شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

إلّا المصلين

«قال الله عزوجل : * (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ)(١) * فاستثنى الله تعالى نبيَّه المصطفى ، وأنت يا سيد الأوصياء من جميع الخلق ، فما أعمَهَ من ظلمك عن الحق» :

اللغة : الهلع : الحرص ، وقيل : الجزع ، وقلة الصبر ، وقيل : هو أسوء الجزع ، وأفحشه ، هلع ، يهلع ، هلعاً ، وهلوعاً.

والشر : السوء ، وضد الخير.

والجزوع : ضد الصبور على الشر ، والجزع نقيض الصبر ، جزع (بالكسر) : يجزع ، جزعاً ، فهو جازع ، وجزع ، وجزوع ، وقيل : إذا كثر منه الجزع ، فهو جزوع.

والعَمَه : التحيُّر والتردد ، وقيل العَمَه : التردد في الضلال (٢).

وفي تفسير الميزان : (الهلوع : صفة مشتقة من الهلع (بفتحتين) : وهو شدة الحرص ، وذكروا ـ أيضاً ـ أنَّ الهلوع تفسره الآيتان بعده ، فهو الجزوع عند الشر ، والمنوع عند الخير ، وهو تفسير سديد ، والسياق يناسبه) (٣).

الهلع من الصفات المتأصلة في بني البشر ، فالإنسان بطبعه يجزع ويتضجر إذا مسه شر ، ويلاحظ ذلك بوضوح عندما يحل به مرض ، أو فقر ، أو ما شابههما ،

__________________

(١) المعارج ٧٠ : ١٩ ـ ٢٢.

(٢) لسان العرب.

(٣) تفسير الميزان ٢٠ / ١٣.

٤٠١

ويكون حريصا عندما يمسه الخير فيكون في حالة من الغنى ، والرفاه ، والسعة ، شحيحاً على المال ، ولكن المؤمنين الذين عبَّر الذكر الحكيم عنهم بالمصلين ، لمداومتهم على الصلاة ، واستزادتهم منها ، يتصفون بالصبر عند الشدائد ، فيسلمون أمرهم إلى الله عزوجل ، فلا يصيبهم هلع ، ولا جزع ، ولا يتصفون بالشح ومنع المال ، بل يُخرجون من أموالهم ما فرض الله تعالى عليهم من حقوق ، ويجتهدون في إسعاد المعوزين من الناس بما يبذلونه لهم مما رزقهم الله تعالى ، يبتغون بذلك وجهه ، ولا شك أنَّ المؤمنين يتفاوتون في ذلك كل حسب درجة إيمانه.

والرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيه وصنوه المرتضى عليه‌السلام هما أكمل المؤمنين إيماناً ، وهما أكمل الأفراد الذين تصدق عليهم هذه الآية الكريمة ، حتى كأنَّهما مخصوصان بهذا الإستثناء دون غيرهما ، وسيرتهما خير دليل على ذلك ، ولم أجد فيما لدي من المصادر رواية تخصص نزول هذه الآية الكريمة فيهما ، وما نصَّ عليه الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة كافٍ لمن اتبع هدى أهل البيت عليهم‌السلام.

وكل ظالم هو متردد في الضلال ، متحير ، غير مهتدٍ للحق ، جائر عن القصد ، فكيف بمن ظلم صنو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه ، ومن كان منه بمنزلة الرأس من الجسد ، والذراع من العضد ، ووليه ، والذاب عن حوضه ، إلى غير ذلك مما حباه الله عزوجل من فضل؟! وهو يعلم بما جاء في فضله في الكتاب العزيز والسنة الشريفة ، مع قرب العهد ، ووضوح الحجة والدليل.

٤٠٢

سَهمُ ذوي القربى

«ثمَّ أفرضوك سهم ذوي القربى مكراً ، وأحادوه عن أهله جوراً ، فلما آل الأمر إليك أجريتهم على ما أجريا رغبة عنهما بما عند الله لك ، فأشبهت محنتك بهما محن الأنبياء عليهم‌السلام عند الوحدة وعدم الأنصار» :

اللغة : أفرضوك : قطعوا عنك.

أحادوه : حاد عن الشي ، يحيد حيوداً : مال عنه ، وعدل (١).

بعد أن أخذ أبو بكر فدكاً من البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام ، قطع عن أهل البيت عليهم‌السلام سهم ذوي القربى ، وقد أوجب الذكر الحكيم هذا السهم في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّـهِ ... الآية)(٢).

يتفق المسلمون أنَّ المقصود بـ (ذي القربى) في الآية الكريمة هم : آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرض الله تعالى لهم هذا السهم ، وحرَّم عليهم الصدقة إكراماً لهم لصلتهم النَسَبيَّة به ، وروى الحاكم الحسكاني بسنده عن الإمام علي عليه‌السلام في تفسير هذه الآية الكريمة ، قال : «لنا خاصة ، ولم يجعل لنا في الصدقة نصيباً ، كرامة أكرم الله نبيه وآله بها ، وأكرمنا عن أوساخ أيدي المسلمين» (٣) ، وروى الطبري بسنده

__________________

(١) الصحاح.

(٢) الأنفال ٨ : ٤١.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٢٨٥ وروي نزولها فيهم عن مجاهد وابن عباس.

٤٠٣

عن مجاهد ، قال : كان آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تحل لهم الصدقة ، فجعل لهم الخمس ، وروي نزولها فيهم عن ابن عباس ، وعن علي بن الحسين عليه‌السلام (١).

وقد اختلف الشيعة والسنة في عدد أسهم الخمس ، كما اختلفوا في مستحقيها ، واختلفوا في ما يجب فيه الخمس :

فالشيعة يرون أنَّ الخمس ينقسم إلى ستة أسهم ، هي : سهم الله عزوجل ، وسهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذان السهمان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسهم ذوي القربى يعود للإمام ، فتكون الأسهم الثلاثة للإمام عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأسهم الثلاثة الأخرى : لليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل من آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة.

وهذا التقسيم ينسجم مع ظاهر الآية الكريمة ، وأحكامه مأخوذة من أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم أهل الذكر الذين أمرت الأمة باتباعهم ، والإقتداء بسيرتهم ، ويفتي علماء الشيعة ـ استناداً لأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ـ أنَّ الخمس يجب في الفائض من أرباح جميع الواردات من التجارة ، والصناعة ، والمعادن ، والزراعة ، والخدمات ، لأنَّ الغنم في اللغة يعني كل كسب (٢).

أما السنة فيرون أنَّ الخمس ينقسم إلى خمسة أسهم ، هي : سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسهم ذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل ، واختلفوا في كيفية توزيع هذه الأسهم وفي إلغاء بعضها ، أو إلغائها بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل الخمس كله لولي الأمر يتصرف به حسب اجتهاده ، كما يرون أنَّ الخمس يختص بغنائم الحرب ، ولا يتعداها ، ويتمسكون بروايات تنص على أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان

__________________

(١) جامع البيان ١٠ / ٨ وما بعدها.

(٢) راجع تفاصيل ذلك في التبيان ٥ / ١٢٢ ، مجمع البيان ٤ / ٤٦٧ ، الميزان ٩ / ١٠٣ وسائر كتب التفسير والفقه عند الشيعة.

٤٠٤

يختص لنفسه من الخمس بسهم ، ويعطي ذوي قرباه سهماً آخر ، وآنَّ أبا بكر جعل هذين السهمين للمسلمين ، فحجب عن أهل البيت عليهم‌السلام سهم ذوي القربى (١).

وبعد ثبوت دفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهم ذوي القربى لأهل البيت عليهم‌السلام عند الشيعة والسنة ، فإنَّ قطعه عنهم ، مقترنا بمنع الزهراء عليها السلام ميراثها من سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسلب نحلتها من أبيها ـ فدك ـ وقد احتجت ، وأقامت البيِّنة ، واستدلت بالكتاب العزيز ، وبالسنة الشريفة على ثبوت حقها ، فكان عدم إذعان القوم لمطالبها مكرٌ منهم ، أظهروا فيه حرصهم على الأمة ، فأضافوا لبيت المال ما ليس من وارداته التي شرَّعها الله تعالى على حساب حقوق أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنَّ ذلك يستلزم ثنيهم عن المطالبة بحقهم المغتصب بالخلافة ، ومن منع الحق أهله ، وحجبه عنهم دون مسوغ شرعي فهو جائر ، لأنَّ الحق وسنن العدل تقتضي إعطاء كل ذي حق حقه ، وكل ما خالف ذلك فهو جور.

علي عليه‌السلام والحق المغتصب :

غصبت فدك من الزهراء عليها السلام ، وحجب عن أهل البيت عليهم‌السلام سهم ذوي القربى بأمر من أبي بكر ، وبدعم ومساندة وتأييد من عمر ، واستمر ذلك إلى نهاية عهد عثمان ، وكان ما يرد من هذين الموردين يصرف في شؤون المسلمين في عهد الشيخين ، ولكن عثمان الذي أمضى حكمهما في حجب هذين الموردين عن أهل البيت عليهم‌السلام ، تصرف بأسلوب مختلف ، فقد كان يدفع هبات كبيرة من أموال الخمس ، فقد أعطى الخمس كله مرة لمروان بن الحكم ، وأقطعه فدك ، وهو طريد

__________________

(١) راجع تفاصيل ذلك في : تفسير القرطبي ٨ / ١١ وما بعدها ، جامع البيان ١٠ / ٥ وما بعدها ، النص والإجتهاد ٩٧ نقلاً عن الكشاف في تفسير الآية.

٤٠٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن طريده (١).

عاد الحق إلى نصابه ، واختار المسلمون للخلافة من اختاره الله عزوجل لها ، فأصبح كل من السهم وفدك تحت تصرف الإمام علي عليه‌السلام ، فلم يغير شيئاً ، بل كان يصرف ما يرد منهما في شؤون المسلمين ، رغبة عنهما بما عند الله تعالى من الأجر ، هذا ما يفهم من نص الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة ، ولو راجعنا سيرة الإمام علي عليه‌السلام وجدناها تتفق مع هذا النص ، فقد كان ينفق كل ما يملك في سبيل الله تعالى ، ويؤثر الفقراء والمساكين على نفسه ، وقد جعل ريع الأراضي التي استصلحها في ينبع وغيرها وقفا على فقراء المسلمين ، ولم يجعل لورثته منها إلّا ما يكفي لمؤونتهم.

وقد يقال : أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لم يتصرف بفدك والسهم أيام خلافته تقيَّة ، وإنَّ الظروف لم تكن مواتية للتصرف بهما خلاف ما تصرف بهما سابقيه ، فهذا تعليل بعيد ، قد يعبر عن سبب ثانوي ، ليس هو بالضرورة تفسيراً لما تصرف به الإمام عليه‌السلام ؛ لأنَّه لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا تثنيه عن إحقاق الحق معارضة معارض ، وهو الذي يملك زمام الأمور ، وبيده التغيير ، ولكن الأشبه بسيرته إيثار المعوزين.

محنة علي عليه‌السلام :

تظافر الشيخان على صرف الخلافة عن الإمام علي عليه‌السلام بعد وفاة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث استغلا فرصة انشغال الإمام علي عليه‌السلام وبني هاشم بغسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجهيزه ، فلم يُحضِراهم للتشاور في أمر الخلافة ، ودبَّرا أمرهما على حين غرة ، فكان ما كان من حرمانهم من سهم ذوي القربى ، وانتزاع فدك من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٩٨ ، الغدير ٨ / ٢٣٦ نقلاً عن مصادر عديدة من كتب السنة المعتبرة.

٤٠٦

الزهراء عليها‌السلام.

وكان إقصاء الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة ـ وهي حقه الشرعي الذي نصبه الله تعالى بها ـ محنة ، وقد استمرت هذه المحنة يوم أوصى أبو بكر بالخلافة إلى عمر ، وأراد لها عمر أن تستمر عندما وضع مبدأ الشورى قبيل وفاته ، ليقصيه عنها ثالثة ، وبصورة غير مباشرة.

لم يكن للإمام علي عليه‌السلام من الأنصار العدد الكافي ، لينتزع حقه في الخلافة من غاصبيه بالقوة ، يقول ابن قتيبة : (وخرج علي كرم الله وجهه ، يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابة ليلاً في مجالس الأنصار ، تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنَّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول علي كرم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته ، لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!. فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم) (١). كان هذا موقف الأنصار ، أما المهاجرون فكان أغلبهم يؤيدون موقف الشيخين.

وعلى الإجمال فلم يكن مع الإمام علي عليه‌السلام إلّا نفر يسير جداً من الصحابة والهاشميين ، فاضطر للسكوت عن حقه ، يقول عليه‌السلام : «فنظرت ، فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي ، فظننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرّ من طعم العلقم» (٢). ودخل عليه المقداد ـ يوم بويع عثمان ـ فقال : قم ، فقاتل ، حتى نقاتل معك. قال علي : فبمن أقاتل ، رحمك الله؟!. وأقبل عمار بن ياسر ينادي :

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٩.

(٢) نهج البلاغة ١ / ٦٧.

٤٠٧

يا ناعي الإسلام ، قم ، فانعه

يا ناعي الإسلام ، قم ، فانعه

قد مات عزٌّ ، وبدا نكر

أما والله لو أنَّ لي أعواناً لقاتلتهم ، والله لئن قاتلهم واحد ، لأكونن ثانياً.

قال علي : «يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعواناً ، ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون» (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٥٥.

٤٠٨

علي عليه‌السلام والهجرة

«وأشبهت في البيات على الفراش الذبيح عليه‌السلام إذ أجبت كما أجاب ، وأطعت كما أطاع إسماعيل ، صابراً محتسباً ، إذ قال له : * (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١) * وكذلك أنت لما أباتك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمرك أن تضجع في مرقده ، واقياً له بنفسك ، أسرعت إلى إجابته مطيعاً ، ولنفسك على القتل موطنا ، فشكر الله تعالى طاعتك ، وأبان عن جميل فعلك ، بقوله جل ذكره : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)(٢) *» :

اللغة : يشري : شريت الشيء ، أشريه ، شراءً : إذا بعته ، وإذا اشتريته ـ أيضا ـ (وهو من الأضداد) ، قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ): أي يبيعها (٣).

يُبتلى الإنسان خلال حياته باختبارات كثيرة ، إذ تحل به أنواع من المحن ، والرزايا ، والكوارث ، ويقتحم هو كثيراً من الصعاب لغاية أو لأخرى ، والناس يختلفون في معالجة المواقف الصعبة التي تمرّ بهم بين من يقابلها بالجزع ، فيظهر عليه الوهن والفشل منذ اللحظة الأولى لابتلائه بها ، وبين من يقابلها بالصبر

__________________

(١) الصافات : ١٠٢.

(٢) البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٣) الصحاح.

٤٠٩

والثبات ، فيسلّم أمره إلى الله تعالى ، معتقداً أنَّ المخرج بيده ، وهو المعين على تجاوز الصعاب ، والأمور كلها خاضعة لقدرته وإرادته ، وهو العالم بالمصالح ، فلا راد لحكمه ، وهو أحكم الحاكمين.

وكل المؤمنين من الصنف الثاني ، وإن اختلفوا في درجات الصبر والتحمل كل حسب إيمانه ، ويتحلى الأنبياء وأوصياؤهم بأعلى درجات الصبر والتحمل ، فإبراهيم أبو الأنبياء ، وابنه إسماعيل عليهما‌السلام قد مرّا باختبار صعب ، يعتبر أشد الإختبارات صعوبة ، وعسراً ، وإيلاماً للنفس.

بين إسماعيل عليه‌السلام وعلي عليه‌السلام :

اُمر إبراهيم بذبح ولده إسماعيل عليهما‌السلام ، فاستدعاه ، وأبلغه بما أمر الله تعالى فيه ، فلم يجد منه سوى التسليم والإمتثال ، فقد استجاب إسماعيل عليه‌السلام لأمر الله تعالى بكل رحابة صدر ، لم يتردد ، ولم يرهبه الموت ، ما دام ذلك استجابة لأمر الله تعالى ، وإرادته ، وهو الذي اختار له هذه الميتة ، وفيها رضاه.

ووقف إسماعيل عليه‌السلام ينظر إلى أبيه نظرة وداع وهو يشحذ مديته ، منتظراً بثبات ورباطة جأش تنفيذ ما أمر الله تعالى به ، وأضجعه أبوه على الأرض ، ووضع المدية على رقبته ، ليفرغ من تكليفه الشرعي ، ولكن المدية لم تصنع شيئاً ، فقد شاءت إرادة الاله عزوجل أن ينجي إسماعيل من مدية أبيه ، بعد أن مرّا باختبار حققا فيه أعلى درجات الطاعة لله تعالى والإذعان لحكمه ، ففداه الله بذبح عظيم ، وامتثل إبراهيم أمر ربه مرة أخرى ، فرفع المدية عن رقبة إسماعيل ، وانجلت بذلك محنتهما ، وبقيت قصتهما هذه عبرة ، تحدث بها الذكر الحكيم ، يتلوها المؤمنون ليل نهار ، ليتعلموا منها أنَّ أمر الله عزوجل فوق كل اعتبار ، وأنَّه يجب تنفيذه بدون تردد ،

٤١٠

مهما كانت النتائج.

والإمام الهادي عليه‌السلام يشبِّه موقف جده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموقف أبيه الوصي عليه‌السلام يوم الهجرة بموقف أبويهما إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، ووجه الشبه بين الموقفين هو أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرعى الإمام علياً عليه‌السلام ، ويتكفله منذ طفولته ، فهو بمنزلة ابنه ، بل كان أكثر شفقة عليه من الأب على ابنه.

وكما كان إبراهيم يريد امتثال أمر الله تعالى بقتل ابنه ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّف الإمام علياً عليه‌السلام بما يواجه به خطر الموت امتثالاً لأمر الله تعالى ، فاستجاب الإمام علي عليه‌السلام بدون تردد ، ممتثلاً أمر الله تعالى ، مستسلماً لإرادته ، كما امتثل إسماعيل عليه‌السلام ، موطناً نفسه على القتل ، ليقي بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكما نجا إسماعيل في اللحظة الحاسمة ، نجا الإمام علي عليه‌السلام من القتل بإرادة الله تعالى ومشيئته.

موقف علي عليه‌السلام يوم الهجرة :

عندما اتفق المشركون على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن هاجر بعض أصحابه إلى المدينة المنورة ، وانتشر فيها الدين الإسلامي الحنيف ، فكانت خطتهم تقضي بأن يجتمع على قتله من كل قبيلة رجل ، ويُجْهزوا عليه ليلاً في داره ، فيضيع دمه بين القبائل ، ويعجز بنو هاشم من الطلب بدمه.

أراد المشركون أن يطفئوا نور الله تعالى ، وأبى الله إلّا أن يتم نوره ، قد خططوا ، فأحكموا خطتهم ، وأحاطوا بدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلاً ، لينفذوا خطتهم تحت جنح الظلام ، ونزل الوحي يخبره بما دبروا له ، ويأمره بأن لا يبيت في داره ، وأن يغادر مكة سرّاً ، ليهاجر إلى المدينة.

٤١١

كان لابد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخطط لخروجه من بينهم ، فيبقي مكانه أحداً ، حتى لا يشعر المشركون بخروجه ، فيفسد عليه أمره ، وكانت عنده لبعض أهل مكة أمانات ، لابد أن يودعها عند من يأتمنه ، لإعادتها إلى أهلها ، ولابد أن يعهد لمن يرعى عائلته ، وينقلها إلى دار هجرته.

ومما لاشك فيه أنَّ من يمكث مكانه سيتعرض للخطر ، إذ سيُجْهز عليه المشركون في الوقت الذي يرونه مناسباً لذلك ، فإن شعروا بما حدث من تدبير ، وذهلوا عن قتله بالبحث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنَّه سوف لا يسلم من الأذى والتعذيب ، لأنَّه فوَّت عليهم الفرصة ، فأفشل ما خططوا له ، وهم يطمعون أن يدلهم عليه ، ويخبرهم بالجهة التي توجه إليها ، ويصبح هو الخصم الذي ساعده على النجاة من مكرهم ، وفي ذلك ما يكفي للإنتقام منه.

كانت مهمة من يبيت على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة مهمة بالغة الصعوبة ، وليس للمهمات ، والشدائد ، والصعاب سوى المرتضى الكرار عليه‌السلام ، فاستدعاه ، وبيَّن له ما خطط له القوم ، وعرض عليه ما عزم عليه ، وبيَّن له الواجبات التي تلقى على عاتقه ، فاستجاب الإمام علي عليه‌السلام لأمر الله تعالى ، ولأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون تردد ، مصمما على إنجاز ما عهد به إليه من المهمات على أكمل وجه ، وأحسنه ، حتى لو كلفه ذلك حياته.

خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسار حتى بلغ مأمنه ، بينما اضطجع الإمام علي عليه‌السلام في مضجعه ، وكان المشركون يتسورون الدار ، فيجدونه مضطجعاً في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متشحاً ببرده الحضرمي ، فيقذفونه بالحجارة ، وكان يتحمل الألم ، ولا يتحرك من مكانه ، كي لا يشعروا بخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيتركوا الدار ، ويذهبوا للبحث عنه.

٤١٢

وما إن حان الموعد الذي اتفقوا عليه ، واقتحموا الدار لينفّذوا جريمتهم التي خططوا لها ، نهض بوجههم الإمام علي عليه‌السلام كما ينتفض الأسد من عرينه ، فأذهلهم الموقف ، وشعروا بالخيبة ، وكما حفظ الله تعالى إسماعيل عليه‌السلام من الذبح ، فلم تؤثر فيه مدية أبيه ، فقد حفظ علياً عليه‌السلام من كيد المشركين ، فذهلوا عن إنزال الأذى به.

بقي الإمام علي عليه‌السلام في مكة المكرمة ثلاثاً ، أدى فيها ما كلفه به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأوصل الأمانات إلى أهلها ، ورعى عائلته ثم غادر بها مكة المكرمة ، ليلحق بركبه المتجه نحو المدينة المنورة.

وإذا كان هذا الموقف قد جسّد مظهراً من مظاهر تضحية الإمام علي عليه‌السلام التي تنم عن رسوخ عقيدته ، وكمال إيمانه ، وطاعته لله تعالى ، وهو يمثل الإستسلام والإنقياد التام ، لأمر الله تعالى ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون اكتراث بالمخاطر ، بل ببذل النفس في سبيل الله تعالى.

شكر الله تعالى سعي الإمام علي عليه‌السلام وبذله ، فأنزل فيه قرآناً يتلوه المؤمنون جيلاً بعد جيل ، يبين فيه فضله ، قال عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)(١) ، يقول الإسكافي في رده على الجاحظ ما نصه : (وقد روى المفسرون كلهم أنَّ قول الله تعالى : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)* اُنزلت في علي عليه‌السلام ليلة المبيت على الفراش) (٢).

وروى الحاكم الحسكاني بإسناده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : (لما أُسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد بالغار ـ بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٠٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦٢.

٤١٣

أطول من الآخر ، فأيُّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟. فكلاهما اختاراها ، وأحبا الحياة ، فأوحى الله إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟. آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبات على فراشه ، يقيه بنفسه ، إهبطا إلى الأرض ، فاحفظاه من عدوه ، فكان جبريل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ .. بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، الله عزوجل يباهي بك الملائكة ، فأنزل الله تعالى : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)*) (١).

وقد روى نزولها فيه عبد الله بن عباس (٢) ، والسدي (٣) ، والإمام علي بن الحسين (٤).

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ١٢٢ ، الغدير ٢ / ٤٨ ، فضائل الخمسة ٢ / ٣١٠ ، كفاية الطالب ٢٣٩.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٦٧ ، شواهد التنزيل ١ / ١٢٧ ، كفاية الطالب ٢٣٩ ، ينابيع المودة ١ / ٢٧٤.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ١٢٩.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ١٣٠ ، فضائل الخمسة ٢ / ٢١٣.

٤١٤

رفع المصاحف في صفين

«ثمَّ محنتك يوم صفين ، وقد رُفعت المصاحف حيلة ومكراً ، فأعرض الشك ، وعزف الحق ، واتبع الظن ، أشبهت محنة هارون ، إذ أمَّره موسى على قومه ، فتفرقوا عنه ، وهارون ينادي بهم ، ويقول : * (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ)(١) * وكذلك أنت لما رفعت المصاحف ، قلت : يا قوم إنَّما فتنتم بها ، وخُدِعْتُم. فعصوك ، وخالفوا عليك ، واستدعوا نصب الحكمين ، فأبيت عليهم ، وتبرَّأت إلى الله من فِعلهم ، وفوَّضته إليهم» :

اللغة : أعرض : ظهر. عُزفَ : زُهدَ فيه ، وانصُرف عنه (٢).

إستمر القتال في صفين مدة طويلة بين جيش الإمام علي عليه السالم ، وبين جيش معاوية ، وقد قاتل الجانبان قتالاً شديداً ، لا هوادة فيه ، وكان القتال على أشده ليلة الهرير ، فقد بدأ من الظهيرة ، واستمر طيلة تلك الليلة حتى الصباح دون انقطاع ، وكان لمالك الأشتر رضوان الله عليه موقف مشهود ، وأثرٌ كبير في تقدم جيش الإمام علي عليه‌السلام ، حتى صار يقاتل في معسكر أهل الشام. وفي هذه الليلة خطب الإمام علي عليه‌السلام الناس يحضرهم على القتال ، فقال : «أيها الناس .. قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلّا آخر نفس ، وإنَّ الأمور إذا أقبلت إعتبر

__________________

(١) طه ٢٠ : ٩٠ ـ ٩١.

(٢) لسان العرب.

٤١٥

آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين ، حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عزوجل» (١).

وعندما بلغ قول الإمام علي عليه‌السلام معاوية ، عرف أنَّه مصمم على حسم الأمر غداً ، فأحس بالخطر لأنَّ جيشه فقد معنوياته ، وأصبح على وشك الإنهيار والهزيمة ، فدعا عمرو بن العاص ليشاوره ، فقال له : يا عمرو ، إنَّما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفيصل ، فما ترى؟. قال : إنَّ رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على غيره ، أنت تريد البقاء ، وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون علياً إن ظفر بهم ، ولكن إلق إليهم أمراً ، إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ، إدعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم ، فإنَّك بالغ به حاجتك في القوم ، وإنّي لم أزل اُؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فعرف معاوية ذلك ، وقال : صدقت (٢).

أمر معاوية جيش الشام برفع المصاحف على الرماح في صباح اليوم التالي ، فرُفع خمسماءة مصحف على أطراف الرماح ، ونادى مناديهم : يا معشر العرب ، الله .. الله في نسائكم وبناتكم من الروم ، والأتراك ، وأهل فارس غداً إذا فنيتم. الله .. الله في دينكم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال الإمام علي عليه‌السلام : «اللهم إنَّك تعلم أنَّهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنك أنت الحكم الحق المبين» (٣).

اختلف جيش الإمام علي عليه‌السلام ، فانقسموا إلى طائفتين : طائفة تصرّ على

__________________

(١) وقعة صفين ٤٧٦.

(٢) وقعة صفين ٤٧٦.

(٣) وقعة صفين ٤٧٨.

٤١٦

الإستمرار في القتال حتى يتحقق النصر : وهؤلاء هم أهل البصائر من المهاجرين ، والأنصار ، وفي طليعتهم الهاشميين ، ومن تبعهم من الأنصار ، كانوا على معرفة تامة بسلامة موقف الإمام علي عليه‌السلام ، وأنَّ القتال معه كالقتال مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعرفون زيف معاوية ، وعمرو بن العاص ، وخروجهما على الخليفة الشرعي ، وما يتصفان به من مكر وخداع.

وطائفة أخرى خُدِعت برفع المصاحف : وهؤلاء لم يكونوا على بصيرة ؛ فعرض لهم الشك ، وزهدوا فيما جهلوا من الحق ، فاتبعوا الظن ، ولم ينفع معهم النصح ، فتركوا القتال ، وأخذوا ينادون : المحاكمة إلى الكتاب ، لا يحل لنا الحرب ، وقد دعينا إلى حكم الكتاب (١).

بين علي عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام :

عندما خرج موسى عليه‌السلام إلى المناجاة ، استخلف أخاه هارون عليه‌السلام على أمته ، وطال غيابه ، فتأخر عن موعد العودة ، فصنع السامري عجلاً من الحلي ، له خوار كصوت العجل ، ودعاهم لعبادته مستغلاً تأخر موسى عليه‌السلام عن موعد العودة ، فأضَلَّ بالعجل أمة موسى عليه‌السلام ، فاتبعوا السامري ، وتفرقوا عن هارون عليه‌السلام ولم يلتفتوا لنصحه حيث قال لهم : (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)(٢) ، ولكنهم لم يتركوا عبادة العجل ، إذ عميت بصائرهم من الجهل ، وأصرّوا على الإستمرار بعبادته حتى يرجع إليهم موسى عليه‌السلام ، فكانت المحنة بهم ، وبعبادتهم عظيمة على هارون عليه‌السلام ، وهو يراهم يتركون عبادة الله تعالى ،

__________________

(١) وقعة صفين ٤٧٩.

(٢) طه ٢٠ : ٩٠.

٤١٧

ويتمسكون بعبادة العجل.

لقد دعا الإمام علي عليه‌السلام معاوية إلى حكم القرآن مراراً ، قبل أن تنشب الحرب بينهما ، ليتفادى إراقة الدماء ، محاولاً الحفاظ على وحدة الأمة ، وجمع شملها ، بينما كان معاوية يعلم أن ليس له في حكم الكتاب شيٌ يكسبه ، فتمرد ، وأبى إلّا العناد ، ومخالفة الحق ، والخروج على إمام العدل ، والخليفة الشرعي ، وأصرَّ على تعنته وغيِّه.

خالف معاوية الكتاب ، ولم يرض بحكمه ، فأشعل نار الحرب ، وعندما رأى أنَّ جيشه بدأت عليه علامات الإنهيار ، والضعف عن القتال ، فأصبح غير قادر على الصمود والمقاومة ، وأيقن أنَّه سيُغلَب إذا استمرت المعركة على الوتيرة التي كانت تستعر فيها ، تظاهر بالدعوة إلى حكم الكتاب ـ عملاً بمشورة عمرو بن العاص كما مرّ ـ ، فأمر برفع المصاحف ، ولم يفعل ذلك إذعاناً لحكم الكتاب العزيز ، بل فعله لما يقتضيه الموقف من حيلة ومكر ، ليوقف الحرب بإيقاع الخلاف بين جيش الإمام علي عليه‌السلام ، ولم يكن له مخرج من ذلك المأزق سوى هذه الحيلة.

انطلت حيلة معاوية ، وابن العاص هذه على غالبية جيش العراق ، وكان في الجيش عدد من الخونة والذين يحابون معاوية للنيل من دنياه ، ومن هؤلاء الأشعث بن قيسي الذي ردَّ على المتحمسين للقتال المصرين عليه ، فخاطب الإمام علياً عليه‌السلام ، وقال : (يا أمير المؤمنين ، إنّا لك اليوم على ما كنّا عليه أمس ، وليس آخر أمرنا كأوَّله ، وما من القوم أحدٌ أحنى على أهل العراق ، ولا أوتر على أهل الشام منّي ، فأجب القوم إلى كتاب الله ، فإنَّك أحق به منهم ، وقد أحب الناس البقاء ، وكرهوا القتال) (١).

__________________

(١) وقعة صفين ٤٨٢.

٤١٨

بهذا المنطق الزائف وقف الأشعث يخذل الناس عن الإمام علي عليه‌السلام ، وكأنَّه يحرضهم على التمرد ، وإلّا ، فمتى أحب الناس البقاء ، وكرهوا القتال؟! وهم منذ أيام يتبادلون الكرَّ والفر مع جيش العدو ، أحينما قضوا ليلتهم تلك في قتال شديد ، وأصبحوا وقد آن لهم أن يحققوا النصر الساحق ، ويقطفوا ثمار ما بذلوا من جهد؟! أم حينما بان الفرع والوهن على جيش الشام ، واقترب من الهزيمة؟!. ولكنَّها الأحقاد الكامنة ، والأطماع بما عند معاوية ، دفعت الرجل لهذا الموقف ، فأجابه الإمام عليه‌السلام : «هذا أمرٌ ينظر فيه» ، وقد أثَّر موقف الأشعث في الجيش ، واستجاب له كثيرون ، ونادى الناس من كل جانب : الموادعة (١) ، لقد نادى بهذا النداء من خُدعوا ، فلم يستطيعوا أن يميزوا بين صريح الحق وزيف الباطل ، فأيدوا دعوة الضلال ، وتفرقوا عن سيد الأوصياء ، ومن هنا يتضح وجه الشبه بين موقفه عليه‌السلام ، وموقف هارون عليه‌السلام ، إذ تفرق عنهما قومهما إثر دعوة ضلال.

وجد الإمام علي عليه‌السلام نفسه أمام وضع محيِّر ، فحاول أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه ، فخاطب القوم ، وهو يسدي لهم النصح ، ويضع أمامهم الحقائق ، قائلاً : «عباد الله ... إنّي أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ، ولا قرآن. إنّي أعرَف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، ورجالاً ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال.

إنَّها كلمة حق يراد بها باطل ، إنَّهم والله ما رفعوها أنَّهم يعرفونها ، ويعملون بها ، ولكنَّها الخديعة ، والوهن ، والمكيدة .. أعيروني سواعدكم ، وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلّا أن يقطع دابر الذين ظلموا». فجاءه زهاء

__________________

(١) راجع شرح نهج البلاغة ٢ / ٢١٦.

٤١٩

عشرين ألفاً سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القرّاء ، الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه ، لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله ، إذ دعيت إليه ، وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فوَ الله لنفعلنَّها إن لم تجبهم (١).

وعاد الإمام علي عليه‌السلام : إلى نصحهم ، فقال : «أنا أول من دعا إلى كتاب الله ، وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله ، فلا أقبله ، إنّي إنَّما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنَّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكني قد أعلمتكم إنَّهم قد كادوكم ، وإنَّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون (٢)».

لقد نصح الإمام علي عليه‌السلام القوم ، وبيَّن لهم وجه الحق ، وأوضح حقيقة ما يجري بجلاء ، وألفت نظر الجميع إلى الواقع ، إذ لم يبق ما يغيب عن الأذهان ، بعد أن أبان لهم وجه الحيلة في رفع المصاحف ، وكشف قناع الزيف الذي تستر به كل من معاوية ، وابن العاص ، ولكن القوم أعماهم الغي ، وأصمهم ، فلم يعوا ما أوضحه لهم ، ولم يسترشدوا بما أرشدهم إليه ، واندفعوا مستجيبين لدعوة الباطل.

وبينما كان مالك الأشتر يقاتل في معسكر أهل الشام ، وقد قارب النصر ، اجتمعوا على الإمام علي عليه‌السلام ، فأكرهوه بالتهديد والوعيد على إرجاعه ، ومنعه من القتال ، ثم تطورت الأمور ، فأفلت زمامها من يده عليه‌السلام ، واجتمع قرّاء المصرين ـ العراق ، والشام ـ بين الصفين ، واتفقوا فيما بينهم ، فأعلنوا أن يحيوا ما أحيا القرآن ، ويميتوا ما أمات القرآن ، ولكن الفريقان أماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات

__________________

(١) وقعة صفين ٤٨٩.

(٢) وقعة صفين ٤٨٩.

٤٢٠