شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

إنَّ الإستهتار بأمور الدين بالدرجة التي بلغها معاوية تدل على كفره ، وتؤكد أنَّه جاحد للرسول صلى الله عليه وآله وسل ورسالته ؛ لأنَّه جدَّ واجتهد ، وبذل ما في وسعه لمخالفة ما جاء به ، والعمل على إشاعة البدعة ، وإماتة السنة ، وهو يدعي مع ذلك خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمثيله ، والقيام مقامه في الأمة ، وليس أدل على دعوة الباطل عند معاوية من إعلانه العصيان على الخليفة الشرعي الذي تمت له البيعة ، وتحريضه أهل الشام على قتاله بدعوى التحريض على قتل عثمان وإيواء قاتليه ، وتظاهره بالطلب بدمه بعد أن خذله في حياته.

خدعة معاوية :

اتخذ معاوية دعوى الثأر وسيلة للعصيان ، والتمهيد للتوصل إلى الخلافة ، فجمع حوله أهل المطامع ، وموَّه على المغفلين ، فدعا أهل الشام لبيعته مع قيام البيعة للخليفة الشرعي الذي نص عليه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبايعه المسلمون ، ويعتقد جميع المسلمين بصحة خلافته ، فالشيعة يعتقدون أنَّه الخليفة المعين بالنص بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بلا فصل ، والسنة يعتقدون أنَّ الخلافة انعقدت له بالبيعة الصحيحة بعد مقتل عثمان ، ويتفق المسلمون على عدم جواز وجود خليفتين في وقت واحد ، ويرون أنَّ من تمت له البيعة أولاً هو الخليفة الشرعي ، وعلى هذا فمعاوية لا تصح له ولاية على الشام لأنَّ الخليفة الشرعي لم يقره عليها ، بل أمره بالتنحي ، فتمرَّد ، ولم تصح له خلافة لوجود خليفة شرعي تمت له البيعة ، فهو غاصب في تأمره على الشام ، وكان جائراً في حكمه ، لتمرده على الخليفة الشرعي ، ولما مر من مخالفاته الصريحة للكتاب والسنة.

ويرى الشيعة أنَّ معاوية ومن جاء بعده من الخلفاء الأمويين والعباسيين

٣٨١

لا تصح لهم خلافة ، وأنَّهم غاصبون في تسلطهم على أمور المسلمين ؛ لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على خلافة الإمام علي عليه‌السلام من بعده ، كما نصّ على الأئمة الأحد عشر عليهم‌السلام من ذرية الإمام علي عليه‌السلام ، والخلافة لا تصح إلّا بنصٍّ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو المعصوم الذي تمَّ تعيينه بالنص. ن

إنَّ كل دعوتين متضادتين تتصارعان على أمر ، لابد أن تكون إحداهما على الحق ، والأخرى على الباطل ، وللتمييز بين الحق والباطل معايير متختلف باختلاف طبيعة كل دعوة وظروفها ، وممّا تقدم عرفنا أنَّ معاوية داعية ضلال ، وأن دعوته دعوة باطل ، وكان حزب معاوية عوناً للباطل والضلال على الحق والهدى ، لإصرارهم على ذلك بعد قيام الحجة ، ووضوحها بما احتج به عليهم الإمام علي عليه‌السلام وخيار أصحابه ، وبذلك كان معاوية يدعوهم إلى النار ، ويقودهم إليها ، لإيثارهم الباطل على الحق الصريح.

٣٨٢

عمار بن ياسر

«وعمار يجاهد ، وينادي بين الصفين : الرواح .. الرواح إلى الجنة ، ولمّا استسقى فسُقيَ اللبن ، كبَّر ، وقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية ، فاعترضه أبو العادية الفزاري فقتله ، فعلى أبي العادية لعنة الله ، ولعنة ملائكته ، ورسله أجمعين» :

اللغة : ضَياح الضَياح (بالفتح) : اللبن الرقيق الممزوج (١).

ضمَّ جيش الإمام علي عليه‌السلام في صفين جمع من خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وفيهم من البدريين ، ومن حضر بيعة الرضوان ، وذوي الفضل منهم ، ومن التابعين ، من أمثال : أبي أيوب الأنصاري ، وخزيمة بن ثابت (ذي الشهادتين) ، وعمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وأضرابهم ، بينما ضمَّ جيش معاوية المنافقين ، والمؤلفة قلوبهم ، ومن خرج في الحروب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغرض القضاء على الإسلام من أبناء الأحزاب ، وممن غرّر بهم معاوية ، أو أغراهم ، فباعوا دينهم ، لينالوا من دنيا معاوية ، ولم يكن في جيشه من أهل الدين والورع ، وهذا فارق كبير له أهميته في تقييم طرفي النزاع.

وعمار بن ياسر من السابقين إلى الإسلام ، تحمل الأذى في سبيل الله تعالى ، وشاهد أبويه وهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة تحت وطأة تعذيب المشركين ، ولم

__________________

(١) الصحاح.

٣٨٣

تفارق شفاههما كلمة التوحيد ، فمضيا شهيدين من أجل الثبات على الدين الذي هو جزء لا يتجزأ من كيانهما ، وكان هو الآخر يعذب بأبشع صنوف العذاب ، فلم يعتز لذلك كيانه ، بل ثبت على عقيدته ، ولم يزل يساير الدعوة منذ الأيام الأولى لإعلانها ، وحتى ارتحال الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ومن ملازمته له عرف مكانة الإمام علي عليه‌السلام ، وتفهَّم ما جاء فيه من الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة ، وما ألزما به المسلمين من ملازمته ، ومتابعته ، وعرف أحقيته في الخلافة ، وقد عُرف عمار على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانقطاعه للإمام علي عليه‌السلام ، وملازمته له ، حتى عُدَّ من شيعته ، ولم يزل عمار ثابتاً على تلك العقيدة ، لم يتأثر بكل ما جرى من أحداث ؛ لأنَّه أخذ ما يعتقده من الكتاب العزيز والسنة النبوية ، وهما منبع الوحي الصافي.

وقف عمار يوم صفين موقف البطل المجاهد ، الذي لا تلين قناته ، فكان على كبر سنه (١) يقتحم جيش الشام ، ثم يعود يحرض الناس على القتال ، وكلماته تنم عن بصيرته ، وعمق إيمانه بالقضية التي يدافع عنها ، وثباته على العقيدة الراسخة ، يقف أمام جيش الإمام علي عليه‌السلام فينادي : (الرواح ... الرواح إلى الجنة) (٢) ، ويندفع إلى القتال منادياً : (اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه) (٣) ، ويقول : (والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هَجَر (٤) لعلمنا أنّا على الحق ، وأنَّهم على الباطل) (٥) ،

__________________

(١) يتفق كتاب السير والمؤرخون على أنّ عمره كان ينوف على التسعين عاماً.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٦٣ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٢ ، وقعة صفين ٣٣٩.

(٣) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٤٦٤ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، المستدرك ٣ / ٢٩٤ ، وقعة صفين ٣٤١.

(٤) هَجَر (بفتحتين) : بلد في الحجاز معروف بكثرة نخيله ، يقال : كمُبضِع تمر إلى هَجَر.

(٥) أنساب الأشراف ٣١٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٧ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، المستدرك ٣ / ٣٨٦ ، المناقب ١٢٦ ، وقعة صفين ٣٢٢.

٣٨٤

وعندما نظر إلى راية أهل الشام مع عمرو بن العاص ، قال : (لقد قاتلت هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الرابعة ، وما هي بأبر ولا أتقى) (١) ، ولعل خير ما يوضح لنا رسوخ عقيدته ، وبصيرته في قتال أهل الشام قوله : (اللهم إنَّك تعلم أنّي لو أعلم أنَّ رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر ، لفعلته ، اللهم إنَّك تعلم لو أنّي أعلم أنَّ رضاك في أن أضع ضبَّة سيفي في صدري ، ثمَّ أنحني عليها حتى تخرج من ظهري ، لفعلت ، وإنّي لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم أنَّ عملاً من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته) (٢).

وكان عمار كلما شدَّ على القوم يرتجز قائلاً (٣) :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله

وبينما كان عمار يخوض غمار الحرب ، يقارع الأبطال ، وينازل الأقران ، أصابه جهد ، وأحس بعطش شديد ، فاستسقى ، فسقي ضياح من لبن ، وعندما نظر إليه تذكر ما أخبره به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصاح : الله أكبر ، وراح يردد الحديث النبوي الشريف : «آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، وتقتلك الفئة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣١٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٣٦٢ ، شرح نهج البلاغة ٥ / ٢٥٧ ، المستدرك ٣ / ٣٨٤ ، مسند أحمد ٤ / ٣١٩ ، المناقب ١٩٥ ، وقعة صفين ٣٢١.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٦ ، شرح نهج البلاغة ٥ / ٢٥٣ ، وقعة صفين ٢٢٠.

(٣) أنساب الأشراف ٣١٠ ، شرح نهج البلاغة ١٠ / ١٠٤ ، المناقب ٢٣٣ ، وقعة صفين ٣٤١.

٣٨٥

الباغية» (١) ، وهذا الحديث رواه عدد كبير من الصحابة بألفاظ مختلفة ، وهم في حدود ما اطلعت عليه : أبو أمامة ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو رافع ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو قتادة ، وأبو هريرة ، وأبو اليسر ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وجابر بن سمرة ، وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ، وزياد بن الفرد ، وزيد بن أبي أوفى ، وعائشة ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعمرو بن العاص ، وعمرو بن ميمون ، وكعب بن مالك ، ومعاوية بن أبي سفيان (٢).

وقد اشتهر أمر هذا الحديث في جيش معاوية يوم صفين ، وراجع ذو الكلاع الحميري عمرو بن العاص فيه ، فأجابه : (سيرجع إلينا ، ويفارق أبا تراب! ، فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع ، فقال عمرو لمعاوية : والله ما أدري بقتل أيِّهما أنا أشد فرحاً! والله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار ، لمال بعامة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا أمرنا ـ وفي بعض الروايات : جيشنا ـ) (٣) ، وعندما قتل عمار ، أحدث قتله ضجة في جيش معاوية ، فاستعمل حيلته ليموه عليهم الأمر ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٤٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٤٦٨ ، السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ١٨٩ ، صحيح الترمذي ٥ / ٣٣٣ ، صحيح مسلم ٨ / ١٨٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٩٨ ، المستدرك ٢ / ١٤٨ ، ٣٨٦ ، المعجم الأوسط ٦ / ٢٠١.

(٢) تجد رواياتهم في : الآحاد والمثاني ٣ / ٤٣٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٤ / ٢٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٣ / ٤٣٣ ، ٤٣٥ ، خصائص أمير المؤمنين ١٣٤ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، فضائل الصحابة ٥١ ، فضائل الخمسة ٢ / ٣٧٧ ـ ٣٩٠ ، كنز العمال ١١ / ٧٢٥ و ١٣ / ٥٢٢ و ٥٣٨ ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٤٢ ، ٩ / ٢٩٦ ، مسند أحمد ٢ / ١٦١ ، ٥ / ٢٠٧ ، و ٦ / ٣٠٠ ، ٣١١ ، المعجم الكبير ١ / ٣٢ ، ٥ / ٢٦٦ ، ١٩ / ٣٣١ ، وقعة صفين ٣٤١.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٢٩٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٦٨ / ٢٨ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٤ ، وقعة صفين ٣٤١.

٣٨٦

وليخدعهم ، فقال لهم : (إنَّما قتله من أخرجه) يخدع بذلك طغام الشام (١) ، وما أظن هذه الحيلة تنطلي على ذي لب ، ولكن القوم حليت الدنيا بأعينهم ، فاتبعوا الهوى ، ونصروا الباطل ضد الحق.

وكما اشتهر أمر الحديث في جيش معاوية اشتهر في جيش الإمام علي عليه‌السلام حتى غالى بعضهم ، فادعى أنَّ الصحابة إنَّما قاتلوا معه لوجود عمار في جيشه ، وأنَّ خزيمة بن ثابت ـ ذا الشهادتين ـ حضر الجمل وصفين وهو لا يسل سيفاً ، ينظر من يقتل عماراً ليعرف الفئة الباغية (٢) ، وهذا بعيد عن الواقع ؛ لأنَّ خزيمة بن ثابت رجل ذو بصيرة ، وهو يعرف أنَّ الحق مع علي ، ويميِّز بين دعوة الحق ، ودعوة الضلال ، وكيف يشتبه الأمر بين من ثبتت إمامته بالنص ، وتمت له البيعة ، وبين من نكث البيعة ، وتمرد على الخليفة الشرعي ، هذا وإنَّ مقتضى الحال أن تعرف استقامة عمار ، ولزومه الحق من متابعته للإمام علي عليه‌السلام ، ومن يذهب إلى عكس ذلك فهو مدفوع إمّا بالتعصب أو الجهل.

جاهد عمار بن ياسر بين يدي الإمام علي عليه‌السلام ، وحرّض على القتال معه حتى استشهد ، واختلف فيمن قتله ، فقيل : قتله أبو العادية الفزاري ، وقيل : شاركه غيره ، وقيل غير ذلك ، ولكن المشهور والذي عليه رواية الإمام علي الهادي عليه‌السلام هذه أنَّ الذي تولى قتله هو أبو العادية الفزاري.

روى البلاذري بإسناده إلى حنظلة بن خويلد ، قال : بينما أنا عند معاوية ، إذ

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١١٠ ، البداية والنهاية ٧ / ٢٩٨ ، شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٦ ، وقعة صفين ٢٤٣.

(٢) أسد الغابة ٤ / ٤٧ ، الإصابة ٢ / ٢٤٢ ، تاريخ مدينة دمشق ١٦ / ٣٧٠ ، ٤٣ / ٤٧١ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٢٥٩ ، المستدرك ٢ / ٢٤٠.

٣٨٧

أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : (لتطب نفس كل واحد منكما لصاحبه برأس عمار ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : تقتل عماراً الفئة الباغية) (١).

وروى ابن قتيبة أنَّ عمرواً قال للمتخاصمين في رأس عمار : (والله إن تتنازعان إلّا في النار ، سمعت رسول الله يقول : تقتل عماراً الفئة الباغية) (٢).

ومن قتتل عماراً فإنَّه يتسحق اللعن من الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملائكته ورسله أجمعين ، لأنَّه قتل مؤمناً من خيرة الصحابة ، وقد شهد الذكر الحكيم له بالإيمان مؤيداً شهادة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك في قوله تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)(٣) ، روي في نزولها : (وأما عمار فإنَّه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فاُخبِر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنَّ عماراً كفر ، فقال : «كلّا ، إنَّ عماراً مُليءَ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه ، وقال : «إن عاادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فأنزل الله هذه الآية) (٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣١٢.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ١١٠.

(٣) النحل ١٦ : ١٠٦.

(٤) أسباب النزول ١٩٠ لباب النقول ١٣٥ ، وقد روى نزول هذه الآية فيه عدد من المفسرين والمحدثين.

٣٨٨

أعداءُ الحق

«وعلى من سلَّ سيفه عليك ، وسللت سيفك عليه يا أمير المؤمنين ، من المشركين ، والمنافقين ، إلى يوم الدين ، وعلى من رضي بما ساءك ، ولم يكرهه ، وأغمض عينه ، ولم ينكر ، أو أعان عليك بيد ، أو لسان ، أو قعد عن نصرك ، أو خذل عن الجهاد معك ، أو غمط فضلك ، أو جحد حقك ، أو عدل بك من جعلك الله أولى به من نفسه وصلوات الله عليك ، ورحمة الله ، وبركاته ، وسلامه ، وتحياته ، وعلى الأئمة من آلك الطاهرين ، إنَّه حميد مجيد» :

اللغة : غَمَطَ : غمطة : حقره وازدرى به.

جَحَدَ : جحد حقه : أنكره بعد علمه به (١).

عَدَلَ بك : عدل فلاناً بفلان : سوّى بينهما (٢).

بعد أن لعن الإمام الهادي عليه‌السلام من قتل عمار بن ياسر ، عطف عليهم باللعن أصنافاً من أعداء الإمام علي عليه‌السلام ، وما من شك أنَّ من عاداه فقد عادى الحق ، وهم :

١ ـ من وقع القتال بينه وبين الإمام علي عليه‌السلام ، وهم صنفان :

الصنف الأول : المشركون : وقد حاربهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يجاهد بين يديه حاملاً رايته ، أو أميراً على جيش أرسله لقتالهم ، وكل من سل سيفه على الإمام علي عليه‌السلام ، أو سل الإمام علي عليه‌السلام سيفه عليه في هذه الحروب

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) المنجد.

٣٨٩

لا شك أنَّه مستحق للعن إلى يوم القيامة ، لأنَّه مشرك بالله تعالى ، محارب لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الصنف الثاني : البغاة : وهم الذين عبَّرت عنهم الزيارة بالمنافقين ، وهم جميع من حاربوا الإمام علياً عليه‌السلام أيام خلافته في الجمل ، وصفين ، والنهروان ، لأنَّهم يتظاهرون بالدين ، ويعملون على هدم كيانه ، وتشتيت شمل أهله ، والقضاء على دولته ، لمحاربتهم الخليفة الشرعي ، على أنَّ النفاق ثابت لمن أبغض علياً عليه‌السلام لما روي عنه أنَّه قال : «عهد إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّه لا يحبك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق» (١) ، وهذا الحديث رواه جمع من الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبو ذر ، وأبو سعيد الخدري ، وأم سلمة ، وبريدة ، وجابر ، وحنطب ، وعمران بن حصين (٢).

٢ ـ من ريضي بما ساء الإمام علي عليه‌السلام ولم يكرهه : الإمام علي عليه‌السلام سيد المؤمنين ، ورضاه وغضبه لله تعالى ، لأنَّه أذاب نفسه في ذات الله تعالى ، فمن ساءه وأغضبه ساء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك من رضي بما ساءه ، ولم يكرهه لأنَّه بذلك ساند أعداءه بدعمهم معنوياً ، ورضي بفعلهم ، ولو قدِّر له أن يكون معهم لشاركهم فيما هم فيه من النفاق والبغي ، لذا يدخل في عدادهم ، ويكون حكمه حكمهم في استحقاق اللعن والعذاب.

__________________

(١) الإصابة ٤ / ٤٦٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٨ / ٣٤٩ ، ٤٢ / ٢٧١ ، خصائص أمير المؤمنين ١٠٥ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٠٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٣٧ ، كنز العمال ١١ / ٥٩٨.

(٢) تجد رواياتهم في : أنساب الأشراف ٩٦ ، تاريخ الخلفاء ١٧٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٧٧ ـ ٢٧٩ ، خصائص أمير المؤمنين ١٠٥ ، ذخائر العقبى ٩١ ، الصواعق المحرقة ١٢٢ ، فضائل الخمسة ٢ / ٢٠٧ ـ ٢١١ ، كفاية الطالب ٦٨ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٣ ، المعجم الأوسط ٢ / ٣٧٧ ، ٥ / ٨٧.

٣٩٠

٣ ـ من أغمض عينه ، ولم ينكر : الزم الدين الإسلامي أتباعه النهي عن المنكر ، وجعل ذلك من أقدس الواجبات ، كما جعل تركه من كبائر الذنوب ، وقد جاء في الحديث الشريف : «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (١) ، فإذا كان في المنكر ما يسيء إلى نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهدد كيان الأمة الإسلامية ، وقد دعا الخليفة الشرعي لدرء الخطر ومحاربته ، وجب على المسلمين النهوض والإنقياد لأمره كل حسب طاقته ، ومن تخلف استحق اللعن والعذاب ، لتهاونه عن نصرة الدين وإمام العدل.

٤ ـ من أعان على الإمام علي عليه‌السلام باليد أو اللسان : أما الإعانة باليد فتشمل : حمل السلاح ، والإشتراك في الحرب ، كما تشمل التجهيز بالسلاح والمؤن ، وشحذ السيوف ، وإصلاح أدوات القتال من السيوف ، والحراب ، والدروع ، والرماح ، والأقواس ، وبري النبال ، وما شاكل ذلك من أعمال يحتاج إليها المقاتلون عند الإستعداد للقتال ، أو أثناء القتال ، ولا يمكن لطرف أن يدخل الحرب بدون هذه الأعمال ، وهي مباحة بالأصل ، وقد تكون واجبة عند تجهيز الجيش الذي يدافع عن الإسلام ، ولكنها تعتبر مساعدة على البغي إذا احتاج إليها جيش البغاة ؛ فتحرم ، ومن مارسها يعتبر مشاركاً في الأعمال الحربية العدوانية ، ومقترف لإحدى كبائر الذنوب ، فيستحق اللعن والعذاب.

وأما الإعانة باللسان ، فتشمل : ما نسميه اليوم : الإعلام المضاد ، أو الحرب الإعلامية ، كتخذيل الناس ، وجثهم على عدم الخروج للجهاد ، وتحريضهم وتشجيعهم على الإنضمام لجيش العدو ، وبث الدعايات المغرضة التي من شأنها قلب الحقائق ، لإيجاد الفرقة في صفوف الجيش ، أو بث الرعب في نفوس أفراده ،

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي ٦ / ٥٢٢.

٣٩١

وهذه الأعمال الدعائية تعتبر مشاركة معنوية في الحرب إلى جانب العدو ، ودعم له ، غرضها إلحاق الأذى بالمجاهدين وخذلانهم ، ومن ارتكبها حكمه حكم المحاربين في استحقاق اللعن والعذاب.

٥ ـ من قعد عن نصرة الإمام علي عليه‌السلام ، أو ترك الجهاد معه : لقد أوجب الدين الإسلامي الحنيف على المسلمين نصرة الحق باليد واللسان ، كما أوجب الوقوف بوجه أهل الباطل والبغي ، وذلك لتكون كلمة الله تعالى هي العليا ، وتكون كلمة أعدائه السفلى ، فمن قعد عن نصرة الحق ، أو تخلف عن الجهاد ، فقد ترك ضرورياً من ضروريات الدين ، وخذل أهل الدين بخذلانه إمام العدل ، وساعد البغاة من حيث يريد ، أو لا يريد ، وارتكب بذلك ذنباً من كبائر الذنوب ، فاستحق بذلك اللعن والعذاب.

٦ ـ من تجاهل فضل الإمام علي عليه‌السلام ، وجحد حقه : بعد أن ثبت بالنقل الصحيح والمتواتر لدى جميع المسلمين ، على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم أنَّ الله عزوجل ، والرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهدا بالفضل للإمام علي عليه‌السلام ، وأوجبا حقه على الأمة ، في كثير من الآيات التي فسرت فيه ، والأحاديث الشريفة التي نصت عليه ، وقد تداولها عامة المسلمين ، وحفظوها ، وتناقلها أهل الحديث ، ولم تعد أمراً يجهله أحد من المسلمين ، ومن ازدرى بها ، وأنكرها بعد اليقين ، وثبوتها في الشريعة الإسلامية المقدسة ، فهو راد على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مخالف لما أمرا به ، مستحق للعن والعذاب.

٧ ـ من عدل بالإمام علي عليه‌السلام غيره : جعل اللهُ الإمام علياً عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، كما أكّد ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته يوم الغدير ـ كما مرّ ـ إذ سألهم : مَن أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟. قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : إنَّ الله مولاي ، وأنا

٣٩٢

مولى المؤمنين ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ـ يكررها ثلاثا أو أربعاً على اختلاف الروايات (١) ، ثمَّ وثق ذلك ببيعة مشهورة مشهودة ، أدّاها كل من حضر من الصحابة.

فالإمام علي عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، له من الولاية ما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّها متفرعة عنها ، وهي امتداد لها ، وللولاية الإلهية ، فهو أفضل الأمة بمقتضى الولاية ، وبما جاء في بيان فضله من الكتاب والسنة ، وبما تميز به من المكارم ، والفضائل ، والكمالات التي تجعله سابقا لكل من سواه من المؤمنين في جميع الميادين.

ومن الظلم ، والتجاوز ، والجور في الحكم أن يُجعل أحدٌ غير الإمام علي عليه‌السلام عدلاً له ومساوياً في الفضل ، وفي ذلك مخالفة ما ثبت في الكتاب والسنة ، وإذا كان هذا أمر من ساوى بينه وبين غيره ، فمن قدَّم عليه غيره أو فضّله عليه ، فالله تعالى أعلم بما يستحق هؤلاء جميعاً من اللعن والعذاب الأليم ، جزاءً وفاقاً لما اقترفوا من الإثم.

الصلاة على آل محمد :

الصلاة على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فريضة أمر بها الكتاب العزيز وأكّدتها السنة النبوية ، وندبت إليها ، وهي من أفضل الأعمال باتفاق المسلمين ، وأكثر علمائهم يرون أنَّ فريضة الصلاة لا تتم إلّا بها ، فهي جزء من التشهد في الصلاة ، واشتهر في ذلك قول الإمام الشافعي (٢) :

__________________

(١) راجع الخطبة في التمهيد ص ١٥ وما بعدها من هذا الكتاب.

(٢) الصواعق المحرقة ١٤٨.

٣٩٣

يا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنَّكم

من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

وقال تعالى : (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (١) ، وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية فيه ، وفي أهل بيته عليهم‌السلام ، فهم شركاؤه في الصلاة والسلام عليه وعليهم ، وقد أمر المسلمين بذلك ، وأرشدهم إليه ، كما نهاهم عن الصلاة عليه دون ذكر أهل بيته عليه وعليهم‌السلام.

روى طلحة بن عبيد الله ، قال : قلنا : يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟. قال : «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد» ، وقد روى عدد من الصحابة أحاديث بهذا المعنى عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم : إبراهيم ، وابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو مسعود الأنصاري ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وبريدة ، وزيد بن أبي خارجة ، وعائشة ، وعقبة بن عمرو ، وعلي ، وكعب بن عجرة ، ويونس بن خباب (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء. فقالوا : وما الصلاة البتراء؟. قال : تقولون : اللهم صلِّ على محمد ، وتمسكون ، بل قولوا : اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد» (٣). والإمام علي عليه‌السلام هو سيد آل البيت بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوهم ، وكل ما يختص بهم فهو أول أفراده ، وبذلك يستحب السلام والصلاة عليه دائماً.

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٥٦.

(٢) تجد رواياتهم في : سنن ابن ماجة ١ / ٢٩٣ ، سنن أبي داود ١ / ٢٢١ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٨ ، السنن الكبرى للنسائي ٣ / ٤٨ ، مسند الشافعي ٤٢.

(٣) الصواعق المحرقة ١٤٦.

٣٩٤

فَدَك

«والأمر الأعجب ، والخطب الأفظع ، بعد جحدك حقك غصب الصديقة الطاهرة الزهراء سيدة النساء فدكاً ، ورد شهادتك ، وشهادة السيدين سلالتك وعترة المصطفى صلى الله عليكم ، وقد أعلى الله على الأمة درجتكم ، ورفع منزلتكم ، وأبان فضلكم ، وشرَّفكم على العالمين ، فأذهب عنكم الرجس وطهَّركم تطهيرا» :

اللغة : الخطب الشأن أو الأمر ، صغر أو عظم ، يقال : ما خطبك؟ أي ما أمرُكْ؟ وتقول : هذا خطب جليل ، وخطب يسير (١).

الأفظع : فظع الأمر (بالضم) ، فظاعة ، فهو فظيع : أي شديد شنيع ، جاوز المقدار (٢).

الخلافة حق لعلي عليه‌السلام :

الإمام علي عليه‌السلام هو الخليفة الشرعي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، بدليل ما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة ، وما دلَّ عليه العقل من أفضليته ، واجتماع مؤهلات الخلافة فيه ـ كما أسلفنا في ما تقدم من هذا الشرح ـ وهذا هو مذهب الإمام علي وأهل بيته عليهم‌السلام في الإمامة ، وتبعهم عليه شيعتهم منذ أن قبض

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) الصحاح.

٣٩٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى هذا اليوم.

وإذا كانت النصوص في ذلك كثيرة متظافرة ، واضحة الدلالة ، ولا تقبل التأويل ، ولا تحتمل التمحّل ، فإنَّ علماء الشيعة من الصدر الأول جارَوا خصومهم تنزلاً عن الدليل القطعي الصدور ، فأضافوا إلى أدلة الكتاب والسنة جملة من الأدلة العقلية التي لا يمكن ردّها ، يجمعها عنوان واحد ، وهو أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ـ كما تدل سيرته ـ تجتمع فيه جميع مؤهلات الخلافة ، وهو أفضل المؤمنين علماً وعملاً ، فلا وجه لتقديم غيره عليه.

ولكن الذي لا ينقضي له الأسف هو أنَّ كثيراً من المسلمين جحدوا ذلك مع وضوحه ، وأعرضوا عن تلك الأدلة ـ عقلية كانت أم نقلية ـ مع علمهم بها ، وفهمهم لما تضمنته ، وعدم وجود ما هو أقوى منها سنداً ودلالة ، فأقصوه عن الخلافة التي نصبه فيها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله عزوجل ، وليتهم اكتفوا بذلك ، ولم يسوّدوا صفحات التأريخ بما اقترفوه في حقه وحق أهل البيت عليهم‌السلام من بعده ، مما يندى له الجبين ، وتمجه الأسماع ، وتشمئز منه النفوس ، وتتفطر له الأكباد أسىً.

فَدَك والمطالبة بها :

أمّا فدك فقد تصالح أهلها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسلموها له صلحاً ، وكانوا قوماً من اليهود أرعبهم ما رأوا من شوكة الإسلام ، بعد نقض اليهود عهودهم ، حيث هزم يهود خيبر ، وسقطت حصونها ، فخافوا أن يصيبهم ما أصاب يهود خيبر.

وعلى هذا فملكية فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا حقَّ لأحدٍ من المسلمين فيها ، لأنَّه أخذها صلحاً بدون حرب ، وقد نحلها لسيدة النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، بعد أن نزل الذكر الحكيم يأمره بذلك في قوله تعالى : (وَآتِ

٣٩٦

ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ)(١) فكانت ملكاً لها ، تتصرف فيها على عهده ، والروايات تدل على أنَّه أعطاها فدكاً بعد نزول الآية الكريمة.

قال السيوطي : وأخرج الطبراني ، وغيره عن أبي سعيد الخدري ، قال : لمّا نزلت : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ)دعا رسول الله فاطمة ، فأعطاها فدكاً ـ كذا ، قال ابن كثير : (هذا مشكل ، فإنَّه يشعر بأنَّ الآية مدنية ، والمشهور خلافه) ، وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس مثله (٢) ـ أي مثل ما روى أبو سعيد ـ ويؤخذ على ابن كثير أنَّ هذه الآية وآيات أخرى من سورة الإسراء مدنية ، فهل فات السيوطي وابن كثير ذلك؟! أم أنَّ الإذعان بما جاء في نزولها دليل على تجاوز السلف ، ومخالفتهم الكتاب العزيز ، فأغمضا عيناهما تعصباً؟! والله تعالى هو العالم بما يضمر عباده.

وقد نقل رواية أبي سعيد هذه عدد من الحفاظ في كتبهم (٣) ، كما روي الحديث بذلك عن الإمام علي عليه‌السلام (٤) ، وعن ابن عباس (٥) ، وعن الإمامين : الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ، والإمام جعفر الصادق عليه‌السلام (٦) ، وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام (٧).

قال الإمام علي عليه‌السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف : «بلى كانت في أيدينا فدك

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٢٦.

(٢) لباب النقول ١٢٣.

(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٣٩ ، الدر المنثور ٤ / ١٧٧ ، شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٦٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٣٨ ، فضائل الخمسة ٣ / ١٣٦ ، كنز العمال ٣ / ٧٦٧ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٣٣٤.

(٤) شواهد التنزيل ١ / ٤٤٢ ، كنز العمال ٥ / ٧٢٦ ، ينابيع المودة ١ / ٣٥٩.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٤٤٣ ، الدر المنثور ٤ / ١٧٧.

(٦) شواهد التنزيل ١ / ٤٤٢ ، الميزان ١٦ / ١٨٩.

(٧) ينابيع المودة ١ / ٢٥٩.

٣٩٧

من كل ما أظلته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله» (١) ، وهذا يؤيد أنَّ فدكاً كانت في يد الزهراء عليها‌السلام ، وقد طالبت بها على أنَّها نحلة من أبيها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فطولبت من قبل الخليفة بإقامة البيِّنة على ذلك ، فأقامتها ، وكان شهودها في القضية ثلاثة شهد الذكر الحكيم بإهاب الرجس عنهم وتطهيرهم ، وهم : نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسبطاه سيدا شباب أهل الجنة عليهم‌السلام ، وقد أعلى الله درجة هؤلاء الصفوة بما خصهم من الفضائل التي شهد بها الذكر الحكيم ، ونصَّت عليها السنة النبوية الشريفة ، حيث فرض الله عزوجل على الأمة مودتهم ، وولايتهم ، وجعلهم عدل القرآن ، وأوجب الصلاة عليهم ، إلى غير ذلك مما حباهم به ، فأبان فضلهم ، وشرَّفهم على العالمين ، وقد مرَّ الإستدلال على عصمتهم.

وشهادة الإمام علي عليه‌السلام للبضعة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ممّا اتفق عليه جميع الرواة من الشيعة والسنة ، ويروي السنة أنَّ أم أيمن رضي الله عنها شهدت لها معه ، ويقولون : إنَّ أبا بكر ردَّ شهادتها ، لعدم إتمام الشهادة ، وهو اعتذار وُلد بعد عهد طويل ، ولكن روايات أهل البيت عليهم‌السلام تنص على شهادة السبطين الحسن والحسين عليهما‌السلام في القضية ، وهي أصح ما روي في الموضوع لأمرين : الأول : إنَّ أهل البيت هم أعلم بما جرى في هذا الشأن الذي يهمهم ، ويرتبط بأحقيتهم بخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : إنَّ رواية غيرهم في هذا الموضوع لم تسلم من التلاعب تعصباً للسلف ، وتوجيهاً لما تصرَّفوا به ، وما نتج عنه من حيف كبير أصاب العترة الطاهرة.

وقد ردَّ ابن حجر رواية الشيعة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فقال : (وزعمهم ـ أي

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧١.

٣٩٨

الشيعة ـ أنَّ الحسن ، والحسين ، وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أنَّ شهادة الفرع والصغير غير مقبولة) (١) ، والقول بعدم قبول شهادة الفرع والصغير مردود بعصمتها ، والذكر الحكيم عندما أخبر بإذهاب الرجس عنهما ، أما كانا صغيرين؟! وهل أنَّ إذهاب الرجس عنهما لا يقتضي صدقهما ، واستحالة صدور الكذب منهما؟! وهل يمكن أن يتصور أحدٌ أنَّهما لو كانا قد شهدا في قضية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما بهذا السن ، فهل يرد شهادتهما؟!.

وعلى فرض عدم شهادة السبطين عليهما‌السلام ـ كما يدعي ابن حجر ـ فإنَّ أبا بكر لم يأخذ بنظر الإعتبار ما تسالم عليه المسلمون من قاعدة اليد ، حيث كانت فدك في يد الصديقة الطاهرة عليها‌السلام ، كما دلَّ عليه قول الإمام علي عليه‌السلام : «بلى كانت في أيدينا فدك» ، وما دلت عليه الأخبار من أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنحلها إيّاها ، وكانت في حياته بيدها ، كما مرّ بنا آنفا.

والحاصل أنَّ أبا بكر ردَّ ادعاء البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فأغضبها ، كما ردَّ شهادة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع علمه بأنَّ الله عزوجل قد أذهب عنهما الرجس ، فهما منزَّهان عن الكذب ، وحاشا ابنة الوحي أن تدعي باطلاً ، أو تطلب ما ليس لها فيه حق ، كما رد شهادة أم أيمن ، وقد أقر لها بأنَّ النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبر بأنَّها من أهل الجنة ، ولا يدخل الجنة (٢) كاذب ، وهذا ما لم تسالم عليه أهل النقل ، ولا مجال فيه للنقاش والتوجيه والتأويل ، ولكن السؤال الذي يبقى ماثلاً أمام كل منصف هو : أما كان ادعاء البضعة ، وشهادة بعلها ، وولديها عليهم‌السلام كافياً لحصول العلم في القضية ، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس؟!.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ٣٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٢٠.

٣٩٩
٤٠٠