شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

القرآن عملاً ، فقد اتبع قراء أهل الشام الطليق الباغي ، وخرجوا لقتال الخليفة الشرعي ، ولم يعملوا بقوله تعالى : (١) ، وتقاعس قرّاء العراق عن نصرة إمامهم بعد رفع المصاحف ، وأعلنوا العصيان عليه ، وأكرهوه على الموادعة ، ولم يعملوا بقوله تعالى : (٢) ، وما ذلك إلّا لأنَّهم كانوا يقرأون القرآن بألسنتهم ، ولم تعِ قلوبهم ما تضمنته آياته ، فلم يعملوا بأحكامه.

أسفر اجتماع القرّاء عن الإتفاق على اختيار حكمين للفصل في النزاع ، فاختار قرّاء الشام عمرو بن العاص ، واختار قرّاء العراق أبا موسى الأشعري ، وقد رفض الإمام علي عليه‌السلام اختيار أبي موسى ، والذي جرى دون أخذ رأيه ، فقال : «فإنّي لا أرضى بأبي موسى ، ولا أرى أن أوليه» ، وأراد أن يولي ابن عباس ، أو الأشتر ، فأبى عليه الأشعث ، وابن فدكي ، والقراء ، وأكرهوه على أن يولي أبا موسى حكماً ، كما أكرهوه على قبول التحكيم من قبل (٣) ، وكأنَّه أصبح مأموراً بعد أن كان الأمر والنهي بيده ، فأشبهت محنته محنة هارون عليه‌السلام إذ سار القوم خلف أهوائهم ، فلم يصغ أحد منهم إلى نصحه ، وأعرضوا عما يوجههم إليه.

__________________

(١) هود ١١ : ١١٣.

(٢) النساء ٤ : ٥٩.

(٣) وقعة صفين ٤٩٩.

٤٢١
٤٢٢

الخوارج

«فلما أسفر الحق ، وسَفِهَ المنكر ، واعترفوا بالزلل ، والجور عن القصد ، اختلفوا من بعده ، وألزموك على سَفَهٍ التحكيم ، الذي أبيته ، وأحبوه ، وحظرته ، وأباحوا ذنبهم الذي اقترفوه ، وأنت على نهج بصيرة وهدى ، وهم على سنن ضلالة وعمى ، فما زالوا على النفاق مصرين ، وفي الغي مترددين ، حتى أذاقهم الله وبال أمرهم ، فأمات بسيفك من عاندك ، فشقي وهوى ، وأحيى بحجتك من سعد ، فهُدي» :

اللغة : أسفر : انكشف ، أشرق (١).

السَّفَهُ : ضد الحلم ، وأصله الخفقة ، والحركة (٢). وسفِهَ المنكر : ظهر به من خفة ، وبان سفهه. وسفه التحكيم : ما به من خفة وجهل.

الجور عن القصد : جار ، يجور : ضلَّ ، ومال.

القصد : العدل ، والقصد من الأمور : المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط (٣).

أبيته : أبى ، يأبى (بالفتح فيهما) : أي امتنع (٤).

حظرته : حظر الشيء ، يحظره ، حظراً : منعه ، وكل ما حال بينك وبين شيء فقد

__________________

(١) الصحاح.

(٢) الصحاح.

(٣) تاج العروس.

(٤) الصحاح.

٤٢٣

حظره عليك (١).

بعد أن أكره القوم الإمام علياً عليه‌السلام على الموادعة ، وقبول التحكيم ، وعلى اختيار أبي موسى حكماً عنه ، اتفق الطرفان على الهدنة ، وكتبا بينهما عهداً أشهدا فيه جمعاً من وجهاء الجيشين المتحاربين ، ورؤسائهم ، ثم أخذ الأشعث عهد الهدنة بعد إبرامه ، فقرأه على الجيشين.

وبعد أن عزم جيش العراق على العودة ، أدركوا أنَّهم كانوا على خطأ في قبول التحكيم ، والإنصراف عن القتال ، لأنَّ الحجة لهم ، وأنَّ عدوَّهم باغْ ماكر ، لا حجة له ، ولا دين ، فندموا على ما اقترفوه من مخالفة الإمام عليه‌السلام ، ولكنهم إذ وعَوا ذلك وعرفوه ، لم يحسنوا التصرف ، بل تصرفوا بأسوأ مما اقترفوه من قبل ، وأخذوا ينادون : (لا حكم إلّا لله ، الحكم لله ـ يا علي ـ لا لك ، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله ، إنَّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يُقتلوا ، أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم ، وقد كانت منّا زلة ، حين رضينا بالحكَمَين ، فرجعنا ، وتبنا ، فارجع أنت يا علي كما رجعنا ، وتب إلى الله كما تبنا ، وإلّا برئنا منك (٢)). بهذا المنطق الزائف واجهوا الإمام علياً عليه‌السلام ، يطلبون منه أن يتوب من ذنب هم اقترفوه ، إذ لم يسمعوا نصح إمامهم عندما نهاهم عنه ، وأسدى لهم النصح ، ولم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا منه نقض العهد الذي أكرهوه على إبرامه ، وفي ذلك مخالفة للكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، ونقض العهد من كبائر الذنوب ، فما الذي يُنتظر من إمام المتقين عليه‌السلام إلّا أن رد عليهم قائلاً : «ويحكم! أبعد الرضا ، والميثاق ، والعهد ،

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) وقعة صفين ٥١٣.

٤٢٤

نرجع؟!. أليس الله تعالى قد قال : * (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) *؟!. وقال : * (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)(٢)(٣).

بين الهدى والضلال :

كان الإمام علي عليه‌السلام على بصيرة من أمره ، لأنَّه يسير على نهج الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقتفي أثره ، ويهتدي بهداه ، لذا فإنَّه لم يفارق الصواب قط ، ولم ينحرف عن الحق في جميع تصرفاته ، فهو يتمسك بحقه الشرعي ، ويدلي بحجة قوية واضحة ، لا يسع أحدٌ ردَّها ؛ لذا فإنَّه لم يشك في موقفه لحظة واحدة ، ولم يمسك عن القتال لشبهة علقت في ذهنه ، ولا لشك عرض له ، بل اضطر لأمرٍ لا مناص له من قبوله ، فقبله على مضض ، وأعلن للملأ خطأ ما ألجأوه إليه ، والمخاطر التي تترتب على ذلك الخطأ ، ونبَّههم إلى أنَّهم خُدعوا بدعوة ضلال ، ودعاهم إلى التمسك بما هم عليه من الحق ، والإستمرار بالقتال ، ولكن القوم أعماهم جهلهم ، ورسخت الشبهات في أذهانهم ، وخدعتهم مكيدة معاوية ، وابن العاص ، فتمسكوا بدعوة الضلال ، وتمردوا على إمام الحق والخليفة الشرعي ، ولم يعوا نصحه ، ونصح صفوة أصحابه المؤمنين من الصحابة والتابعين ، ثم جاءوه يطلبون منه نقض العهد بعد إبرامه وتوكيده ، وهل هذا إلّا ضلال وعمى؟!.

وعندما بدأت الهدنة ، دفن الناس قتلاهم ، ونادى منادي الإمام علي عليه‌السلام

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) النحل ١٦ : ٩١.

(٣) وقعة صفين ٥١٣.

٤٢٥

بالرحيل ، وركب الناس ليعودوا إلى الكوفة ، ولكنهم عادوا منقسمين بعد اجتماعهم ، وقطعوا طريق العودة بالتشاتم ، يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم (١) في دين الله. ويقول المؤمنون : فارقتم إمامنا ، وفرقتم جماعتنا.

ولم ينفع الخوارج نصح الإمام علي عليه‌السلام ، ووضوح حجته في تمسكه بالهدنة إلى أجلها ، لينظر ما يسفر عنه اجتماع الحكَمَين ، فإن حكما بما جاء به الكتاب ، فهو أحق باتباعه ، وإن حكما بخلافه ، فلا يلزمه عهد ، فأصرّوا على عنادهم ، وما أن اقتربوا من الكوفة ، اعتزلوا الجيش ، وذهبوا إلى حَرَوراء (٢) ، فنزلها منهم اثنا عشر ألفاً ـ على رواية أبي مخنف ـ ونادى مناديهم : (إنَّ أمير القتال : شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة : عبد الله بن الكوّاء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر) (٣).

لم يترك الإمام علي عليه‌السلام الخوارج ، ليبقوا على ضلالهم ، بل حاول إنقاذهم من الضلال ، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، فذهب إلى حروراء ، فنصحهم ، وبيَّن لهم الحقائق ، وأبطل ما علق في أذهانهم من شبهات ، ولكنَّهم لم يذعنوا ، ولم ينفع معهم نصح. فذهب إليهم الإمام علي عليه‌السلام بعد ذلك بنفسه ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : «اللهم إنَّ هذا مقام من أفلج (٤) فيه ، كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطق فيه ، فأوعث (٥) ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. ثم قال

__________________

(١) المداهنة : إظهار خلاف ما يضمر (القاموس المحيط).

(٢) حَرَوراء : قيل : هي قرية بظاهر الكوفة ، وقيل : موضع على ميلين منها ، نزل به الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فنسبوا إليها (معجم البلدان).

(٣) أنساب الأشراف ٣٤٢.

(٤) أفلج : الفلج : الظفر والفوز ، وأفلج الله حجته : قومها وأظهرها (الصحاح).

(٥) أوعث : عجز عن الكلام (المنجد).

٤٢٦

لهم : من زعيمكم؟. قالوا : ابن الكواء. قال علي : فما أخرجكم علينا؟!. قالوا : حكومتكم يوم صفين!. قال : أنشدكم بالله ، أتعلمون أنَّهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله. قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنَّهم ليسوا بأصحاب دين ، ولا قرآن ، إنّي صحبتهم ، وعرفتهم ، أطفالاً ، ورجالاً ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال ، إمضوا على حقكم ، وصدقكم ، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ، ودهنا ، ومكيدة ، فرددتم علي رأيي ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم؟!.

فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ، ومعصيتكم إيّاي ، فلما أبيتم إلّا الكتاب ، اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بالقرآن ، فليس لنا أن نخالف حكماً يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا ، فنحن من حكمهما براء.

قالوا : فخبَّرنا ، أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟!. فقال : إنّا لسنا حكّمنا الرجال ، إنَّما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن إنَّما هو خط مسطور بين دفتين ، لا ينطق ، إنَّما يتكلم به الرجال. قالوا : فخبرنا عن الأجل ، لم جعلته فيما بينك وبينهم؟!. قال : ليعلم الجاهل ، ويتثبت العالم ، ولعل الله عزوجل يصلح في هذه الهدنة ، أدخلوا مصركم رحمكم الله» (١).

أبان الإمام علي عليه‌السلام للقوم سلامة موقفه ، وأبطل بحججه ما علق في أذهانهم من شبهات ، وأرشدهم لما فيه الصواب ، وأوضح لهم أن ما نقموا عليه من أمور ، كانوا هم السبب لها ، إذ أكرهوه على المهادنة والتحكيم ، فأظهروا له الرضا ، ودخلوا الكوفة ، وقلوب قسم منهم على ما كانت عليه من الخلاف له ، فكانوا فريقين : فريق اهتدى إلى الصواب ، فدخل في الطاعة ، وفريق بقي على غيِّه ، أضمر

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٤٧.

٤٢٧

الشر ، فصمم على العصيان ، والعدوان على الأمة ، ولم يخفَ على الإمام علي عليه‌السلام ذلك ، فما برح يسدي لهم النصح في خطبه ، ويقيم الحجج والبراهين الواضحة على سلامة موقفه ، ويدعوا إلى وحدة الأمة ، مستغلاً كل مناسبة عله يهدي بنصحه أحداً منهم ، لينقذه من النار.

لم ينتفع الخوارج بنصح ، ولم تنفع معهم موعظة ، ولم يذعنوا لحجة ، فأخذوا يتسللون من الكوفة ، فخرجوا إلى النهروان قرب المدائن ، وعاثوا في الأرض فساداً ، واستحلوا الدماء والأموال ، ولم يسع الإمام علي عليه‌السلام أن يدع الخوارج يقتلون وينهبون بلا رادع ، فخرج بجيشه لملاحقتهم ، فوصل إلى النهروان ، وأعذر لله تعالى في الخوارج بالنصح والإرشاد ، ثم طلب منهم أن يسلموه القتلة ، ليمضي فيهم حكم الله تعالى ، ويرجعوا إلى ما خرجوا منه ، ولا يشتتوا شمل الأمة ، اهتدت جماعة أخرى من الخوارج ، فانضموا إلى جيشه ، وأصرّ الباقون على الغي والضلال ، وأبوا تسليم الجناة ، وأقروا له : بأنَّهم جميعاً مشتركون في القتل ، وما جرى من الفساد في الأرض ، فناجزهم القتال ، واسفرت المعركة عن قتل عدد كبير منهم ، إذ لم يبق منهم سوى عشرة رجال هربوا.

لقد شقي أهل الضلال ، الذين أصروا على الخلاف ، واتباع الهوى ، فخسروا الدنيا والآخرة ، وهم مخلدون في النار ، لخروجهم على إمام زمانهم ، ولسوء عقيدتهم ، ولما ارتكبوا من شق الصف ، والقتل ، والنهب ، وأمّا الذين وعوا نصائح الإمام علي عليه‌السلام ، وتدبروا حججه وما جاء به من براهين واضحة ، فعادوا إلى رشدهم ، وأعلنوا التوبة عما بدر منهم من خلاف ، ودخلوا في طاعة من فرض الله تعالى طاعته ، وولايته ، وهؤلاء كسبوا الدنيا ، إذ أنجوا أنفسهم من القتل ، وسعدوا في الآخرة لأنَّ : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (١).

__________________

(١) الجامع الصغير ١ / ٥١٩.

٤٢٨

جامع الفضائل

«صلوات الله عليك غادية ، ورائحة ، وعاكفة ، وذاهبة ، فما يحيط الماح وصفك ، ولا يُحْبط الطاعن فضلك ، أنت أحسن الخلق عبادة ، وأخلصهم زهادة ، وأذبَّهم عن الدين ، أقمت حدود الله بجهدك ، وفللت عساكر المارقين بسيفك ، تُخْمِدُ لَهَبَ الحروب ببنانك ، وتهتك ستور الشُبَهِ ببيانك ، وتكشف لبس الباطل عن صريح الحق ، لا تأخذك في الله لومة لائم ، وفي مدح الله تعالى لك غنىً عن مدح المادحين ، وتقريض الواصفين» :

اللغة : صلوات الله : الصلاة من الله تعالى : الرحمة (١).

غادية : الغدوة : ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس (٢).

رائحة : الرواح : نقيض الصباح : وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل (٣).

عاكفة : عكف على الشيء ، يعكف ، عكفاً : أقبل عليه مواظباً ، لا يصرف عنه وجهه ، وقيل : أقام.

ذاهبة : الذهاب : السير والمرور (٤).

__________________

(١) الصحاح.

(٢) القاموس المحيط.

(٣) الصحاح.

(٤) لسان العرب.

٤٢٩

يحبط : حبط عمله ، حبطاً (بالتسكين) ، وحبوطاً : بطل ثوابه (١).

أذبَّهم : الذب : الدفع والمنع.

المارقين : مرق السهم من الرمية ، يمرق ، مروقاً : خرج من الجانب الآخر ، وفي الحديث (وذكر الخوارج) : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية : أي يجوزونه ، ويخرقونه ، ويتعدونه ، كما يخرق السهم المرمي به ، ويخرج منه ، وفي حديث علي عليه‌السلام : اُمرت بقتال المارقين (يعني الخوارج).

البنان : الأصابع ، وقيل : أطرافها (٢).

تضمنت هذه الفقرة الدعاء للإمام علي عليه‌السلام ، بأن تلازمه رحمة الله تعالى دائماً ، وفي كل الأوقات ، لا تفارقه ، ولا تنقطع عنه ، في الغداة عند الصباح الباكر ، وبعد الزوال عند الرواح ، والذهاب ، وعاكفة ملازمة بين الصباح الباكر والزوال ، ومن الرواح إلى الفجر ، بما قدَّم من العمل الصالح ، والخدمات الجليلة للدين الإسلامي الحنيف ، والتضحيات الجسيمة في سبيل الله تعالى ، ومن أجل نصرة دينه ، وإقامة العدل في الأرض.

مدح الإمام علي عليه‌السلام :

إنَّ حياة الإمام علي عليه‌السلام تزخر بالخير والعطاء ، وقد جرت الأقلام علَّها تستكشف خفايا أسرارها ، وغاصت الأفكار علّها تبلغ الأعماق ، فتحضى باستخراج بعض الكنوز التي حواها هذا البحر الزاخر ، ولا أراني مبالغا إن قلت : أن جميع من بحث ، وكتب عن حياته ، يشعر بالقصور مهما بلغ من علم ، ودقة ، وحنكة ،

__________________

(١) الصحاح.

(٢) لسان العرب.

٤٣٠

وعمق ، إنَّ رجلاً قضى عمره الشريف في طاعة الله عزوجل ، بلا كلل ، ولا ملل ، وتحمل ما تحمل في سبيل ذلك من المخاطر ، يلقي نفسه في لهواتها دون اكتراث ، ولم يزل يجد ويجتهد في العمل دائباً ، مسخراً كل طاقاته في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض بالدعوة إلى دينه ، والسعي إلى تطبيق شريعته الغراء ، وإقامة العدل على الأسس التي وضعتها ، لم يغفل عن ذلك لحظة واحدة ، ولم يترك العمل به ، ولم يتوان عنه ، كما لم تخطر له المعصية على بال ، مثل هذا الإمام الطاهر عليه‌السلام يصعب وصفه ، ويصعب مدحه بما هو أهله ، وبما يستحق ، فأي فضيلة من فضائله يستطيع الباحث ـ مهما أوتي من القدرات والمواهب العلمية والأدبية ، والدقة في البحث ـ أن يشبعها بحثاً ، وتدقيقاً ، فضلاً عن الإطاحة بالجميع؟!.

أمّا الذي يريد إحباط فضله عليه‌السلام ، فهمته أشد صعوبة وعسراً ، لأنَّه كمن يريد أن يأتي برابعة المستحيلات ، أو يريد أن يحجب نور الشمس بحجاب رقيق ، فهو لا يستطيع أن يجد فيمن طهَّره الله عزوجل من الرجس تطهيرا ، وعصمه من الزلل سوى الفضائل والمكرمات ، وإذا تركنا ما جاء في الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة جانباً ، مجاراة لمن يرى التأويل ، أو يدعي التكذيب والتحريف ، فإنَّ ما جاء في كتب التاريخ عن سيرته ـ على الرغم من توجّهات كاتبيها ـ يشهد للوصي المرتضى عليه‌السلام بأسمى افضائل ، فيدونها بفخر واعتزاز ، ويشهد على أعدائه بالتجني ، والزور ، والبهتان ، والظلم ، ويدون مخازيهم ، ومخالفاتهم للكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وقد أجهدوا أنفسهم ، وأتعبوها ، ليختلقوا مطعناً ، يمكنهم إلصاقه به ، فلم يتمكنوا ، وقد جازفوا بذلك ، فافتضحوا ، وباءوا بالفشل ، وبان ما ارتكبوه من بهتان ، ثمَّ اتجهوا لإخفاء فضائله ، فاستخدموا لذلك كل ما لديهم من قوة ، وقسوة ، فقطعوا العطاء ، وهدموا الدور ، وسجنوا ، وعذبوا ، وقتلوا ، فلم تنجح تلكم

٤٣١

المحاولات اليائسة في إخفاء فضله ، بل على العكس نراهم ـ وهم يبذلون كل الجهود لإخفاء فضله ـ يعترفون بفضائله في أحلك الظروف ، وفي أشدها حاجة لإخفاء فضله ، ولننقل أنموذجين لذلك :

١ ـ روى ابن قتيبة ، قال : (وذكروا أنَّ رجلاً من هَمدان ، يقال له : برد ، قدم على معاوية ، فسمع عمرواً يقع في علي ، فقال له : يا عمرو ، إنَّ أشياخنا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، فحق ذلك أم باطل؟!. فقال عمرو : حق ، وأنا أزيدك أنَّه ليس أحدٌ من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب علي ، ففزع الفتى. فقال عمرو : إنَّه أفسدها بأمره في عثمان. قال برد : هل أمر ، أو قتل؟!. قال : لا ، ولكنه آوى ، ومنع. قال : فهل بايعه الناس عليها؟. قال : نعم. قال : فما أخرجك من بيعته؟!. قال : اتهامي إيّاه في عثمان. قال له : وأنت ـ أيضاً ـ اتهمت. قال : صدقت ، فيها خرجت إلى فلسطين. فرجع الفتى إلى قومه ، فقال : إنّا أتينا قوماً ، أخذنا الحجة عليهم من أفواههم. علي على الحق ، فاتبعوه) (١).

٢ ـ وروى ابن قتيبة ـ أيضاً ـ قال : (ذكروا أنَّ عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب. فقال معاوية : لله أنت! أتدري ما قلت؟!. أما قولك : الغبي ، فوالله لو أنَّ ألسن الناس جمعت ، فجعلت لساناً واحداً ، لكفاها لسان علي. وأمّا قولك : إنَّه بخيل ، فوَالله لو كان له بيتان : أحدهما من تبر ، والآخر من تبن ، لأنفذ تبره قبل تبنه. فقال الثقفي : فعلام تقاتله إذاً؟!. قال : على دم عثمان ، وعلى هذا الخاتم ، الذي من جعله في يده ، جادت طينته ، وأطعم عياله ، وادَّخر لأهله. فضحك الثقفي ، ثم لحق بعلي ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة.

٤٣٢

فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي يدي بجرمي ، لا دنياً أصبت ، ولا آخرة. فضحك علي ، ثمَّ قال : أنت منهما على رأس أمرك ، إنَّما يأخذ الله العباد بأحد الأمرين) (١).

ولننقل تقييم ما ظهر على ألسن من حاولوا النيل من الإمام علي عليه‌السلام والطعن عليه ، من رجل لا يؤمن بولايته ، فقد روى ابن عبد ربّه عن الرياشي ، قال : (انتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً ، فقال له أبوه : يا بني ، إنَّه ـ والله ـ ما بنت الدنيا شيئاً إلّا هدمه الدين ، وما بنى الدين شيئاً فهدمته الدنيا ، أما ترى علياً ، وما يظهر بعض الناس من بغضه ، ولعنه على المنابر ، فكأنَّما ـ والله ـ يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء؟!. وما ترى بني مروان ، وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس ، فكأنَّما يكشفون عن الجيف) (٢).

من خصائص علي عليه‌السلام :

مرّ الحديث عن عبادة الإمام علي عليه‌السلام في موضوع مستقل (٣) ، وقلت : أنَّ كل عمل من شأنه إسعاد الناس في الدنيا والآخرة ، فهو عبادة ، إذا أريد به وجه الله تعالى ، وأعطف على ما تحدثت عنه هناك : أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام بمعرفته التامة بأحكام الشريعة ، وتعليماتها ، ولفهمه للعبادات فهماً سليماً يخلو من كل شائبة ، ولأنَّه أخذ ذلك من أسلم طرقه ، حيث تربى في حجر المشرع ، وتعلم من الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان من بعده مرجع الأمة في ذلك ، وإمامها الذي يجب عليها الإقتداء به ، لذلك فهو يتوخى من العبادة أفضلها ، وأكثرها أهمية ونفعاً ، وأفضلها

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٠١.

(٢) العقد الفريد ٥ / ٩٢.

(٣) ص ١١١ من هذا الكتاب.

٤٣٣

عند الباري عزوجل ، فيؤديها بما عهد عنه من إخلاص ، فلا شك أنَّه أحسن الخلق عبادة ، لا يفضله في ذلك سوى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يختلف زهده عن عبادته في ذلك ، فهو أخلصهم زهادة (١).

ولم يعرف التاريخ رجلاً في الإسلام أكثر جهاداً ، وتضحية ، وذبّاً عن الدين بيده ولسانه ، وقد تقدم الحديث في مواضيع عديدة من هذا الكتاب عن مواقفه الحاسمة في مختلف الحروب والمغازي ، وأثرها في نصرة الدين ، وما ذكر منها جزء يسير من مواقفه ، أمّا ذبّه عن الدين باللسان فقد نقلت الكتب منه ما لا يسع نقله في هذا المختصر.

المارقون :

وكل من حارب الإمام علياً عليه‌السلام فهو مارق خارج على الدين ؛ لأنَّه راد على الله عزوجل ، وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تنصيبهما إيّاه للخلافة ، وولاية الأمر ، وقد اختص هذا الاسم بالخوارج ، وعرفوا به دون غيرهم ، لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سماهم به ، وهذا من دلائل نبوته ، إذ أخبر عن أمر حدث بعد وفاته بسبع وثلاثين عاماً ، روى أبو سعيد الخدري ، قال : (بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يقسم قسماً ، أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من تميم ، فقال : يا رسول الله إعدل!. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويلك ، من يعدل إذا لم أكن أعدل. فقال عمر : ائذن لي فيه ، فأضرب عنقه. قال : دَعْهُ ، فإنَّ له أصحاباً ، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرأون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ... إلى أن قال : آيتتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، ومثل البضعة

__________________

(١) راجع ص ٢٨٩ من هذا الكتاب.

٤٣٤

تدردر ، ويخرجون على خير فرقة من الناس. قال أبو سعيد : فأشهد أنّي سمعت هذا الحديث من رسول الله ، وأشهد أنَّ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قاتلهم ، وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل ، فالتمس ، فأتي به ، حتى نظرت إليه ، على النعت الذي نعت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

وقد رُويت تسميتهم بالمارقين عن عدد من الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : ابن عباس ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو برزة ، وأبو ذر ، وأبو سعيد ، وأبو بكرة ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وعائشة ، وعبد الرحمن بن عديس ، وعبد الله بن خباب ، وعقبة بن عامر ، وعمار بن ياسر (٢).

وفي النهروان تشتت المارقون ، فقتل أغلبهم ، وفر من بقي منهم ، أو أظهر التوبة لينجو.

بنان علي عليه‌السلام وبيانه :

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٢٢ / ١٥٨ ، خصائص أمير المؤمنين ١٣٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ١٧١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٩ ، صحيح البخاري ٤ / ١٧٩ ، صحيح مسلم ٣ / ١١٢ ، المناقب ٢٥٩.

(٢) تجد رواياتهم في : البداية والنهاية ٧ / ٣٢٩ ، السنة لعمرو بن عاصم ٤٢٨ ، ٥٨٥ ، سنن ابن ماجة ١ / ٦٠ ، ٦١ ، سنن أبي داود ٢ / ٤٢٨ ، سنن البيهقي ٣ / ٢٢٥ ، ٧ / ١٨ ، ٨ / ١٧١ ، سنن الترمذي ٣ / ٣٢٦ ، سنن النسائي ٥ / ٣١ ، ٣٢ ، ٧ / ١١٩ ، صحيح البخاري ٤ / ١٠٨ ، ٥ / ١١١ ، ٢٠٥ ، ٦ / ١١٥ ، ٧ / ١١١ ، ٨ / ٥٢ ، صحيح مسلم ٣ / ١١١ ، ١١٤ ، ١١٦ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٢٧ ، ٢٢٩ ـ ٢٣١ ، ٢٣٥ ، ٢٣٩ ، المستدرك ٢ / ١٤٦ ـ ١٤٨ ، ١٥٤ ، مسند أبي داود الطيالسي ٦٠ ، ٦١ ، ١٢٤ ، ٣٥٠ ، مسند أحمد ١ / ٨٨ ، ١٢١ ، ١٦٠ ، ٣ / ١٨٣ ، ٢٢٤ ، ٤٨٦ ، ٣٥٣ ، ٤ / ٤٢٢ ، ٤٢٥ ، ٥ / ٤٢ ، ١٧٦ ، المعجم الأوسط ٣ / ٣٢٢ ، ٥ / ٣١٤ ، المعجم الكبير ٢ / ١٨٥ ، ٦ / ٩١ ، ١١ / ٢٢٣ ، ١٧ / ٢٢٥.

٤٣٥

استعمل الإمام الهادي عليه‌السلام كلمة بنان كناية عن اليد ، لأنَّ البنان جزء منها ، وبها تحمل آلة الحرب من : السيف ، والرمح ، والحراب ، والقوس ، والنبال ، وهي التي تمارس الضرب ، والطعن ، والرمي ، وبها تدار فنون القتال ، وقد عرف الإمام علي عليه‌السلام بما له من أثر واضح بيِّن في الحروب التي شارك فيها ، إذ يعجِّل بإخماد لهبها بما يحققه من نصر عاجل ساحق ، يصرح أبطال المشركين ، والبغاة ، ويخترق صفوفهم بإقدامه ، ويصمد أمام هجماتهم ، مما يؤدي إلى انهيار مقاومتهم ، ثم انهزامهم ، وانتصار المسلمين عليهم.

والإمام علي عليه‌السلام لا يقاتل أحداً بدون حجة ، فهو ببيانه البليغ يبيِّن وجه الحق ، ويكشف زيف الباطل ، ويبطل ما علق في الأذهان من الشبهات ، وهو بذلك يفتح طريق الحق لسالكيه ، فلا يبقي عذراً لمعتذر ، وليس ذلك مختص بموقفه مع الخوارج ، بل جرت سيرته في جميع حروبه على هذه الشاكلة ، وعندما تكون الشبهة مصطنعة يقصد بها إغواء الناس ، وإغراؤهم ، نراه يتعامل معها بأسلوبه الرصين في الإحتجاج ، فيبطلها ، ليميز بين الحق والباطل ، وهذا ما فعله يوم الجمل في احتجاجاته المتعددة ، وفي احتجاجات من أرسلهم من رسل ليرشدوا القوم إلى طريق الحق ، والصراط المستقيم ، وفعلا لأمر ذاته يوم صفين.

ومن استعرض سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، وجد أنَّه لا يتصرف إلّا وفق أحكام الشريعة المقدسة ، يهتدي بهدي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يعمل بإخلاص ، وحرص شديدين على أن يتوخى رضا الله عزوجل في جميع تصرفاته ، أمّا أن يرضى الناس بذلك ، أم يسخطوا منه ، فليس هذا من همِّه ، ولا يخطر له على بال ، إنَّما همه الوحيد أن يحملهم على الحق : يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويؤدي

٤٣٦

الحقوق لمن يستحقها وفق سنن العدل التي رسمها الشرع المقدس ، وأقرَّ حدودها ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، ولا مجال للأخذ برأي أحد مع وضوح حكم الله تعالى ، وصدور أمره ، وكل الناس عند الإمام علي عليه‌السلام في ذلك سواء : القريب ، والبعيد ، والصديق ، والعدو.

مدح الله تعالى :

بعد أن استعرض الإمام الهادي عليه‌السلام جملة من مآثر جده المرتضى عليه‌السلام ، وبيَّن بعض الفضائل التي انماز بها عن غيره من هذه الأمة ، وأكّد أنَّ فضائل جده لا يمكن الإحاطة بها ، كما لا يسع الخصوم مهما بلغوا من العداء والتعصب إخفاءها ، وإحباطها ، انتقل إلى ذكر فضيلة لا تعدلها الفضائل ، ولا تبلغ مداها مهما سمت ، ولا تقاس بها فضيلة غيرها مطلقاً ، ألا .. وهي مدح الله تعالى له ، وقد تحدَّثت عن أهمية مدحه تعالى في موضوع سابق (١) ، والله سبحانه قوله الحق والصدق ، وقد أنبأنا في كتابه المجيد عن مقياس الفضل عنده فقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(٢) ، فأيّ تقريظ ، وأيّ مدح يبلغ في الفضل مدح الله تعالى؟! أم أيّ مدح يمكن أن يقاس به؟! ومهما عظم المادح ، فإنَّ عظمته تتصاغر ، وتتضاءل أمام عظمة الله تعالى ، بل لا عظمة إلّا عظمته ، ومدحه يغني عن مدح المادحين.

وقد تواتر النقل في نزول بعض آيات الذكر الحكيم في فضل الإمام علي عليه‌السلام ، وقد روى الحفاظ عدداً كبيراً من الروايات في نزول آيات من الذكر الحكيم ، وقد

__________________

(١) راجع ص ٢٦١ من هذا الكتاب.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

٤٣٧

تضمنت الزيارة بعض الشواهد لما نزل فيه ، وما لم تتضمنه الزيارة كثير ، يمكن تتبعه في مظانه (١).

__________________

(١) راجع كتاب : (شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني) والذي يقر فيه بأنه لم يرو جميع ما جاء من روايات هذا الموضوع ، فإنه يغني عن البحث والتنقيب لكثرة ما رواه ، على أننا لا نجد كتاباً من كتب الحديث أو التفسير يخلو من الروايات التي تدل على نزول آيات الذكر الحكيم في الإمام علي (ع).

٤٣٨

ومِنْهُم مَن يَنتَظِر

«قال الله تعالى : * (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(١) * ولما رأيت أن قتلت الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، وصدقك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده ، فأوفيت بعهده ، قلت أما آن أن تخضب هذه من هذه؟! أم متى يبعث أشقاها؟! واثقاً بأنَّك على بيِّنة من ربِّك ، وبصيرة من أمرك ، قادم على الله ، مستبشر ببيعك الذي بايعته به ، وذلك هو الفوز العظيم» :

اللغة : الناكثين : النكث : نقض ما تعقده ، وتصلحه من بيعة ، وغيرها ، وفي حديث علي كرم الله وجهه : أمرت بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين (٢).

القاسطين : القسوط : الجور ، والعدول عن الحق ، وقد قسط ، يقسط ، قسوطاً. قال الله تعالى : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)(٣). (٤)

المارقين : مرّ في الموضوع السالف.

أوفيت : أوفى بالعهد : وفى به : أعطاه وافياً تاماً.

كل من آمن بالله عزوجل معتنقا الدين الإسلامي الحنيف ، فقد ألزم نفسه بعهد مع الله تعالى ، يأتمر بموجبه بأوامره ، وينتهي عن نواهيه ، ويطبق أحكامه ، فإن وفى بعهده ، فأطاع ، وجاهد في سبيل الله تعالى ، باذلاً مهجته ، فهو مشمول بهذه الآية

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٢٣.

(٢) لسان العرب.

(٣) الجنّ ٧٢ : ١٥.

(٤) الصحاح.

٤٣٩

الكريمة ، والإمام علي عليه‌السلام هو سيد المؤمنين ، وقائدهم ، وبه يقتدى في طاعته ، وجهاده.

قال ابن حجر : (وسئل ـ أي الإمام علي عليه‌السلام ـ وهو على المنبر بالكوفة عن قوله تعالى : (*(رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) * فقال : اللهم غفراً ، هذه الآية نزلت فيَّ ، وفي عمي حمزة ، وفي ابن عمي عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر ، وحمزة قضى نحبه شهيداً يوم أحد ، وأمّا أنا ، فأنتظر أشقاها ، يخضب هذه من هذه ، وأشار بيده إلى لحيته ورأسه ، عهد عهده إلي حبيبي أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

وقد مرّ بنا في هذا الشرح ، وفي أكثر من مناسبة أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى الإمام علي عليه‌السلام في قتال هذه الفرق الثلاث ، ونقلنا بعض أحاديثه في ذلك ، ونعطف على ما تقدم قوله عليه‌السلام : «عهد إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين. فقيل له : يا أمير المؤمنين ، من الناكثون؟. قال : الناكثون : أهل الجمل ، والمارقون : الخوارج ، والقاسطون : أهل الشام» (٢). وروي نظير هذا الحديث عن أبي أيوب ، وعن أبي سعيد الخدري ، وعن أم سلمة رواه عنها عبد الله بن عباس ، وعن عبد الله بن مسعود ، وعن عمار بن ياسر (٣).

__________________

(١) الصواعق المحرقة ١٣٤ ، وروى نزولها في شواهد التنزيل ٢ / ٦ عن ابن عباس ، وفيه جعفر بدل عبيدة ، نور الأبصار ١٠٧.

(٢) المناقب ١٧٦.

(٣) تجد رواياتهم في أسد الغابة ٤ / ٣٣ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، تاريخ بغداد ١٣ / ١٨٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، ٤٣ / ٤٥٦ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢١ ، كفاية الطالب ١٢٢ ، ١٦٩ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، المستدرك ٣ / ١٣٩ ، المعجم الأوسط ٩ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ٤ / ١٧٢ ، ١٠١ / ٩١ ، مسند أبي يعلى ٢ / ١٩٤ ، المناقب ١٩٠ ، وقعة صفين ٣٣٨.

٤٤٠