع الطعم تجفيف وتكثيف وهو العفوصة. وعلى هذا القياس ما قد شرح فى الكتب الطبية.

وأما الشم فإنه وإن كان الإنسان أبلغ حيلة فى التشمم من سائر الحيوانات (١٠) فإنه يثير الروائح الكامنة بالدلك ، وهذا ليس لغيره ، ويتقصى فى تجسسها بالاستنشاق ، وهذا يشاركه (١١) فيه غيره. فإنه لا يقبل الروائح قبولا قويا حتى يحدث فى خياله منها مثل ثابتة (١٢) كما يحصل للملموسات والمطعومات. بل تكاد أن تكون رسوم الروائح فى نفسه رسوما ضعيفة. ولذلك لا يكون للروائح عنده أسماء (١٣) إلا من جهتين : إحداهما (١٤) من جهة الموافقة والمخالفة بأن يقال طيبة ومنتنة ، كما لو قيل للطعم إنه طيب وغير طيب من غير تصور فصل أو تسمية ؛ (١٥) والجهة الأخرى أن يشتق لها من (١٦) مشاكلتها للطعم اسم

__________________

(١) المبصرة : المبصر ف

(٢) تدرك : يدرك ف.

(٣) وتختلط : وتختلف ك

(٤) معا ... سبيل : ساقطة من د.

(٥) إلى الملامسة ... اسم : ساقطة من د.

(٦) فيصير : فيبصر ف

(٧) محض : واحد ف.

(٨) يصحبه تفريق : يصحبه طعم وتفريق ك.

(٩) وتسمى : تسمى م.

(١٠) تجسسها : تحسينها م.

(١١) يشاركه : لا يشاركه ك.

(١٢) ثابتة : ما يأتيه ف ، م.

(١٣) أسماء : اسما ك

(١٤) إحداهما : أحدهما ك.

(١٥) أو تسمية : وتسمية ف ؛ أو تسمية م

(١٦) من : + جهة ك.

٦٥

فيقال (١) رائحة حلوة ورائحة حامضة ، كأن الروائح التي اعتيد مقارنتها لطعوم ما تنسب إليها وتعرف بها. ويشبه أن يكون حال إدراك الروائح من الناس كحال إدراك أشباح الأشياء وألوانها من الحيوانات الصلبة العين ، فإنها تكاد أن تكون إنما تدركها كالتخيل غير (٢) المحقق وكما يدرك ضعيف البصر شبحا من بعيد. وأما كثير من الحيوانات الصلبة العين فإنها قوية جدا فى إدراك الروائح مثل النمل ، (٣) ويشبه أن لا تحتاج أمثالها إلى التشمم والتنشق ، بل تتأدى إليها الروائح فى الهواء.

وواسطة الشم أيضا (٤) جسم لا رائحة له كالهواء والماء (٥) يحمل رائحة المشمومات. وقد (٦) اختلف الناس فى الرائحة ، فمنهم من زعم أنها تتأدى بمخالطة (٧) شىء من جرم ذى الرائحة متحلل (٨) متبخر (٩) فتخالط المتوسط. ومنهم من زعم أنها تتأدى باستحالة من المتوسط من غير أن يخالطه شىء من جرم ذى الرائحة متحلل عنه. ومنهم من قال إنها تتأدى من غير مخالطة شىء آخر من جرمه ومن غير استحالة من المتوسط. ومعنى هذا أن الجسم ذا الرائحة يفعل فى الجسم عديم (١٠) الرائحة وبينهما (١١) جسم لا رائحة له من غير أن يفعل فى المتوسط ، بل يكون المتوسط ممكّنا من فعل ذلك فى هذا ، على ما يقال فى تأدى الأصوات والألوان ، فحرى بنا أن نحقق هذا ونتأمله.

ولكن لكل واحد من المدعين بشيء (١٢) من هذه المذاهب حجة. فالقائل بالبخار والدخان يحتج ويقول : إنه لو لم تكن الرائحة (١٣) تسطع بسبب تحلل شىء ، ما كانت الحرارة (١٤) وما يهيج الحرارة من الدلك والتبخير وما يجرى مجرى ذلك مما يذكى الروائح (١٥) ولا كان البرد يخفيها. فبين أن الروائح إنما تصل إلى الشم (١٦) ببخار يتبخر

__________________

(١) فيقال ... يتبخر : ساقطة من د.

(٢) غير : الغير د ، ف ، م.

(٣) مثل النمل : كالنمل ف.

(٤) أيضا : أنها م

(٥) والماء : + هى التي ك

(٦) وقد : فقد ك.

(٧) بمخالطة ... تتأدى : ساقطة من م.

(٨) متحلل : يتحلل ف

(٩) متبخر : فيتبخر ف.

(١٠) عديم : العديم د ، م (١١) وبينهما : ومنها م.

(١٢) بشيء : لشىء م. (١٣) الرائحة : رائحة م.

(١٤) الحرارة (الأولى) : الرائحة م.

(١٥) الروائح : الرائحة ف

(١٦) الشم : الجسم م.

٦٦

من ذى (١) الرائحة ، يخالط (٢) الهواء وينفذ فيه ، ولهذا إذا استقصيت تشمّم التفاحة ذبلت لكثرة ما يتحلل منها. والقائلون بالاستحالة احتجوا وقالوا : إنه لو كانت الروائح التي تملأ المحافل إنما تكون بتحلل شىء لوجب أن يكون الشىء ذو الرائحة ينقص وزنه ويقل حجمه مع تحلل ما يتحلل منه. وقال (٣) أصحاب التأدية : خصوصا إنه لا يمكننا أن نقول إن البخار يتحلل (٤) من ذى الرائحة فيسافر مائة فرسخ فما فوقه ، ولا أيضا يمكننا أن نحكم أن ذا الرائحة أشد إحالة للأجسام من النار فى تسخينها ، والنار القوية إنما تسخن ما حولها إلى حد ، وإذا بلغ ذلك غلوة فهو أمر عظيم ، وقد نجد من (٥) وصولها الروائح إلى بلاد بعيدة ما يزيل الشك فى أن وصولها لم يكن بسبب بخار انتشر أو استحالة فشت. فقد (٦) علم أن بلاد اليونانيين والمغاربة لا ترى فيها رخمة البتة ولا تأوى إليها وبينها وبين البلاد المرخمة مسافة كبيرة تقارب ما ذكرناه. وقد اتفق فى بعض السنين أن وقعت ملحمة بتلك البلاد فسافرت الرخم إلى الجيف ولا دليل لها إلا الرائحة ، فتكون الرائحة قد دلت من مسافة بعدها بعد لا يجوز معه أن يقال إن الأبخرة أو الاستحالات من الهواء وصلت إليه. (٧)

فنقول نحن : إنه يجوز أن يكون المشموم هو البخار ، ويجوز أن يكون الهواء نفسه يستحيل من (٨) ذى الرائحة فيصير له رائحة فيكون حكمه أيضا حكم البخار فيكون كل شىء لطيف الأجزاء من شأنه أن ينفذ إذا بلغ آلة الشم ولاقاها كان بخارا أو هواء مستحيلا إلى الرائحة أحس به. وقد علمت أن كل متوسط يوصل إليه بالاستحالة ، فإن المحسوس أيضا لو تمكن من ملاقاة الحاس لأحس به بلا واسطة. (٩) ومما يدل على أن الاستحالة لها مدخل فى هذا الباب ، أنا مثلا نبخر الكافور تبخيرا يأتى على جوهره كله ، فتكون منه رائحة منتشرة انتشارا إلى حد قد يمكن أن تنتشر منه تلك الرائحة فى أضعاف ذلك الموضع بالنقل ، والوضع

__________________

(١) يخالط : ويخالط ف ؛ يخالطها م.

(٢) من ذى ... بخار انتشر : ساقطة من د.

(٣) وقال : فقال ك.

(٤) يتحلل : يتخلل م.

(٥) من : لمن م.

(٦) فقد : وقد م.

(٧) إليه : إليها ف.

(٨) من : عن د ، ك ، م.

(٩) واسطة : وساطة ف.

٦٧

جزء جزء (١) من ذلك المكان كله حتى يتشمم منه فى بقعة (٢) ضيقة (٣) صغيرة من تلك الأضعاف مثل تلك الرائحة. فإذا كان فى كل واحدة من تلك البقاع الصغيرة يتبخر منه شىء فيكون مجموع الأبخرة التي تتحلل منه فى جميع تلك البقاع التي تزيد على البقعة المذكورة أضعافا مضاعفة للبخار كله الذي يكون (٤) بالتبخير (٥) أو مناسها له. فيجب أن يكون النقصان الوارد عليه فى ذلك قريبا من ذلك أو مناسبا له ولا يكون. فبين أن هاهنا للاستحالة مدخلا. (٦)

وأما حديث التأدية (٧) المذكورة فأمر بعيد ، وذلك لأن التأدية لا تكون إلا بنسبة ما ونصبة (٨) للمؤدى عنه إلى المؤدى إليه. وأما الجسم ذو الرائحة فليس يحتاج إلى شىء من ذلك ، فإنك لو توهمت الكافور قد نقل إلى حيث لا تتأدى إليك رائحته ، بل قد (٩) عدم دفعة ، لم يمنع أن تكون رائحته بعده باقية فى الهواء ، فذلك لا محالة لاستحالة أو مخالطة.

وأما حديث الرخم فإنه قد يجوز أن تكون رياح قوية تنقل الروائح والأبخرة المتحللة عن الجيف إلى المسافة المذكورة فى أعلى الجو فيحس بها ما هو أقوى حسا من الناس وأعلى مكانا مثل الرخم وغيره. وأنت تعلم أن الروائح وإن كانت قد تصل إلى كثير من الحيوانات فوق ما تصل إلى الناس بكثير ، فقد تتأدى إليها المبصرات من مسافات بعيدة وهى تحلق فى الجو حتى يبلغ إبصارها فى البعد مبلغا بعيدا جدا ، وحتى يكون ارتفاعها أضعاف ارتفاع قلل الجبال الشاهقة. وقد (١٠) رأينا قلل جبال شاهقة جدا وقد جاوزنها النسور محلقة ، حتى يكاد أن يكون ارتفاعها ضعف ارتفاع تلك الجبال. وقلل تلك الجبال قد ترى من ست أو سبع (١١) مراحل ، وليس نسبة الارتفاع إلى الارتفاع كنسبة بعد المرئى إلى بعد المرئى ، (١٢) فإنك ستعلم فى الهندسة أن النسب فى الأبعاد

__________________

(١) جزء (الأولى والثانية) : جزءا د ، م

(٢) بقعة : + بقعة ف

(٣) ضيقة : ساقطة من م.

(٤) يكون (الأولى) : يكن ك

(٥) بالتبخير : بالتبخر د.

(٦) مدخلا : + ما ف.

(٧) التأدية (الأولى والثانية) : البادية م.

(٨) ونصبة : أو نصبة ك ؛ ويصبه م.

(٩) قد : ساقطة من م.

(١٠) وقد : فقد م.

(١١) أو سبع : سبع د ، ف ، م.

(١٢) المرئى (الثانية) : الرائى م ؛ المرائى م.

٦٨

التي منها يرى أعظم وأكبر. فلا يبعد أن تكون الرخم قد علت فى الجو بحيث ينكشف لها بعد هذه المسافة فرأت الجيف ، فإن كان يستنكر تأدى أشباح هذه الجيف إليها فتأدى روائحها التي هى أضعف تأديا أولى بالاستنكار. وكما أنه ليس كل حيوان يحتاج (١) إلى (٢) تحريك الجفن والمقلة فى (٣) أن يبصر ، كذلك ليس يحتاج كل حيوان إلى استنشاق حتى يشم ، فإن كثيرا منها يأتيها الشم من غير تشمم.

__________________

(١) كل حيوان يحتاج : يحتاج كل حيوان ك ، م.

(٢) إلى : فى م

(٣) فى : إلى ، د ، ك ، م.

٦٩

الفصل الخامس (١)

فى حاسة (٢) السمع

وإذا قد تكلمنا فى أمر اللمس والذوق والشم ، فبالحرى أن نتكلم فى أمر السمع. فنقول : إن الكلام فى أمر السمع يقتضى الكلام فى أمر الصوت وماهيته ، وقد يليق بذلك الكلام فى الصدى. فنقول : إن الصوت ليس أمرا قائم الذات موجودا ثابت الوجود يجوز فيه ما يجوز فى البياض والسواد والشكل من أحكام الثبات على أن يصح فرضه ممتد الوجود وأنه مثلا لم يكن له مبدأ وجود زمانى كما يصح هذا الفرض فى غيره ، بل الصوت بين واضح من أمره أنه أمر يحدث وأنه ليس يحدث إلا عن قلع أو قرع. أما (٣) القرع فمثل ما تقرع صخرة أو خشبة فيحدث صوت. وأما القلع فمثل ما يقلع أحد شقى مشقوق عن الآخر كخشبة فيحدث صوت. وأما القلع فمثل ما يقلع أحد شقى مشقوق عن الآخر كخشبة تنحى عليها بأن تبين أحد شقيها عن الآخر طولا. ولا تجد أيضا مع كل قرع صوتا ، فإن قرعت جسما كالصوف (٤) بقرع لين جدا لم تحس صوتا ، بل يجب أن تكون للجسم الذي تقرعه مقاومة ما (٥) ، وأن يكون للحركة التي للمقروع به إلى المقروع عنف صادم ، فهناك يحس. وكذلك أيضا (٦) إذا شققت شيئا يسيرا يسيرا (٧) وكان (٨) الشىء لا صلابة له لم يكن للقلع صوت البتة. والقرع بما هو قرع لا يختلف. والقلع أيضا بما هو قلع لا يختلف. لأن أحدهما إمساس والآخر تفريق ، لكن الإمساس يخالف الإمساس بالقوة والسرعة ، والتفريق أيضا يخالف التفريق بمثل ذلك. ولأن كل صائر إلى مماسة شىء فيجب أن يفرغ لنفسه مكان جسم آخر كان

__________________

(١) الفصل الخامس : فصل ٥ ف.

(٢) حاسة : ساقطة من د ، م.

(٣) أما : وأما ك.

(٤) كالصوف : كالصوت م.

(٥) ما : ساقطة من د ، م.

(٦) أيضا : ساقطة من ف ، م.

(٧) يسيرا يسيرا : يسيرا د

(٨) وكان : أو كان د ، ك.

٧٠

مماسا له لينتقل إليه ، وكل (١) مقلوع عن شىء فقد يفرغ مكانه حتى يصار إليه. وهذا الشىء الذي فيه هذه الحركات شىء رطب سيال لا محالة إما ماء وإما هواء ، فتكون مع كل قرع وقلع حركة للهواء أو ما يجرى مجراه إما قليلا قليلا وبرفق ، وإما دفعة على سبيل تموج أو انجذاب بقوة. وقد وجب (٢) هاهنا شىء لا بد أن يكون موجودا عند حدوث الصوت وهو حركة قوية من الهواء أو ما يجرى مجراه ، فيجب أن يتعرف هل الصوت هو نفس القرع أو القلع ، أو حركة موجية تعرض للهواء من ذلك ، أو شىء (٣) ثالث يتولد من ذلك أو يقارنه. (٤) أما القلع والقرع فإنهما يحسان بالبصر بتوسط اللون ولا شىء من الأصوات يحس بتوسط اللون ، فليس القلع والقرع بصوت ، بل إن كان ولا بد فسببا الصوت. وأما الحركة فقد يتشكك (٥) فى (٦) أمرها ، فيظن أن الصوت نفس تموج الهواء. وليس كذلك أيضا ، فإن جنس الحركة يحس أيضا بسائر الحواس ، وإن كان بتوسط محسوسات أخر. (٧) والتموج الفاعل للصوت قد يحس حتى يؤلم ، فإن صوت الرعد (٨) يعرض منه أن تدك الجبال ، وربما ضرب حيوانا فأفسده. وكثيرا ما يستظهر على هدم الحصون العالية بأصوات البوقات ؛ بل حس اللمس ، كما أشرنا إليه قبل أيضا قد ينفعل من تلك الحركة من حيث هى حركة ولا يحس الصوت ، ولا أيضا من فهم أن شيئا حركة فهم أنه صوت. ولو كانت حقيقة الصوت حقيقة (٩) الحركة ، لا أنه أمر يتبعها ويلزم عنها ، (١٠) لكان من عرف أن صوتا عرف أن حركة ، وهذا ليس بموجود. فإن الشىء الواحد النوعى لا يعرف ويجهل معا إلا من جهتين وحالين ، (١١) جهة كونه صوتا فى ماهيته ونوعيته ، ليس جهة كونه حركة فى ماهيته ونوعيته. (١٢) فالصوت إذن عارض يعرض من هذه الحركة الموصوفة يتبعها ، ويكون معها ، فإذا انتهى التموج من الهواء أو الماء (١٣) إلى الصماخ ـ وهناك تجويف فيه هواء راكد يتموج بتموج ما ينتهى إليه ووراءه كالجدار مفروش عليه العصب الحاس للصوت ـ أحس بالصوت.

__________________

(١) وكل : فكل م.

(٢) وجب : + أن ف.

(٣) أو شىء : أم شىء م

(٤) يقارنه : يقاربه م.

(٥) يتشكك : يشكك د ، ف ، م

(٦) فى : من د ، ف.

(٧) أخر : أخرى ف.

(٨) الرعد : + قد ف.

(٩) حقيقة : ساقطة من م.

(١٠) عنها : منها د.

(١١) وحالين : وحالتين ف.

(١٢) ماهيته ونوعيته : ماهية ونوعية ك.

(١٣) أو الماء : والماء د ، ك ، م.

٧١

ومما يشكل من (١) أن الصوت هل هو شىء موجود من خارج تابع (٢) لوجود الحركة أو مقارن أو إنما يحدث من حيث هو صوت إذا تأثر السمع به ، فإنه للمعتقد (٣) أن يعتقد أن الصوت لا وجود له من خارج ، وأنه يحدث فى الحس من ملامسة الهواء المتموج ، بل كل الأشياء التي تلامس ذلك الموضع باللمس (٤) أيضا تحدث فيه صوتا ، فهل ذلك الصوت حادث بتموج الهواء الذي فى الصماخ أو لنفس المماسة.

وهذا أمر يصعب الحكم فيه ، وذلك لأن نافى (٥) وجود الصوت من خارج لا يلزمه ما يلزم نافى باقى (٦) الكيفيات الأخرى المحسوسة ، لأن هذا (٧) له أن يثبت للمحسوس الصوتى خاصية معلومة هى تفعل الصوت ، وتلك الخاصية هى التموج ، فتكون نسبة التموج من الصوت نسبة الكيفية التي فى العسل إلى ما يتأثر منه فى الحس. لكنه يختلف الأمر هاهنا ، (٨) لأن الأثر الذي يحصل من العسل (٩) فى الحاسة ومن النار فى الحاسة هو (١٠) من جنس ما فيهما. (١١) ولذلك فإن الذي يمس (١٢) الحرارة قد يسخن أيضا غيره إذا ثبت فيه الأثر. وليس الصوت والتموج حالهما هكذا ، (١٣) فإن التموج شىء والصوت شىء ، والتموج يحس بآلة أخرى وتلك الكيفية لا تحس بآلة أخرى. وليس يجب أيضا أن يكون كل ما يؤثر أثرا ففى نفسه مثل ذلك الأثر. فيجب أن تتعرف حقيقة الحال فى هذا.

فنقول : مما يعين على معرفة أن العارض المسموع له وجود من خارج أيضا أنه لو كان إنما يحدث فى الصماخ نفسه لم يخل إما أن يكون التموج الهوائى يحس بالسمع من حيث هو تموج أو لا يحس. فإن كان التموج الهوائى يحس بالسمع ـ لست أقول يحس بلمس آلة السمع ـ حسا من حيث هو تموج ، فإما أن يحس به أولا أو بتوسط الصوت. فلو (١٤)

__________________

(١) من أن : من أمر د ، ك ؛ أن م

(٢) تابع : + من خارج د ، م.

(٣) المعتقد : لمعتقد ف ، م.

(٤) باللمس : بالمس ف ، م.

(٥) نافى : باقى م.

(٦) ما يلزم نافى باقى : ما يلزم نافى د ؛ ما يلزمنا فى ك ؛ ما يلزم فى م

(٧) هذا : هنا ك.

(٨) هاهنا : + وذلك ك

(٩) من العسل : ساقطة من م.

(١٠) هو : هى ك ، م

(١١) فيهما : فهمنا م

(١٢) يمس : يحس ف ، م.

(١٣) هكذا : كذا ف.

(١٤) فاو : ولو م.

٧٢

كان يحس به أولا ، والمحسوس الأول بالسمع هو الصوت وهذا مما لا شك (١) فيه ، كان التموج من حيث هو تموج صوتا ، وقد أبطلنا هذا. (٢) ولو كان يحس به بتوسط الصوت ، لكان كل من سمع الصوت علم أن تموجا ، كما أن كل من أحس لون المربع والمربع (٣) بتوسطه علم أن هناك مربعا وليس كذلك ، وإن كان إنما يحس باللمس أيضا عرض منه ما قلنا. فإذن ليس بواجب أن يحس التموج عند سماع الصوت. فلننظر ما يلزم بعد هذا.

فنقول : إن الصوت كما يسمع تسمع له جهته ، (٤) فلا يخلو إما أن تكون الجهة تسمع لأن الصوت مبدأ تولده ووجوده فى تلك الجهة ومن هناك ينتهى ، وإما لأن المنتقل المتأدى إلى الأذن الذي لا صوت فيه بعد أن يفعل الصوت إذا اتصل بالأذن ينتقل من تلك الجهة ويصدم من تلك الجهة فيخيل (٥) أن الصوت ورد من تلك الجهة ، وإما للأمرين جميعا. فإن كان لأجل المنتقل وحده ، فمعنى هذا هو أن المنتقل (٦) نفسه محسوس ، فإنه إذا لم يشعر به كيف يشعر بجهة مبدئه. فيلزم أن يحس بالسمع عند إدراك جهة الصوت تموج الهواء. وقد قلنا : إن ذلك ليس بواجب وإن كان لأجلهما جميعا ، عرض من ذلك هذا المحال أيضا ، وصح أن الصوت كان يصحب التموج ، فبقى أن يكون ذلك (٧) لأن الصوت نفسه تولد هناك ومن هناك انتهى. ولو كان الصوت إنما يحدث فى الأذن فقط ، لكان سواء أتى (٨) سببه من (٩) اليمين أو اليسار ، وخصوصا وسببه لا يحس به. وهاهنا مؤثر فيه مثل نفسه فلا تدرك (١٠) جهته لأنه إنما يدرك عند وصوله فكيف ما لا حدوث له إلا عند وصول سببه. فقد بان أن للصوت وجودا ما من خارج لا من حيث هو مسموع بالفعل ، بل من حيث هو مسموع بالقوة ، وأمر كهيئة ما من الهيئات للتموج غير نفس التموج.

ويجب أن نحقق الكلام فى القارع والمقروع فنقول : إنه لا بد فى القرع من حركة قبل القرع وحركة تتبع القرع ، فأما الحركة قبل القرع فقد تكون من

__________________

(١) لا شك : لا يشك ف.

(٢) هذا : ساقطة من د.

(٣) والمربع : ساقطة من د.

(٤) جهته : جهة ف.

(٥) فيخيل : فيتخيل ك.

(٦) المنتقل : التنقل م.

(٧) ذلك : ساقطة من د.

(٨) أتى : أن ف

(٩) من : عن ف.

(١٠) فلا تدرك : قد لا يدرك ف ، م.

٧٣

أحد (١) الجسمين وهو الصائر إلى الثاني ، وقد تكون من كليهما ، ولا بد من قيام كل واحد منهما أو أحدهما فى وجه الآخر قياما محسوسا. فإنه إن اندفع أحدهما كما يمس ، بل فى زمان لا يحس ، لم يكن صوت. والقارع والمقروع كلاهما فاعلان للصوت ، لكن أولاهما به ما كان أصلبهما وأشدهما مقاومة ، فإن حظه فى ذلك أشد ، وأما الحركة الثانية فهو انفلات (٢) الهواء وانضغاطه بينهما بعنف ، والصلابة تعين على شدة ضغط الهواء والملاسة أيضا لئلا ينتشر الهواء فى فرج الخشونة. والتكاثف أولى بذلك لئلا ينفذ الهواء فى فرج التخلخل. وربما كان الجسم المقروع فى غاية الرطوبة واللين ، لكنه إذا حمل عليه بالقوة وكلف الهواء المتوسط أن ينفذ فيه أو (٣) ينضغط فيما بينهما لم يكن ذلك الجسم أيضا بحيث يمكن الهواء المتوسط أن ينفذ فيه ويشقه فى زمان قصير ، بل قاوم ذلك فلم يندفع (٤) فى وجه ذلك الهواء المتوسط ، بل وقاوم (٥) أيضا القارع ، لأن القارع كان يسومه (٦) انخراقا كثيرا فى زمان قصير جدا. وليس ذلك فى قوة القابل ولا فى قوة الفاعل القارع ، فامتنع من الانخراق ، فقام فى وجه القارع وضغط معه (٧) المتوسط فكانت المقاومة فيه مكان الصلابة. وأنت تعلم هذا إذا اعتبرت إمرارك السوط فى الماء برفق ، فإنه (٨) يمكنك أن تشقه شقا من حيث لا تلزمك فيه مؤونة ، (٩) فإن استعجلت استعصى عليك وقاوم. فالهواء (١٠) أيضا كذلك ، بل قد (١١) يجوز أن يكون الهواء نفسه يصير جزء منه مقاوما وجزء بينه وبين المزاحم القارع منضغطا ، بل يجوز أن يصير الهواء أجزاء ثلاثة : جزء منه قارع كالريح ، وجزء مقاوم ، (١٢) وجزء منضغط (١٣) فيما بينهما (١٤) على هيئة من التموج. وليست الصلابة والتكاثف علة أولية لإحداث هذا التموج ، بل ذلك لهما من حيث يعينان على المقاومة. والعلة الأولية هى

__________________

(١) أحد : آخر د.

(٢) انفلات : انقلاب ك ، م.

(٣) أو : + أن ك.

(٤) فى (الثانية) : من ك.

(٥) وقاوم : قاوم د

(٦) يسومه : يسوقه ك.

(٧) معه : الهواء ك ؛ منه م.

(٨) فإنه : فإنك د ، ك ، م.

(٩) مؤونة : مؤنة ف ، ك

(١٠) فالهواء : والهواء د ، ك

(١١) بل قد : وقد م.

(١٢) وجزء مقاوم : وجزء منه مقاوم م.

(١٣) وجزء منضغط : وجزء منه منضغط م.

(١٤) بينهما : بينها م.

٧٤

المقاومة ، فالصوت يحدث من تموج الجسم الرطب (١) السيال منضغطا بين جسمين متصاكين متقاومين من حيث هو كذلك. وكما أن الماء والهواء والفلك تشترك فى طبيعة أداء الألوان ، وتلك الطبيعة لها اسم وهو الشفيف ، فكذلك الماء والهواء لهما معنى يشتركان فيه من حيث يحدث فيهما الصوت ، وليكن اسمه قبول التموج ، وليس ذلك من حيث (٢) المتوسط ماء أو هواء كما أن الإشفاف لم يكن من حيث المتوسط (٣) فلك (٤) أو هواء. ويشبه أن يكون الماء والهواء لهما أيضا من حيث يؤديان الرائحة أو الطعم معنى كذلك (٥) لا اسم له. فلتكن للرطوبة (٦) المؤدية للطعم العذوبة ، وأما ما يشترك فيه نقل الرائحة فلا اسم له. فلتكن للرطوبة المؤدية للطعم العذوبة ، وأما ما يشترك فيه نقل الرائحة فلا اسم له.

وأما الصدى فإنه يحدث من تموج يوجبه هذا التموج ، فإن هذا التموج إذا قاومه (٧) شىء من الأشياء كجبل أو جدار حتى وقفه ، لزم أن ينضغط أيضا بين هذا التموج المتوجه إلى قرع الحائط أو الجبل ، وبين ما يقرعه هواء آخر يرد ذلك ويصرفه إلى خلف بانضغاطه فيكون (٨) شكله الشكل الأول وعلى هيئته ، (٩) كما يلزم الكرة المرمى بها (١٠) الحائط أن تضطر الهواء إلى التموج فيما بينهما وأن ترجع القهقرى. وقد بينا فيما سلف ما العلة فى رجوع تلك الكرة قهقرى ، فلتكن هى العلة فى رجوع الهواء ، وقد بقى علينا أن ننظر هل الصدى هو صوت يحدث بتموج الهواء الذي هو التموج (١١) الثاني ، أو هو لازم لتموج الهواء الأول المنعطف النابى (١٢) نبوا فيشبه أن يكون هو تموج الهواء المنعطف النابى ، (١٣) ولذلك يكون على صفته وهيئته ، (١٤) وأن لا يكون القرع الكائن من هذا الهواء يولد صوتا من تموج هواء ثان يعتد به. فإن قرع مثل هذا الهواء قرع ليس بالشديد ، (١٥) ولو كان شديدا

__________________

(١) الرطب : الرطيب ك.

(٢) حيث : + أن م.

(٣) المتوسط ... حيث : ساقطة من م.

(٤) فلك : فلكا ك.

(٥) كذلك : لذلك ك ، م

(٦) للرطوبة : الرطوبة ف ، م.

(٧) قاومه : قاربه م.

(٨) فيكون : ويكون د ، ف

(٩) وعلى هيئته : على هيئة ك.

(١٠) بها : + إلى ك.

(١١) التموج : المتموج م

(١٢) النابى : الثاني م.

(١٣) النابى : الثاني م.

(١٤) صفته وهيئته : صفة وهيئة ك.

(١٥) بالشديد : بشديد ف.

٧٥

بحيث يحدث صوتا لأضر بالسمع. ويشبه أن يكون لكل صوت صدى ولكن لا يسمع ، كما أن لكل ضوء عكسا ، ويشبه أن يكون السبب فى أن لا يسمع الصدى فى البيوت والمنازل فى أكثر الأمر أن المسافة إذا كانت قريبة بين المصوت (١) وبين عاكس الصوت لم يسمعا فى زمانيين متباينين ، بل يسمعان معا كما يسمع صوت القرع الذي (٢) معه وإن كان بعده بالحقيقة. وأما إذا (٣) كان العاكس بعيدا فرق الزمان بين الصوتين تفريقا محسوسا ، وإن كان صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس منه بسبب قوة النبو يبقى زمانا كثيرا كما فى الحمامات. ويشبه أن يكون هذا هو السبب فى أن يكون صوت المغنى فى الصحراء أضعف وصوت المغنى تحت السقوف أقوى لتضاعفه بالصدى المحسوس معه فى زمان كالواحد. (٤) ويجب أن يعلم أن التموج ليس هو حركة انتقال من هواء واحد بعينه ، بل كالحال فى تموج الماء يحدث بالتداول بصدم بعد صدم مع سكون قبل سكون ، وهذا التموج الفاعل للصوت سريع لكنه ليس يقوى (٥) الصك.

ولمتشكك أن يتشكك فيقول : إنه كما قد تشككتم فى اللمس فجعلتموه قوى كثيرة لأنه يدرك متضادات (٦) كثيرة ، فكذلك السمع أيضا يدرك المضادة التي بين الصوت الثقيل والحاد ، ويدرك المضادة التي بين الصوت الخافت والجهير (٧) والصلب والأملس والمتخلل والمتكاثف ، (٨) وغير ذلك. فلم لا تجعلونه قوى؟ فالجواب عن ذلك أن (٩) محسوسه الأول هو الصوت ، وهذه أعراض تعرض لمحسوسه الأول بعد أن يكون صوتا. وأما هناك (١٠) فكل (١١) واحدة من المتضادات تحس لذاتها ، لا بسبب الآخر. فليكن هذا المبلغ فى تعريف الصوت والإحساس به كافيا. (١٢)

__________________

(١) المصوت : الصوت ف.

(٢) الذي : ساقطة من د ، ك

(٣) إذا : إن ك ، م.

(٤) وصوت المغنى ... كالواحد : ساقطة من م.

(٥) يقوى : بقوى ف.

(٦) متضادات : مضادات ك.

(٧) والجهير : والجهر ك.

(٨) والمتكاثف : ساقطة من د ، ك ، م.

(٩) أن : لأن ف.

(١٠) وأما هناك : ما هناك م

(١١) فكل : فلكل م.

(١٢) كافيا : + تمت المقالة الثانية من الفن السادس من الطبيعيات من كتاب النفس بحمد الله وحسن توفيقه د ؛ + تمت المقالة الثانية من الفن السادس م.

٧٦

المقالة الثالثة (١)

فى الإبصار (٢)

ثمانية فصول (٣)

__________________

(١) الثالثة : + من الفن السادس من الطبيعيات د ، م.

(٢) فى الإبصار : وهى د.

(٣) فصول : (تذكر نسختا د ، ك ، عناوين الفصول الثمانية).

٧٧
٧٨

الفصل الأول (١)

فى الضوء والشفيف واللون (٢)

وحرى بنا الآن (٣) أن نتكلم فى الإبصار ، والكلام فيه يقتضى الكلام (٤) فى الضوء والمشف واللون (٥) وفى كيفية الاتصال الواقع بين الحاس والمحسوس البصرى ؛ فلنتكلم أولا على الضوء فنقول : إنه يقال ضوء ويقال نور ويقال شعاع ، ويشبه أن لا يكون بينها (٦) فى وضع اللغة كثير تفاوت ، لكنا نحتاج فى استعمالنا إياها أن نفرق بينها لأن هاهنا معانى (٧) ثلاثة متقاربة : أحدها (٨) الكيفية التي يدركها البصر فى الشمس والنار من غير أن يقال إنه سواد أو بياض أو حمرة أو شىء من هذه الألوان. والثاني الأمر الذي يسطع من هذا الشىء فيتخيل أنه يقع على الأجسام فيظهر بياض وسواد وخضرة ، والآخرة الذي يتخيل على الأجسام كأنه يترقرق وكأنه يستر لونها وكأنه شىء يفيض منها ، فإن كان فى جسم قد استفاد ذلك من جسم آخر سمى بريقا كما يحس (٩) فى المرآة وغيرها ، وإن كان فى الجسم الذي له بذاته سمى شعاعا. ولسنا نحتاج الآن إلى الشعاع والبريق ، بل نحتاج إلى القسمين الأولين ، فليكن أحدهما ـ وهو الذي للشىء من ذاته ـ ضوءا ، (١٠) وليكن المستفاد نورا. وهذا الذي نسميه ضوءا (١١) مثل الذي للشمس والنار ، فهو المعنى الذي يرى لذاته. فإن الجرم الحامل لهذه الكيفية إذا وجد بين البصر وبينه شىء كالهواء والماء رؤى ضرورة

__________________

(١) الفصل الأول : فصل ١ ف.

(٢) فى ... واللون : فى الإبصار والمشف واللون وكيفية الاتصال بين الحاس والمحسوس البصرى د.

(٣) الآن : ساقطة من ف

(٤) فيه يقتضى الكلام : ساقطة من م.

(٥) والمشف واللون : وفى المشف وفى الكون د ؛ وفى المشف ، وفى اللون ك.

(٦) بينها : بينهما م.

(٧) معانى : معان م

(٨) أحدها : أحدهما د.

(٩) يحس : + به م.

(١٠) ضوءا (الأولى) : ضرء ك

(١١) ضوءا (الثانية) : ضوء ك.

٧٩

من غير حاجة إلى وجود ما يحتاج إليه الجدار الذي لا يكفى فى أن يرى على ما هو عليه وجود الهواء والماء وما يشبههما بينه وبين البصر ، بل يحتاج إلى أن يكون الشىء الذي سميناه نورا قد غشيه حتى يرى حينئذ ، ويكون ذلك النور تأثيرا من جسم ذى ضوء فيه إذا قابله وكان بينهما جسم ليس من شأنه أن يحجب تأثير المضيء فى قابل النور كالهواء والماء فإنه يعين ولا يمنع.

فالأجسام بالقسمة الأولى على قسمين : جسم ليس من شأنه هذا الحجب المذكور وليسم الشاف ، وجسم من شأنه هذا الحجب كالجدار والجبل. والذي من شأنه هذا الحجب فمنه ما من شأنه أن يرى من غير حاجة إلى حضور شىء آخر بعد وجود المتوسط الشاف ، وهذا هو المضيء كالشمس والنار ومثله (١) غير شفاف ، بل هو حاجب عن إدراك ماوراءه. فتأمل إظلال المصباح عن المصباح ، فإن أحدهما يمنع (٢) أن يفعل الثاني فيما هو بينهما ، وكذلك يحجب البصر عن رؤية ماوراء. ومنه ما يحتاج إلى حضور شىء آخر يجعله بصفة وهذا هو الملون. (٣) فالضوء كيفية القسم الأول من حيث هو كذلك ، واللون كيفية القسم الثاني من حيث هو كذلك. فإن الجدار لا يمكن المضيء أن ينير (٤) شيئا خلفه ، ولا هو بنفسه منير ، فهو الجسم الملون بالقوة ، واللون بالفعل إنما يحدث بسبب النور ، فإن النور إذا وقع على جرم ما حدث فيه بياض بالفعل أو سواد أو خضرة أو غير ذلك. فإن لم يكن كان أسود فقط مظلما ، لكنه بالقوة ملون إن عنينا باللون بالفعل هذا الشىء الذي هو بياض وسواد وحمرة وصفرة وما أشبه ذلك. ولا يكون البياض بياضا والحمرة حمرة إلا أن تكون على الجهة التي نراها ولا تكون على هذه الجهة (٥) إلا أن تكون منيرة. ولا يظن (٦) أن البياض على الجهة التي نراها والحمرة وغير ذلك يكون موجودا بالفعل فى الأجسام ، لكن (٧) الهواء المظلم يعوق عن إبصاره ، فإن الهواء نفسه لا يكون مظلما إنما المظلم هو الذي هو المستنير. والهواء نفسه وإن كان

__________________

(١) ومثله : + فإنه ك.

(٢) يمنع : + عن ف.

(٣) الملون : اللون ك.

(٤) ينير : يبين م.

(٥) الجهة (الثانية) : الصفة ك ؛ ساقطة من د ، ك.

(٦) ولا يظن : ولا يظنن م.

(٧) لكن : لئن ك.

٨٠