شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

وتواريني في لحدي ، وتبين لهم بعدي» (١).

وفي حديث ثالث عن أنس ، قال : «إنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي» (٢).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٨٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٤ ، الكشف الحثيث ١٣٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٨٦.

٨١
٨٢

حجة الله البالغة

(وحجته البالغة على عباده) :

اللغة : الحجة البرهان ، وقد سميت برهاناً : لبيانها ، وضوحها ، وهي البينة التي تقطع كلَّ عذر لقوَّتها ووضوحها (١).

من المتفق عليه عند أهل القبلة أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الله تعالى على العباد في كلِّ ما يصدر عنه : من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، وهم مسؤولون عن تطبيق ما يصدر عنه أمام الله عزوجل ، وقد التزم الشيعة اقتداءً بأهل البيت عليهم‌السلام بذلك ، واعتبروا ما صدر عنه سنة أخذوا أحكام دينهم منها ، واستفادوا من القرائن والظروف في تمييز كلٍّ من الواجب ، والمستحب ، والمباح من الأوامر ، والأفعال ، والتقريرات ، وتمييز كل من المحرَّم ، والمكروه من النواهي.

وهذا الإلتزام نتيجة حتمية للإعتقاد بعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّه لا يصدر عنه ـ بمقتضاها ـ إلّا ما يطابق الشريعة ، وقد قال الله تعالى عنه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)(٢) ، فكلّ ما يصدر عنه هو تشريع ، يجب على المكلفين الأخذ به ، وهم مسؤولون عنه يوم القيامة ، يعذبون إنْ قصَّروا ، ويثابون إن امتثلوا ، فهو حجة الله تعالى عليهم.

وللوصي المرتضى عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفس الدور ، لأنَّه وصيُّه ، ووارث علمه ، والذي يقوم مقامه بالتبليغ ، فيؤدي عنه ، ويبيِّن لهم ما اختلفوا فيه من بعده ، وهو

__________________

(١) راجع لسان العرب ، الصحاح ، مجمع البحرين.

(٢) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤.

٨٣

مولى المسلمين ، وأولى بهم من أنفسهم ، والذي دلت النصوص على عصمته ، وقد جسّدت سيرته العملية عصمته ، وأيدت ما دلّت عليه النصوص ، إذ لم يستطع أحد من أعدائه أن يتهمه بمخالفة للشريعة الحقة ، ويأتي على ذلك بدليل ، ولذا نرى معاوية ، وابن العاص ، لم يجدا وسيلة سوى اتهامه بإيواء قتلة عثمان ، وعدم إقامة الحد عليهم ، والإفتراءات عليه بذلك.

وقد نهج أصحاب الجمل نفس النهج ، واستند الخوارج إلى حجة واهية ، فاتهموه بالكفر لقبوله التحكيم في صفين ، الأمر الذي هم أجبروه عليه ، وهكذا كل ما لفق على الإمام علي عليه‌السلام يظهر بطلانه من أول نظرة فاحصة.

والأدلة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام من الكتاب والسنة كثيرة ، إليك بعضها :

أولاً : من القرآن الكريم «آية التطهير» : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(١).

هذه الآية الكريمة نزلت في النبي المصطفى ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام ، وقد تظافرت الروايات ، واستفاض النقل من الفريقين على نزولها فيهم ، حتى بلغ حد التواتر ، بل تجاوز الحد المعتبر في التواتر.

وقد نصت الروايات على أنَّ الآية نزلت في بيت أم سلمة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمعهم تحت كساء في بيت أم سلمة عدة مرات ، وقد سألته أم سلمة : هل أنَّها من أهل البيت؟ فقال لها : إنَّك على خير ، إنَّك من أزواج النبي ، وتنص الروايات أنَّه أجاب عائشة بذلك عندما سألته نفس السؤال ، وقد رأته جمعهم تحت كساء ، وقرأ الآية الكريمة كما كرر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمعهم تحت الكساء ، وطبق الآية عليهم في داره مراراً ، مرة منها في بيت عائشة ، ومرة في بيت فاطمة عليها‌السلام ، وعندما سأله مولاه

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

٨٤

واثلة بن الأسقع : ألست من أهل البيت؟. أجابه : إنَّك إلى خير.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة ، يأتي في كل يوم عندما يخرج لصلاة الغداة ، فيقف على باب بيت علي عليه‌السلام ، فينادي : «السلام عليكم أهل البيت ، الصلاة يرحمكم الله ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» ، وتنص الروايات على أنَّه استمر على ذلك مدة طويلة بلغت ستة أشهر على أقل الروايات.

روى اختصاصها بهؤلاء الخمسة عليهم‌السلام من الصحابة في حدود ما اطلعت عليه من كتب السنة (١) : ابن عباس ، وأبو برزة ، وأبو الحمراء ، وأبو سعيد ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، والحسن بن علي عليه‌السلام ، وزينب بنت أبي سلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة ، وعبد الله بن جعفر ، وعطية ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعمر بن أبي سلمة ، وواثلة بن الأسقع.

__________________

(١) أسباب النزول ٢٣٩ ، أسد الغابة ٢ / ١٢ ، ٢١ ، ٣ / ٤١٣ ، ٥ / ٥٢١ ، ٥٨٩ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٧٤ ، ٣٧٩ ، ٨ / ٢٤٤ ، تاريخ بغداد ٩ / ١٢٨ ، ١٠ / ٢٧٧ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٠٢ ، ٢٠٥ ، ٢٨٦ ، ١٤ / ١٣٧ ـ ١٤٥ ، ١٤٧ ، ٤١ / ٢٥ ، ٤٢ / ١٠٠ ، ١١٢ ، ١٣٦ ، ٦٣ / ٣٦٠ ، ٦٧ / ٢٤ ، ٦٨ / ١٢٢ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٣ ، ٤٩٢ ، ٤٩٥ ، جامع البيان ٢٢ / ٩ ، خصائص أمير المؤمنين ٤٨ ، ٦٣ ، الدر المنثور ٤ / ٣١٣ ، ٥ / ١٩٨ ، ذخائر العقبى ٣٣ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٠٧ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٩٧ ، ٢ / ١٨ ، ٣٠ ، ٣٣ ، ٣٧ ، ٥٠ ، ٥٢ ، ٦١ ، ٧٣ ، ٩٥ ، ٩٧ ، ١٠٢ ، ١١٣ ، ١١٩ ، صحيح ابن حبان ١٥ / ٤٣٢ ، مجمع الزوائد ٧ / ٩١ ، ٩ / ١٢١ ، ١٦٧ ، ١٧٢ ، المستدرك ٢ / ٤١٦ ، ٣ / ١٣٣ ، ، ١٤٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٣١ ، ٦ / ٢٩٢ ، مسند ابن راهويه ٣ / ٦٧٨ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٥٠١ ، المعجم الصغير ١ / ١٣٥ ، المعجم الأوسط ٣ / ١٦٦ ، ٣٨٠ ، ٤ / ١٣٤ ، ٨ / ١١٢ ، المعجم الكبير ٣ / ٥٢ ، ٥٤ ، ٥٦ ، ٩٢ ، ٩ / ٢٦ ، ٢٢ / ٦٦ ، ٢٠٠ ، ٢٤٩ ، ٢٣ / ٢٨٦ ، ٣٢٧ ، ٣٣٧ ، المناقب ١٣٦ ، الصواعق المحرقة ١٤٣.

٨٥

والذي يستفاد من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الله عزوجل خصَّ هؤلاء الخمسة بإذهاب الرجس عنهم ، فطهَّرهم من الذنوب ، والخبائث تطهيرا ، فهم معصومون بمقتضى هذه الآية الكريمة من كلِّ ذنب لأنّ الذنوب رجس (١).

ثانياً : من الحديث النبوي الشريف : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي مع الحق ، والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة» (٢). وهذا الحديث واضح الدلالة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام ، لأنَّ صدور المعصية محتمل من غير المعصوم ، ومرتكب المعصية مفارق للحق حال اقترافه الذنب ، فلزم أن يكون الإمام علي عليه‌السلام معصوماً بمقتضى هذا الحديث الذي نصَّ على أنَّه مع الحق حتى يردا الحوض على النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا علَيَّ الحوض» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي توفي فيه : «إنّي مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ـ ثمَّ أخذ بيد علي فرفعها ـ فقال : هذا علي مع القرآن ـ والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ، فأسأَلهما ما خُلِّفتُ فيهما» (٤).

وفي هذا الحديث ما لا يخفى من التأكيد على أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام مع القران ،

__________________

(١) راجع تفاصيل دلالتها على العصمة في : الأصول العامة للفقه المقارن ١٤٩.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٩٨ ، تاريخ بغداد ١٤ / ٣٢١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٤٩ ، المعيار والموازنة ١١٩ ، ٣٢٢.

(٣) تاريخ الخلفاء ١٧٣ ، الجامع الصغير ١ / ٢٥٥ ـ ٢ / ١٧٧ ، الصواعق المحرقة ١٣٤ ، المعجم الأوسط ٥ / ١٣٥ ، المناقب ١٧٧.

(٤) الصواعق المحرقة ١٢٦ ، ينابيع المودة ١ / ١٢٤.

٨٦

فقد قرن العترة بالكتاب ، وهو أبو العترة ، وسيدهم ومن اقترن بالكتاب ، وكان معه إلى يوم القيامة ، فهو معصوم ، لأنَّه لو لم يكن معصوماً ، لاحتمل أن تصدر منه المعصية ، ويكون مفارقاً للقرآن الكريم حال معصيته.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ضمن خطبة الغدير ـ :

«... فإني فرطكم على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنَّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟. فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟.

قال : الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزوجل وطرف بأيديكم ، فتمسكوا به لا تضلوا ، والآخر : الأصغر : عترتي ، وإنَّ اللطيف الخبير نبَّأني أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

وهذا الحديث ـ الذي يعرف بحديث الثقلين ـ هو من أدلة عصمة الإمام علي عليه‌السلام والعترة الطاهرة ، لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بأنَّ التمسك بالكتاب والعترة الطاهرة يعصم من الضلال ، وأنَّ الهلاك في التقدم عليهما ، أو التأخر عنهما. وبديهي أنَّ غير المعصوم معرض لصدور المعصية منه ، والتمسك به ، ومتابعته حال كونه على المعصية ضلال ، فتعين أن يكونوا معصومين لينطبق عليهم ما جاء في الحديث (١).

وحديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، التي استفاض بها النقل وقد رواه

__________________

(١) راجع الأصول العامة للفقه المقارن ١٦٦ فقيه استدلال مفصل.

٨٧

من الصحابة في حدود ما اطلعت عليه (١) : أبو سعيد الخدري ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وجبير بن مطعم ، وحذيفة بن اُسيد الغفاري ، وحذيفة بن اليمان ، والحسن بن علي عليه‌السلام ، والحسين بن علي عليه‌السلام ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن ثابت ، وسعد بن أبي وقاص ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، والإمام علي عليه‌السلام.

وقال ابن حجر المكي : (ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك ـ أي بالكتاب والعترة ـ طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعضرين صحابياً) (٢).

هذه بعض الأدلة من الكتاب والسنة النبوية الشريفة على عصمة الإمام علي عليه‌السلام ، وإذا ثبتت عصمته ثبت أنَّه حجة الله على العباد ، والشيعة يعتقدون بعصمته تعبّداً بما ثبت لديهم من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ، وممّا أخذوه عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم تراجمة الوحي ، وحفظة السنة الشريفة.

ويتفق المعتزلة مع الشيعة في القول بعصمة الإمام علي عليه‌السلام ، يقول ابن أبي الحديد المعتزلي : (نص أبو محمد بن متويه رحمه‌الله تعالى في كتاب الكفاية على أنَّ علياً عليه‌السلام معصوم ، وإن لم يكن واجب العصمة ، ولا العصمة شرط في الإمامة ، ولكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته ، والقطع على باطنه ومغيبه ، وأنَّ ذلك أمر

__________________

(١) تجد رواياتهم في : البداية والنهاية ٧ / ٣٨٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٩٢ ، ٢٢٠ ، ٥٤ / ٤٢ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٢٣ ، السنة لعمرو بن عاصم ٣٣٧ ، ٦٢٩ ، ٦٣٠ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٥ ، ١٣٠ ، الطبقات الكبرى ٢ / ١٩٤ ، فضائل الصحابة ١٥ ، كنزل العمال ٥ / ٢٩٠ ، مسند أحمد ٥ / ١٨٢ ، المعجم الصغير ١ / ١٣١ ، المعجم الأوسط ٣ / ٣٧٤ ، ٤ / ٣٣ ، المعجم الكبير ٣ / ٦٥ ، ٦٧ ، ١٠٠ ، ١٤١ ، ٥ / ١٥٤ ، ينابيع المودة ١ / ٧٤ ، ٩٩ ، ١٠٣ ، ١١٢ ، ١١٣ ، ١٢١ ، ١٢٤ ، ٢ / ٢٧٣ ، ٣ / ٦٥ ، ١٤١.

(٢) الصواعق المحرقة ١٥٠.

٨٨

اختص به هو دون غيره من الصحابة ، والفرق ظاهر بين قولنا : زيد معصوم ، وزيد واجب العصمة لأنَّه إمام ، ومن شرط الإمام أن يكون معصوماً ، فالاعتبار الأول مذهبنا ، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية) (١).

وفي الختام ننقل حديثاً نبوياً ينص على كون الإمام علي عليه‌السلام حجة الله على العباد : فقد جاء في حديث أنس بن مالك ، قال : كنت جالساً مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أنس أنا وهذا حجة الله على خلقه» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٧٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٢٤٩.

٨٩
٩٠

دين الله القويم

(السلام عليك يا دين الله القويم ، وصراطه المستقيم) :

يتبين لنا من سيرة الإمام علي عليه‌السلام أنَّه لم يُصَبْ بأدران الجاهلية ؛ إذ ولد في الكعبة المقدسة ، وانتقل منها إلى بيتٍ أهلُه يعبدون الله على دين جدهم إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وكفله الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره ، فتربى في حجره الطاهر ر ، وانطبع بمزاياه ، واحتذى مثاله ، فكان التزامه بالشريعة وأحكامها التزاماً قوياً لا يحيد عنها قيد شعرة ، وهو القائل : «فَوَ الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جِلب شعيرة ما فعلت» (١). كان يجسد الإسلام عملاً ، فهو في أقواله وأعماله وتقريراته يطابق أوامر الإسلام ونواهيه.

نعطف على ما تقدم ما ورد في شأنه في الكتاب والسنة من الأحكام التي يسأل عنها العباد ، وهي جزء لا يتجزأ من الدين وأحكامه ، فبولايته أكمل الله الدين ، وأتم النعمة على الأمة ، ورضي لها الإسلام ديناً ، وهي ممّا يسأل عنه يوم القيامة ، وحبه فرض واجب ، وهو علامة الإيمان ، وبغضه علامة النفاق ، ومحبه محب لله عزوجل ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومبغضه مبغض لهما بنص الحديث النبوي الشريف ، قال عليه‌السلام : «عهد إلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يحبك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق» (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٢١٨ ، وجلب الشعيرة (بكسر الجيم) : قشرتها.

(٢) أسد الغابة ٤ / ٢٦ ، تاريخ بغداد ٨ / ٤١٦ ، ١٤ / ٤٢٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٨ / ٣٤٩ ، ٤٢ / ٢٧١ ، سنن الترمذي ٥ / ١٣٧ ، ٦ / ٥٣٤ ، مسند أحمد ١ / ٩٥ ، ١٢٨.

٩١

وفي حديث أم سلمة ، قالت : أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من أحب علياً فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغض علياً فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله» (١).

ولمّا كان الإمام علي عليه‌السلام هو والعترة الطاهرة عدل القرآن بنص حديث الثقلين ، الذي نص على أنَّ التمسك بهما يعصم من الضلال ، وطاعته فرض ، لأنَّه ولي المؤمنين ، ووصي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووارث علمه ، وهو أمين الله عزوجل ، وسفيره ، وحجته على العباد ، والإمام المعصوم ـ كما مرّ بنا ـ وقد نص الحديث النبوي الشريف على وجوب طاعته ، ففي حديث يعلى بن مرة الثقفي ، قال : سمعت رسول الله يقول : «من أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى الله ...» الحديث (٢).

وفي حديث أبي ذر بلفظ : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني» ، قال الحاكم النيسابوري : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (٣).

وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تدل على أنَّه لا يأمر إلّا بما أمر به الشرع المقدس ، ولا ينهى إلّا عمّا نهى عنه ، لا يحيد عن ذلك بمقتضى عصمته ، وهو بذلك دين الله القويم.

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٧١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٢ ، المعجم الكبير ٢٣ / ٣٨٠ ، ينابيع المودة ٢ / ١٥٥.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٧٠.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٠٦ ، كنز العمال ١١ / ٦١٤ ، المستدرك ٣ / ١٢١ ، ١٢٨ ، ينابيع المودة ٢ / ٣١٣.

٩٢

النبأ العظيم

(السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، وعنه يسألون) :

روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله عزوجل : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)(١) قال : «كان علي يقول لأصحابه : أنا والله النبأ العظيم الذي اختلف فيَّ جميع الأمم بألسنتها ، والله ما لله نبأ أعظم منّي ، ولا لله آية أعظم منّي» (٢).

وفي رواية عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، «قال : أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله ، فقال : الأمر بعدك لمن؟ قال : لمن هو منّي بمنزلة هارون من موسى ، فأنزل الله : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)يعني : يسألك أهل مكة عن خلافة علي : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): فمنهم المصدِّق ، ومنهم المكذب بولايته ، (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، وهو رد عليهم ، سيعرفون خلافته إنَّها حق ، إذ يسألون عنها في قبورهم ، فلا يبقى ميت في شرق ، ولا غرب ، ولا برٍّ ، ولا بحر إلّا ومنكر ونكير يسألانه ، يقولان للميّت : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟ (٣)».

إختلف المسلمون منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام علي عليه‌السلام ، واشتد هذا الاختلاف من بعده ، فبلغ ذروته ، واتخذ صوراً مختلفة على مدى العصور ، فالناس فيه : بين مغالٍ ، وبين مجحفٍ ، وبين معتدلٍ :

__________________

(١) النبأ ٨٧ : ١ ـ ٢.

(٢) شواهد التنزيل ٢ / ٤١٧ بطرق عديدة.

(٣) شواهد التنزيل ٢ / ٤١٨.

٩٣

أما المغالون : فهم الذين ذهبوا إلى تأليهه ، فادَّعوا له الرّبوبية ، وهؤلاء على ضلال ، وكلّ من اعتقد فيه أو في غيره مثل هذا الاعتقاد فقد خرج عن الدين ، وهو كافر باتفاق المسلمين لا يعد مسلماً ، ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام فساد هذه العقيدة ، ومحاربة من يعتقد بها ، باعتباره خارجاً عن الدين.

وأمّا المجحفون ، فهم فريقان :

الأول : كل من نصب العداء للإمام علي عليه‌السلام : ويؤكد المؤرخون وجود هؤلاء منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الذين عرفوا بالنفاق من أهل المدينة الذين أشار إليهم الذكر الحكيم ، ومن الطلقاء ، وقد تبعهم على ذلك كلُّ من حارب الإمام علياً عليه‌السلام : من الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين.

ومن نصب العداء للإمام علي عليه‌السلام فقد نصب العداء للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخالف سنته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعاد من عاداه» ، ولم يحفظه في أهل البيت عليهم‌السلام ، وخالف نصَّ الكتاب العزيز حيث قال عزوجل : (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)(١) ، حيث روي عن ابن عباس : أنَّ هذه الآية لمّا نزلت ، قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علي وفاطمة ، وابناهما» (٢).

وقد وردت الرواية في تفسيرها بطرق عديدة عن ابن عباس (٣) ، وعن أبي أمامة الباهلي (٤) ، وعن أبي سعيد الخدري (٥) ، كما روي تفسيرها في الآل ، أو

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٢) الدر المنثور ٦ / ٧ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٩٤ ، الصواعق المحرقة ١٧٠ ، المعجم الكبير ١١ / ٣٥١.

(٣) ذخائر العقبى ٢٥ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٩٠.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٦ ، شواهد التنزيل ٢ / ٢٠٣.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٦.

٩٤

في القربى دون ذكر أسمائهم : عن الإمام علي عليه‌السلام (١) ، والإمام الحسن عليه‌السلام (٢).

وعلى فرض شمول الآية الكريمة لكل قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الذين حرِّمت عليهم الصدقة ـ كما يذهب إلى ذلك بعض علماء السنة ـ فإنَّ الإمام علياً ، وفاطمة الزهراء ، والسبطين الحسن والحسين عليهما‌السلام هم أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّهم نفسه ، وبضعته ، وولداه ، فهم أظهر أفرادها.

أمّا الفريق الثاني من المجحفين : فهم الذين أنكروا كثيراً من النصوص التي جاءت في الحديث النبوي الشريف في فضله ، فعمدوا إلى الأحاديث المتواترة ، والصحيحة ، فأوَّلوها ، أو كذبوها ، بدون دليل على التأويل ، أو التكذيب ، وهؤلاء وإن لم ينصبوا له العداء ظاهراً ، وهم يعترفون أنَّ حبَّه فرض ، ولكنهم أجحفوا حقه ، فساووا به ، أو فضَّلوا عليه من لم يلحق به في الفضل ، ولم يلتزموا بولايته ، فقدموا عليه من اُمر بموالاته ، وتأولوا ولايته بالمحب والناصر ، فخالفوا بذلك الكتاب والسنة بتأويلهما على غير ما نصّا عليه ، وفي ذلك ما لا يخفى من تحريف الكلم عن مواضعه.

وأمّا المعتدلون : فهم الذين صدَّقوا كل ما صحَّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمام علي عليه‌السلام ، وما فسِّر فيه من الكتاب العزيز ، فتعبدوا بهما ، واقتفوا أثر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في تقديمه له ، وتفضيله إياه على الأمة ، فلم يفرِّطوا في شأنه إلى درجة الغلو ، ولم يقصِّروا في شأنه إلى درجة الإجحاف ، وإنما اتخذوا طريقاً وسطاً ، فأعطوه ما يستحق من الفضل ، لم يزيدوا ، ولم ينقصوا.

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٢٠٥ ، الصواعق المحرقة ١٧٠ ، كنز العمال ٢ / ٢٩٠.

(٢) الصواعق المحرقة ١٧٠ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٤٦ ، المستدرك ٢ / ١٧٢ ، المعجم الأوسط ٢ / ٣٣٦ ، نظم درر السمطين ١٤٨.

٩٥

ولمّا كان حب الإمام علي عليه‌السلام فرض واجب على كل مسلم ، وطاعته واجبه ، وهي طاعة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وولايته مكملة للدين ، يجب الإعتقاد بها ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حضر يوم غدير خم من المسلمين أن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، فمن الواضح أن يُسأل المسلمون عنها بعد الموت ، كما يُسألون عن اُصول العقيدة ، وأداء سائر الواجبات ، ليُميَّز بين المقصِّر والمطيع ، وقد جاء عن السدي في تفسير قوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(١) عن ولاية علي عليه‌السلام (٢).

وفي حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)(٣) ، قال : عن ولاية علي بن أبي طالب (٤).

وقد عقب ابن حجر على حديث أبي سعيد في تفسير هذه الآية الكريمة بقوله : وكأنَّ هذا هو مراد الواحدي بقوله : (روي في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)، عن ولاية علي وأهل البيت ، لأنَّ الله أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعرِّف الخلق أنَّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلّا المودة في القربى ، والمعنى : إنَّهم يُسألون : هل والَوْهُم حق الموالاة كما أوصاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ، أم أضاعوها ، وأهملوها؟). انتهى. وأشار [أي الواحدي] بقوله : كما أوصاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأحاديث الواردة في ذلك وهي كثيرة (٥).

وفي حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة أوقفُ أنا وعلي على الصراط ، فما يمر بنا أحد إلّا وسألناه عن ولاية علي ، فمن كانت معه

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩٢.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٤٢٢.

(٣) الصافات ٣٧ : ٢٤.

(٤) شواهد التنزيل ٢ / ١٦١ ، الصواعق المحرقة ١٤٩.

(٥) الصواعق المحرقة ١٤٩.

٩٦

وإلّا ألقيناه في النار ، وذلك قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)(١).

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٦٢ ، كفاية الطالب ٢٤٧.

٩٧
٩٨

أول المؤمنين

(السلام عليك يا أمير المؤمنين ، آمنت بالله وهم مشركون ، وصدَّقت بالحق وهم مكذبون) :

كانت عقيدة الشرك منتشرة في البلاد العربية قبل الإسلام ، وعليها الغالبية العظمى من الناس ، فلكل قبيلة صنم تتوجه إليه بالعبادة ، وتعتقد أنَّه يقربها إلى الله عزوجل زلفى ، والأصنام منصوبة على سطح الكعبة الشريفة ، تقدَّم لها القرابين ، وتبرم عندها العهود ، ويستقسم عندها بالأزلام ، وكانت إلى جانب الأغلبية من المشركين أقليات من ديانات أخرى ، بينها عدد قليل من الموحدين ، يعبدون الله تعالى على دين إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وممن اشتهر من هذه القلة : عبد المطلب ، وعبد الله ، وأبو طالب ، يقول ابن أبي الحديد : (فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب ، فالقليل منهم ، وهم المتألهون أصحاب الورع ، والتحرج عن القبائح ، كعبد الله ، وعبد المطلب ، وابنه أبي طالب ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي ، وعامر بن الظرف الغدواني ، وجماعة غير هؤلاء) (١).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة يعبد الله عزوجل موحداً على دين أجداده ، وفي بيت ضمَّ هؤلاء الموحدين ، وقبل أن يسطع نور الإسلام على البسيطة بعشر سنين ولد الإمام علي عليه‌السلام ، فتربى في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تولى كفالته ، لذا يقول عليه‌السلام : «فإني ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة» (٢) ، إشارة إلى أنَّه ولد في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٢٠.

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٠٥.

٩٩

بيت التوحيد الذي آمن بالله عزوجل ، فلم يشرك به ، ولم يسجد إلى غيره ، وفي شرح قوله هذا يقول ابن أبي الحديد : (ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة : أنَّه لم يولد في الجاهلية ، لأنَّه ولد عليه‌السلام لثلاثين عاماً مضت من عام الفيل ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل ، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكث قبل الرسالة سنين عشراً ، يسمع الصوت ، ويرى الضوء ، ولا يخاطبه أحد ، وكان ذلك إرهاصاً لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحُكم السنين العشر حكم أيام رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمولود فيها إذا كان في حجره ، وهو المتولي لتربيته ، مولود في أيام كأيام النبوة ، وليس بمولود في جاهلية محضة ففارقت حاله حال من يُدَّعى له من الصحابة مماثلته في الفضل.

قد روي أنَّ السنة التي وُلد فيها عليه‌السلام ، هي السنة التي بُدئَ فيها برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأُسمع الهتاف من الأحجار ، ومن السماء ، وكشف عن بصره ، فشاهد أنواراً ، وأشخاصاً ، ولم يخاطب فيها بشئ.

وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء ، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة ، واُنزل عليه الوحي ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتيمَّن بتلك السنة ، وبولادة علي عليه‌السلام فيها ، ويسميها سنة الخير ، وسنة البركة ، وقال لأهله ليلة ولادته ـ وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات ، والقدرة الإلهية ، ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئاً ـ : «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة» (١).

فمن ولد من أب موحّد ، ومن سلالة من الموحدين المتألهين ، وكانت ولادته في الكعبة المقدسة ، وفي مثل الظروف التي وصفها ابن أبي الحديد ، حريٌّ أن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٤.

١٠٠