شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

ومحدِّثين ، أنَّ هذه الآية نزلت في علي عليه‌السلام ، ويُستدل على نزول ما سبقها فيه بوحدة السياق ، وهي أنَّ قتال البغاة المرتدين يختص به ولي أمر المؤمنين ، يقول الرازي في تفسيره : (فكان الأولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه ـ أي الإمام علي عليه‌السلام ـ) (١).

٥ ـ وممّا يؤيد نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام الأحاديث المستفيضة التي رواها الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي تنص على أنَّه عهد إلى الإمام علي عليه‌السلام بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، وإنَّه سيقاتلهم على تأويل القرآن ، كما قاتلهم على تنزيله ، وأمر بعض الصحابة أن يقاتلوا معه ، وتحت لوائه ، وإليك نماذج من تلك الأحاديث الشريفة :

قال ابن حجر : أخرج أحمد ، والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : إنَّك تقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله (٢).

ورُوي عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. قال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟. قال : لا ، ولكنه هذا خاصف النعل. وكان في يد علي نعل يخصفها.

ورُوي هذا الحديث عن أبي سعيد بألفاظ جاء في بعضها مضافاً لما جاء في هذا الحديث : قال عمر : فأنا هو يا رسول الله؟. قال : لا ، ولكن خاصف النعل (٣).

ورُوي عن علي عليه‌السلام ، قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ، والمارقين ،

__________________

(١) فضائل الخمسة ١ / ٢٨٢ عن تفسير الرازي للآية الكريمة.

(٢) الصواعق المحرقة ١٢٣.

(٣) تجد هذين الحديثين في : أسد الغابة ٤ / ٣٢ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٥١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٤ ، المستدرك ٣ / ١٢٣ ، مسند أحمد ٣ / ٣٣ ، نظم درر السمطين ١١٥.

٢٨١

والقاسطين (١).

ورَوى عتاب بن ثعلبة ، قال : حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب ، قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين مع علي بن أبي طالب (٢).

ورُوي عن عبد الله بن مسعود ، قال : اُمر علي بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين (٣).

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٣٨ ، تاريخ بغداد ٨ / ٣٣٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٨٦ ، كنز العمال ١٣ / ١١٣ المعجم الأوسط ٨ / ٢١٣.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧٢ ، المستدرك ٣ / ١٣٩ ، المناقب ١٩٠.

(٣) مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨ ، المعجم الأوسط ٩ / ١٦٥ ، المعجم الكبير ١ / ٩٢.

٢٨٢

آية الولاية

«* (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)(١) * (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(٢) * (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)(٣) * اللهم إنّا نعلم أنَّ هذا هو الحق من عندك ، فالعن من عارضه واستكبر ، وكذب به ، وكفر * (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(٤) *» :

اللغة: الزيغ : الميل عن الحق ، ومنه قوله : (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ): أي فلما مالوا عن الحق والطاعة ، أمال الله قلوبهم عن الإيمان والخير (٥).

نزول الآية :

يتفق علماء المسلمين من الفريقين : المفسرون ، والمحدثون ، والحفاظ على نزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام عندما تصدَّق بخاتمه على المسكين ، وهو يصلي في المسجد في حال الركوع ـ وقد مرَّ بنا ذلك أكثر من مرة أثناء

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) آل عمران ٣ : ٥٣.

(٣) آل عمران ٣ : ٨.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٢٢٧.

(٥) معجم البحرين.

٢٨٣

الشرح ـ وسننقل نماذج من الروايات في نزولها فيه ، واستعمال صيغة الجمع للمفرد من الأساليب المألوفة في اللغة العربية ، ومن مسوغاته فيها إرادة الإجلال والتعظيم.

ويعتبر الشيعة هذه الآية الكريمة من جملة النصوص الصريحة التي يستدلون بها على إمام الإمام علي عليه‌السلام ؛ لأنَّ الآية عطفت ولايته على ولاية الله عزوجل ، وولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستفاد من أداة الحصر (إنَّما) قصر هذه الولاية عليه بعدهما ، فهي تتفرع عن ولايتهما التي هي ولاية التصرف في أمور المسلمين ، وهذه الولاية أكَّدَها الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم ، وفسرها عندما ناشد من حضر من المسلمين ، فقال : أيها الناس من أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟.

قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يكررها ثلاثاً أو أربعاً.

وممّا لا شك فيه أنَّ السنة النبوية الشريفة تفسر ما جاء به الكتاب العزيز ، وما حديث الغدير إلّا تفسير لهذه الآية الكريمة يفصِّل ما تضمنته بوضوح لا لبس فيه ، أما صرف معنى الولاية إلى النصرة ، والحب ، وما شابههما من معانٍ ، فهو تأويل بلا دليل ، وتوجيه لمعنى آيات الذكر الحكيم بتمحل ، وابتعاد عمّا يحتمله اللفظ من معنى ، ليتفق مع عمل السلف ، وآرائهم ـ وإن خالفوا الكتاب والسنة ـ وهو بالتالي تحريف معنوي لما جاء به القرآن المجيد.

ويؤيد ما ذهب إليه الشيعة من المقصود بالولاية بعض ما رواه السنة في سبب نزول الآية الكريمة :

عن عمّار بن ياسر ، قال : وقف على علي بن أبي طالب سائل ـ وهو راكع في

٢٨٤

تطوع ، فنزع خاتمه ، فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعلمه بذلك ، فنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» (١).

عن أبي ذر الغفاري ، قال : أما إنّي صليت مع رسول الله يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله ، فلم يعطني أحد شيئاً. وكان علي راكعاً ، فأومى إليه بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبي ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رفع رأسه إلى السماء ، وقال : «اللهم إنَّ أخي موسى سألك فقال : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(٢) ، فأنزلت عليه كتاباً ناطقاً : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)(٣) ، اللهم وأنا محمد نبيك ، وصفيك ، اللهم فاشرح لي صدري ، ويسِّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، علياً أخي اشدد به أزري».

قال : فوالله ما استتم رسول الله الكلام حتى نزل جبرائيل من عند الله ، وقال : يا محمد ، هنيئاً ما وهب لك في أخيك. قال : وماذا يا جبرائيل؟. قال : أمر الله أمتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل عليك : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٢٢٣ ، مجمع الزوائد ٧ / ١٧ ، المعجم الأوسط ٦ / ٢١٨.

(٢) طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٣٢.

(٣) القصص ٢٨ : ٣٥.

٢٨٥

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١).

وهذان الحديثان واضحي الدلالة على ما ذهب إليه الشيعة من إرادة ولاية التصرف من معنى الولي ، لنص الأول منهما بما تضمنه حديث الغدير ، ونص الثاني على أنَّ نزول الآية الكريمة كان استجابة لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما دعا به موسى لأخيه هارون عليهما‌السلام ، فولاية علي عليه‌السلام في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كولاية هارون في أمة موسى عليهما‌السلام ، ولا شك أنّ ولاية هارون عليه‌السلام كانت ولاية تصرف ، لأنَّه كان نبياً ، والذي يفهم من نص حديث المنزلة أنَّ ما لهارون عليه‌السلام ثابت لعلي عليه‌السلام باستثناء النبوة (٢).

والآية الثانية بينت فضل من يلتزم بالولاية التي نصت عليها الآية السابقة لها ، وهي ولاية الإمام علي عليه‌السلام الذي تصدَّق بخاتمه حال الركوع ، فوضت الآية الكريمة الذين يتولونه بأنَّهم حزب الله ، وما ذلك إلّا لأنَّهم أطاعوا الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التزامهم بولاية الإمام علي عليه‌السلام ، وهي الولاية المتفرعة عن ولايتهما ، والمتممة لها ، ولم تمل بهم الأهواء ، ولم تؤثر فيهم نزعات الجاهلية ، بل آثروا أوامر الله تعالى ، والتزموا بها ، ولهذا الإلتزام ، ولما تمسكوا به من أوامر الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، تحقق لهم وعد الله تعالى بالنصر والغلبة.

إقرار ودعاء :

بعد أن استعرض الإمام علي الهادي عليه‌السلام بعض آيات الذكر الحكيم التي نزلت في جده المرتضى عليه‌السلام ، إنتقل إلى الدعاء ، فاقتبس من أدعية القرآن الكريم آيتين

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٢٣٠ ، نظم درر السمطين ٨٧.

(٢) راجع للمؤلف كتاب حديث المنزلة ، موضوع : (دلالة حديث المنزلة) ص ٦١.

٢٨٦

تلائمان غرضه.

تضمنت الآية الأولى الإقرار بما أنزل الله تعالى ، والإيمان به ، والإلتزام باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ما جاء به من عند الله عزوجل ، ويشمل ذلك ما مرَّ من جهاد المرتدين ، ومن الولاية للإمام علي عليه‌السلام التي نزل بها الذكر ، وأكدتها السنة في مواقف عديدة ، والدعاء إلى العلي القدير أن يجعلنا من الشاهدين ، بالإيمان بما أنزل الله تعالى ، والشاهدين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما بلّغ ، ثم الشهادة على من خالف ذلك من الأمة بأنَّه لم يطع الله عزوجل ورسوله فيما أمر به ، بعد التبليغ ، وقيام الحجة بالدليل.

وقد تضمنت الآية الثانية الدعاء ، والإبتهال إلى الله تعالى بأن يثبتنا على ما اعتقدنا به ممّا جاء في الكتاب والسنة ، بما فيه اختصاص الإمام علي عليه‌السلام بقتال المرتدين ، وولايته للأمة ، وأن يشملنا بتوفيقه ، كي لا نتبع الأهواء بمخالفة ما جاء فيهما ، فتزيغ قلوبنا ، ونميل عن الإيمان ، ونحيد عن الطريق القويم.

والله عزوجل لا يزيغ قلب أحد عن الهداية ، ثمَّ يعاقبه على ميله عن الهدى ، فقلب الإنسان يزيغ إذا اتبع هواه ، وأعطى قياده للشيطان ، واتبع وساوسه ، وبذلك يحرم نفسه من توفيق الله تعالى ، ويزيغ قلبه ، فالدعاء هنا طلب للمساعدة على الثبات ، وطلب الرحمة من الوهّاب الذي لا نفاد لعطائه.

لا شك أنَّ كل ما جاء به النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حق ينبئ عن إرادة الله تعالى ، والتبليغ بها ، لأنَّه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)، ومن ذلك ما أخبر به عن نزول هذه الآيات الكريمة في الإمام علي عليه‌السلام ، وما بلَّغ به الأمة من فرض ولايته على كل مؤمن ، فمن عارض الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، ولم يذعن لما أمر به ، فهو راد على الله تعالى ، معارض لما أمر به ، وفرضه على عباده ، وحائد عن الحق الذي جاءت به الشريعة ، وبذلك يستحق اللعن.

٢٨٧

والمستكبر الذي لم يذعن لولاية الإمام علي عليه‌السلام تكبّراً ، واعتداداً بنفسه ، بعد قيام الحجة عليها من الكتاب والسنة ، وكذلك التكذيب والكفر بما قام عليه الدليل فيها ، يستحق مرتكبه اللعن لأنَّه رادٌّ عليهما.

ومن حاد عن الحق فهو ظالم ، فالمعارض للولاية ، والمستكبر ، والمكذب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكافر بما جاء به من عند الله كلُّهم من الذين حادوا عن الحق ، وظلموا ، وهم من مصاديق الآية الكريمة ، وسيعلمون غداً منقلبهم يوم الحساب ، إذ ينتظرهم الجزاء العادل ، وسيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ولا مجال يؤمئذٍ لأن يدفع الإنسان عن نفسه بتأويل باطل ، أو تعصب ، وعناد يموِّه بهما ، هناك تتكشف الحقائق ، فلا مكان للزيف والتمويه ، وسيعرف من خالف الكتاب ، والسنة ، وتحدّاهما ، وحرَّف الكلم عن مواضعه ، بأنَّه ظلم نفسه قبل أن يظلم أحداً ، لما اختاره لها من سوء المنقلب.

٢٨٨

زهد وإيثار

«السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وأول العابدين ، وأزهد الزاهدين ، ورحمة الله وبركاته ، وصلواته وتحياته ، أنت مطعم الطعام على حبه مسكيناً ، ويتيماً ، وأسيراً ، لوجه الله لا تريد منهم جزاءً ولا شكورا (١) ، وفيك أنزل الله تعالى : * (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢) *» :

اللغة : الزهد في الشي : خلاف الرغبة فيه ، تقول : زَهِدَ في الشي (بالكسر) ، زُهداً ، وزهادة : بمعنى تركه ، وأعرض عنه ، فهو زاهد.

وفي معاني الأخبار : الزاهد : من يحب ما يحب خالقه ، ويبغض ما يبغض خالقه ، ويتحرج من حلال الدنيا ، ولا يلتفت إلى حرامه (٣).

آثر : فضَّلَ وقدَّم.

الخصاصة : الفقر.

الشح : حرص النفس على ما ملكت ، وبخلها به (٤).

يُوقَ : يدفع عنه ، يمنع عنه (٥).

__________________

(١) إشارة لما تضمنته سورة الإنسان.

(٢) الحشر ٥٩ : ٩.

(٣) مجمع البحرين.

(٤) لسان العرب.

(٥) مجمع البيان.

٢٨٩

الزهد ونظرة الإسلام إليه :

تحدثنا عن كون الإمام علي عليه‌السلام : أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وأول العابدين ، في فصل مستقل لكل منها ، وجاء الدور للحديث عن زهده :

لقد اتخذ المتصوّفة من الزهد جانباً سلبياً ، حيث جعلوا من مبادئهم الإعراض عن الدنيا إعراضاً تاماً ، يتركون فيه العمل ، ويتفرغون للعبادة ، ويقيمون طقوسهم الدينية على هذا الأساس ، ولهذه الظاهرة سلوك مشابه لدى الرهبان من النصارى ، وهو سلوك بعيد عن الآفاق التي جاء بها الإسلام ، وعن مبادئه القيِّمة التي تضمن للإنسان الصلاح في النشأتين معاً ، فمبادئ الإسلام تقرر مبدأ : «اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً» ، وترى أنَّ «من لا معاش له ، لا معاد له» وأهم ، وأوضح من هذا القول وذاك قوله عزوجل : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(١).

فالتفرغ للعبادة فقط ، والإعراض عن الدنيا إعراضاً تاماً ، وترك ما أحله الله من زينتها ، ومباهجها ، على الطرق التي تعتمدها المتصوفة من المبتدعات التي لا يقرها الإسلام ، فهذا السلوك يوقف عجلة التقدم إذا ساد في مجتمع ما ، ويحرم المجتمع من طاقات وإمكانات مجموعة من أبنائه ، وتبقى هذه المجموعة عالة على المجتمع تثقل كاهله ، بدل أن تستخدم طاقاتها لتنمية المجتمع وتطوره ، وهذا لا يتلاءم مع أهداف الإسلام ، ونظرته في تطوير المجتمع ، وتوفير الخير والسعادة لأبنائه.

ولا يحبّذ الإسلام ـ في الوقت ذاته ـ أن يتجه أبناء المجتمع اتجاهاً مادياً صرفاً ، بحيث يسيطر الجشع على مشاعر أبنائه سيطرة تنسيهم ما جاء به دينهم

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٧٧.

٢٩٠

الحنيف من مثل وآداب ، وتوجههم نحو المادة فتكون الدنيا أكبر همهم ، وهدفهم الأسمى الذي لا يشعرون بغيره ، لأنَّ هذا الإتجاه يمسخ أبناء المجتمع ، فيسلب عنهم الشعور بالمسؤولية ، ويفسح المجال لانتشار الجرائم ، وإشاعة الفاحشة ، وهذا ما نراه اليوم في المجتمعات المادية ، حيث تنحسر المثل ، وتطغى الأنانية في ظل حب المادة ، والاعتزاز بها ، لتصبح الهدف الأسمى الذي يسوِّغ أبشع الجرائم من أجل نيلها ، فتقتل الملايين ، وتستعبد الشعوب ، وينهب الضعفاء ، وما إلى ذلك من المآسي والآلام التي تلم بشرائح كبيرة من المجتمع البشري.

أمّا الإسلام ، فيختار الطريق الوسط المعتدل لمعتنقيه ، فهو يفسح المجال للإنسان لأن يكتسب ، ويعمل ، ويستثمر في الحدود التي تؤدي إلى تحقيق الرفاه والسعادة للفرد وللمجتمع ، بتظافر جهود أفراده ، وتعاونهم دون المساس بحقوق الآخرين ، وفي الوقت ذاته لا يغفل الآخرة ، فعلى المؤمن أن يستغل فرصة وجوده في الدنيا بالتوجه إلى الله عزوجل ، والإستزادة من العبادة ، والطاعة ، وتجنب المعاصي ، وأن يثابر في ذلك ، ليضمن النجاة والفلاح في الآخرة ، ولا ننسى ما ذكرناه سابقا من أن كل عمل يقوم به الإنسان خدمة لمجتمعه هو عبادة إن أراد به وجه الله عزوجل ، فأعمال التجارة ، والزراعة ، والصناعة ، وبناء المؤسسات الخيرية ، كلها عبادة لأنَّها توفّر للفرد وللمجتمع على حد سواء الرفاه والخير.

فالزهد في الإسلام : هو الإلتزام بحدود الشريعة الإسلامية ، وعدم التكلّف لملذات الحياة ، وعدم الإنهماك في أمورها المادية ، والعمل والسعي باعتدال للترفيه عن النفس ، وعن أبناء المجتمع ، مع الإهتمام بالآخرة ، والسعي لنيل السعادة فيها ، ويتضح لنا هذا المعنى من المحاورة الآتية التي جرب بين الإمام علي عليه‌السلام وأحد أصحابه :

٢٩١

دخل عليه‌السلام في البصرة على العلاء بن زياد الحارثي ـ وهو من أصحابه ـ يعوده ، فلمّا رأى سعة داره ، قال : ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟. وبلى ، إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذاً أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد.

قال : وما له؟.

قال : لبس العباءة ، وتخلّى عن الدنيا.

قال : عليَّ به. فلمّا جاء ، قال : يا عُدَيَّ نفسه ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك؟!. أترى أنَّ الله أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها؟!. أنت أهون على الله من ذلك.

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك!.

قال : ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنَّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدِّروا أنفسهم بضَعَفَة الناس ، كي لا يتبيَّغ بالفقير فقره (١).

فالتنعّم بدار واسعة في حدود ما رسمه الشرع الشريف ، يكسب الإنسان أجر الآخرة ، والذي يعيش منقطعاً عن أهله ، تاركاً ملذات الحياة ، فإنه عدوَّ نفسه ، قد أعطى قياده للشيطان ، فأبعده عن الطريق الصحيح ، وهل حرَّم الله تعالى على المؤمن أن يكون إجتماعياً ، يرعى عياله ، ويسعدهم بكده ، فيوفر لهم العيش السعيد؟!. وأن يتعاون مع أبناء مجتمعه ، لغرض بناء مجتمع أفضل ، يسوده الرخاء والخير؟!. وهل ذلك إلا عبادة يثيب الله تعالى عليها المؤمنين المخلصين؟. لقد خلق الله عزوجل ما خلق من نعم الدنيا وملذاتها للبشر كافة ، ليتمتعوا بها ، ولم يشترط لذلك

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ١٨٧.

٢٩٢

إلّا أن يكون التمتع بها في حدود ما يحل في الشريعة المقدسة.

زهد علي عليه‌السلام :

لقد تقشف الإمام علي عليه‌السلام في مأكله ، وملبسه ، ومسكنه ، فعاش يأكل خبز الشعير بنخالته ، يأتدم معه باللبن أو الملح ، ولبس مدرعة استحيا من راقعها ـ على حد تعبيره ـ وهو ابنه الحسن عليه‌السلام ، فما اتخذ من غنائمها وفراً ، ولا أعد لبالي ثوبيه طمراً ، ولا بنى قصوراً فخمة ، وذلك أمرٌ يختص به لمكان المسؤولية التي كان يتحملها بعد أخيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنَّه خليفته الذي يتحمل أعباء الرعاية الأبوية للأُمّة ؛ ولأنَّه المسؤول الأول عنها ، فقد أملت عليه ظروف مجتمعه ذلك النوع من العيش.

عاش عليه‌السلام في مجتمع لم تزل نزعات الجاهلية متغلغلة في أعماق أبنائه ، والناس بين فقير لا يجد لقمة العيش لسد رمقه ورمق عياله ، ولا يملك داراً تقيهم الحر والقر ، وبين من يملك الملايين ، ويبني القصور الفخمة ، ويكدس سبائك من الذهب والفضة ، فما الذي ننتظر من إمام العدل؟ وكيف سيتصرف؟ أم كيف يعين الضعفاء ، فيخفف عنهم شظف العيش وآلام الحياة؟. إنَّ سيرته العطرة تجيب على هذه التساؤلات ، وعلى كل ما يخطر على البال من تساؤلات غيرها ، فهو يواسي الفقراء ليخفف عنهم آلامهم ، ثم لا يكتفي بذلك ، بل يعمل ، ويجهد نفسه ليحصل على المال ، وينفقه عليهم ، ليساعدهم على مكاره الدهر ، فيحمل إليهم الحبوب ، والسمن ، واللحم ، ويلعق بيده يتاماهم العسل.

فزهد الإمام علي عليه‌السلام ليس ابتعاداً عن معترك الحياة ، ولا ابتعاداً عن أبناء مجتمعه ، يستصلح الأراضي ، ويحفر فيها الآبار ، ويعمل فيها بيده ، يغرس ، ويحصد

٢٩٣

لينفق ريعها على الفقراء ، ولم يمنعه الزهد من المطالبة بحقه المغتصب في الخلافة ، كما لم يمنعه من ممارسة مسؤولياته عندما تولاها ، فأقام العدل ، وقضى بين الناس ، وحارب البغاة ، جمع بين دنيا الخلافة ، وبين الزهد ، فلا دنيا الخلافة فتنته ، ليفارق ما كان عليه من الزهد ، ولا الزهد شغله عن مسؤوليات الخلافة ، بل كان كل منهما وظيفة مستقلة يؤديها على أكمل وجه ، فكانت سيرته مصدر خير وعطاء ، وهو رب عائلة يرعى شؤونها ، وهو راعي أمة يدير حياتها السياسية ، والإقتصادية ، والإجتماعية ، ومع ذلك لم يفتتن بشي من بهارجها ، وزخارفها.

إيثار المعوزين :

روى المحدثون والمفسرون قصة نزول سورة الإنسان في أهل البيت عليهم‌السلام بصور مختلفة في اللفظ ، متفقة في المعنى ، مع كثرة طرق روايتها (١) ، وإليك ملخصها :

مرض الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فنذر الإمام علي عليه‌السلام أن يصوم ثلاثة أيام إن برئا من مرضهما ، ونذرت البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام أن تصوم ثلاثاً ، ونذر الحسنان عليهما‌السلام أن يصوما ثلاثاً ، وكذلك نذرت خادمتهم النوبية فضة.

برأ الحسنان عليهما‌السلام من مرضهما ، فوفا أهل البيت عليهم‌السلام وخادمتهم بالنذر ، وصاموا ، فجاء الإمام علي عليه‌السلام بثلاثة أصوع من الشعير ، ولم يكن عندهم شي من الطعام سواها.

__________________

(١) أسباب النزول ٢٩٦ ، تفسير القرطبي ١٩ / ١٣١ ، ذخائر العقبى ١٠٢ ، شواهد التنزيل ٢ / ٣٩٤ ، فضائل الخمسة ١ / ٢٥٤ عن عدد من المصادر ، كفاية الطالب ٣٤٥ ، المناقب ٢٦٧ ، نور الأبصار ١١٢ ، ينابيع المودة ١ / ٢٧٩.

٢٩٤

فطحنت فضة صاعاً لليوم الأول ، وخبزته ، ووضعوا الخبز عند الإفطار ، فجاءهم مسكين ، وطرق الباب ، وسألهم أن يكرموه ، فقدموا له الخبز ، وطويت تلك الليلة على الجوع ، لم يذق فيها أهل البيت عليهم‌السلام سوى الماء.

وفي اليوم الثاني ، صنعت الخبز ، ووضعهوا للإفطار ، فجاءهم يتيم ، وطرق الباب ، وسألهم أن يكرموه ، فقدموا له الخبز ، وأفطروا على الماء.

وفي اليوم الثالث ، صنعت الخبز ، ووضعوه للإفطار ، فجاءهم أسير ، وطرق الباب ، وسألهم أن يكرموه ، فقدموا له الخبز ، وأفطروا على الماء ، وهكذا بقي أهل البيت عليهم‌السلام وخادمتهم فضة ثلاثة أيام بدون طعام ، يقدمون طعامهم للمحتاجين ، ويفطرون على الماء ، فنزلت فيهم سورة الإنسان ، تنوِّه بفضلهم ، وتبيِّن ما لهم عند الله عزوجل من الدرجات الرفيعة ، والجزاء الجميل ، والفضل الجزيل على ما تحمّلوا من الجوع في سبيله من أجل إشباع المحتاجين.

إنَّ تقديم المعوزين على النفس وإكرامهم بما هي في حاجة ماسّة إليه ، بسبب قلة ذات اليد ، ليس أمراً يسيراً ، بل يحتاج إلى مجاهدة النفس ، لمنع ما تبخل به ، وتحرص عليه ممّا تمس إليه حاجتها ، وهذا لا يتأتى لكل أحد ، بل يحتاج إلى درجة رفيعة من الإيمان ، والجود مع اليسار قد لا يكون أمراً عسيراً ، ومع ذلك نرى كثيراً من الناس يمتنعون عنه.

لقد ضرب أهل البيت عليهم‌السلام المثل الأعلى في الإيمان في جميع تصرفاتهم ، فلم يكن بدعاً أن يتصرفوا بشكل يعجز عن الإتيان به غيرهم ، لذا نراهم دائماً يضربون أروع الأمثلة في الإيثار ، والتضحية ، وتحمل الآلام ، والشدائد ، لتأدية طاعة خالصة لله تعالى ، وبذلك نالوا خير جزاء المحسنين ، وأنزل الله عزوجل فيهم من القرآن المجيد ما يشيد بهم ، ويعدهم الأجر الجزيل.

٢٩٥

لقد رأينا في هذه الفقرة من الزيارة صورة عن إيثار أهل البيت عليهم‌السلام ، وخادمتهم فضة التي نالت بفضل تربيتهم لها ما نالته من عظيم المنزلة.

وأمامنا الآن آية أخرى نص الإمام الهادي عليه‌السلام على نزولها فيهم ، وهو وارث علم الكتاب عن آبائه الطاهرين عليهم‌السلام.

وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، قال : نزلت في علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين (١).

وعن أبي هريرة ، قال : إنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشكا إليه الجوع ، فبعث إلى بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلّا الماء. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لهذا الليلة؟. فقال علي : أنا يا رسول الله. فأتى فاطمة ، فأعلمها. فقالت : ما عندنا إلّا قوت الصبية ، ولكنا نؤثر به ضيفنا. فقال علي : نوِّمي الصبية ، وأطفئي للضيف السراج. ففعلت ، وعشى الضيف ، فلما أصبح ، أنزل الله عليهم هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ) الآية (٢).

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٣٣٢.

(٢) شواهد التنزيل ٢ / ٣٣١ ، وقد روى هذه الرواية عن أبي هريرة المفسرون وأصحاب الصحاح والسنن ، ورواياتهم تختلف في تحديد من قام بهذا العمل فنزلت فيه الآية الكريمة ، فبعضها تقول : رجل ، ولم تحدد من هو ، وبعضها الآخر تقول : رجل من الأنصار.

٢٩٦

لا يستوي المؤمن والفاسق

«وأنت الكاظم للغيظ ، والعافي عن الناس ، والله يحب المحسنين ، وأنت الصابر في البأساء ، والضرّاء ، وحين البأس ، وأنت القاسم بالسوية ، والعادل في الرعية ، والعالم بحدود الله من جميع البرية ، والله تعالى أخبر عمّا أولاك من فضله بقوله : * (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(١)» :

اللغة : كظم الرجل غيظه : إذا اجترعه ، كظم ، يكظم ، كظماً : رده ، وحبسه ، فهو رجل كظيم (٢).

البأساء : من البأس ، أو البؤس ، والضراء : من الضر ، وقيل : البأساء : القحط ، والجوع ، والضرّاء : المرض ، ونقصان الأنفس (٣) والبأس : الشدة في الحرب (٤).

تتضمن هذه الفقرة من الزيارة وما بعدها جملة من صفات المؤمنين ، وهذه الصفات تصلح أن تكون معياراً ومقياساً لمدى إيمان الإنسان ، حيث تتعلق بالنزعات الفطرية التي لا يمكن التحلل منها إلّا بقوة الإيمان ، فالإنسان بطبعه ـ مؤمناً كان أو غير مؤمن ـ يميل إلى الإنتقام ممن يغيظه ، ويعتدي عليه ، ويميل إلى

__________________

(١) السجدة ٣٢ : ١٨ ـ ١٩.

(٢) لسان العرب.

(٣) مجمع البحرين.

(٤) الصحاح.

٢٩٧

مقابلة الإحسان بالإحسان ، والإساءة بالإساءة ، ويميل إلى الجزع عند النوائب ، وما شاكل ذلك من النزعات الذاتية ، التي لا يملك الإنسان زمام نفسه عندما يواجهها ، إلّا إذا كان مؤمناً ، قد روَّض نفسه على مخالفة الهوى ، والصمود أمام الصعاب والمكاره.

وقد تم شرح مضمون هذه الفقرة في موضوع : (من مظاهر إيمان الإمام علي عليه‌السلام) (١) ، ولا مزيد على ما ذكر هناك.

يجمع هذه الصفات عنوان واحد هو (الشدائد) ، والصبر عند الشدائد من سمات المؤمنين.

والجزع من نزعات النفس البشرية ، وهو يؤدي إلى الإنهيار ، والفشل ، والوهن ، فيصيب الإنسان الجزوع ما لا يحمد عقباه بوهنه ، وانهياره أمام الشدائد التي تلم به.

أمّا الصابر فإنَّه يقف أمام الشدائد بحزم وثبات ، ويتعامل معها بتعقّل وروية ، ويصل بذلك إلى أحد أمرين : فإمّا أن لا يضيف إلى مصيبته مصيبة أخرى ، بما يجنب نفسه من نتائج الجزع. أو يتخلص ممّا حلَّ به بالثبات ، وحسن التصرف.

والصبر من الصفات الحميدة التي يؤجر الله تعالى عليها عباده : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(٢) ، وقال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(٣) إلى غير ذلك ممّا وعدهم الله تعالى ، وأعده لهم.

ويتجلى الصبر بأعلى مراتبه في سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، وهو يواجه أحرج

__________________

(١) راجع ص ١٥٩.

(٢) الزمر ٣٩ : ١٠.

(٣) البقرة ٢ : ١٥٥.

٢٩٨

المواقف ، وأصعب المحن ، فكل سيرته أمثلة رائعة ، ودروس بليغة لصبره وأناته ، وحسن تصرفه في مواجهة المشكلات والصعاب ، ولا فرق في ذلك بين ما حلَّ به في السلم أو الحرب ، وعندما زوي عنه حقه في الخلافة ، أو عندما ألقت إليه زمامها ، وعندما كان يرى الأمور تسير على ما يرام ، أو عندما احلولك الأفق ، وتعثَّرت مسيرة الخلافة ، فأثيرت الفتن ، وبدا أنَّ عاصفة هوجاء تعصف بكيان الأمة ، وهي تريد أن تمحق كل ما تبقى لديها من المثل والأخلاق الكريمة ، وقد تقدم الحديث عن صبره في موضوع : (صبر علي عليه‌السلام) (١).

العادل في الرعية :

القسمة بالسوية ، والعدل في الرعية ، من الأمور التي يصعب على الحاكم الإلتزام بها ، ورعايتها ، لأنَّهما يصطدمان بميله النفسي إلى أقربائه ، وأحبائه ، وكل إنسان ـ في العادة ـ يفضِّل ذويه ومحبيه بصورة غريزية ، لا إرادية ، فيجد نفسه مدفوعاً إلى ذلك التفضيل شاء أم أبى ، ولا يتحلل من هذا الميل إلّا من اتصف بنكران الذات ، وروَّض نفسه على مخالفة الهوى بتقواه ، وإيمانه ، وثباته على العقيدة.

وهنا ترجح كفة الإمام علي عليه‌السلام رجحاناً يجعل العدل والقسم بالسوية مقترنين باسمه ، لا ينفكان عن صفاته ومكارمه بحال .. فالذي لا يفضل نفسه على غيره في العطاء ، كيف ينتظر منه أن يفضل قريباً على بعيد؟! أم كيف يفضل صحابياً على آخر ، أو على تابعي؟! أم كيف يفضل عربياً على مولى؟!. الكل عنده في شرعة الحق سواء ، «وكلهم لآدم ، وآدم من تراب» ، و «لا فضل لعربي على

__________________

(١) راجع ص ١٢٥.

٢٩٩

عجمي إلّا بالتقوى» ، و (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(١) ، أجل ، كلهم عباد الله يدينون بدين واحد ، ويعبدون ربّاً واحداً ، ولا يمتاز أحدهم بالفضل إلّا بمقدار ما يقدمه لدينه ، ولأمته من خير وعطاء مبتغياً به وجه الله ، وما يتحلى به من التقوى والصلاح.

تلك هي نظرة الإسلام للجميع ، وعلى وفقها كانت سيرة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ساوى بين مستحقي العطاء ، لم يفرق في ذلك بين مسلم وآخر ، واستمرّت هذه السيرة إلى بداية تولّى عمر الخلافة ، ولكنه عدل عن هذه السيرة ، ورأى أن يفضِّل بعض المسلمين على بعض في العطاء ، فأنشأ نظاماً طبقياً ، قسَّم فيه المسلمين مراتب ، وأعطى كل واحدٍ منهم حسب المرتبة التي صُنِّف فيها ، وتبعه عثمان على هذه السيرة.

وقد أسرف عثمان في سياسته المالية ، فاستأثر هو وبنو أمية بالأموال أيام خلافته ، ووهب الأموال لبعضهم بدون حساب ، فحصل من ذلك ثراء عريض لفئة من الناس بدون استحقاق ، وعلى حساب غيرهم من أبناء الأمة من المستضعفين المحرومين ، وقد وهب عثمان ـ إلى جانب ذلك ـ الهبات الكبيرة لبعض الصحابة بغية إسكاتهم عن معارضة سياسته المالية هذه ، وكمِّ أفواههم عنه ، أمّا الذين رفضوا استلام الأموال إلّا بحقها ، واعترضوا على هذه السياسة ، فقد حاول إسكاتهم بما استعمله من القسوة ، والبطش ، والنفي ، بسبب هذه المعارضة ، وكانت الإضطرابات تتفاقم بسبب هذه المخالفات ، وغيرها إلى أن انتهت بمقتل الخليفة.

وعندما تولى الإمام علي عليه‌السلام الخلافة بعد مقتل عثمان ، أعاد الأمور إلى نصابها ، وأرجع الناس إلى العمل بسيرة الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فساوى بين جميع

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٣.

٣٠٠