شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

الأمة ، وسيدة نساء المؤمنين» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (٢).

وأخرج ابن ماجة والحاكم عن أنس : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا ، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهدي» (٣).

__________________

(١) المستدرك ٣ / ١٥٦ ، وقال : (هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه) ، السنن الكبرى ٤ / ٢٥٢ ، ٥ / ١٤٧ ، كنز العمال ١٢ / ١١٠ ، مسند أبي داود ١٩٧.

(٢) خصائص أمير المؤمنين ١٢٢ ، ذخائر العقبى ١٢٩ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٢١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٥٠ ، الصواعق المحرقة ١٣٧ ، فضائل الصحابة ٢٠ ، مسند أحمد ٣ / ٣ ، ٦٢.

(٣) الصواعق المحرقة ١٨٧ ، تاريخ ابن خلدون ٧ / ٣١٩ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٦٨ ، كنز العمال ١٢ / ٩٧.

٢٢١
٢٢٢

مفارقة علي عليه‌السلام ضلال

«وأنَّك مولاي ، ومولى المؤمنين ، وأنَّك عبد الله ، ووليه ، وأخو الرسول ، ووصيه ، ووارثه وأنَّه القائل لك : والذي بعثني بالحق ، ما آمن بي من كفر بك ، ولا أقر بالله من جحدك ، وقد ضلَّ من صدَّ عنك ، ولم يهتد إلى الله ولا إليَّ من لا يهتدي بك ، وهو قول ربي عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)(١) إلى ولايتك ، مولاي فضلك لا يخفى ، ونورك لا يطفا ، وإنَّ من جحدك الظلوم الأشقى ، مولاي أنت الحجة على العباد ، والهادي إلى الرشاد ، والعدة للمعاد» :

اللغة : الظلوم الكثير الظلم. الرشاد : نقيض الغي (٢). المعاد : كل شيء إليه المصير ، والآخرة معاد الناس (٣).

الإيمان بعلي عليه‌السلام :

يتفق المسلمون على أنَّ إنكار أيَّ أصل من أصول العقيدة ، أو ضرورة من ضرورات الدين ، أو جحد شيء مما جاء به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعد مرتكبه ضالاً خارجاً عن الدين الحنيف ؛ لأنَّ الرسالة التي جاء بها ، وحدة واحدة لا تتجزأ ،

__________________

(١) طه ٢٠ : ٨٢.

(٢) لسان العرب.

(٣) لسان العرب.

٢٢٣

فليس بوسع أحد أن يكفر ببعضها ، أو يجحده ، ويدعي مع ذلك البقاء على الإيمان لأنَّه يتمسك بالبعض الآخر ، ويقرّ به ، قال عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١).

والولاية وأصول العقيدة الأخرى ، مع الأحكام الشرعية الثابتة ، تشكل الهيكل العام للعقيدة الإسلامية ، كعقيدة متكاملة ، ونظام شامل للحياة ، فمن اُنقص منها جزءً أصاب عقيدته التشويه ، وخرجت عن مسارها الصحيح إلى الإنزلاق في مهاوي الكفر ، والضلال ، والخروج عن الإسلام.

وبعد هذه المقدمة لا بد لنا من ذكر مقدمة أخرى ليتضح لنا ما يرمي إليه الإمام الهادي عليه‌السلام في هذه الفقرة من الزيارة :

لقد عُرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قبل البعثة في دار الشرك ـ بالصادق الأمين ، فلا ينكر أحدٌ صدقه ، وقد شهد له بذلك الأعداء قبل الموالين والأتباع ، وأثبتته التجارب المتكررة ، ثمَّ جاء الوحي فأكَّد ذلك وأيَّده ، فأخبر الذكر الحكيم أنَّه يفصح في أقواله عمّا يوحى إليه ، قال عزوجل : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ)(٢).

وفي مقام آخر يؤكد الذكر الحكيم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتصرف في أمر الرسالة بشيء ، ولا يقول إلّا ما أمر الله تعالى به ، ولو خالف لعجل له بالعقوبة ، يقول عزوجل : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا

__________________

(١) البقرة ٢ : ٨٥.

(٢) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٥.

٢٢٤

مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(١).

هذه الآيات الكريمة تضمنت تنزيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا اتهمه به المشركون من أنَّه كاهن ، أو شاعر ، وتضمنت التأكيد على أنَّ ما جاء به منزَّل من رب العالمين ، ولو تقوَّل على الله تعالى ما لم يؤمر به لنال أشد العقوبة ، وليس بوسع أحد أن يحجب عنه غضب البجار.

ويؤكد الذكر الحكيم أنَّ ما جاء به النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمر الله الذي يجب على العباد الأخذ به ، واتباعه في آيات عديدة ، منها قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ)(٢) ، وقوله عزوجل : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(٣) إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم التي أمرت باتباعه في كل ما يأتي به ، ونهت عن مخالفته.

إنَّ تدصيق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووجوب اتباعه من لوازم تصديق نبوَّته ، والإيمان بعصمته التي دل عليها العقل لاستحالة فرض إرسال نبي يعصي الله تعالى ، ويفرض اتباعه ، والمسلمون على اختلاف مذاهبهم ، واختلاف آرائهم في حجية أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته يتفقون على أنَّ ما يصدر عنه في مجال التبليغ حجة ، وهو جزء لا يتجزأ من الشريعة الحقة ، يجب التعبد باتباعه فيه ، ويختص شيعة أهل البيت عليهم‌السلام بالإعتقاد بعصمته في جميع الأحوال ، ولهم على ذلك أدلتهم العقلية والنقلية.

لقد بلّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة في الإمام علي عليه‌السلام أموراً كثيرة ، تضمنتها أحاديث

__________________

(١) الحاقة ٦٩ : ٤٠ ـ ٤٧.

(٢) النساء ٤ : ١٧٠.

(٣) الحشر ٥٩ : ٧.

٢٢٥

شريفة جاء بعضها مفسِّراً لآيات من الذكر الحكيم نزلت في فضله ، وقد تضمنت تلك الأحاديث : فرض ولايته ، ووجوب التمسك بها ، ووجوب حبه ، ووجوب طاعته ، واتباعه ، والرجوع إليه ، وما إلى ذلك مما صح به النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تضمّن هذا الكتاب نقل الكثير من هذه الأحاديث.

ملأت هذه الأحاديث كتب الصحاح ، وسائر كتب الحديث ، وكتب التفسير التي ألفها علماء المذاهب الإسلامية ، والذين ألف البعض منهم كتباً خاصة في ما رووه من أحاديث في فضائله ، وقد نص محققوهم على تواتر الكثير منها ، كما نصوا على صحة ما لم يبلغ حد التواتر منها ، أو حسنه ، مؤكدين استفاضته ، أو شهرته ، فهي مما يصح الاحتجاج به ، والركون إليه ، والقطع بصدوره من المشرع الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعل ما جاء من الأحاديث التي يصح الإحتجاج بها فيه عليه‌السلام لم يأت مثله في كثرته وسلامة طرقه في أي موضوع آخر.

يتبين لنا ممّا قدمناه أنَّ الكفر بما جاء في علي عليه‌السلام تكذيب للنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ لما جاء به عن الله وبلّغه للأمة ، ويستلزم ذلك الطعن برسالته ، وإنكار عصمته ، وترك ضروري من ضرورات الدين التي جاء بها ، وهذا كفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّ من آمن بنبوته ، وجبت عليه طاعته ، والأخذ بكل ما صدر عنه دون تردد ، ومن كفر بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجحده بعض ما جاء به فقد كفر بالله عزوجل ، حيث جحد ما أمر به ، وبلّغه عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إقامة الحجة والدليل.

ومن صدّ عن الإمام علي عليه‌السلام بعد معرفة فضله ومكانته ، والإطلاع على ما جاء فيه من الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ممّا يوجب تقديمه ، والتمسك بولايته ، فإنه ضال لمخالفته لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمفارقته الكتاب والسنة ، برفض الولاية التي أكمل الله عزوجل بها الدين ، وأتم النعمة على الأمة ، ورضي لها الإسلام

٢٢٦

ديناً.

كما أكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجوب الطاعة لعلي عليه‌السلام ، وفرض على الأمة الرجوع إليه فيما اختلفوا فيه من بعده ، وأعلمهم بأنَّه مستودع علمه ، وموضع سرِّه ، وأنَّه أعلمهم بالسنة ، وبالقضاء ، وأنَّه باب مدينة علمه ، وعيبة علمه ، ووارث علمه ، إلى غير ذلك ممّا نوه به من فضله (١).

فمن أراد أن يصل إلى ما جاء به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله عزوجل ، فلابد أن يكون الإمام علي عليه‌السلام طريقه إلى ذلك ، فهو المرجع والسبيل السليم الذي يجب أن يؤخذ عنه ما استودع من التفسير الصحيح لما انطوى عليه الكتاب العزيز من أسرار ، وما حوته السنة النبوية الشريفة ، ومن أخذ عنه فإنَّه يحصل على ما جاء به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون شائبة ، ولا أدنى شك.

ومن كان حاملاً لعلم الرسالة ، ومتعهداً بنشر العلم ، والدعوة إلى الله عزوجل ، ومن أرشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة إلى اتباعه ، وألزمها بولايته ، فإنَّه يهدي إلى الله ورسوله ، ومن أعرض عنه ، ولم يهتد به ، أو اتبع غيره ، فإنَّه لم يهتد إليهما ، لأنَّه لم يسلك الطريق الذي أرشدا إليه.

ولاية علي وأهل البيت عليهم‌السلام :

روى الحاكم الحسكاني بإسناده إلى أبي جعفر الباقر عليه‌السلام عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم ، فقال : «إنّ الله تعالى يقول : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)* ثمَّ قال لعلي بن أبي طالب : إلى

__________________

(١) كل جملة من هذه الفقرة تشير إلى حديث نبوي شريف ممّا تواتر أو نص الجمهور على صحته واستفاضته ، وقد تقدم نقلها مع ذكر بعض مصادرها في هذا الشرح.

٢٢٧

ولايتك» (١).

وفي روايات أخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام بلفظ : ولايتنا أهل البيت ، وما بمعنى هذه العبارة (٢).

وفي رواية عن أبي ذر في هذه الآية : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ...) قال : لمن آمن بما جاء به محمد ، وأدى الفرائض (ثُمَّ اهْتَدَىٰ) ، قال : اهتدى إلى حب آل محمد (٣) ، ولا شك أنَّ حبَّهم يستلزم ولايتهم ، وطاعتهم ، والإقتداء بهم ، والسير على نهجهم.

وظاهر الآية يحتمل المعنى ، فإنَّ من تاب من ذنوبه ، وآمن بالله عزوجل ، وبما جاء به رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرن إيمانه بالعمل الصالح ملتزماً بأحكام الإسلام ، فلابد له أن يهتدي بأهل البيت عليهم‌السلام لأنَّهم المنبع الصافي ، والطريق السليم لما جاء به الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، التي أمرت المسلمين باتباعهم والأخذ عنهم ، والتمسك بموالاتهم.

نور علي عليه‌السلام وفضله :

الإمام علي عليه‌السلام كالشمس لا يخفيها شي ، ولا يحجب نورها شي ، بل تزداد مدى الدهر توهجاً وتألقاً ، وأعداؤه ما استطاعوا إخفاء فضائله بما بذلوا من جهود ، وما اصطنعوا من أكاذيب ، وما اختلقوا من حجب ، لأنَّ الله عزوجل قدَّر لها الإنتشار ، ولأنَّها نعمة منه أنعم بها على عباده ، لينتفعوا بها ، ولابد من وصولها إلى من رغب الإنتفاع بها ، لأنَّه لا راد لما أعطى.

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ / ٣٧٦.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٧٥ ، الصواعق المحرقة ١٥٣.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٣٧٧.

٢٢٨

لقد مكث الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمته بعد الرسالة نيفاً وعشرين عاماً ، والإمام علي عليه‌السلام يلازمه طيلة هذه المدة ، لا يفارقه ، يحفظ عنه ، ويهتدي بهداه ، وهو يحدث بفضائل علي عليه‌السلام ، ويبلغ بها كلّما استدعت ذلك مناسبة ، أو سنحت فرصة ، حتى لم يبق مسلم شهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو سمع حديثه ، إلّا وعرف فضل علي عليه‌السلام ، ومكانته منه ، وقد تلقى ذلك التابعون عن الصحابة ، وتناقلته عنهم الطبقات التي جاءت من بعدهم ، كل يؤدي الأمان لمن يأتي بعده.

حارب الأمويون الإمام علياً عليه‌السلام بكل الوسائل ، وأعلنوا لعنه على المنابر ، وحرّموا على الناس ذكر فضائله ، أو الرواية عنه ، وحاربوا أولياءه ومحبيه ، فاستأصلوا بعضهم ، وهدموا دور آخرين ، وقطعوا عطاءهم ، وزجوا بهم في السجون ، فلم يزدهم ذلك إلّا كراهية ومقتا ، ولم يخرجوا منه إلّا بالخزي ، واحتمال المآثم عمّا أتوه من بهتان عظيم.

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فلم ينقص من فضله شيء ، ولم تخف مآثره وفضائله على الناس ، بل ازدادت فضائله انتشاراً ، وتألق نوره ليملأ قلوب المؤمنين ، فقد روى ابن عبد ربه عن الرياشي ، قال : (إنتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير علياً ، فقال له أبوه : يا بني إنَّه والله ما بنت الدنيا شيئا إلّا هدمه الدين ، وما بنى الدين شيئا ، فهدمته الدنيا.

أما ترى علياً وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر ، فكأنَّما ـ والله ـ يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس ، فكأنما يكشفون عن الجيف) (١).

ولما كان جحد الإمام علي عليه‌السلام جحد لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا شك أنَّ مرتكب

__________________

(١) العقد الفريد ٥ / ٩٠.

٢٢٩

هذا الذنب العظيم ظلوم شديد الظلم ، لمخالفته الحق الصريح بجحده ما أمر به الشرع الشريف ، فهو ظالم لنفسه ، لأنَّه أوردها المهالك باتباعه الهوى ، ومخالفته الشريعة ، وهو ظالم للإمام علي عليه‌السلام ، لأنه أنكر حقه ، وظالم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّه خالف أوامره ، فهو أشقى الناس بما ارتكبه من ظلم ، وما حمَّل نفسه من تبعة مخالفة الكتاب ، والسنة ، وإقحامها في نار جهنم.

الهادي إلى الرشاد :

مرّ بنا أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام هو حجة الله عزوجل على العباد لعصمته ، ولما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، ومن كان مع الحق ، ويفصح عن أمر الله تعالى بما استودع من علم الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، وما ألزم به نفسه من العمل بهما ، والإهتمام بتطبيقهما ، فهو الهادي إلى الرشاد ، وسيرته خير دليل على ذلك.

وقد جاء النقل يؤيد كونه هادياً في تفسير قوله تعالى : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(١). ففي حديث ابن عباس ، قال : (لما نزلت : * (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) قال رسول الله : «أنا المنذر ، وعلي الهادي من بعدي» وضرب بيده إلى صدر علي ، فقال : «أنت الهادي بعدي ، يا علي بك يهتدي المهتدون» (٢).

أما كون الإمام علي عليه‌السلام العدة للمعاد ، فلتعلق كثير من الأحكام به ، فحبه علامة الإيمان ، وعبادة ، وبولايته يكمل الدين ... إلى غير ذلك من مختصاته التي شهد بها الكتاب والسنة ، ومن تعبد بما جاء فيه ، والتزم به ، تزود من دنياه لآخرته ، ومن أخلَّ بذلك لا يرى غير الخسران المبين ، لأنَّه خالف الكتاب والسنة.

__________________

(١) الرعد ١٣ : ٧.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ / ٥٢٠ ، جامع البيان ١٣ / ١٤٢ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٨٢ ، فتح الباري ٨ / ٢٨٤.

٢٣٠

علي عليه‌السلام ومخالفوه في النشأتين

«مولاي لقد رفع الله في الأولى منزلتك ، وأعلى في الآخرة درجتك ، وبصَّرك ما عَمِيَ على من خالفك ، وحال بينك وبين مواهب الله لك ، فلعن الله مستحلّي الحرمة منك ، وذائدي الحق عنك ، وأشهد أنَّهم الأخسرون الذين * (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)(١) *» :

اللغة : بصَّرك جعلك في بصيرة من الأمر ، والبصيرة : الحجة ، والإستبصار في الشي. عَمِيَ : عَمِيَ عليه الأمر : إلتبس (٢). الذود : الدفع ، وذائدي الحق : دافعيه. تلفح : لفح : لفحته النار ، تلفحه لفحاً ، ولفحاناً : أصابت وجهه ، ولفحته النار : أحرقته. كلح : الكلوح : تكشر في عبوس ، وهو بدو الأسنان عند العبوس (٣).

منزلة علي عليه‌السلام :

جزاء الأعمال أمر حتمي ، وهو وعد من الباري لعباده : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٤) فقد اقتضت عدالته ولطفه أن يكافئَ المحسن ، ويعاقب المسي ، إلّا ما تقتضيه رحمته ببعض عباده المسيئين ،

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ١٠٤.

(٢) الصحاح.

(٣) لسان العرب.

(٤) الزلزلة ٩٩ : ٧ ـ ٨.

٢٣١

فيعفو عمن يشاء ، ويعذب من يشاء.

وجزاء الأعمال ـ خيراً كان أم شراً ـ قد يراه الإنسان في الدنيا فقط ، وقد يؤجل للآخرة ، وقد يجمع الله عزوجل الجزاء للإنسان في الدنيا والآخرة ، وذلك يعود لاختياره عزوجل ، فلا راد لأمره ، وما اقتضته حكمته.

وقد جمع عزوجل للإمام علي عليه‌السلام الجزاء في النشأتين ؛ لإخلاصه له ولبذله غاية الجهد في العمل طاعة لله تعالى ، أما جزاؤه في الدنيا فلم يكن جزاءً مادياً ، فمصير المادة إلى الفناء والزوال ، بل كان جزاءً معنوياً خالداً ما بقي الدهر ، لا يزول إلى قيام الساعة ، ليتصل بالجزاء في الآخرة ، إذ بلغ درجة عظيمة لم يبلغها غيره ، ولا يأمل بلوغها أحد بعده.

فالإمام علي عليه‌السلام نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخوه ، ووصيه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، وبمنزلة الرأس من البدن ، والذراع من العضد ، وهو وارث علمه ، ومن قال فيه : إنَّه منّي وأنا منه ، وأنَّه خير البرية ، وسيد المسلمين ... إلى غير ذلك من مآثره ومزاياه التي اختصه الله تعالى بها جزاءً لطاعته ، وإخلاصه لله عزوجل.

ولم ينل الإمام علي عليه‌السلام منزلته الرفيعة في الإسلام ، ومكانته من الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنسبه العريق ، أو بأموال اكتنزها ، أو سلطة زمنية تسنَّمها ، بل نالها بطاعته وإخلاصه لله عزوجل ، لأنَّ النسب يكون فضيلة إذا اقترن بالطاعة ، والإمام علي عليه‌السلام كان يهب الأموال للمعوزين ، ولا يرى لها وزناً ، أما المنصب فهو كما قيل عنه : (لقد زان الخلافة ، وما زانته) ، وما ذلك إلّا لأنَّه استغل وجوده فيها لإقامة العدل ، وتنفيذ أحكام الله عزوجل ، لذا نراه لم يتخذها مغنماً ، ولا اكترث بما يصاحبها من نفوذ وبهارج.

بقيت شخصية الإمام علي عليه‌السلام خالدة مع الأيام ، وتحت أقسى الظروف ،

٢٣٢

واخترقت كل ما أحيط حولها من حجب بفضل إخلاصه لله عزوجل متمثلاً بعمله الصالح ، وحرصه على التقوى ، ومجانبة الهوى ، ما جعل سيرته دروساً وغبر ، تتدارسها الأجيال على مدى القرون المتطاولة لتنهل من معينها.

ولم يبق تقديس الإمام علي عليه‌السلام ، ودراسة شخصية وقفاً على شيعته ، أو على سائر المسلمين فحسب ، بل وجد كلّ أبناء البشرية ـ على اختلاف أديانهم وميولهم ـ من مصلحين ومفكرين في سيرته العطرة العبر والعظات ، وما هو جدير بالدراسة والعناية ، وقد تبارى كثير ممن لا ينتمي إلى الإسلام ليتدارسوا سيرته ، فتناولوها بالشرح والتحليل وووقفوا عندها موقف إجلال ، وإكبار ، وتقديس ، فاستخلصوا منها دروساً قيمة ، ونعوا على أبناء عصره جهله م وعنادهم لمفارقتهم إياه ، وعدم استفادتهم من علومه.

وحسب الإمام علي عليه‌السلام عزّاً ، وشرفاً ، وفخراً ، ورفعة ، وعلو منزلة أن يقترن اسمه باسم المنقذ الأكبر للبشرية والرسول المصطفى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقترن شخصيته بشخصيته ، وأن يكون البحث عن سيرة أحدهما يستدعي ويستلزم البحث عن سيرة الآخر ؛ لأنَّه معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المواسي له بنفسه ، والذي يقتدي به في جميع تصرفاته ، وبالتالي فهو مفتاح شخصيته.

إنَّ هذه السيرة العطرة هي مركز إشعاع حرك أقلام المفكرين ، والعلماء ، والأدباء ، فألفوا الكتب ، وأعملوا الفكر ، ليرسموا للبشرية صوراً ملؤها العظات ، والدروس ، والعبر ، كما حرك قرائح الشعراء فانبروا ينشدون للأجيال نشيد العطاء ، والعمل الصالح ، والمثال الذي ينبغي أن يحتذي به المخلصون.

أما الجزاء الأخروي الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين ، وأعده لهم من لطفه وكرمه ، فقد نال منه الإمام علي عليه‌السلام ما يليق بما قدّمه من عمل صالح ، كما

٢٣٣

نصت على ذلك الأحاديث المتواترة والصحيحة عن النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نقلها عنه أهل البيت عليهم‌السلام ، وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد نقلنا نماذج مختارة منها في موضوع (وفاء بعهد الله) (١).

مخالفوا الإمام علي عليه‌السلام :

سيرة الإمام علي عليه‌السلام تدلنا على أنَّه كان على بصيرة من أمره في كل خطوة يخطوها ، فهو لا يقدم على أمر ، ولا يحجم عن أمر ، ولا يأمر ، ولا ينهى إلّا وفق أحكام الشريعة المقدسة ، لا يحيد عنها قيد شعرة ، فالكتاب ، والسنة نصب عينيه يطبقهما بكل دقة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أودع عنده أسرارهما ، ليكون المرجع إليه بعده ، حيث كان يهيؤه لخلافته ، بأمر من الله تعالى.

أما مخالفوه فإنَّهم اندفعوا لمخالفته بدوافع شتى منها : التعصب ، والجهل ، والحسد ، والنفاق ، ومهما كانت دوافع المخالفين فإنَّهم يشتركون في ترك الطريق الواضح ، والنهج القويم ، فقد أغمضوا أعينهم ، وأصمّوا آذانهم عمّا ثبت من الكتاب والسنة في ولايته ، وتأوّلوا أدلة تنصيبه للخلافة ، وأحقيته بها ، وحرموا الأمة مما يتحلى به من ملكات شخصية ، وما اختصه الله تعالى من صفات تؤهله لها ، وبذلك حالوا بينه وبين مواهب الله تعالى له ، وترتّب على ذلك تعثّر مسيرة الأمة نحو الخير ، والرقي ، وصُبَّت عليها الويلات بانحراف الخلافة عن مسارها الصحيح ، الذي أراده لها الله عزوجل ، وبلّغ به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأصبحت بعد برهة من الزمن ملكاً عضوضاً ، يتوارثه الأبناء عن الآباء ، فيعيث الخلف في الأرض فساداً ، متبعاً سيرة سلفه ، ويزيد على سلفه ما أمكنته الفرصة ؛ لأنَّه لم يأت إلّا لإشباع رغباته ونزواته ،

__________________

(١) ص ١٤١ من هذا الكتاب.

٢٣٤

لا يبالي بما يترتب على ذلك من فساد.

توارث الخلافة من لا يعرف السنّة إلّا عندما يستغل أحكامها ، ليُبرر أعماله ، فيشتري ضمائر ذوي الأطماع لتأويلها ـ بام لا تحتمله من تأويل ـ خدمة لمصالحه ، فيتخذها ستاراً يخفي وراءه جرائمه ، حتى بلغ أمر الخلافة من الهبوط والإنحدار إلى أن يموت الخليفة ، فيبلغ نبأ وفاته ولي عهده ـ وكان بيده مصحفاً يقرؤ فيه ـ فخاطب المصحف قائلاً : (هذا فراق بيني وبينك) ... أجل ، لقد آن الوقت للفراق! لأنَّه عقد العزم على نبذ الكتاب ، ومخالفة أحكامه ، ولم تصل الخلافة إلى هذا الحضيض ، ولم تصبح تراثاً للطلقاء وأبنائهم ، إلّا بعد أن زويت عن الإمام علي ، وأهل البيت عليهم‌السلام ، وحيل بينهم وبينها.

ولو كان الإمام علي عليه‌السلام قد تسلم الخلافة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لسار على نهجه ، ولعمل بما أخذه عنه من علم ، ويتم بذلك إكمال المسيرة التي بدأها ، وبناء المجتمع الإسلامي بما يتناسب والنهوض به نحو آفاق المجد والرقي ، ولما كانت الدولة الإسلامية تتوسع كمّاً ، وتنكمش كيفاً ، بسبب إقصاء القائد المؤهل لتزعمها ولما سُلِّط على الأمة من عاث في الأرض فساداً ، فعطل الحدود والأحكام ، وتلاعب بمقدّراتها ، ولما تكونت طبقة تنعم على حساب الأمة ، فتسلب خيراتها ، ولما طمع بالولاية من ليست له كفاءة ، ولكان توسع الدولة الإسلامية على غير ما شهده التأريخ.

علي عليه‌السلام وظالموه :

جعل الإسلام لكل إنسان حرمة ، بما هو إنسان ، وبغض النظر عن دينه ، ومنزلته الإجتماعية ، وجنسه ، وقوميته ... وما إلى ذلك مما تبتني عليه الفوارق بين

٢٣٥

الناس ، فالخلق كلهم عباد الله ، وكل فرد منهم يستحق ـ باعتباره إنساناً ـ أن يعيش بحرية ، وأن تحفظ له كرامته ، وأن ينال قسطه من العدل ، فيعامل بإنصاف ، ولا يحق لإنسان أن ينتهك حرمة أخاه الإنسان ، فيوجه له أي نوع من أنواع الأذى ، إلّا إذا كان ذلك جزاءً عادلاً يفرضه القانون ، حسب الحدود التي رسمتها الشريعة الغرّاء ، وقد جاء في الحديث الشريف : «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» (١) ، فانتهاك حرمة أي إنسان مخالفة للشريعة الحقة ، يحاسب عليها مرتكبها.

وإذا كانت نظرة الإسلام إلى حرمة الإنسان بهذا الشكل ، فكيف بمن ينتهك حرمة المؤمن عامداً؟! بل ، وحرمة سيد المؤمنين ، ويعسوبهم؟! فيعتدي عليه ، ويوجه له أصناف الأذى دون مبرر سوى الحسد والتعصب.

لقد أصاب الإمام علياً عليه‌السلام حيفٌ كبير ، وانتهكت حرمته طيلة حياته ، فكان يشعر بأنَّه مظلوم ، وكان الظلم فاحشاً تجاوز الحدود ، وترك أثراً مؤلماً على الإمام علي عليه‌السلام ، ولم يقتصر هذا الظلم على فترة دون أخرى من حياته بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولعله ظلم وانتهكت حرمته أيام تسنّمه الخلافة ، أكثر مما ناله من ظُلم وهو لا يمسك بزمام الأمور ، يقول عليه‌السلام : «ما زلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا» (٢) ، وقال عليه‌السلام ـ وقد سمع صارخاً ينادي : أنا مظلوم ـ : «هلم فلنصرخ معاً ، فإنّي ما زلت مظلوماً» (٣) ، وقال عليه‌السلام : «ما زلت مستأثراً عليَّ ، مدفوعاً عما أستحقه ، وأستوجبه» (٤) ، وقال عليه‌السلام : «ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ،

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي ٨ / ١٠٥ ، مسند أحمد ٢ / ٢٢٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٨٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ٣٠٧.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ٣٠٧.

٢٣٦

وأصبحت أخاف ظلم رعيتي» (١).

وأهم حرمة انتهكت للإمام علي عليه‌السلام دفعه عن حقه ، ومنعه منه بعد أن عرف جميع المسلمين تنصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه للخلافة ، وأخذ البيعة له بالولاية يوم الغدير قبيل وفاته ، وقد ثبت له بالعقل والنقل من الأدلة ما يؤيد حقه الشرعي فيها ، وهو ما لم يثبت لسواه.

ولاشك أنَّ من انتهك حرمة الإمام علي عليه‌السلام بأي أذىً وظلم ، فقد انتهك حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نص عليه الحديث الشريف : «من آذى علياً فقد آذاني» (٢) ، وروى عروة أنَّ رجلاً وقع في علي بمحضر عمر فقال عمر : (تعرف صاحب هذا القبر؟ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب ، لا تذكر علياً إلّا بخير ، فإنّك إن آذيته ـ وفي حديث : إن أبغضته ـ آذيت هذا في قبره) (٣).

فمن انتهك حرمة علي عليه‌السلام وآذاه ، فقد انتهك حرمة رسول الله وآذاه ، وهو مخالف لله تعالى ورسوله ، ويستحق بذلك اللعنة والخسران المبين ، وهو ممن (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ٧٠.

(٢) أسد الغابة ٤ / ١١٤ ، أنساب الأشراف ١٤٦ ، التاريخ الكبير ٦ / ٢٠٧ ، الجامع الصغير ٢ / ٥٤٧ ، صحيح ابن حبان ١٥ / ٣٦٥ ، المستدرك ٣ / ١٢٢ ، مسند أبي يعلى ٢ / ١٠٩ ، مسند أحمد ٢ / ٤٨٣.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥١٩ ، كنز العمال ١٢ / ١٢٣.

٢٣٧
٢٣٨

حديث المنزلة (١)

«وأشهد أنَّك ما أقدمت ، ولا أحجمت ، ولا نطقت ، ولا أمسكت ، إلّا بأمر من الله ورسوله قلت : والذي نفسي بيده ، لقد نظر إليَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أضرب بالسيف قدماً ، فقال : يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبي بعدي ، وأعلمك أنَّ موتك وحياتك معي ، وعلى سنتي فوَالله ما كذِبتُ ، ولا كُذبت ، ولا ضَللتُ ، ولا ضُلَّ بي ، ولا نسيت ما عهد إليَّ ربي ، وإنّي على بيِّنة من ربي ، بيَّنها لنبيه ، وبيَّنها النبي لي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألفظه لفظاً ، صدقت والله ، وقلت الحق» :

اللغة : أقدم على الأمر إقداماً ، والإقدام : الشجاعة. وحجمته عن الشي ، فأحجم : كففته ، فكف. أمسكتَ عن الكلام : سَكَتَّ (٢).

لقد تحدثنا فيما مرَّ من الشرح عن تقيّد الإمام علي عليه‌السلام بما أمر به الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع تصرفاته ، وذكرنا لذلك شواهد في أكثر من مناسبة ، والمقصود من الإقدام ، والإحجام ، والنطق ، والسكوت ـ هنا ـ ما دار في أمر الخلافة ، فقد طالب بها ، وعندما رأى أنَّ القوم مصرين على إبعاده عنها ، أحجم عن المطالبة بها ، وكان ذلك مراعاة منه لأحكام الدين ، وما أمره به سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) راجع كتاب (حديث المنزلة) للمؤلف.

(٢) الصحاح.

٢٣٩

أما الحديث الذي رواه الإمام علي عليه‌السلام في هذه الفقرة فيعرف بـ (حديث المنزلة) ، وقد اشتهرت روايته في غزوة تبوك ، حيث استخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام علياً عليه‌السلام على المدينة ، فأرجف المنافقون بأنَّه استثقله ، وكره صحبته ، فتبع الإمام علي عليه‌السلام الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خارج المدينة المنورة ، وأخبره بما أرجف به المنافقون ، فأجابه : «كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبي بعدي» ، وفي بعض الروايات : «لابد أن أقيم أو تقيم» وفي رواية أخرى : «إنَّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي» وفي رواية ثالثة : «فإن المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك» (١).

وقد اقتصر كثير من المحدثين على رواية هذا الحديث في هذه المناسبة دون غيرها ، وحاول بعضهم الإستدلال على اختصاصه بها ، فهو يخص استخلافه على المدينة المنورة عند خروجه لغزوة تبوك ، وروى بعضهم أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف على المدينة غيره ، وقد خلفه على أهله فقط ، وهذا يخالف ما يستفاد من الحديث ، لأنَّ خلافته على المدينة كخلافة هارون عليه‌السلام على أمة موسى عليه‌السلام ، ولكن هذه محاولات باطلة ، لا يمكن إثباتها ، ترمي لإبعاد الحديث عما يفهم منه من إرادة خلافة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحديث المنزلة من الأحاديث المتواترة ، وقد تعددت مناسبات صدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل تبوك ، وبعدها ، وقد بلغت موارد صدوره ـ في حدود ما اطلعت عليه ـ واحداً وعشرين مورداً ، منها هذه الرواية التي رواها الإمام الهادي عليه‌السلام في الزيارة عن جده المرتضى عليه‌السلام ، ومن الواضح أنَّ هذه الرواية لا ارتباط لها بغزوة تبوك ، لأنَّها صدرت في واقعة اشتركا فيها معاً ، وكان الوصي المرتضى عليه‌السلام يذب

__________________

(١) راجع ص ٣٠ من كتاب : (حديث المنزلة) للمؤلف.

٢٤٠