شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

ولا مجال للمقارنة بين الإمام علي عليه‌السلام ، وبين معاوية لأنَّ كلّا منهما كان يتخذ نهجاً يغاير نهج الآخر ، ويعاكسه ، والفرق بينهما هو الفرق بين الحق والباطل ، فهما متباينان ، ومن ظنَّ خلاف ذلك وساوى بينهما ، فجعلهما نظيرين ، فإنَّه لا يميز بين الحق والباطل ، وهو ضال في ما أصدره من حكم ، ولم يهتد إلى الحق ، لأنَّ الإهتداء إلى الحق ، لا يتأتى لمن يصدر الأحكام اعتباطاً ، بل لابد من التدبر ، والتفكير ، والتحليل ، والمقارنة من أجل الوصول إلى معرفة الحق ، وإصدار الحكم فيه.

أوضح الإمام علي عليه‌السلام الأسس التي يعتمدها في سيرته ، ولم يبقِ مجالاً للشك والتوهم ، فقد أبان للعالم أنَّه ليس ـ كما يظن البعض ـ ضعيف الرأي ، عاجزاً عن إدارة شؤون الخلافة ، وأنَّ من ذهب إلى هذا الرأي إمّا أن يجهل الحقيقة ، أو يتجاهلها ، فهو عليه‌السلام يعبِّر عن نفسه بالحوَّل القلَّب ، فليس هو مغفلاً ، ولا تفوته حيلة للتوصل إلى أهدافه ، يرى سبل الوصول إليها عياناً ، ولكنه لا يسلك طريقاً يتنافى مع تقواه ، بل يلتزم بما يمليه عليه دينه القويم ، الذي يحجز بينه وبين ما يفعله غيره من الأعمال المنافية للدين ، من أجل الوصول إلى النزوات ، والنزعات الشخصية الرخيصة ، لأنَّه لا يضحي بدينه ، ولا يجعل دينه مطية للأهواء ، وهو سيد المتقين.

أما رقيق الدين ، الذي لا يتحرج من ارتكاب المآثم ، ولا يعرف طعم التقوى ، فإنَّه ينتهز الفرصة عندما تظهر أمامه الحيلة ، ويتعرف على وسائلها ، فيسلك سبلها الوعرة بدون تردد ، لأنَّه لا يرى مانعاً من ارتكاب أيَّة جريمة ، ما دامت تحقق له هدفاً ، يوصله إلى أهوائه ، وشهواته الفانية ، وقد صنفت الأحداث جميع خصوم الإمام علي عليه‌السلام ، وأعدائه ضمن هذه الفصيلة ، حيث كشفوا أنفسهم ، بما ارتكبوا من الآثام ، فأبانوا عن واقعهم بالقول والفعل.

٣٦١

وقد صدق الإمام علي عليه‌السلام في ما تحدث به عن نفسه ، وشهد له محبوه ، ومبغضوه ـ على حدٍّ سواء ـ بالتقوى ، واتباع النهج الإسلامي ، ولم يكسب المبطلون سوى الخسران ، لأنَّهم لم ينالوا خيراً في دنياهم التي جهدوا أنفسهم لعمارتها على حساب دينهم ، كما خسروا الآخرة ، بما ارتكبوا من الآثام ، وذلك هو الخسران المبين.

٣٦٢

مكرُ الناكِثَين

«وإذ ما كَرَكَ الناكثان ، فقالا : نريد العمرة. فقلت لهما : لعَمْرَكُما ما تريدان العمرة ، ولكن تريدان الغدرة ، فأخذت البيعة عليهما ، وجددت الميثاق ، فجدّا في النفاق ، فلمّا نبهتهما على فعلهما أغفلا ، وعادا ، وما انتفعا ، وكان عاقبة أمرهما خسراً» :

اللغة : ما كَرَكَ المكر : احتيال ما يضمر.

الناكثان : نكث العهد ، ينكثه ، نكثاً : أي ينقضه بعد إحكامه ، ونكث البيعة (١).

أغفلا : أغفلت الشيء : إذا تركته على ذكر منك ، وتغافلت عنه (٢).

الفتنة وقبول الخلافة :

قُتل عثمان ، فبقيت الدولة الإسلامية بدون خليفة يدير شؤونها ، ولابد منم ملء هذا الفراغ ، باختيار رجل جدير ، يرتضيه الثوار ، ويتفق عليه معهم المهاجرون والأنصار ، باعتبارهم أهل الحل والعقد ، ولم يكن في الصحابة أحدٌ يمكن أن تجتمع عليه آراء الفريقين ، ليشغل هذا المنصب الخطير سوى إلّا بإعادة الحق إلى نصابه ، وتوليته زمام الأمور ، غير أنَّ هناك نفر من الصحابة كانوا غير راغبين

__________________

(١) كتاب العين.

(٢) الصحاح.

٣٦٣

بتوليته الخلافة ، ولكل من هؤلاء سببه الخاص به ، فهو إما طامع بتولي الخلافة ، كما تولاها غيره من النظراء ، أو يشعر بأنَّه سيفقد الإمتيازات غير المشروعة التي منحت له فيما سلف من الزمان ، بينما تأثر آخرون بدافع الحسد ، ولكن هؤلاء لم يتمكنوا من إبداء رأيهم أمام الأغلبية الساحقة ، بل صمتوا ، وبايع أغلبهم ، بينما امتنع آخرون عن البيعة ، فلم يجبرهم الإمام علي عليه‌السلام عليها عندما تمت له البيعة ، بل تركهم لشأنهم.

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فقد وجد نفسه في موقف صعب ، وبين أمرين خطيرين :

الأول : أن يعتزل أمر الخلافة ، فلا يستجيب لطلب الثوار ومن وافقهم من الصحابة ، وعندها تعصف الفتنة بكيان الدولة الإسلامية ، لخلوِّها من قائد ينظم شؤونها ، ويسيِّر أمورها ، بأوامره يأتمر الجند ، وبها تجبى الأموال ، وتقام الحدود.

الثاني : أن يقبل الخلافة مع ما بها من تركات الماضي ، ومخلفاته المؤلمة ، وعندها تدرؤ الفتنة ، ويستقر كيان الدولة الإسلامية ، لوجود خليفة شرعي تمت له البيعة ، ولكن سرعان ما سيهتز هذا الكيان ، ويتصدع بتمرد الطامعين ، ولا مناص له عندئذ من إعلان الحرب للقضاء على المترد ، وحفظ كيان الدولة.

رفض الإمام علي عليه‌السلام الخلافة في بداية الأمر ، رجاء أن يختاروا لها غيره ، لأنَّه كان عل علم أنَّ السيرة التي سينتهجها ، لا يذعن لها الناس بسهولة ، بل لا يهضمونها ، وإنَّها ستولد ردود فعل عكسية غاضبة ، لأنَّ الناس اعتادوا أموراً لا يقرها الدين ، ولا يستطيع هو إقرارها وإبقاءها بحال ، لأنَّ ذلك يستلزم المسامس بدينه ، ولكن إلحاح الثوار ، ومن اتفق معهم من الصحابة عليه بقبول الخلافة ، وهتافهم باسمه ، لم يترك له خياراً ، حيث وجد أن استمرار الرفض سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه ، فقبل الخلافة ليحافظ على كيان الدولة الإسلامية ، قال عليه‌السلام في

٣٦٤

خطبته الشقشقية : «أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها ـ أي الخلافة ـ على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (١).

أعلن عليه‌السلام عن تحمله المسؤولية في خطاب وجهه إلى الناس في المسجد النبوي الشريف ، أوضح فيه الخطوط العريضة ليساسته التي سنتهجها ، ليعلم الجميع على أيَّة شروط يبايعون ، قال عليه‌السلام : «دعوني ، والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وإنَّ الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكرت ، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل ، وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم ، وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أمير» (٢) ، وفي خطبته هذه بيان واضح ، وإشارة إلى الأوضاع الفاسدة التي كانت سائدة في الدولة الإسلامية ، والتي أدت إلى الفتنة التي كان فيها مصرع الخليفة ، وبيان واضح لما يعزم انتهاجه مما لا تستسيغه النفوس المريضة ، فصارحهم بأنَّ إمارته لا تفارق الحق ، وبديهي أنَّ الحق مُرٌّ عند ذوي الأطماع.

البيعة للإمام علي عليه‌السلام :

كان طلحة أول من بايع الإمام علياً عليه‌السلام بعد قبوله تولي الخلافة (٣) ، ثم بايعه

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٣٦.

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٨١.

(٣) أنساب الأشراف ٢٠٧ ، الإمامة والسياسة ١ / ٤٧ ، تاريخ الأمم والملوك ٣ / ٤٥٦.

٣٦٥

المهاجرون ، وفيهم الزبير ، ثم بايعه الأنصار ، وسائر من حضر من المسلمين ، وقام الإمام علي عليه‌السلام بعد أن تمت له البيعة ، ينفذ سياسته التي أعلنها على الناس قببل البيعة ، فقسَّم ما في بيت المال بالسوية بين المهاجرين والأنصار ، من البدريين وغيرهم ، ومن العرب والموالي ، لم يفضل أحداً على أحدٍ من مستحقي العطاء ، كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، متبعاً سنته ، فبدأ المنتفعون الذين كانوا يتمتعون بحقوق غيرهم ، يتذمرون من هذا الوضع ، وأخذوا يعلنون نقمتهم على الإمام علي عليه‌السلام ، بعد أن أمنوا سطوة الثوار الذين عادوا إلى بلدانهم بعد البيعة.

موقف طلحة والزبير :

كان كل من طلحة والزبير في طليعة المتذمرين الناقمين ، وقد أظهرا نقمتهما بعدم حضورهما القسمة ، ولم يأخذا حقهما الذي فرضه الله تعالى ، احتجاجاً على التسوية (١) ، ثم جاءا يعاتبان الإمام عليه‌السلام لعدم استشارتهما في شيء من الأمر ، وعدم إشراكهما في شؤون الخلافة ، ولأنَّه لم يولهما ما طلبا من ولاية الكوفة والبصرة ، فردَّ عليهما بقوله : «لقد نقمتما يسيراً ، وأرجأتما كثيراً ، ألا تخبراني أي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه؟!. وأي قسم استأثرت عليكما به؟!. أم أي حق رفعه إلي أحد من المسلمين ضعفت عنه ، أم جهلته ، أم أخطأت بابه؟!.

والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنكم دعوتموني إليها ، وحملتموني عليها ، فلما أفضت إليَّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا ، وأمرنا بالحكم به فاتبعته ، وما استسن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقتديته ، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ، ولا رأي غيركما ، ولا وقع حكم جهلته ، فأستشيركما وإخواني من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٣٨.

٣٦٦

المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ، ولا عن غيركما.

وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة [أي التسوية في العطاء] فإنَّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ، ولا وليته هوىً منّي ، بل وجدت أنا وأنتم ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فرغ منه ، فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ الله من قسمه ، وأمضى فيه حكمه ، فليس لكما ـ والله ـ عندي ولا لغيركما في هذا عتبى ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر. ثم قال عليه‌السلام : رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه ، أو رأى جوراً فرده ، وكان عوناً بالحق على صاحبه» (١).

نلاحظ أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام قد أوضح الموقف بجلاء ، فلم يترك أمراً إلّا أوضحه ، وبرَّر عمله باتباعه الكتاب والسنة ، وبيَّن أن ما يريده كل من طلحة والزبير مخالف للكتاب والسنة ، وأنَّهما نقما عليه اتباعه الحق ، وأنَّ ما يخبِّئان له ، أشد مما أظهرا ، ولكنه لا يتأثر بمعارضة الحق ممن ظهر منه النفاق ، فنصحهما بالدعاء الذي ختم به حديثه ، وهو يعظهما ، وينبههما بأنَّ الأمثل لهما أن يكونا عونا للحق ، وأن يعملا على رد الباطل ، ويصبرا على ذلك.

دبَّ اليأس إلى نفس كل من طلحة والزبير منذ البداية ، فهما يعرفان عن الإمام علي عليه‌السلام تنمُّره في ذات الله ، وأنَّه سيد المتقين الذي لا ينال أحدٌ من العطاء في ظل حكمه على حساب المحرومين من الأمة ، فلا يتخم في ظل حكمه غني بما يجوع به فقير ، كما لا يطمع أحدٌ بولاية تكون له طُعمَة ، يتصرف فيها بما يمليه هواه في ظل خلافته ، وهذا طلحة يقول للزبير بعيد البيعة : (ما أرى أنَّ لنا من هذا الأمر إلّا كلحسة أنف الكلب) (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٨٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١ / ١٧.

٣٦٧

كان الإمام علي عليه‌السلام يعرف الرجلين ، ويعرف توجهاتهما ، فقد حذر الزبير عندما بايعه من نكث البيعة ، فقال له : «إني لخائف أن تغدر بي ، وتنكث يبعتي. فقال الزبير : لا تخافن ، فإنَّ ذلك لا يكون مني أبداً. فقال عليه‌السلام : فليَ الله عليك راع وكفيل. قال : نعم ، الله لك عليَّ بذلك راع وكفيل» (١).

يئس كل من طلحة والزبير من الولاية ، ويئسا من أي زيادة ، وتمييز في العطاء ، فكانا يسرّان المكر به ، وقد صمَّما على نقض البيعة ، فاستأذناه في الخروج إلى مكة لأداء العمرة ، لينفذا ما أضمراه من نقض البيعة ، والخروج عليه ، ولم يخفَ ذلك عليه ، فأخبرهما بما انطوت عليه نيتهما ، وجدد البيعة عليهما ، فأعطياه من المواثيق ما تطمئن به النفس ، وخرجا ، وهو يعلم أنَّهما لا يفيان له ، يقول ابن أبي الحديد : (دخل الزبير وطلحة على علي عليه‌السلام ، فاستأذناه في العمرة ، فقال : ما العمرة تريدان ، وإنما تريدان الغدرة ، ونكث البيعة. فحلفا بالله ما الخلاف عليه ، ولا نكث بيعته يريدان ، وما رأيهما غير العمرة. فقال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية. فأعاداها بأشد ما يكون من الأَيمان والمواثيق. فأذن لهما ، فلما خرجا من عنده ، قال لمن كان حاضراً : والله لا ترونهما إلّا في فتنة يقتتلان فيها. قالوا : يا أمير المؤمنين ، فمُر بردِّهما عليك. قال : ليقضي الله أمراً كان مفعولا) (٢).

ولابد أن نعرف أنَّ تجديد البيعة ، وأخذ المواثيق المؤكدة ، كان اعتماداً على ظاهر الإيمان ، الذي يقتضي الوفاء بالعهود ، وهو زيادة في الحجة له عليهما أمام الله تعالى ، وأمام الناس سواء من حضر ذلك المحضر ، أو من بلغه ذلك المحضر ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣٠.

(٢) شرح نهحج البلاغة ١ / ٢٣٢.

٣٦٨

وما جرى فيه ، فلابد أن يعرف الناس الحق ، ويميزوا أهله ، ويحكموا على من خرج عليه.

لقد ادعى طلحة والزبير أنَّهما بايعا بأيديهما ، ولم يبايعا بقلبيهما ، وادعيا أنَّهما أضمرا عند بيعتهما أن يشركهما في أمر الولاية والمشورة ، وما شابه ذلك ، وكل ما ادعياه لا يغري من الواقع شيئاً ، ولا يبرر نقض العهد ، والتاريخ يشهد عليهما بأنَّهما بايعا غير مكرهين ، لأن الإمام علياً عليه‌السلام لم يكره أحداً على البيعة ، وهذا عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ممن امتنع عن بيعته ، فتركهما ، وقد أوضح ـ كما مرّ ـ سياسته التي يريد انتهاجها قبل إبرام البيعة ، ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم عند إبرامها.

أمّا قول الإمام الهادي عليه‌السلام : «فجدّا في النفاق» فلأنَّهما اجتهدا في إخفاء الغدر ، وإظهار الطاعة بتجديد البيعة ، وتوكيد المواثيق ، وهذا نفاق لما فيه من إظهارهما غير ما يبطنان ، وإنَّ نقض بيعة الإمام بعد إبرامها ، بدون مبرر شرعي نفاق ، وقد دلت النصوص على أنَّ بغض الإمام علي عليه‌السلام وحربه نفاق.

تغافل طلحة والزبير ما أعطياه من بيعة ومواثيق مؤكدة ، كما تغافلا ما حذرهما الإمام علي عليه‌السلام عندما استأذناه من ركوب الفتنة ، وتغافلا عن كل ما يعرفان من الآثار ، والمآثم التي تترتب على ما عزما عليه ، فاجتمعا في مكة المكرمة مع أم المؤمنين عائشة ، وانظم إليهم الطريد بن الطريد مروان بن الحكم ، كما انظم إليهم جمع ممن يئسوا من تحقيق المنافع غير المشروعة في ظل حكومة العدل ، وهم بقية الطلقاء وأبناؤهم الذين كانوا يريدون الكيد بالإسلام وأهله ، فأظهروا الطلب بدم عثمان ، وجميع هؤلاء مشتركون بدم عثمان بصورة مباشرة ، أو غير مباشرة ، إما بالتحريض عليه ، أو التقاعس عن نصره ، أو العمل على تفاقم

٣٦٩

الأمور التي أدت إلى الثورة عليه.

إجتمعت كلمة هؤلاء على اتهام الإمام علي عليه‌السلام بإيواء قتلة عثمان ، لم ينسَ هؤلاء التناقضات بينهم ، بل تناسوها ، ليجتمعوا على دعوة ضلال ، فكانت تلم شتاتهم المصالح الشخصية ، والحسد ، والبغض لإمام المتقين ، ورمز الحق ، والعدل ، ليؤججوا نار الحرب عليه ، فخرجت هذه التشكيلة تطوي الفيافي والقفار ، يجدّون السير نحو البصرة ، ليوقعوا مجزرة من أكبر مجازر التاريخ ، أزهقت فيها نفوس آلاف من المسلمين دون مبرر ، كما أودت بحياة طلحة والزبير اللذين أججاها ، وأشعلا فتيلها.

خسر طلحة والزبير الدنيا التي كانا يرجوان الفوز بها ، ومن أجلها سلكا الطريق الوعر ، وكبَّدا الأمة خسائر جمة ، وقد خسرا آخرتهما ، بنقضهما العهود والمواثيق ، وإخراجهما حرمة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اُمرت أن تقرَّ في بيتها ، وتحملهما دماء المسلمين التي أريقت في تلك الحرب.

٣٧٠

الفِئَة الباغية

«ثم تلاها أهلُ الشام ، فسرت إليهم بعد الإعذار ، وهم لا يدينون دين الحق ، ولا يتدبرون القرآن ، همجٍ رعاع ضالون ، وبالذي أنزل على محمد فيك كافرون ، ولأهل الخلاف عليك ناصرون ، وقد أمر الله تعالى باتباعك ، وندب المؤمنين إلى نصرك ، وقال عزوجل : * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١) * مولاي بك ظهر الحق ، وقد نبذه الخلق ، وأوضحت السنن بعد الدروس والطمس ، فلك سابقة الجهاد على تصديق التنزيل ، ولك فضيلة الجهاد على تحقيق التأويل ، وعدوك عدو لله جاحد لرسول الله ، يدعو باطلاً ، ويحكم جائراً ، ويتأمر غاصباً ، ويدعو حزبه إلى النار» :

اللغة : الإعذار : أعذر فلان : أي كان منه ما يعذر به ، والإعذار المصدر ، وفي المثل : أعذر من أنذر.

التدبر في الأمر : التفكر فيه (٢).

همج رعاع : الهمج (بالتحريك) : جمع همجة : وهو ذباب صغير كالبعوضة ، يسقط على وجوه الغنم والحميرو أعينها ، ويستعار للأسقاط من الناس ، والجهلة.

والرَعاع (بالمهملات وفتح الأول) : العوام ، والسفلة (٣).

__________________

(١) التوبة ٩ : ١١٩.

(٢) لسان العرب.

(٣) مجمع البحرين.

٣٧١

الدروس : درس الشي ، يدرسه ، دروساً : ودرسته الريح ، تدرسه ، درساً : أي محته.

الطمس : استئصال أثر الشي (١).

نفوذ معاوية في الشام :

تولى معاوية الشام على عهد عمر ، وبقي في ولايته عليها بقية خلافته ، وطيلة خلافة عثمان ، وفي هذه المدة الطويلة التي ناهزت العشرين عاماً ، استطاع أن يوكد حكمه فيها ، ويُحكم سيطرته عليها ، فقد أغدق العطاء للوجوه والرؤساء ، ووهب الهبات الجزيلة لمن يخاف سطوته ليتألفهم ، فاتسقت له الأمور فيها ، وأطاعه أهلها طاعة عمياء ، فكانت ولايته أهدأ الويلات على عهد عثمان ، لم يُسمع فيها صوتٌ لمعارضة ، سوى صوت أبي ذر ، وقد انتهت معارضته بإرجاعه إلى المدينة المنورة ، وقد اتخذ عثمان الشام منفىً لمعارضيه من مختلف الأمصار اعتماداً على ولائها لمعاوية ، وضبطه لها.

وعندما بويع الإمام علي عليه‌السلام بعد مقتل عثمان ، كتب إلى ولاة الدولة الإسلامية في مختلف الأمصار ، يأمرهم بأخذ البيعة له في ولاياتهم ، فامتثل الولاة أمره ، وأخذوا البيعة له ، إلّا معاوية فإنَّه تلكأ ، وتمرد ، وانفرد بالشام من بين سائر الأمصار ، فقرر الإمام علي عليه‌السلام أن يجهز جيشا لإخضاعها ، وأمر بالتهيؤ لذلك.

وقد أغرى معاوية طلحة والزبير ، فكتب إلى الزبير مدعياً أنَّه أخذ البيعة من أهل الشام للزبير ، ومن بعده لطلحة ، وأنَّهم بايعوه على ذلك ، وحرّضهما على نكث

__________________

(١) لسان العرب.

٣٧٢

بيعة الإمام علي عليه‌السلام والخروج عليه (١) ، يريد بذلك إثارة الفتنة عليه ، وتقويض حكمه ، وقد وافق ذلك ما عقدا عليه العزم ، وما كانا يصبوان إليه ، فأعدّا العدة لتنفيذه.

وما أن انتهى الإمام علي عليه‌السلام من تجهيز جيشه ليتوجه به إلى الشام ، حتى وافته أخبار خروج الناكثين : عائشة ، وطلحة ، والزبير ، ومن تبعهم إلى البصرة ، فغيّر وجهته ، وتوجه بمن تبعه من المهاجرين والأنصار إلى البصرة ، وبعد أن استنقذها منهم ، توجه إلى الكوفة ليتخذها مقراً لخلافته ، ثم أرسل بيد جرير بن عبد الله البجلي رسالة إلى معاوية لأخذ البيعة (٢) ، ولكن معاوية أخذ يماطله ، ويعدّ العدة في الخفاء للحرب.

استعانة معاوية بعمرو :

كثرت المراسلات بين الإمام علي عليه‌السلام ومعاوية ، وكان معاوية ـ بعد أن استمال الرؤساء والوجوه ـ قد كتب إلى عمرو بن العاص يستعين به على أمره ، ووعده بولاية مصر إن تمَّ له ما يريد ، فوعده عمرو بأن ينصره ، وسار إليه مؤثراً دنياه على آخرته في نصرة معاوية ، ووقوفه مع الباطل ضد الحق ، وبعد أن انضم عمرو إلى معاوية ، كتب معاوية إلى الإمام علي عليه‌السلام يتهدده بالحرب.

رفع معاوية قميص عثمان علماً لأهل الشام ، وأظهر ظلامته ، واتهم الإمام علياً عليه‌السلام بالتحريض على قتله ، ثم إيواء قاتليه ، وهو بذلك يحرضهم على الإستعداد للحرب.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٦١.

٣٧٣

علي عليه‌السلام يدعوهم إلى الوحدة :

لقد أعذر الإمام علي عليه‌السلام إلى معاوية وأهل الشام بما أرسله من كتب تدعوهم إلى الدخول في ما دخل فيه عامة المسلمين من بيعته ، وحذرهم فيها من الفتنة ، وإراقة الدماء ، ورغّبهم بالحفاظ على وحدة الأمة ، بإعلان الطاعة للخليفة الشرعي ، وقد تظمنت كتبه أقوى ما يمكن إيراده من الحجج ، وبيّن بالأدلة القاطعة زيف معاوية ، وبطلان دعواه ، وكشف نواياه الشريرة ، ولكن معاوية ومن تبعه من أهل الشام بغوا عليه ، ولم يدينوا بدين الحق ، حيث ثقل نداء الحق على أسماعهم ، وأصمتها الأطماع ، فلم يعوا ما قيل لهم من صريح الحق ، واستجابوا لدعوة الباطل عندما استخفتهم أطماعه ، فهرعوا لينالوا من حطام الدنيا على حساب دينهم ، وسار إليهم الإمام علي عليه‌السلام وهو يحمل راية الحق الذي ينطق به لسانه ، وعنه يدافع بسيفه ، ليحسم الأمر ، فمن استجاب للحق مسلم ، ومن أودى به الباطل فإلى النار. ن

لقد دعا القرآن الكريم إلى الوحدة ، ونهى عن الفرقة ، كما نهى عن اتباع الهوى ، ونهى عن اتباع أئمة الجور ، ودعا إلى الإلتزام بالعهود والمواثيق ، ونهى عن نقضها ، ومن خالف ما أمر به الذكر الحكيم ، أو نهى عنه ، فهو مسؤول أمام الله تعالى.

ويتفق علماء المسلمين ـ على اختلاف مذاهبهم ـ على صحة إمامة الإمام علي عليه‌السلام ، ولزوم بيعته لجميع المسلمين بدون استثناء ؛ لأنَّ أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار قد بايعوه ، وتبعهم على ذلك المسلمون من كافة أرجاء البلاد الإسلامية عدا أهل الشام ، يقول عليه‌السلام : «إنَّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل ، وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن ، أو بدعة ، ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى ، قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.

٣٧٤

الجهل بالأحكام :

لم يتدبر أهل الشام القرآن وأحكامه ، من أوامر ، ونواهي ، بل اتبعوا دعوة الباطل التي أطلقها معاوية ، فعملوا معه على تفريق المسلمين ، وتشتيت شملهم ، وأججوا نار الحرب ضدَّ إمام الحق ، حيث كانوا من سفلة الناس وأسقاطهم ، سلكوا طريقا معوجاً ، وارتكبوا بذلك حماقات أدت إلى تفتت كيان الدولة الإسلامية ، فتردوا بالضلال لمخالفتهم صريح الحق ، وابتعادهم عن سواء السبيل.

وقد نزل الوحي معلناً فضل الإمام علي عليه‌السلام في مناسبات كثيرة ، منها ما جاء في القرآن الكريم ، وقد بلّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة كل ما جاء به الوحي ، حتى تواتر به النقل في مختلف الطبقات ، ولكن أهل الشام بخروجهم على الإمام علي عليه‌السلام ، ولعدم إذعانهم لبيعته ، ولما جاء فيه من الذكر الحكيم ، والحديث القطعي الصدور ، فقد كفروا بكل ذلك ، وقد تجاهلوا ما أمر به الله تعالى في كتابه المجيد ، وعلى لسان نبيه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لزوم اتباع الإمام علي عليه‌السلام ونصره.

أمّا الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فقد جاء في تفسيرها عدد من الروايات التي تدل على أنَّ المقصود بـ (الصادقين) هو الإمام علي عليه‌السلام ، وهي :

١ ـ روي تفسيرها فيه وحده عن ابن عباس (١) ، وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (٢).

٢ ـ روي تفسيرها في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه عن أبي عبد الله جعفر بن محمد

__________________

(١) الدر المنثور ٣ / ٢٩٠ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤٢ ، المناقب ٢٨٠ ، نظم درر السمطين ٩١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٦١ ، الدر المنثور ٣ / ٢٩٠ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤٤ ، كفاية الطالب ٢٣٦.

٣٧٥

الصادق عليه‌السلام (١).

٣ ـ روي تفسيرها في عامة أهل البيت عليهم‌السلام عن عبد الله بن عمر (٢).

كما روي نزولها في أهل البيت عليهم‌السلام عن ابن عباس (٣) وعن علي عليه‌السلام (٤) ، وعن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام (٥).

ومن البديهي أنَّ أمره تعالى المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين هو إلزامهم باتباعهم ، ونصرتهم ، والأخذ بأقوالهم ، والسير على نهجهم.

موقف علي عليه‌السلام من البغاة :

جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدين هو الحق من الله تعالى ، وقد أوضح للأمة طرق الحق ومسالكه بما بلّغها من أحكامه ، وآدابه ، وتعليماته ، في مختلف شؤونها الدينية والدنيوية ، وكان هو وأهل بيته الكرام عليهم‌السلام أول من طبّق ما جاء به ، وجسّدوه في سيرتهم العملية ، وتبعهم على ذلك خيار الصحابة ، وبذلك أبانوا الحق للناس ، وميزوه عن الباطل.

وبعد أن التحق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى ، بدأت تظهر في الأفق أنواع من الإنحرافات ، وما تلبث أن تنتشر ، وتأخذ طابعاً من القبول ، وتفاقم الأمر حتى صارت تلك الإنحرافات سنناً يعمل بها ، بينما اختفت معالم بعض سنن الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاندرست ، وانمحت آثارها.

__________________

(١) تهذيب الكمال ٥ / ٨٤ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٤١.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٥.

(٣) ينابيع المودة ١ / ٣٥٨.

(٤) ينابيع المودة ١ / ٣٤٤.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٣.

٣٧٦

والإمام علي عليه‌السلام هو تالي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي قال عنه : «علي مع الحق والحق مع علي» وعندما وصلت الخلافة إليه أعاد الأمور إلى نصابها ، وأخذ على عاتقه تطبيق السيرة النبوية والسير على النهج النبوي الصحيح ، فظهر به الحق ، وطبق سننه على نفسه ، وعلى كل قريب منه ، قبل أن يطبقه على البعيد.

جاهد الإمام علي عليه‌السلام على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشركين واليهود على تصديق ما جاء به الوحي ، من تنزيل القرآن المجيد ، وأنباء السماء ، حتى أذعن الناس ، ودخلوا في دين الله أفواجاً ، وتحقق الظفر ، والفتح للدين الإسلامي الحنيف ، فصلُب عوده ، وقويت شوكته.

وبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تقدمه من ولاة الأمر ، بدأ صفحة جديدة من الجهاد في سبيل الله تعالى ، تمثلت بقتال البغاة ، الذين خرجوا عليه من أهل القبلة ، وكان قتاله هذه المرة على تحقيق ما جاء به التنزيل ، والبغاة الذين قاتلهم الإمام علي عليه‌السلام ، هم :

١ ـ الناكثون (وهم طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومن تبعهم) : وهؤلاء نقضوا بيعته ، فخالفوا كتاب الله تعالى فيما أمر به من الوفاء بالعهد.

٢ ـ القاسطون : وهم معاوية ومن تبعه من أهل الشام وغيرهم ممن انضوى تحت لوائه في حرب صفين ضد الإمام علي عليه‌السلام طعناً في بيعته ، أو لم يدخل فيما دخل فيه المسلمون ، بل خرج على وحدة الأمة ، مخالفاً الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

٣ ـ المارقون : وهم الخوارج الذين أوَّلوا الكتاب في غير معناه ، وخرجوا على إمام زمانهم ، والخليفة الشرعي الذي تمت بيعته ، فكفَّروه ، وكَفَّروا كل من لم يؤمن بأفكارهم من المسلمين ، فاستحلوا الدم الحرام ، ثم شهروا سيوفهم ، وراحوا

٣٧٧

يحكِّمونها في رقاب الناس ، وعاثوا في الأرض فساداً.

وبقتال هذه الفئات الثلاثة حاز الإمام علي عليه‌السلام فضيلة الجهاد على تأويل الكتاب العزيز ، ممتثلاً ما أمر به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وعده به ، من خروجهم عليه ، وما أمر به بعض الصحابة الكرام من القتال معه ضدهم ، وهو من الأمور التي تظافر بها النقل ، واشتهرت عند المحدثين ونقلة الأخبار ، وقد نقلنا بعضها ولننقل طائفة أخرى منها :

قال علي عليه‌السلام : «أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ، والمارقين ، والقاسطين» ، وفي بعض الروايات : (عهد إلي) بدل : (أمرني) ، وفي بعضها إضافات ، أو تقديم ، أو تأخير (١).

وقال مخنف بن سليم : (أتينا أبا أيوب الأنصاري ـ وهو يعلف خيلاً له بصفين ـ فقلنا : قاتلت المشركين بسيفك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ جئت تقاتل المسلمين!.

قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتال ثلاثة : الناكثين ، والقاسطين ، وأنا مقاتل ـ إن شاء الله ـ المارقين بالسعفات ، بالطرقات ، بالنهروانات ، وما أدري أين هو؟!). وفي رواية عقاب بن ثعلبة عنه ، قال : (حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين) (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٣٨ ، تارخ بغداد ٨ / ٣٣٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٦٨ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ١٢٩ ، كنز العمال ١٣ / ١١٣ ، المناقب ١٧٦.

(٢) تجد الرووايات في ذلك في : أسد الغابة ٤ / ٣٣ ، تاريخ بغداد ١٣ / ١٨٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧١ ، كفاية الطالب ١٦٨ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، المستدرك ٣ / ١٣٩ ، المعجم الكبير ٤ / ١٧٢.

٣٧٨

وبهذا المعنى جاءت الرواية عن أبي سعيد الخدري (١) ، وعن عبد الله بن مسعود (٢) ، وعن أم المؤمنين أم سلمة (٣) ، وعن عمار بن ياسر (٤) ، وعن عبد الله بن عباس (٥) ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (٦).

عداء مع الله تعالى :

لاشك أنَّ من عادى الإمام علياً عليه‌السلام ، فهو عدو لله عزوجل ، وجاحد للرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنَّه نفسه بنص الكتاب العزيز ، وقد تواتر النقل عنه في وجوب حبِّه ، وفرض ولايته ، والنهي عن بغضه ، ونصب العداء له ، كما تواتر النقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال في غدير خم : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

وثمَّت ملحوظة هامة ، هي نافلة القول في هذا المجال ، فالذين أعلنوا العداء للإمام علي عليه‌السلام ، وشنّوا عليه الحرب ، لم ينقموا عليه إلّا جهاده ، وتقواه ، والتزامه طريق الحق الذي رسمه الدين الإسلامي الحنيف ، فكان عداؤهم له لأنَّه يحملهم على الحق ، ويطبق سنن العدل ، وإن تضاربت معها مصالح المنتفعين على حساب الغير ، وأهواء المبطلين ؛ ولذا فإنَّ نقمة أعداء الإمام علي عليه‌السلام لم تكن لدوافع شخصية بحتة ، بل هي نقمة وعداء لما جاء به الدين الحنيف ، من أسس العدل ، وهي

__________________

(١) أسد ال غابة ٤ / ٣٣ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧١ ، المناقب ١٩٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٦٨ ، مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٥ ، المعجم الأوسط ٩ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ١٠ / ٩١ ، المناقب ١٩٠.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٣٣٩ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧١ ، المناقب ٨٧.

(٤) سيأتي الحديث عن رواية عمار وما روي عن النبي (ص) في شأنه في محله من الزيارة.

(٥) كفاية الطالب ١٦٧.

(٦) الدر المنثور ٦ / ١٨.

٣٧٩

عداء للإسلام فيما شرَّع ، وعداء لله عزوجل ولرسوله الحبيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تقول الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام : «وما الذي نقموا من أبي الحسن ، نقموا ـ والله ـ منه نكير سيفه ، وشدة وطئته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله» (١).

والعدو المقصود ـ هنا ـ هو معاوية بن أبي سفيان الذي أخرج أهل الشام لحرب الإمام علي عليه‌السلام ، وعداء معاوية لله تعالى حقيقة دلَّ عليها سلوكه ، وأثبتتها سيرته ، لقد حارب معاوية الإسلام مع أبيه أبي سفيان في جميع الحروب قبل فتح مكة ، وأنكر على أبيه تظاهره بالإسلام يوم الفتح ، حيث كان خارج مكة يوم الفتح ، ثم أعلن الإسلام كرهاً بعد عودته إليها ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدّه في عداد المؤلفة قلوبهم.

ولو لم يرتكب معاوية من الموبقات سوى عداءه للإمام علي عليه‌السلام لكفى به شاهداً على كفره ونفاقه ، ومن راجع سيرته اتضح له بجلاء أنَّه كان جاحداً لما جاء به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان يستبيحه من الحرمات ، ويتجاهر بارتكابه من الموبقات ، كتجاهره بشرب الخمر ، وقتله الأبرار من الصحابة والتابعين ، يستحل دماءهم بدون مبرر ، وتنكيله بالصلحاء من المسلمين ، ونهب الأموال ، وتوليتة الفسقة على رقاب الناس ، ونقضه العهود التي أعطاها للإمام الحسن السبط عليه‌السلام ، حيث أعلن بعد إبرامها ـ بلا فصل ـ نواياه الشريرة بعدم الوفاء بها ، واغتياله له بدس السم إليه ، وأخذه البيعة لابنه الفاسق يزيد بالإكراه ، والتهديد ، والوعيد ، وبذله الأموال الطائلة لذوي المطامع من أجل إتمامها (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٣٣.

(٢) راجع تفاصيل ما أشير إليه في : النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ، النص والإجتهاد ٣١٩ ، ٣٣٣ ، الغدير : ج ١٠ / ١١.

٣٨٠