شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

جهاد في الله تعالى

«وأشهد أنَّك يا أمير المؤمنين جاهدت في الله حق جهاده ، حتى دعاك الله إلى جواره ، وقبضك إليه باختياره ، وألزم أعداءك الحجة بقتلهم إياك لتكون لك الحجة عليهم ، مع ما لك من الحجج البالغة على جميع خلقه» :

بدأ جهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام منذ صباه ، واستمر جهاده طيلة عمره الشريف ، يكافح بكل الوسائل من أجل رفع راية الإسلام ، إلى أن استشهد بعد أن ضربه ابن ملجم ، وهو في محراب مسجد الكوفة ، حيث شعر بأنَّ أمنيته لنيل الشهادة قد تحققت فقال كلمته الخالدة : «فزت ورب الكعبة» ، إلى أن فارق الحياة التي قضاها في جهاد متواصل (١).

ومن تأمل مواقف الإمام علي عليه‌السلام الجهادية ، يتجلى له الفداء ، والتفاني في سبيل الله تعالى ، والإهتمام بنصرة الدين الحنيف ، مبتعداً عمّا يراود غيره من مصالح دنيوية ، فلا ينشغل بالسلب ، وجمع الغنائم ، بل ولا يؤثر في صلابته وإقدامه ما يصيبه من ألم الجراح ، فنراه يمضي ببصيرة وإيمان ، فيقحم نفسه في لهوات الحروب ليحرز إحدى الحسنيين : النصر ، أو الشهادة.

يشد على الكتبية بمفرده ، وكأنَّه يشد على رجل واحد ، لا يأبه بكثرة رجالها ، ويبارز من يتحاشى الأبطال مبارزته غير هياب ، لم يجبن في موطن قط ، ولذا تحاماه الأبطال ، فكانوا يكرهون لقاءه ، ويرون أنَّ الفرار منه ليس عاراً ؛ لأنَّ في

__________________

(١) راجع موضوع جهاد متواصل ص ١٠٧ من هذا الكتاب.

١٨١

الثبات أمامه ، ومبارزته الموت.

لا شك أنَّ هذا الإقدام ، والاستعداد للتضحية في جهاده الذي لم يعرف له التاريخ نظيراً ، يستنتج منه أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام كان نافذ البصيرة ، فهو لا يرى للحياة قيمة إلّا بمقدار ما يحقق من النصر للدين الحنيف ، وكان هذا هو الهدف من استعداده للتضحية والفداء وإقدامه في الحروب ، وهو يدل على حقيقة ثابتة ، هي أنَّ جهاده كان في الله عزوجل ، ولا يهدف إلّا لرضاه ، ونصرة دينه الحنيف ، ولم يقتصر جهاده على ما شارك فيه من حروب ، بل تعداه ليشمل شتى الميادين ، وبشتى الوسائل ، همّه الأكبر في ذلك القضاء على الباطل ، وإماتة دعوته ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، ولا يلتفت إلى أي اعتبار يخالف الموازين الشرعية.

جوار الله تعالى :

ولا شك أنَّ المؤمن ينتقل بعد الموت إلى جوار الله عزوجل ، فيكون في أمانه وعهده ، وتحت رحمته ، وهو مدعو إلى هذا الجوار بما قدَّمه من الطاعات ، وأعمال الخير ، واجتناب المعاصي ، وتحريه رضا الله تعالى في كل تصرفاته.

ولا تقبض أرواح العباد إلّا بأمر الله عزوجل واختياره : (اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)(١) ، أما الأسباب المباشرة التي تؤدي إلى الموت كالأمراض الخطيرة ، والغرق ، والحرق ، والطعن ، والتسمم ، وما شاكلها فإنَّها لا تسبب الموت ما لم يأذن الله تعالى ، وكثيراً ما ينجو من الموت الذين يتعرضون لمثل هذه الأمور ، ويموت آخرون بمثل هذه الأسباب ، أو لأقل منها خطورة : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٤٢.

١٨٢

بِإِذْنِ اللَّـهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا)(١).

والإمام علي عليه‌السلام سيد المؤمنين ، وأكثر الأمة إخلاصاً ، وعبادة ، وتحرجاً من المعاصي ، وهو الإمام المعصوم ، فلا شك أنَّه استشهد لينتقل إلى جوار ربه الذي اختاره له ، ودعاه إليه في الجنان مع النبيين ، والصديقين ، والشهداء.

الحجج البالغة :

تشير هذه الفقرة إلى نوعين من الحجج :

الأول : الحجة على من قتل الإمام علياً عليه‌السلام ، وهم الخوارج ، وهؤلاء ادعوا كفره ، ورأوا هدر دمه لأنَّه ـ حسب دعواهم ـ ارتد بعد الإيمان بقبوله التحكيم في صفين ، وامتنع عن التوبة ، وقد احتج الإمام علي عليه‌السلام عليهم في مواطن عديدة ، وبيَّن لهم صحة موقفه ، ومطابقته لما جاءت به الشريعة الإسلامية المقدسة ، مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة ، فكشف بذلك بطلان رأيهم ، وبعده عن الصواب ، ومخالفته لأحكام الدين ، ولم يأل جهداً من النصح والإرشاد ، وبذلك كانت له الحجة عليهم ، وقد عاد بعضهم إلى الصواب بما انتفع من نصحه ، وبقي آخرون على غيِّهم يعيثون في الأرض فساداً.

الثاني : الحجج البالغة على جميع الخلق ، بما فيهم الخوارج ، وهي الأدلة والبراهين الواضحة ، والتي تثبت فضله ، وتفضيله على من سواه من الأمة ، فهو حجة الله البالغة على العباد ، وقد ألمحنا إلى ذلك في مختلف مواضيع هذا الكتاب ، ولا أظن أنَّ أحداً يستطيع الإحاطة بهذه الحجج.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٤٥.

١٨٣
١٨٤

الإخلاص لله تعالى

«السلام عليك يا أمير المؤمنين ، عبدت الله مخلصاً ، وجاهدت في الله صابراً ، وجُدت بنفسك محتسباً ، وعملت بكتابه ، واتبعت سنة نبيه ، وأقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ما استطعت ، لا تحفل في النوائب ، ولا تهن عند الشدائد ، ولا تحجم عن محارب ، أفك من نسب غير ذلك إليك ، وافترى باطلاً عليك ، وأولى لمن عَنَدَ عنك» :

اللغة : لا تحفل حفلت بكذا : باليت به ، يقال : لا تحفل به. أفك : كذب. إفترى : فرى فلان كذباً ، إذا خلقه ، وافتراه : اختلقه ، والإسم : الفرية. عَنَدَ عنك : عند عن طريق ، يعند (بالضم) ، عنوداً : أي عدل ، فهو عنود (١).

تحدثنا عن عبادة الإمام علي عليه‌السلام وإخلاصه لله عزوجل في موضوع مستقل (٢) ، ونعود فنعطف على ما تقدم :

سأل ذعلب اليماني الإمام علياً عليه‌السلام ، فقال : هل رأيت ربَّك؟!.

فقال ععليه‌السلام : أفأعبد ما لا أرى؟!.

فقال : وكيف تراه؟!.

قال : لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان (٣).

__________________

(١) الصحاح.

(٢) ص ١١١ من هذا الكتاب.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ٩٩.

١٨٥

عبد الإمام علي عليه‌السلام ربَّه بهذا اليقين ، وبهذه البصيرة ، فأخلص له العبادة ، وأكثر منها ، متزوداً للقاء الله عزوجل شاكراً له على نعمائه ، مقتدياً بالرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، فقد روت عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ، قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال : يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً (١).

وإذا كانت كل نعمة من نعم الله تعالى تستوجب الشكر ، فإنَّ نعمه لا تحصى ، ولا يبلغ الشكر أداء حقها مهما أكثر العبد منه ، والشكر ذاته نعمة من نعم الله تعالى على عبده إذا وُفق له ، وهو بذاته يستحق الشكر.

لقد كان الإمام علي عليه‌السلام يداوم على العبادة ليله ونهاره ، لا يشغله عنها شي ، يوصل عبادة الليل بالتهجد والمناجاة في الفجر ، ثمَّ يؤدي الفرض ، ويعقبه بالذكر حتى طلوع الشمس ، سئلت سريته أم سعيد عن صلاته في رمضان ، فقالت : ما كانت صلاته في رمضان وشوال إلّا واحدة ، يحيى الليل كله (٢).

ولم يترك إحياء الليل بحال : في سفره ، وحضره ، وفي السلم ، والحرب ، ففي ليلة الهرير في صفين تلك الليلة الرهيبة ، التي خارت فيها العزائم ، وذهل فيها الأبطال لشدة القتال ، وضجّ فيها الناس لكثرة من قتل منهم ، لم يترك ال إمام علي عليه‌السلام نافلة الليل ، فقد افترش نطعاً ، ووقف يصلي بين الصفين غير مكترث بضجيج الحرب ، والرؤوس تتطاير ، وجثث القتلى تخضب بالدماء أديم الأرض من حوله ، يقول ابن أبي الحديد : (ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين

__________________

(١) مسند أحمد ٦ / ١١٥.

(٢) كفاية الطالب ٣٩٩.

١٨٦

الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه ، وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته) (١) ، وهذا مظهر رائع من مظاهر إخلاصه لله تعالى في العبادة ، فلا يهمه شي ، ولا يرتهب ؛ لأنَّه يؤدي صلاته منقطعاً إلى الله عزوجل متوجها إليه بقلبه وبروحه المليئة بالإيمان.

صبره عند الجهاد :

من لم يتحل بالصبر لا يستطيع أن يقدم على الجهاد ، لأنَّ المجاهد لا بد له من الصمود أمام العدو ، ومنازلة الأقران ، وهذا لا يتم إلّا بالصبر ، ومن جزع عند النزال ، أصابه الوهن والفشل ، وولّى ظهره لعدوه ، وانهار أمامه.

ومواقف الإمام علي عليه‌السلام في الحروب تدل على أنَّه كان يتحلى بأعلى درجات الصبر ، والمواقف التي تدل على صبره كثيرة ، ولعل أشهرها مبارزته لعمرو بن عبد ود فارس الأحزاب ، الشجاع الذي لا يُعرف له نظير في شجعان العرب وفرسانهم ، وكان الأبطال يتحامونه ، ويكرهون لقاءه ، فلا يجرؤ أحد على مبارزته ، وكان معتداً بنفسه ، عبر الخندق ، وتحدى المسلمين ، فلم يتطوع أحد لمبارزته سوى الإمام علي عليه‌السلام ، فتقدم نحوه بصبر وثبات ورباطة جأش ، ولم يرجع إلّا بعد أن صرعه ، وجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأسه ، وخير دليل على صبره عند النزال ما نعته به النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر ، حيث قال ـ كما في رواية عمر ـ : «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، يفتح الله عليه» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤١ / ١٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٦ باختلاف يسير.

١٨٧

جوده بالنفس :

والجود بالنفس هو تعريضها للتلف من أجل بلوغ غاية نبيلة ، كالجهاد في سبيل الله عزوجل طلباً لرضاه ، وابتغاء وجهه ، ومواقف الإمام علي عليه‌السلام في بذل النفس كثيرة وشهيرة ، نذكر منها على سبيل المثال : موقفه عند محاضرة بني هاشم في الشعب ، حيث كان يقي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، يضجعه في فراشه.

ومنها مبيته على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة ، وخروجه بالعيال للهجرة ، متحديا قريش بمفرده ، ومشاركته في جميع الحروب والمغازي عدا تبوك بعد الهجرة.

عمله بالكتاب والسنة :

مر بنا أن الإمام علياً عليه‌السلام معصوم ، وأنَّه حجة الله تعالى على عباده ، وأنَّه عليه‌السلام مع الحق ، ومع القرآن لا يفترق عنهما إلى يوم القيامة ، وأنَّ التمسك به يعصم من الضلال ، كما نصت الأحاديث النبوية الشريفة ، وبناءً على ما تقدم ، فهو لا يخالف الكتاب والسنة النبوية ، في قول ، أو فعل ، أو تقرير ، بل إنَّ جميع تصرفاته سنة لأنَّها مستمدة من مصدري التشريع : الكتاب العزيز ، والسنة النبوية الشريفة ، ومطابقة لهما ، وتستفاد من سيرته أحكام الشريعة كما تستفاد من سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يتعبد الشيعة في أخذ الأحكام ، تبعاً لما قام عليه الدليل.

إقامة الصلاة وإيتاء الزحكاة :

كل من أدى الصلاة على الحدود التي أمر بها الشرع المقدس ، بتوجه إلى الله تعالى ، لا يشغله عنه شي ، يحسن قيامها ، وركوعها ، وسجودها ، وما تشتمل عليه

١٨٨

من قراءة ، وذكر ، مداوماً عليها في أوقاتها ، فقد أقامها.

وإيتاء الزكاة يشمل كل ما يقدمه المرء في سبيل الله عزوجل من أمواله يبتغي تطهيرها به ، من صدقة واجبة ، أو مستحبة.

وقد شهد الذكر الحكيم للإمام علي عليه‌السلام بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، على ما أجمع عليه المفسرون ، وصح به النقل ، وتواتر ، في تفسير قوله عزوجل : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١).

وكان عليه‌السلام يؤدي صلاته كما أداها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى مطرف بن عبد الله ، قال : (صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين ، فكان إذا سجد كبَّر ، وإذا رفع رأسه كبَّر ، وإذا نهض من الركعتين كبَّر ، فلمّا قضى الصلاة ، أخذ بيدي عمران بن حصين ، فقال : ذكَّرني هذا صلاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قال : صلى بنا صلاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢).

وأمّا إيتاؤه الزكاة ، فقد عرف عليه‌السلام بكثرة تصدقه على الفقراء والمساكين ، ومدِّ يد العون للمعوزين ، وكثراً ما كان يؤثرهم على نفسه ، فيطوي هو وذووه الأيام جوعاً ليُشبعوا المعوزين ، وقد شهد لهم الذكر الحكيم بذلك في سورة الإنسان ، كما شهدت له آية الولاية.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٥ ، وسيأتي الحديث عن هذه الآية في محل ورودها في الزيارة.

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٩٤ ـ ٢٠٠ ، صحيح مسلم ٢ / ٨ ، مسند أحمد ٤ / ٤٤ ، المعجم الكبير ١٨ / ١٢٦.

١٨٩

أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر :

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الوظائف الشرعية الجليلة التي اهتم بها الشرع المقدس ، وقد مدح الله تعالى هذه الأمة بقيامها بهذه الوظيفة العظيمة ، فقال : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ)(١) ، وهما من الواجبات الكفائية ، التي يكفي حصولها من أي مسلم ، ولكن إذا تركها الجميع كانوا مقصرين مسؤولين أمام الله عزوجل ، ولتنفيذ هذا الواجب المقدس ثلاث حالات حسب ما تقتضيه الظروف : فامّا الإنكار بالقلب ، عند خوف الضرر البالغ ، أو الإنكار باللسان إذا كان كافياً ، أو استخدام القوة إذا اقتضى الأمر ، وتوفرت شروط ذلك ، وكان ممكناً.

قال الإمام علي عليه‌السلام : «أيها المؤمنون ، إنَّه من رأى عدواناً يعمل به ، ومنكراً يدعى إليه ، فأنكر بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر ، وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكر بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الظالمين هي السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق ، ونور في قلبه اليقين» (٢).

وقال عليه‌السلام : «فمنهم المنكر للمنكر بيده ، ولسانه ، وقلبه ، فذلك المستكمل لخصال الخير ، ومنهم المنكر بلسانه ، وقلبه ، والتارك بيده ، فذاك متمسك بخصلتين من خصال الخير ، ومضيع خصلة ، ومنهم المنكر بقلبه ، والتارك بيده ، ولسانه ، فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث ، وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه ، وقلبه ، ويده ، فذلك ميت الأحياء» (٣).

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١١٠.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٨٩.

(٣) نهج البلاغة ٤ / ٨٩.

١٩٠

وكأنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ـ وهو يتحدث عن النهي عن المنكر في هذين النصين ـ يوضح مراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه المشهور : «من رأى منكم منكراً ، فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (١).

والمؤمن يحب أن يرى جميع الناس مطيعين لله تعالى ، مبتعدين عن معصيته ، بغض النظر عن وجود التكليف الشرعي ، أو عدمه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف بتالي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تحمل معه أعباء الدعوة ، وعرَّض نفسه للمخاطر من أجلها؟.

لقد كان الهم الأكبر للوصي المرتضى عليه‌السلام أن يتجه الناس كل الناس إلى الله عزوجل بالطاعة ، وأن يبتعدوا عن المعصية ، لذا نرى الكتب حافلة بخطبه وكلماته التي تضمنت الحث على طاعة الله عزوجل ، والنهي عن معصيته موجهاً المؤمنين إلى طريق الكمال بأروع أسلوب وأبلغه ، يقول في بعض وصاياه : «احذر أن يراك الله عند معصيته ، ويفقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وإذا قويت ، فاقوَ على طاعة الله ، وإذا ضعفت ، فاضعف عن معصية الله» (٢).

ومن تصفح نهج البلاغة يجده زاخراً بما تحدث به الإمام علي عليه‌السلام في هذا المجال ، كما نقل التأرخ من سيرته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملاحم ومواقف بطولية ليس لها نظير في تاريخ الإسلام جسد فيها أروع الصور في إنكار المنكر ، بل وإقباره ، لتسود دعوة الحق في الأرض ، وينتشر فيها المعروف.

والإمام علي عليه‌السلام يتدرج مع خصومه ، فيبذل لهم النصيحة محاولاً دفع المنكر ، ونشر المعروف بالتي هي أحسن ، ليهدي خصمه إلى الحق والخير ، وينقذه من

__________________

(١) تفسير الثعالبي ٢ / ٨٩ ، الجامع الصغير ٢ / ٦٠٢.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٩٢.

١٩١

الظلال ، فإذا لم يُجد ذلك نفعاً ، وأصر الخصم على غيِّه ، وتعصب للباطل ، ولم يُصغ لنداء الحق ، انتقل إلى مناجزته ، نصح أشد أعداء الإسلام تعصباً ، وأكثرهم حقداً ، من أمثال عمرو بن عبد ود ، ومرحب الخيبري ، وأضرابهم ، وعندما رفضوا دعوته إياهم إلى الحق ، ناجزهم ، فأرداهم صرعى ، وصنع مثل ذلك مع البغاة : في الجمل ، وصفين ، والنهروان ، فأمرهم بالمعروف ، ودعاهم للعودة إلى نهج الحق ، ونهاهم عمّا هم فيه من المنكر ، فأقام الحجة عليهم ، وأوضح لهم الحقائق بالأدلة الناصعة ، وبذل لهم النصح ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فلم يُجد كل ذلك نفعاً ، فاضطر لقتالهم ، ليحق الحق ، ويبطل الباطل.

ولم يبتغ الإمام علي عليه‌السلام في كل ذلك أن يبلغ مآرب دنيوية ، من جاه ، أو مال ، أو سلطة ، وهو الذي كان يخاطب الدنيا : (غري غيري) ، ولم يكن هذا الخطاب مجرد لفظ يجري على اللسان ، بل كانت سيرته العملية تجسد ذلك القول ، وكأنَّه بعمله يقول للدنيا : (غري غيري) ، دون أن يحتاج إلى القول ، إذ لم يكنز من حطامها شيئاً ، ولم يبنِ عمارة ، ولم يكسب من أموالها على حساب الغير ، ولم يغتر بملذاتها ، بل ضحى بكل ما يملك ، وبذل الجهد إلى أقصى الحدود ، ونصح للأمة آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، وعبد الله تعالى ، واتقاه حق تقاته ، همّه الوحيد في ذلك نيل رضاه ، وأداء شكره على ما أنعم ، بإخلاصٍ ينمّ عن نية صادقة ، وإيمان عميق.

ثباته وإقدامه :

اتصف الإمام علي عليه‌السلام بالصبر ، ورباطة الجأش ، والشجاعة ، والإقدام ، وقد اقترنت صفاته هذه بالإيمان والعقيدة الراسخة ، التي كانت تدفعه إلى الاستعداد

١٩٢

للتضحية من أجل نشر عقيدة التوحيد ، لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو يرى أنَّ كل ما يحل به من آلام في هذا السبيل هو بعين الله تعالى ، ونصرة لدينه ، فلا يبالي بنائبة ، ولا يصيبه وهن عند الشدائد والمحن ، ولا يرهبه شيء لأنَّه يبتغي رضا الله تعالى ، ولذا فهو لا ينكص ، ولا يتردد في الحرب ، بل نراه يبارز ذوي البأس ، ومن عرفوا بالشجاعة ، والحنكة بفنون الحرب ، ومن يتحاماه الأبطال ، وتخور أمامه العزائم ، لأنَّه ينشد إحدى الحسنيين : فإمّا النصر والغلبة على العدو ، أو نيل الشهادة ، والفوز بها.

كذب وافتراء :

ما عرفناه من سيرة الإمام علي عليه‌السلام هو التفاني في الله تعالى ، واتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والكفاح في نصرة الدين ، والإخلاص في العبادة ، إلى غير ذلك من مآثره ، وفضائله التي نقلها المؤرخون ، وكتاب السير ، وأيدوها بما أثبته المفسرون من تفسير آيات الذكر الحكيم ، وما رواه المحدثون من متواتر الحديث وصحيحه.

وكل ما ينسب للوصي المرتضى عليه‌السلام خلافاً لذلك ، فهو كذب وافتراء عليه ، ومقترفه آفك آثم لأنَّه يخالف ما صح عند علماء المسلمين ، وأجمعوا عليه ، ولابد من الإشارة هنا إلى أنَّ الخوارج اتهموه بالكفر ، لأنَّه وافق على التحكيم ـ كما مر ـ وأنَّ معاوية عندما استولى على الخلافة اشترى ضمائر عدد من ضعفاء النفوس ممن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمي صحابياً ، ومن التابعين ، فبذل لهم أموالاً طائلة من بيت مال المسلمين ، لينتقصوه بتفسير بعض الآيات التي تذم الفاسقين والمنافقين فيه ، ووضع أحاديث في ذمه ، وكان ممن استجاب له في ذلك : أبو هريرة ، وسمرة بن جندب ، ونظراؤهما ، قال ابن أبي الحديد : (إنَّ معاوية وضع قوماً

١٩٣

من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاص يرغب في مثله ، فاختلقوا له ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : مصعب بن الزبير) (١) ، وهؤلاء يكفيهم من الإثم والإفك أنَّهم خالفوا الله عزوجل ، وخالفوا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذبوا عليه لقاء ما دفع لهم من مال حرام ، فهم أولى بما نسبوه إلى الإمام علي عليه‌السلام ممّا هو بريء منه ، وتحملوا الإثم عنه متمسكين بالأكاذيب والمفتريات التي لا تغني عن الحق شيئاً.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٦٣ ، وفيه تفاصيل أكثر عن هذا الموضوع.

١٩٤

السابق إلى طاعة الله تعالى

«لقد جاهدت في الله حق الجهاد ، وصبرت على الأذى صبر احتساب ، وأنت أول من آمن بالله ، وصلى له ، وأبدى صفحته في دار الشرك ، والأرض مشحونة ضلالة ، والشيطان يعبد جهرة ، وأنت القائل : لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ، ولا تفرّقهم عني وحشة ، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرِّعاً» :

اللغة : صفحة الرجل عرض صدره (١). أسلمني الناس ، أسلمه : خذله. متضرّعاً من : ضرع الرجل ، ضراعة : خضع وذلَّ (٢).

من كان مخلصاً لله تعالى في جهاده ، لا غاية له سواه ، وثبت في الحروب ، لا يفرّ من الزحف ، وتقيّد بتعليمات الشريعة التي تحدّد سلوك المجاهدين ، وتصرفاتهم عند النزال ، فجهاده حق الجهاد.

كانت عادة العرب الاندفاع لخوض غمار الحرب دفاعاً عن القبيلة عندما يشعرون بخطر يحيط بها ، ولا يهمهم أن يكونوا في قتالهم مع الحق أو عليه ، وسواء كانوا معتدين أو معتدى عليهم ، فغايتهم الدفاع عن الأحساب حمية ، وقد حصل للنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظير ذلك ، حيث دافع عنه بنو هاشم وبنو المطّلب ، وشملتهم

__________________

(١) لسان العرب.

(٢) الصحاح.

١٩٥

مقاطعة قريش ، وحوصروا معه في الشعب ، ولم يكونوا قد أسلموا جميعاً ، بل كان بعضهم غير مسلمين ، وقد صرّح بذلك الإمام علي عليه‌السلام في كتابٍ أرسله إلى معاوية ، يقول فيه : «فأراد قومنا قتل نبيِّنا ، واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحلسونا على الخوف ، واضطرونا إلى جبلٍ وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل» (١).

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فسيرته تدل على أنَّه كان يريد وجه الله تعالى ، ويجاهد في سبيله بصبر وثبات على سلامة من دينه ، وبصيرة من أمره ، وتحت راية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صابراً على ما أصابه من المحن والآلام ، محتسباً ذلك على الله لأنّه عزوجل ينصر دينه ، ويدافع عن نبيه.

أول من آمن وصلى :

مرّ بنا في موضوع : (أول المؤمنين) أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام كان في الغار مع الرسول المصطفى صل‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول الوحي فرأى معه ما رأى ، وسمع ما سمع ، فآمن به ، وصدَّقه ، وكانت الصلاة أول العبادات التي نزل بها الوحي ، في وقتٍ كان الدين الجديد مقتصراً عليهما ، وعلى خديجة بنت خويلد عليها‌السلام ، فكانوا يؤدون الصلاة متكتّمين ، لا يؤدّيها معهم أحد ، والأحاديث التي نصّت على أنَّه أول من صلّى كثيرة ، تنقل منها على سبيل المثال :

عن حبّه بن جوين ، عن علي عليه‌السلام ، قال : «ما أعلم أحداً من هذه الأمة بعد نبيها

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٨.

١٩٦

عَبَدَ الله قبلي ، لقد عبدته قبل أن يعبده أحد منهم خمس سنين أو سبع (١)».

وعن عبد الله بن نجي ، قال : سمعت علي بن أبي طالب ، يقول : صليت مع رسول الله قبل أن يصلّي معه أحد من الناس ثلاث سنين (٢).

وعن ابن عباس ، قال : أول من صلّى علي رضي الله عنه (٣).

وعن زيد بن أرقم ، قال : أول من صلّى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي (٤).

وعن علي رضي الله عنه ، قال : ما أعرف أحداً من هذه الأمة عبد الله بعد نبيها غيري ، عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين (٥).

هذه بعض الأحاديث التي رويت في تقدم إسلامه ، وكلها تنص على أنّ الإمام علياً هو أول من صلّى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن الملاحظ أنّ هذه الأحاديث تختلف في تحديد المدة التي سبق بها غيره من المسلمين إلى الصلاة ، ولكنها تتفق على سبقه إليها.

وقد وجَّه الحجة الأميني رحمه‌الله هذا الإختلاف ـ بما تدل عليه كل منها ، فلا يكون بينها تعارض ـ على الإحتمالات الآتية :

١ ـ ثلاث سنين : لعل المراد بها ما بين البعثة وإظهار الدعوة.

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٨ ، مسند أبي يعلى ١ / ٣٤٨ ، وروي مختصراً في أنساب الأشراف ٩٢.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٣.

(٣) أنساب الأشراف ٩١ ، البداية والنهاية ٣ / ٣٦ ، تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٥٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٥ ، شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٧ ، كفاية الطالب ١٢٥ ، مسند أحمد ١ / ٣٧٣.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧ ، خصائص أمير المؤمنين ٤٣ ، معجم الزوائد ٩ / ٤٣ ، المعجم الأوسط ٢ / ٢٩٠.

(٥) خصائص أمير المؤمنين ٤٧.

١٩٧

٢ ـ خمس سنين : لعل المراد بها ما سبق مضافاً إليه سنتا نزول الوحي من نزول سورة (إقرأ) إلى نزول سورة (المدثر).

٣ ـ سبع سنين : لعل المراد بها من أول البعثة إلى فرض الصلاة ليلة الإسراء.

٤ ـ تسع سنين : لعل المراد بها السبع الآنفة الذكر مضافا إليها سنتا فترة الوحي (١).

جهاده في دار الشرك :

كان المسلمون قليلين مستضعفين في مكة المكرمة ، وكانت الدعوة الإسلامية الجديدة في أدوارها الأولى سرية ، حُضِرَ على معتنقيها التظاهر بالدين فضلاً عن الجهاد ، وحمل السلام لأنَ التظاهر كان يؤدي إلى تعذيب المسلمين من قبل المشركين ، كما حصل لعمّار ، ولأبويه ياسر وسمية ، ولبلال ، وغيرهم ، وقد اضطرّ بعض المسلمين للهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم ، لأن حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ودينهم مع قلة العدد كان يؤدي إلى القضاء عليهم.

أمّا الإمام علي عليه‌السلام فكان له حكم يختلف عن غيره من المسلمين ، فقد جاهر بإسلامه ، وكاشف به الناس غير مكترث ، وكان أول من أظهر تأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اعتناق دعوته ، وآزره عليها قبل أن يعتنق الإسلام أحد من السابقين ، وصلّى معه أمام الملأ من قريش وغيرهم من المسجد الحرام ، وهذا ما نص عليه جل من أرَّخ لأحداث بدء الدعوة ، أو كتب في السيرة النبوية.

بدأ الإمام علي عليه‌السلام جهاده في دار الشرك ـ وهي مكة يومئذ ـ فاختص هو

__________________

(١) سالغدير ٣ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ بتصرف وتلخيص ، وفي ص ٢٢١ ـ ٢٤١ منه الأحاديث التي تنص على أنّه (ع) أول من صلى.

١٩٨

وعمه حمزة عليهما‌السلام بحمل السيف فيها ، فكانا ، يتناوبان حراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة مقاطعة قريش والحصار في الشعب ، وقد ختم هذا الدور بالمبيت على فراشه ليلة الهجرة ، واقياً له بنفسه ، وباذلاً مهجته في سبيل نجاته.

كانت الأرض مشحونة بالضلال لانتشاره في جميع أرجائها ، فالناس بين عابد وثن ، وعابد نار ، هوى يدعي التمسك بالدين ، ولكنه يخالف أصوله وفروعه ، ويشوه معالمه ، ويحرفه عن واقعه ، وكل هؤلاء في واقعهم يعبدون الشيطان ، حيث ساروا في ركابه ، وأطاعوه طاعة عمياء ، وانتهجوا ما رسمه لهم بمكره ، وتعصّبوا له.

لم يذعنوا للنبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته إلى الإسلام ، إذ جاءهم بالقرآن الكريم الذي هو معجزة الدهر الخالدة ، ليهديهم إلى ال حق بأسلوب الإستدلال العقلي ، وتقديم الأدلة المنطقية ، وهو يتدرّج معهم بتقديم الدليل تلو الدليل ، ويرجعهم إلى البديهة ليستخلص لهم منها أدلة رصينة ، وبراهين قوية وفق استنتاج واقعي طبيعي ، ممّا يعيشونه في حياتهم ، وما يحيط بهم ، ليرشدهم إلى ما ينير عقولهم ، ويهديهم إلى سبل الخير والصلاح ، ويضع نصب أعينهم ما يدلّهم على بطلان ما هم فيه من ضلال ، يدعم كل ذلك بالمعجزات التي تدعم رسالة السماء وتدلهم على صحة ما جاء به.

لم يُجدِ كل ذلك معهم نفعاً ، بل كانوا يطالبونه بالإتيان بمعجزة ، فإذا جاءهم بها ، لم يزدادوا إلّا تعصّباً لما هم فيه من ضلال ، يصف لنا الإمام علي عليه‌السلام أحد تلك المواقف حيث يقول : «ولقد كنت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمد ، إنك قد ادّعيت عظيماً ، لم يدَّعه آباؤك ، ولا أحد من أهل بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أنت أجبتنا إليه ، وأريتناه ، علمنا أنَّك نبي ورسول ، وإن لم تفعل

١٩٩

علمنا أنَّك ساحر كذاب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما تسألون؟.

قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها ، وتقف بين يديك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الله على كل شيء قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك ، أتؤمنون ، وتشهدون بالحق؟. قالوا : نعم.

قال : فإني سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنَّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنَّ فيكم من يطرح في القليب ، ومن يحزِّب الأحزاب (١) ، ثمَّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر ، وتعلمين أنّي رسول الله ، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله.

فَوَالذي بعثه بالحق ، لانقلعت بعروقها ، ولها دويّ شديد ، وقصفٌ كقصف أجنحة الطير ، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما نظر القوم إلى ذلك ، قالوا ـ علواً واستكباراً ـ : فمُرها فليأتك نصفها ، ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك ، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً ، فكادت تلتف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقالوا ـ كفراً وعتواً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع.

فقلت أنا : لا إله إلّا الله ، إنّي أول مؤمن بك يا رسول الله ، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى ، تصديقاً بنبوتك ، وإجلالاً لكلمتك.

فقال القوم كلهم : بل ساحر كذاب ، عجيب السحر ، خفيف فيه ، وهل يُصدِّقك

__________________

(١) غير خفي ما في هذا من إعجاز حيث أخبر؟ عن نواياهم ، كما أخبر عما حدث بعد ذلك بسنين من طرح قتلاهم في القليب ببدر ، وتجمعهم لحربه في الأحزاب.

٢٠٠