شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

إلّا مثل هذا. يعنونني» (١).

لم يتوقّفوا عند هذا الحد في تعنّتهم وتعصّبهم لما هم فيه من الضلال ، بل دفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى إلى أكثر من ذلك فيما حكاه عنهم الذكر الحكيم في قوله تعالى : (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(٢).

جوٌّ مشحون بالضلال ، وقوم جهلة متعصبون لضلالهم ، أعطوا الشيطان قيادهم ، فأعرضوا عمّا جاءهم من الحق ، ولم يصغوا إلى دليل عقلي ، ولم تنفع معهم معجزة ، بل أطاعوا الشيطان ، واتجهوا يطلبون من الله تعالى إنزال العذاب عليهم ، حيث كان الأجدر بهم أن يبتهلوا إليه بطلب الهداية إلى طريق الصواب ، في هذا الجو.

وبين هؤلاء الضالين بزغ نور الإسلام ، فكان البشير محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان معه وصيّه المرتضى عليه‌السلام يشد أزره ، ويعلن انتماءه للدين الجديد ، ويؤيده بكل تحد وإصرار ، فكان المجاهد الأول الذي يبذل نفسه لله تعالى.

عزّته وأنسه بالله تعالى :

المؤمن يعتزّ بالله عزوجل ، ويستأنس بطاعته ، ولا يستوحش إلّا من المعاصي والآثام التي تسخطه ، أمّ الناس فليس من الضرورة أن يجتمعوا على الحق ، بل ربما استوتهم زخارف الدنيا ، فتبعدهم عنه لينصروا الباطل ، ومن اعتز بالله تعالى لا يشرك في عزه غيره ، ولا يهم المؤمن ما دام ثابتاً مع الحق ، مطيعاً لله تعالى أن يتفرق عنه الناس ، لأنَّه لا يعتز بالمبطلين ، ولا يطلب النصر بالجور ، ومن اعتز

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٥٨.

(٢) الأنفال ٨ : ٣١ ـ ٣٢.

٢٠١

بالله عزوجل لا يذل ، ولا يضرع إلّا إليه ، وسيرة الإمام علي عليه‌السلام تشير إلى أنَّه كان يعتز بالله تعالى ، وقد تفرق عنه الناس ، فما اكترث لذلك ، ولا استوحش ، ولم تصبه ضراعة ، ولا ذل إلّا لله تعالى.

٢٠٢

علي عليه‌السلام وحطام الدنيا

«اعتصمت بالله ، فعززت ، وآثرت الآخرة على الأولى ، فزهدت ، وأيَّدك الله ، وهداك ، وأخلصك ، واجتباك ، فما تناقضت أفعالك ، ولا اختلفت أقوالك ، ولا تقلّبت أحوالك ، ولا ادّعيت ، ولا افتريت على الله كذباً ، ولا شرهت إلى الحطام ، ولا دنَّسك الآثام ، ولم تزل على بيِّنة من ربك ، ويقين من أمرك ، تهدي إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم» :

اللغة : إعتصمت العصمة : المنع ، والحفظ ، واعتصمت بالله : امتنعت بلطفه من المعصية (١). آثرت : آثره عليه : فضَّله ، وقدَّمه (٢).

أخلصك : أخلص الشي : اختاره ، وأخلصه الله : جعله مختاراً خالصاً من الدنس (٣). تناقضت : اختلف بعضها عن بعض. إفتريت : اختلقت كذباً. شرهت : الشره : غلبة الحرص. دنَّسك : الدنس : الوسخ (٤).

إعتصامه بالله تعالى وزهده

من أخلص لله عزوجل بإطاعة أوامره ، وترك نواهيه ، جاعلاً ذلك هدفه الأسمى في

__________________

(١) الصحاح.

(٢) تاج العروس.

(٣) لسان العرب.

(٤) الصحاح.

٢٠٣

هذه الحياة ، يقدِّمه على كل اعتبار ، يكتسب بذلك رضاه ، فتشمله رحمته ، ويعزه ، وبديهي أنَّ كل من اعتز بغير الله تعالى ذلَّ ، لأن فاقد الشي لا يعطيه ، «ومن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فليخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته».

إتَّسمت السيرة العملية للإمام علي عليه‌السلام طيلة حياته بالإخلاص لله تعالى ، والإعتصام به من خلال تطبيق أحكامه ، واتباع سيرة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعزه الله عزوجل ، ورفعه إلى درجة اعترف ببلوغه لها محبوه ومبغضوه ، فغبطه عليها قوم ، وحسده آخرون ، ولم ينل ذلك إلّا بالطاعة والإخلاص لله تعالى.

آثر الآخرة ، ففضلها ، وقدمها على هذه الدنيا الفانية ، وأجهد نفسه ، وثابر في العمل ، وضحى من أجل ذلك بكل غالٍ ونفيس ، مبتغياً مرضاة الله تعالى ، منتظراً ما يأمله المؤمنون من رضوانه في الآخرة.

والدنيا بنظره ليست الغاية ، بل هي الطريق إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، والوسيلة لنيل السعادة فيها ، يقول عليه‌السلام : «أيّها الناس إنَّما الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم ، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم.

إنَّ المرء إذا هلك قال الناس : ما ترك؟. وقالت الملائكة : ما قدَّم؟. لله آباؤكم ، فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً ، ولا تخلِّفوا كلاً فيكون فرضاً عليكم» (١).

ويقول : «أمّا بعد ، فإنَّ الدنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، وإنَّ الآخرة قد أقبلت ، وأشرفت باطِّلاع ، ألا وإنَّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيَّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟.

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٨٣.

٢٠٤

ألا وإنَّكم في أيام أمل من ورائه أجل ، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضرره أجله ، ومن قصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمله ، وضرَّه أجله» (١).

هذه هي نظرة الإمام المرتضى عليه‌السلام إلى الدنيا ومتعها ، وهي النظرة التي وجَّه الدين الإسلامي معتنقيه إليها ، شأنه في ذلك شأن سائر الأديان السماوية ، وانطلاقاً من هذه النظرة أعرض الإمام علي عليه‌السلام عن مُتع الدنيا وزخارفها ، مكتفياً منها بما هو ضروري لإدامة الحياة ، فلم يعد لها عنده كبير اهتمام ، بل كرَّس جهوده فيها لنيل رضى الله عزوجل ، فقدم فيها العمل الصالح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، حتى بلغ الدرجة التي لم يصل إليها أحد من هذه الأمة ، ولم يسبقه إليها سوى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أثبت بالقول والفعل أنَّ ملذات الحياة الدنيا ومتعها لا تستحق عناية فائقة ، واهتماماً كبيراً ، لأنَّها وسيلة ، وليست غاية .. أجل هي الوسيلة التي تبقي للجسم نشاطه ، وقوته ، وحيويته ، فالمأكولات وسيلة لإمداد الجسم بالطاقة التي يحتاج إليها ، ما لم يبلغ تناولها حد التخمة ، فتصبح مضرة بالجسم ، والملابس وسيلة لستر العورة ، وحفظ الجسد من عوارض الجو وتقلباته ، والمسكن وسيلة للإيواء من الحر والقر ، أمّا الغاية فهي العمل الجاد المخلص ابتغاء وجه الله تعالى وطلب رضاه ، من أجل إسعاد الأمة ، وهداية البشرية ، وإعلاء كلمة الحق ، وبسط العدل ، ونشر الفضيلة في أرجاء المعمورة.

وبإمكان الإنسان أن يشبع رغباته في ملذات الحياة ومتعها ضمن الحدود الشرعية ، عندما تكون الأمة في خير ورفاه ، دون تعدٍّ وتجاوز على حقوق

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٧٠.

٢٠٥

الآخرين .. وبإمكانه ـ أيضاً ـ أن يعيش مكتفياً بما يسد الرمق من طعامه ، بما يستر العورة ، ويحفظ الجسم من ملبسه ، وبما يكفي للإيواء من مسكنه ، فإن كان فضل فلإخوانه المعوزين ، وإلّا فكيف تسمع له إنسانيته ، وأخلاقه الإسلامية بالتلذذ بمتع الحياة وحوله المعوزين؟!. أم كيف يهنأ عيش المرء وهو يرى إلى جانبه الجائعين ، والعراة ، والذين يعيشون تحت السماء لا يؤويهم سقف؟!.

إنَّ النزعة الإنسانية ، والنفس التي هذبها هدي الدين الإسلامي الحنيف ، وصقلتها توجيهات القرآن الكريم ، والسنة المحمدية ، لتأبى إلّا أن ترى الناس كل الناس في خير ، القريب منهم والبعيد ، وأن تواسيهم ، وتجعل الحياة وسيلة لخدمتهم وإسعادهم طاعة لله تعالى ، وطلبا لرضاه.

لقد ضحّى الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل إسعاد الضعفاء ، فاكتفى بأبسط العيش في مأكله ، وملبسه ، ومسكنه ، وكانت الأموال تجبى إليه ، فيوزعها على الفقراء ، ويقدم لهم حقه منها فلا يبقي لنفسه شيئاً ، بل ربما طوى يومه جوعاً ، لأنَّه لم يجد في ذلك اليوم ما يسد به رمقه ، لأنَّه آثر الفقراء على نفسه.

وبهذه السيرة العطرة اقتدى الوصي عليه‌السلام ، فآثر الفقراء والمعوزين على نفسه ، وأعرض عن ملذات الحياة الدنيا من أجل إسعادهم ، مؤثراً لهم على نفسه في سبيل الله ، زاهداً في زخارف الدنيا وملذاتها ، وطالما خاطبها : «يا دنيا غرّي غيري» (١) ، كما خاطب الذهب والفضة عندما رآهما مكدّسين في بيت مال البصرة : «يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري» (٢).

وللإمام علي عليه‌السلام مع الدنيا أحاديث ، يبيّن زهده فيها ، ويدعو الناس إلى

__________________

(١) أنساب الأشراف : ١٣٢.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٢.

٢٠٦

الإقتداء به ، موضّحاً لهم أنَّها لا تستحق الإهتمام ، ومؤكداً إعراضه عنها ، مع بيان بليغ للعلل التي دفعته إلى ذلك ، ولعل من أورعها ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف ، يقول عليه‌السلام : «إليكِ عنّي يا دنيا .. فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبتُ الذهاب في مداحضك ، أين القرون الذين غررتِهم بمداعبك؟!. أين الأمم الذين فتنتِهم بزخارفك؟!. فهاهم رهائن القبور ، ومضامين اللحود ، والله لو كنتِ شخصاً مرئياُ ، وقالباً حسياً ، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتِهم بالأماني ، وأمم ألقيتِهم في المهاوي ، وملوك أسلمتِهم إلى التلف ، وأوردتِهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر.

هيهات! من وَطِئَ دحضكِ زلق ، ومن ركب لُجَجَكِ غرق ، ومن ازورَّ عن حبائِلكِ وُفِّق ، والسالم منكِ لا يبالي إن ضاق به مناخه ، والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزبي عني! فوَالله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيم الله ـ يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضنَّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص ـ إذا قدرت عليه ـ مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها.

أتمتلي السائمة من رعيها ، فتبرك؟!. وتشبع الربيضة من عشبها ، فتربض؟!. ويأكل عليٌّ من زاده ، فيهجع؟!. قرَّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالهيمة الهاملة ، والسائمة المرعية!» (١).

يعكس هذا الحديث مع الدنيا جهة نظره عليه‌السلام في إعراضه عنها ، وزهده في ملذاتها ، وبهارجها ، ونعيمها الزائل ، معللاً ذلك بمعايبها ، فهي تغر من أقبل عليها ، وجعلها أكبر همه ، وتخدعه ، وتورده المهالك ، وتصده عن ضمان مستقبله في

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٣.

٢٠٧

الحياة الدائمة في الآخرة ، بل وتجعل هذا المستقبل جحيماً ، وعذاباً مقيماً ، لمن أقبل عليها ، ناسياً آخرته ، لا يعرف غير إشباع نهمه ، مقتدياً بالبهائم ، لأنَّه ترك عقله ، فلم يفكر في الحياة كما ينبغي ، مقدّماً ما هو مرهون بالزوال من متع الحياة على كل القيم.

ولو عطفنا هذه الفقرة على ما سبقها من هذه الرسالة ، لظهرت لنا صورة أكثر وضوحاً لما كان عليه الإمام المرتضى عليه‌السلام من زهدٍ بالنيا ، وهَوانها عليه ، وإعراضه عن ملذاتها الزائلة ، وهو يطبق على نفسه ما يقوله في هذا المجال ، وما ينصح الناس به ، حيث يقول : «ألا وإنَّ لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ، ويستضي بنور علمه ، ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنَّك لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفّة وسداد ، فَوَالله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا» (١).

ويضيف عليه‌السلام قائلاً : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرّى؟!. أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحن إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!. أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟!. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها ، وتلهوا عمّا

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.

٢٠٨

يراد بها ، أو أترك سدى؟!. أو أهمل عابثا؟!. أو أجرّ حبل الضلالة؟!. أو أعتسف طريق المتاهة؟!.» (١).

هذه هي دنيا أمير المؤمنين عليه‌السلام اكتفى من بهارجها ، وملذاتها ، ونعيمها الزائلئ بطمرين : إزار ورداء يكسوانه ، ويستران بدنه الطاهر وقد رقع مدرعته ـ أي إزاره ـ حتى استحيا من راقعها ـ على ما روي عنه ، واكتفى من الطعام بقرصين من خبز الشعير الذي لم ينخل دقيقه ، يأتدم معهما بقليل من ملح أو لبن. قال رجل من أصحابه : (مضيت معه إلى منزله ، فنادى : يا فضة ، فجاءت خادم سوداء ، فقال : غدينا. فجاءت بأرغفة ، وبجرة فيها لبن ، فصبتها في صحفة ، وثردت الخبر ، فإذا فيه نخالة ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أمرت بالدقيق فنخل ، فبكى ، ثم قال : والله ما علمت أنَّه كان في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منخل قط) (٢).

أمّا مسكنه : فإنَّه عليه‌السلام كان في المدينة المنورة يسكن في دار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي بناها مع المسجد من الطين والحجارة ، وكان سقفها من سعف النخيل والطين ، أفرد لكل واحدة من أزواجه بيتا منها ، وجعل لعلي عليه‌السلام بيتا كان يسكن فيه ، وفيه تزوج من البضعة الطاهرة عليها‌السلام ، ولم يخرج منه إلّا عندما غادر المدينة متوجهاً إلى حرب الجمل ، بعد رجوع الخلافة إليه ، ولم يبن في المدينة غيره.

وعندما أقام في الكوفة بعد انصرافه من حرب الجمل ، واتخذها عاصمة للدولة الإسلامية ، لم يسكن قصر الإمارة ، ولم يشتر في الكوفة داراً ، ولم يبن فيها ، بل سكن في دار ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي قرب المسجد.

قال أبو نعيم : سمعت سفيان يقول : ما بنى عليّ آخرة على آجرة ولا لبنة على

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٧١.

(٢) أنساب الأشراف ١٨٧.

٢٠٩

لبنة ، ولا قصبة على قصبة ، وإن كان ليؤتى بحبوبه في جراب من المدينة (١).

أمّا الأراضي التي استصلحها الإمام علي عليه‌السلام ، فكانت تدر أموالاً طائلة ، إذ بلغت غلتها ـ على ما روي ـ أربعين ألفاً (٢) ، كان ينفقها على الفقراء ، ويؤثرهم على نفسه ، فكان يطعمهم البر ، والرز ، والسمن ، واللحم ، ويطعم اليتامى العسل من ريعها ، وأوصى بأن تكون وقفاً على فقراء المسلمين بعده ، ولم يجعل لورثته منها إلّا ما يكفيهم من طعام ولباس.

وقد شهد له بالزهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «يا علي ، إنَّ الله زيَّنك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إلى الله منها : الزهد في الدنيا ، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً ، ولا تنال منك شيئاً ، ووهب لك حب المساكين ، فرضوا بك إماماً ، ورضيت بهم أتباعاً ، فطوبى لمن أحبك ، وصدَّق فيك ، وويل لمن أبغضك ، وكذب عليك ، فأمّا الذين أحبوا وصدقوا فيك ، فهم جيرانك في دارك ، ورفقاؤك في قصرك ، وأمّا الذين أبغضوك ، وكذبوا عليك ، فحق على الله أن يوقفهم يوم القيامة موقف الكذابين» (٣).

اختيار الله تعالى له عليه‌السلام :

الناس كلهم عباد الله تعالى ، وكلهم مشمولون برعايته ورحمته ، والعلاقة بين العبد وربِّه تتفاوت من فرد إلى آخر ، إذ يحددها العبد بتقواه ، ومدى إطاعته لله

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٨٢.

(٢) أنساب الأشراف ١١٧ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٦٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٥ ، مسند أحمد ١ / ١٥٩.

(٣) أسد الغابة ٤ / ٢٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٢٨٢ ، كفاية الطالب ١٩١ بمعناه.

٢١٠

تعالى ، وابتعاده عن نواهيه ، فهي علاقة متينة بين من تحصّن بالتقوى من العباد ، وازداد منها ، وبين الله عزوجل ، وكلما ابتعد العبد عن التقوى ، كانت علاقته بربِّه واهية ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(١).

أمّا إذا كان العبد لا يخالف الشريعة مطلقاً ، بل ويحدد جميع تصرفاته وفق أحكامها ، فلا تفوته طاعة ، ولا يقترف معصية ، فلاشك أنَّ الله عزوجل يرفعه إلى درجة سامية رفيعة ، فيكون ممن اختاره.

والإمام علي عليه‌السلام ـ كما هو معروف من سيرته ـ قضى عمره الشريف في طاعة الله عزوجل ، فلم يعصه طرفة عين ، وقد نال درجة العصمة التي شهد له بها الذكر الحكيم ، مخلصاً لله تعالى مقتفياً أثر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان بذلك هادياً ، مهدياً ، اختاره الله عزوجل ، فأيده بتوفيقه ، وهداه إلى الصراط المستقيم ، ونصر به دينه القويم ، واصطفاه ، فأذهب عنه الرجس ، وأخلصه من كل دنس ، فكان نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووليه ، ووصيه ، وكما اختاره الله عزوجل للرسالة ، اختار علياً عليه‌السلام لخلافته ، وجعله منه بمنزلة هارون من موسى.

استقامة علي عليه‌السلام :

إن التناقض في الأفعال ، والإختلاف في الأقوال ، وتقلب الأحوال من النتائج الحتمية لتغلب الهوى على الإنسان ، فمن يتغلب هواه على تقواه ، نراه يفعل اليوم ما كان يعده بالأمس جريمة ، وكثير من ولاة الأمور يطبقون الأحكام بحزم إذا لم تتضارب مع مصالحهم الشخصية ، ثم نراهم بعد ذلك يخالفونها متذرعين بعلل شتى ، ومن أمثلة ذلك غض النظر عن المخالفة إذا ارتكبها قريب برحم ، أو

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٣.

٢١١

ممارستهم المحرمات التي يعاقبون الناس عليها ، وما إلى ذلك من مخالفات.

وكثير من الناس ينتقدون من يرتكب خطيئة ، أو عدواناً ، وينهون ولاة الأمور عن ممارسة بعض التصرفات المشينة ، ويوجهون إليهم أشد اللوم ، ويظهرون معايبهم ، ما داموا بعيدين عن السلطة ، ولكنهم عندما يتولون السلطة يقترفون أبشع الجرائم ، ويختلقون لها الأعذار والمبررات ، وهكذا نرى بعض الناس يتظاهرون بحسن النية والدعة لأنَّهم لم يجدوا وسيلة لممارسة الظلم ، فإذا كان ذلك بمقدورهم نراهم يمارسونه بأقسى أشكاله ، وبأشدها بشاعة.

أما الإمام علي عليه‌السلام الذي هو إمام المتقين ، وسيد المؤمنين ، وهو الذي تبنّى الرسالة الإسلامية علماً ، وعملاً ، وجهاداً ، فكان يقدم رضى الله عزوجل على كل شيء ، ويروِّض نفسه على مخالفة الهوى ، ويسلك من أجل ذلك أوعر الطرق ، ولا يهمه ما يواجه إذا كان في ذلك طريق الوصول إلى الحق ، وما فيه رضى الله تعالى ، وتجنب معاصيه ، وما يتبعها من حسابه ، وسخطه ، وعقابه.

ولما كان الإمام علي عليه‌السلام ملازماً للحق لا يفترق عنه ـ كما شهد له بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو على ما عرف به من التقوى ، والإلتزام بأحكام الشريعة ، لأنَّه معصوم ، فمن الطبيعي أن لا تتناقض أفعاله ، ولا تتغير من حال إلى حال ، وأن تتجلى للأجيال استقامته في كل خطوة من خطواته ، وذلك لأن أحكام الشريعة الإسلامية ـ التي يلتزم بها ولا يخالفها ـ لا تتناقض فيها ، بل هي متناسقة متكاملة ، لأنَّها شرِّعت من خالق الكون العليم الحكيم.

والإمام علي عليه‌السلام لا يتصرف بأموال الأمة إلّا بحق ، فتراه يعامل في ذلك القريب والبعيد على حد سواء ، ويمتنع من أن يتألف أهل الطمع من الرؤساء بالمال ، ولعل أروع الصور في هذا المجال تتجلى في تعامله مع أخيه عقيل ، عندما

٢١٢

طلب منه أكثر مما يستحق من بيت المال ، وألح في المسألة ، فقدم له حديدة محماة ، ليشعره أن طلبه يؤدي إلى نار جهنم ، وعذابها الذي أعده الله تعالى لمن يتعدى على حقوق الناس.

ولم تختلف أقواله ، لأنَّه لا ينطق إلّا بكلمة الحق ، التي فيها رضى الله عزوجل ، وما تتضمن من الدعوة إليه ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبث تعليمات الشريعة ، وأحكامها ، وآدابها ، يرشد الناس لما فيه الخير والصلاح في النشأتين ، وليس هو ممن يطلق العنان للسانه ، ليتفوه بدون تفكير ، تبعاً لهوى النفس ، بل يطبق على نفسه ما جاء في إرشاداته ، حيث يقول : «لسان العاقل من وراء قلبه» ، لذلك لم تؤثر فيه ملابسات الظروف المختلفة التي أحاطت به في مختلف أدوار حياته ، بل بقيت كلمة الحق لا تفارق شفتيه ما دام حياً ، وهذا نهج البلاغة وغيره من الكتب التي نقلت أقواله : من خطب ، ورسائل ، وحكم ، ووصايا ، كلها شواهد صدق على أنَّ أقواله لم تختلف.

ولنا أن نعطف على ما سبق ، ما نقله التأريخ من نصائحه لولاة الأمر من الخلفاء الذين سبقوه ، وما حاسب به ولاته وعماله ، وما يلاحظ فيها من استعمال نفس اللهجة من الإعتراض ، والمحاسبة ، والتوجيه ، والتقويم ، لأنَّه يرشد إلى الحق ، واتباع سبيل الرشاد ، والحق واضح وجلي ، والإنحراف عنه لا يختلف من زمن لآخر ، ولا من فرد لآخر ، وإن اختلفت درجة الإنحراف.

وقد اتخذ الإمام علي عليه‌السلام لنفسه نهجاً واحداً ، ألزم نفسه بالسير عليه في مختلف أدوار حياته ، بتحمله مسؤولية الدعوة وأعبائها ، والجهاد في سبيل الله بكل وسيلة ، والزهد في مفاتن هذه الدنيا وبهارجها ، والعمل على إسعاد المعوزين ، ولم يأل جهداً في إصلاح الناس بشتى الوسائل ، لذلك لم تتقلب أحواله.

٢١٣

ولم تغير الخلافة من سيرة الإمام علي عليه‌السلام شيئا ، فلم يعهد تأريخ ولاة الأمور رجلاً تسنّم منصباً ، ولم يكن له من ذلك المنصب سوى العناء ، والحرص على تنفيذ حكم الله عزوجل ، ولم يختص نفسه بشي غير الشعور بتحمل المسؤولية ، سوى الإمام علي عليه‌السلام الذي كان أكثر إيثاراً وهو يتسنم منصب الخلافة منه قبل تسنمه.

كان الإمام علي عليه‌السلام يرى أنَّه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، وأنَّ الخلافة اغتصبت منه ، وأنَّها الحق الذي ثبت له بالنص ، وبأمر من الله عزوجل ، بلَّغ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أيَّده في ذلك بنو هاشم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فيهم عمه العباس عليه‌السلام ، وأيَّده ـ كما مر ـ عدد من أجلاء الصحابة ، وذوي الفضل منهم ، وتابعهم على ذلك شيعة أهل البيت من التابعين وإلى يومنا هذا.

وهو رأي لم يأتِ من فراغ ، ولم يكن أمراً إعتباطياً ، بل يستند إلى ركنين ، يرتبط أحدهما بالآخر ، ويتفرع عنه ، وهما : نص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإمام علي عليه‌السلام بالخلافة في مواطن متعددة ، وأنَّ النص كان بأمر الله تعالى ، وعلى لسان من (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ)، وكما ثبت لدينا أنَّ الله عزوجل اختار محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرسالة ، فقد اختار علياً عليه‌السلام لخلافته ، وهذا ما ثبت بالادلة الشرعية : نقلية ، وعقلية ، والنقلية جاءت في الكتاب والسنة بنصوص متعددة ، لسنا بصدد تكرارها ، وقد تضمن هذا الشرح عدداً غير قليل منها في مختلف فصوله ، وهي أدلة واضحة يعترف بصحة صدورها علماء المسلمين ، إلّا أنَّ بعضهم لا يأخذون بها ، حيث يؤوّلونها لغير المعاني التي تفهم منها ، إعراضاً عن ظاهر اللفظ بلا قرينة ، ولا دليل.

من هنا نعرف أنَّ ادعاء الإمام علي عليه‌السلام بالخلافة ، ومطالبته بها ، وإصراره على أنَّها حقه الشرعي الذي فرضه الله عزوجل ، وبلَّغ به رسوله الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يكن أمراً غير معروف ، أو مما يدور حوله الشك ، لذا فليس هو محض ادعاء ، بل هو

٢١٤

حقيقة واضحة ، وثابتة بالأدلة ، وليس فيه افتراء بالكذب على الله تعالى ولا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي عليه‌السلام أتقى وأورع من أن يدعي ما ليس له ، وحاشاه أن يفتري ، وقد سكت عليه‌السلام عن هذا الحق ، وأعرض عنه ، عندما رأى أنَّ مصلحة الأمة تقتضي ذلك ، وصبر على ما نزل به من حيف ، يقول عليه‌السلام : «لقد علمتم أنّي أحق الناس بها ـ أي الخلافة ـ من غيري ، ووالله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلّا علي خاصة ، التماساً لأجر ذلك ، وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه ، وزبرجه» (١).

وكان الإمام علي عليه‌السلام في سيرته العطرة بعيداً عن الشره إلى حطام الدنيا ، فقد كان يستلم ما يرد إليه من عطاء ، ويضم إليه ريع ما يستصلحه من أراضٍ زراعية ، لينفقه على فقراء المسلمين ، أما هو فيكتفي باليسير ، ولم يختلف حاله في ذلك في أدوار حياته المختلفة ، وأصحابه أكثر مما يأخذه أي فرد من المسلمين ، ولم يتألف أحداً بمال ، بل أجاب من اقترح عليه تفضيل بعض الوجوه والرؤساء ليتألفهم ، بقوله : «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت؟! والله لا أطور به ما سمر سمير (٢) ، وما أمَّ نجم نجماً ، لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف؟ وإنِّما المال مال الله! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ، ويهينه عند الله (٣)». ومن كانت هذه نظرته ، ومن

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١٢٤.

(٢) أي لا أقاربه مدى الدهر.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ٧.

٢١٥

يخرج إلى السوق يعرض سيفه للبيع ، ليشتري بثمنه إزاراً قيمته أربعة دراهم (١) ، وهو خليفة تجبى إليه الأموال ، أبعد ما يكون عن الشره إلى حطام الدنيا ، أو يدنس نفسه بآثامها.

وقد سار الإمام علي عليه‌السلام في كل تصرفاته وفق ما تأمر به الشريعة الإسلامية ، ووفق ما تلقاه من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبذلك كان على بيِّنة من ربِّه ، ويقين من أمره بما تلقاه من هذا المنبع الصافي ، فكان يهدي إلى الحق والصراط المستقيم. لأنَّه لا يدعو إلّا إلى الله عزوجل.

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٤ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٨٢.

٢١٦

سادات الخلق

«أشهد شهادة حق ، وأقسم بالله قسم صدق أنَّ محمداً وآله صلوات الله عليهم سادات الخلق» :

اللغة : سادات أصلها من : ساد ، يسود ، سيادة ، والاسم : السؤدد : وهو المجد ، والشرف ، فهو : سيد ، والأنثى : سيدة ، والجمع : سادة ، وسادات (١).

الشرف والمجد في الإسلام لا يتكسب بالنسب فحسب ، بل لابد معه من التقوى ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ)(٢) ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتسب شرفه ، ومجده ، وسيادته على البشر ـ بما فيهم الأنبياء ـ بالنسب ، فمع كونه من سلالة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ومع انحداره من أشرف بيت في قريش ، بل وفي العرب ، واختصاصه بطهارة المولد ، وانتقاله من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة ، فإنَّ ذل كله لم يكن السبب في مجده وشرفه ، وقد نزل الذكر الحكيم يذم عمَّه أبا لهب في سورة يتلوها المؤمنون ليل نهار.

لقد اكتسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجده وشرفه من طاعته لله تعالى ، حيث تحمل أعباء الرسالة ، واتخذها نهجاً لحياته ، فعمل جاهداً على تطبيقها ، فأخلص العبادة لله تعالى ، وتحرّى رضاه ، وتحمل ما تحمل من جهد وعناء لا نظير لهما من أجل إعلاء كلمة الله عزوجل في الأرض ، ونشر دينه ، وتبليغ رسالته ، فنال بذلك الدرجات

__________________

(١) مجمع البحرين.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

٢١٧

الرفيعة ، والمنزلة العظيمة عند الله عزوجل جزاء إيمانه به ، وإخلاصه له ، وتقواه ، وجهاده.

وإذا كان أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، فبديهي أنَّ كل من له صلة به ، لا ينتفع بها ما لم يدعمها بالتقوى ، والصلاح ، والسير على هديه ، ونهجه القويم ، لأنَّ الإيمان قد قرَّب الأبعدين منه ، فكان سلمان الفارسي محمدياً ، قال عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلمان منا أهل البيت» ، لأنَّه آمن ، واتقى ، وأخلص لله عزوجل ، وأبعد عنه عمه أبا لهب ، فلم تبقَ بينهما صلة ، وكما ذمَّ الذكر الحكيم أبا لهب ، فإنَّه امتدح أناساً كانوا على بعد في النسب معه ، وبعضهم من غير العرب ، لم يجمعهم لسان ، ولكن الإيمان جمعهم ، ولقد أثنى القرآن على المهاجرين الأولين ، وبينهم : صهيب ، وبلال ، وعمار ، كما امتدح الأنصار ، ومن بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان ، والبدريين ، وهؤلاء استحقوا المدح بإيمانهم وجهادهم ، ولم يستحقوه بنسب يجمعهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب.؟

أما إذا اجتمعت وشائج النسب مع الإيمان والتقوى ، كانت من أعظم الفضائل ، وأكثرها شرفاً ، وهي منزلة رفيعة ، ودرجة سامية ، لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم ، وقد تم ذلك لعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، والتسعة المعصومين من ذريته عليهم‌السلام ، وهم أهل البيت الذين فرض الله تعالى طاعتهم ، ومودتهم ، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فعصمهم من الذنوب.

وسيرة أهل البيت عليهم‌السلام تثبت أنَّهم لم يفارقوا سيرة النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كانوا يقتفون أثره في ملازمه الحق ، ويتحرون تطبيق الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة في تفكيرهم ، وأقوالهم ، وأفعالهم ، مخلصين لله تعالى ، لا يشركون به أحداً ، ولا يرقبون أحداً ، ولا يخافون لومة لائم ، ولا يثنيهم عن الحق شي ، لأنَّهم أمناء الله عزوجل في الأرض من بين عباده ، ينيرون الدرب للسالكين إليه ، ويعلمون الناس معالم دينهم ، ويرشدونهم إلى ما فيه الخير والصلاح ، لأنَّهم تراجمة وحي الله

٢١٨

تعالى ، وحملة علم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بذلك استحق آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشرف والمجد ، وبه أصبحوا سادات الخلق ، واستحقوا أن يكونوا أولياء لأمور الأمة ، وساسة لها ، وأمرت الأمة بأداء الطاعة لهم ، وبموالاتهم ، وهم لحمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والإمتداد الطبيعي له : فعلي عليه‌السلام أخوه ، ونفسه ، والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام بضعته ، والحسن ، والحسين عليهما‌السلام ابناه ، وريحانتاه ، وهم جميعاً منه ، وهو منهم ، والتسعة من ذرية الحسين عليهم‌السلام سلالته الطاهرة ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد» (١) ، وقال لعلي عليه‌السلام : «أنت مني ، وأنا منك» (٢) ، وقال في فاطمة الزهراء عليها‌السلام : «فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني» (٣) وقال في الحسن عليه‌السلام : «هذا مني» (٤) ، وقال في الحسين عليه‌السلام : «حسين مني ، وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، حسين سبط من الأسباط» (٥).

__________________

(١) ذخائر العقبى ١٧ ، فتح الباري ٧ / ٢٩٠ ، المصنف للصنعاني ١١ / ٢٢٧.

(٢) للحديث روايات بألفاظ مختلفة وفي مناسبات عديدة ، راجع : البداية والنهاية ٤ / ٢٦٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٣ ، ٦٣ ، ١٧٩ ، خصائص أمير المؤمنين ٨٧ ، ١٢٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٥٧ ، ١٦٨ ، كنز العمال ١١ / ٥٩٩ ، ١٣ / ٢٥٨ ، كفاية الطالب ٢٧٤ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٤٩٩.

(٣) للحديث روايات بألفاظ مختلفة ، في بعضها : (يريبني ما أرابها) وفي بعضها : (يؤذيني ما يؤذيها) راجع : خصائص أمير المؤمنين ١٢١ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٩٧ ، فتح الباري ٧ / ٦٣ ، فضائل الخمسة ٣ / ١٥١ ، ١٥٤ ، فضائل الصحابة ٧٨ ، كنز العمال ١٢ / ١١٢ ، المعجم الكبير ٢٢ / ٤٠٤ نظم درر السمطين ١٧٦.

(٤) التاريخ الصغير ١ / ١٣٧ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢١٩ ، ١٤ / ١٦٦ ، ٦٠ / ١٨٨ ، ٦٨ / ٩٣ ، ذخائر العقبى ١٣٣ ، فضائل الخمسة ٣ / ٢٤٠ ، كنز العمال ١٢ / ١١٤ ، ١٣ / ٦٥٣ ، ٦٦٢ ، المعجم الكبير ٣ / ٤٣ ، ٢٠ / ٢٦٩.

(٥) البداية والنهاية ٨ / ٢٢٤ ، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٤٩ ، ذخائر العقبى ١٣٣ ، فضائل

٢١٩

وقد روى المحدثون ما ورد في صحيح الحديث مما ينص على أنَّ محمداً وآله صلوات الله وسلامه عليهم سادات الخلق ، من هذه الأحاديث ما نص عليهم بالجمع ، ومنها ما نص على فرد معين منهم ، وإليك نماذج من تلك الأحاديث :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد المرسلين إذا بعثوا ، وسابقهم إذا وردوا ... الحديث» (٢).

وقال علي عليه‌السلام : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّك سيد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، ويعسوب المؤمنين» (٣).

وفي حديث عمران بن حصين : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد فاطمة وهي مريضة ، فقال لها : «كيف تجدينك يا نبية؟. قالت : إنّي وجعة ، وإنّي ليزيدني أنّي مالي طعام آكله!. فقال : يا بني أما ترضين أنَّك سيدة نساء العالمين؟. فقالت : يا أبت ، فأين مريم بنت عمران؟. قال : تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ، أما والله لقد زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة (٤)».

وعن عائشة رضي الله عنها : أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ وهو في مرضه الذي توفي فيه ـ : «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء هذه

__________________

= الخمسة ٣ / ٢٦٢ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ / ٥١٥ ، المعجم الكبير ٣ / ٣٣ ، ٢٢ / ٢٧٤ ، ينابيع المودة ٢ / ٣٤ ، ٣٨.

(١) الجامع الصغير ١ / ٤١٣ ، شرح نهج البلاغة ٩ / ١٠٧ ، مسند أحمد ٢ / ٥٤٠.

(٢) فضائل الخمسة ١ / ٤٧ ، كنز العمال ١١ / ٤٣٥.

(٣) مرّ الحديث في موضوع ، (سيد المسلمين) ص ١١٩ من هذا الكتاب مع أحاديث عديدة في معناه.

(٤) ذخائر العقببى ٤٣ ، وقال خرجه أبو عمر ، وخرجه الحافظ الدمشقي في فضل فاطمة عن عمران بن حصين.

٢٢٠