شرح زيارة الغدير

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان

شرح زيارة الغدير

المؤلف:

السيّد عبدالمطلب الموسوي الخرسان


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: باقيات
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-6168-69-5
الصفحات: ٤٦٤

ظلها العدل ، ومن بلغ هذا الحد من الإعراض عن الدنيا ، فهو حقاً مخالف لهواه.

محالفته التقوى :

ضرب الإمام علي عليه‌السلام المثل الأعلى في تقواه ، والتزامه بما جاء به الشرع الشريف ، وتحرجه من المعاصي مهما كانت صغيرة ، يقول عليه‌السلام : «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جِلب شعيرة ما فعلته ، وإنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ، ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذى لا تبقى (١)».

ويرسم لنا الإمام علي عليه‌السلام الأسس التي يعتمدها في سيرته ، والتي ينبغي للمسلم أن يقتدي به فيها ، فيتخذها نهجاً للعمل ، فيقول : «إحذر أن يراك الله عند معصيته ، ويفقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وإذا قويت فاقوَ على طاعة الله ، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله (٢)» ، وقد عرف عنه تقيده بهذا النهج القويم ، فهو لا يأمر بطاعة إلّا بعد تطبيقها على نفسه ، ولا ينهى عن معصية وهو منتهٍ عنها ، يقول عليه‌السلام : «أيها الناس إنّي ـ والله ـ ما أحثكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها (٣)».

ونختم الحديث عن مخالفته الهوى ، ومحالفته التقى بما وصفه به حفيده الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام حيث يقول : «والله ما عرض لعلي أمران كلاهما لله

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٢١٨.

(٢) نهج البلاغة ٤ / ٩٢.

(٣) نهج البلاغة ٢ / ٩٠.

١٦١

طاعة إلّا عمل بأشدهما وأشقهما (١)».

كظمه الغيظ وعفوه :

الذي يثير الغيظ في النفس هو تعرض الإنسان إلى الإساءة ، وتختلف الإساءة باختلاف من يسيء ، كما تختلف باختلاف مكانة من اُسيء إليه ، والذي يقابلها بأحد أمرين : إمّا الإقتصاص بإساءة مثلها ، أو العفو عن المسيء ، والإعراض عنه تكرّماً ، ولا يعتبر الإعراض عن المسيء عفواً إلّا إذا كان عن اقتدار ، وهو يمثل درجة سامية من ضبط النفس ، وحسن التصرف ، ويدل على نضوج العقل.

أمّا إذا كان الإعراض عن جبن وخوف ، فلا يعد عفواً عن المسيء ، ول ايعد المعرض كاظماً للغيظ ، لما فيه من امتهان للكرامة ، وذل ، وخنوع ، وأما إذا كان الإعراض عن ظالم لا قِبَل للمُساء إليه على أخذ الحق منه ، فيعتبر الإعراض (تقية).

وقد تعرض الإمام علي عليه‌السلام ـ في مختلف أدوار حياته ـ إلى كثير من الإساءات ، وكان مقتدراً على الرد بالمثل ، وأخذ حقه بالإقتصاص ممّن أساء إليه ، ولكنه كان يترفع عن ذلك ، ويتحلى بكرم النفس ، والحلم ، وكانت نفسه الطاهرة تأبى أن يسيء إلى أحد حتى لو كان ذلك قصاصاً ، بل يعفو ، ثم لا يكتفي بالعفو ، فيتعداه إلى الإحسان لمن أساء إليه ، تطبيقاً لقوله عزوجل : (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢).

ومَن ألقى نظرة على سيرة الإمام علي عليه‌السلام يجد لذلك شواهد لا تحصى ، نذكر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١١٠.

(٢) آل عمران ٣ : ١٣٤.

١٦٢

بعضاً منها على سبيل المثال :

ففي حرب الجمل ، وبعد أن هزم جيش أعدائه ، وقتل منهم من قتل ، وظفر بالباقين ، وفيهم عبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وسواهما من رؤوس الفتنة الذين خرجوا عليه ، وحرضوا القبائل ، فعفا عن الجميع ، ولم يؤاخذ أحداً منهم بجريرته ، وكانت القوة له ، والشرع يقر له القصاص منهم ، ولا ينقص ذلك من دينه ، ولا من مروءته ، ولكنه عليه‌السلام أبى إلّا أن ينهج في عفوه نهج ابن عمه الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ عفا يوم الفتح عن كل من أساء إليه ، والذي كان يشفق على أعدائه لأنَّهم سيهلكون بأذاهم له ، فيتضرع إلى الله تعالى عله يهديهم إلى سواء السبيل : «اللهم اغفر لقومي إنَّهم لا يعلمون».

أمّا عائشة التي أججت نار الحرب ، وقادت الجيوش محرضة على الإطاحة به بكل وسيلة ، بل وقتله ، فقد قابل إساءتها بالرعاية ، والعفو ، والإحسان ، فأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يتعاهد هودجها ، ويدخلها داراً في البصرة ، كي لا يصيبها أذى ، وتأوه لها ممّن صانوا حلائلهم ، وأخرجوها من بيتها ، ولم يراعوا حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أمر الله تعالى به نساءه من أن يقرن في بيوتهن ، ثمَّ خيَّرها بين المقام أو العودة إلى المدينة المنورة ، ولما اختارت العودة أعادها معززة مكرمة ، ولم يؤاخذها بجريرة.

وهذا الخلق الرفيع لم يفارق الإمام علياً عليه‌السلام حتى مع قاتله ابن ملجم ، عندما ضربه بسيف قد سقاه السم ، فأثر السم في بدنه ، فكان وهو في سكرات الموت يوصي ولده بقاتله خيراً ، فيقول لهم : إنَّه أسير ، فأحسنوا نزله ، وأكرموا مثواه ، فإن بقيت : قتلت ، أو عفوت ، وإن مت ، فاقتلوه قتلتي ، (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ

١٦٣

الْمُعْتَدِينَ)(١). (٢) إنّها الشهامة ، وكرم النفس ، والقلب الطاهر الذي ملأه الإيمان ، فلم يبق فيه مكان للشر والحقد ، بل هو موطن لحب الخير في نفس قدسية ، وتراه يرشد إلى هذا النهج ، فيقول : «إذا قدرت على عدوك ، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه (٣)».

سخطه ورضاه لله عزوجل :

إنَّ سخط المرء لمعصية الله عزوجل ، ورضاه لطاعته ، لا يكون إلّا نتيجة لإيمانه ، وعمق معرفته بالله تعالى ، وهذا الجانب يظهر في سلوك الإمام علي عليه‌السلام بوضوح ، من خلال إرشاداته ، ومواعظه ، وما كان يقوم به من حث الناس على الطاعة ، ونهيهم عن المعصية ، في خطبه ، ورسائله ، ووصاياه ، وكلماته الحكمية ، وقد حوى نهج البلاغة أروع نماذج ذلك ، ممّا اختاره الشريف الرضي من كلامه.

أمّا سيرته العملية ، فقد نقل التاريخ لنا نماذج تظهر سخطه لسخط الله تعالى ، ورضاه لرضى الله تعالى ، فهو لا يلتفت في هذا المجال إلى أي اعتبار يصطدم به ذلك ، ولا يقيم له وزناً ، ولم يتأثر به غيره ، من مراعاة القرابة ، والصداقة ، والعلاقات الاجتماعية على حساب تطبيق أحكام الله عزوجل ومن نماذج ذلك :

مواقفه من الأمويين أيام حكم الخليفة الثالث عثمان ، حيث كان في طليعة المنكرين لمخالفاتهم الصريحة للشريعة المقدسة ، كالتلاعب بأموال الأمة ومقدَّراتها ، والاعتداء على أجلاء الصحابة ، بالضرب والنفي ، كما حصل مع عمّار ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٠ ، المائدة ٥ : ٨٧.

(٢) أنساب الأشراف ٥٠٢ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٥٨ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٣٥.

(٣) نهج البلاغة ٤ / ٤.

١٦٤

وعبد الله بن مسعود ، وأبي ذر ، وأضرابهم.

ولعل من أهم هذه المواقف إقامته الحد على الوليد ، وقد قامت البينة على شربه الخمر ، عندما تلكأ الخليفة في إقامة الحد عليه ، متأثراً بالنسب بينهما ، وتردد غيره مجاملة للخليفة ، ولكن الإمام علياً عليه‌السلام أخذ على عاتقه إقامة حدود الله عزوجل ، فلم يتردد ، ولم يجامل على حساب الدين ، ولم يخش غضب الأمويين الذين استحوذوا على السلطة ـ يوم ذاك ـ ، بل أدّى وظيفته الشرعية غضباً لله تعالى إذ عُصِي ، غير مكترث لسخط مخلوقٍ.

ومنها : موقفه مع النجاشي شاعره يوم صفين ، والذي كان في طليعة المدافعين عنه ، قال ابن أبي الحديد : (حدَّث ابن الكلبي عن عوانه ، قال : خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان ، فمرَّ بأبي سمال الأسدي ـ وهو قاعد بفناء داره ، فقال له : أين تريد؟.

قال : أردت الكناسة. فقال : هل لك في رؤوس ، وأليات ، قد وضعت في التنور من أول الليل ، فأصبحت قد أينعت ، وتهرت؟. قال : ويحك! في أول يوم من شهر رمضان؟!. قال : دعنا ممّا لا يعرف!. قال : ثمَّ مه؟. قال : أسقيك من شراب كالورس ، يطيب النفس ، يجري في العرق ، ويزيد في الطرق ، يهظم الطعام ، ويسهل للفدم الكلام ، فنزل ، ثمَّ أتاه بنبيذ ، فشربا ، فلمّا كان آخر النهار علت أصواتهما ، ولهما جار من شيعة علي عليه‌السلام ، فأتاه ، فأخبره بقصتهما ، فأرسل إليهما قوماً ، فأحاطوا بالدار ، فأمّا أبو سمال ، فوثب إلى دور بني أسد ، فأفلت ، واُخذ النجاشي ، فاُتى عليه‌السلام به ، فلمّا أصبح ، أقامه في سراويل ، فضربه ثمانين ، ثم زاده عشرين سوطاً. فقال : يا أمير المؤمنين ، أمّا الحد فقد عرفته ، فما هذه العلاوة؟!. قال : «لجرأتك على الله ،

١٦٥

وإفطارك في شهر رمضان (١)».

وقال ابن أبي الحديد : (وروى صاحب كتاب الغارات ، أنَّ علياً عليه‌السلام لمّا حدّ النجاشي ، غضبت اليمانية لذلك ، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي ، فدخل عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما كنا نرى أهل المعصية ، والطاعة ، وأهل الفرقة ، والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء ، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحرث ، فأوغرت صدورنا ، وشتت أمورنا ، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أنَّ سبيل من ركبها النار. فقال عليه‌السلام : (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(٢) ، يا أخا نهد ، وهل هو إلّا رجل من المسلمين ، انتهك حرمة من حرم الله ، فأقمنا عليه حداً كان كفارته؟! إنَّ الله يقول : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)(٣) ... [إلى أن قال] : ولمّا جنه الليل ، همس (٤) هو والنجاشي إلى معاوية) (٥).

بالإمام علي عليه‌السلام لم يكن ممن يطلب النصر بالجور ، ولا ممن يقدِّم مصلحته الشخصية على حساب دينه ، حتى يترك من ينصره ، وهو ينتهك حرمات الله تعالى ، ولا يهمه أن يهرب من عدله من هرب ، لأنَّه غضب لغضب الله عزوجل ، فأقام حدّاً من حدوده ، والدنيا عنده لا تعدل شيئاً ، ليداهن من أجلها.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٨.

(٢) البقرة ٢ / ٤٥.

(٣) المائدة ٥ : ٨.

(٤) تسلل ليلاً وهرب.

(٥) شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٩.

١٦٦

التزامه بالعهود :

عهد الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإمام علي عليه‌السلام بكل ما جاءه من السماء من أسرار الرسالة ، وأحكامها ، وآدابها ، فقال فيه ـ كما مر ـ : «صاحب سري علي بن أبي طالب» ، وكانت سيرته معه تختلف عنها مع غيره ، إذ كان يبلغ الأحكام للمسلمين حسب الحاجة إليها ، ويختص الإمام علياً عليه‌السلام ، فيخلو به ، ويبلغه كل ما جاء به الوحي ، يقول عليه‌السلام : «كنت إذا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاني ، وإن سكت ابتداني (١)» ، وكان ذلك إعداداً له ، ليتحمل المسؤولية بعده ، إذ قال له ـ كما مر ـ : «وأنت تبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي».

وقد عمل بكل ما عهد به إليه بدقة وعناية تفوقان التصور ، مقتفياً بذلك أثر أخيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث يبدأ بنفسه في تطبيق ما يعهد به إليه ، راعياً ما استحفظ من أحكام.

وقد علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أخبره به الوحي من الأمور الغيبية ، وهي من الدلالات على صحة نبوته ، ومن أسرار الرسالة التي لا يتحملها كل أحد ، فلا يمكن الإعلان عنها إلّا في الوقت المناسب ، فكان الإمام علي عليه‌السلام يعلن عن بعضها كلما دعت الحاجة للإعلان ، وقد أخبر عن جملة من الأمور الغيبية ، حدث بعضها في حياته بعد إخباره بها بمدة ، بينما حدث البعض الآخر منها بعد وفاته بمدة طويلة ، وفي كلا الحالين كان الأمر كما أخبر.

ومن أمثلة ما أخبر به في حياته ، قوله لمن أخبره بعبور الخوارج النهر في حرب النهروان : «والله ما عبروه ، وإنَّ مصارعهم لدون النطفة ـ أي النهر ـ» (٢) ،

__________________

(١) كفاية الطالب ٢٢٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٢.

١٦٧

كما أخبر بأنَّ نتيجة تلك المعركة أن لا يبقى من الخوارج عشرة ، ولا يستشهد من أصحابه عشرة ، فكان كما أخبر (١).

ومن أمثلة ما أخبر به ، وتحقق بعد وفاته عليه‌السلام إخباره بتسلط معاوية ، ودعوته الناس لسب الإمام علي عليه‌السلام ، والبراءة منه ، وإخباره بخلافة مروان ، وقصر مدَّتها ، وإخباره بتسلط الحجاج على العراق ، وفتكه بالناس ، وإخباره ـ عندما مرَّ بكربلاء في طريقه إلى صفين ـ بمقتل ولده الحسين عليه‌السلام ، ومصارع ذريته ، وأصحابه عليهم‌السلام ، وإخباره بعض أصحابه بما يصنع بهم ولاة الجور من بعده.

وقد أدى ما حُمِّل من أسرار الرسالة إلى سبطي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحمِّلهما أمانة ما لم يستطع تبليغه في حياته ، بعد أن كان هو المبلغ الذي يرجع إليه الصحابة ، كلما ابتلوا بمسألة جهلوا حكمها ، ليرشدهم إلى حكم الله تعالى فيها ، ومن أشهر أمثلة ذلك أحكام قتال البغاة ، وهم أهل الفتنة من : الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين والتي كان يجهلها الناس ، لأنَّهم شهدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتال المشركين ، وقتال أهل الكتاب ، أمّا أحكام قتال البغاة ، فلم تكن معروفة إلى أن أبانها الإمام علي عليه‌السلام.

انتظار ما وعده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كان الإمام علي عليه‌السلام يرغب في نيل الشهادة في سبيل الله تعالى وتتوق نفسه إليها ، فينتظرها بشوق ولهفة ، وقد أنبأ الذكر الحكيم عمّا في نفسه في قوله تعالى : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)(٢) فقد نص المفسرون أنَّ المقصود بمن قضى نحبه عمه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٣.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٢٣ ، سيفرد للآية موضوع مستقل في محل ورودها في الزيارة.

١٦٨

حمزة بن عبد المطلب الذي استشهد في أحد ، وابن عمه عبيدة الذي استشهد في بدر ، وبقي هو ينتظر الشهادة ، وقد أخبره أخوه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنَّه سيستشهد ، وبيَّن له كيفية استشهاده ، فكان يخاطب أهل العراق متضجراً : «يا أهل العراق ، لوددت أن لو قد انبعث أشقاها ، فخضب هذه من هذا» (١) ، وفي قوله عليه‌السلام : (أشقاها) إشارة إلى ما صح من الحديث النبوي الشريف في وصف قاتله بأنَّه : «أشقى الآخرين ، وأنَّه أشقى الأمة» ، والأحاديث المروية في ذلك كثيرة ، نذكر منها :

ما رواه الإمام علي عليه‌السلام ، قال : «أخبرني الصادق المصدوق : أنَّي لا أموت حتى اُضرب على هذه ـ وأشار إلى مقدم رأسه الأيسر ـ فتخضب هذه منها بدم ـ وأخذ بلحيته ، ـ وقال لي : يقتلك أشقى هذه الأمة» (٢).

وروى عثمان بن صهيب ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : «من أشقى الأولين؟. قال : عاقر الناقة. قال : صدقت. قال : فمن أشقى الآخرين؟. قال : قلت : لا أعلم يا رسول الله. قال : الذي يضربك على هذه ـ وأشار بيده إلى يافوخه ـ (٣)».

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ٤٢٦ ، وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة في : تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٣٨ ، مسند أحمد ١ / ١٣٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٣ بطرق عديدة.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٤٦ ، وفي ص ٥٥١ منه رواية عن جابر بن سمرة ، وفي ينابيع المودة ٢ / ١٩٩ رواية عن الإمام علي (ع).

١٦٩
١٧٠

علي عليه‌السلام والحق المغتصَب

«وأشهد أنَّك ما اتقيت ضارعاً ، ولا أمسكت عن حقك جازعاً ، ولا أحجمت عن مجاهدة غاصبيك ناكلاً ، ولا أظهرت الرضا بخلاف ما يرضي الله مداهناً ، ولا وهنت لما أصابك في سبيل الله ، ولا ضعفت ، ولا استكنت عن طلب حقك مراقباً ، بل إذ ظلمت احتسبت ربَّك ، وفوَّضت إليه أمرك ، وذكَّرتهم فما ادَّكروا ، ووعظتهم فما اتَّعظوا ، وخوَّفتهم الله فما تخوَّفوا» :

اللغة : اتقى ، يتقي ترك خوفاً ، وحذراً ، ضرع ، ضراعة : خضع ، وذلَّ. الناكل : الجبان الضعيف. وهن : ضعف. إدّكروا ، ذكروا ، وأصله : إذتكروا ، فأدغم (١). المداهن (مِن داهن) : أظهر خلاف ما أضمر. استكان : خضع ، وذلَّ (٢).

موقف الإمام علي عليه‌السلام من الخلافة :

هذه الفقرة من الزيارة تحدد موقف الإمام علي عليه‌السلام من الخلافة وإمساكه عنها ، وتتضمن الشهادة له بأنَّه لم يترك حقه بالخلافة خوفاً وجبناً ، ولم يتردد عن الجهاد لاسترداد حقه المغتصب تذللاً ، أو جزعاً ، أو جنباً ، ولم يكن مخادعاً ، ومختالاً في إظهاره الرضا بالأمر الواقع.

ولتوضيح ما انطوت عليه هذه الشهادة لابد من معرفة أحقيته بالخلافة ، واستعراض ما حصل بعد وفاة الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن الخلافة ، وتنصيب

__________________

(١) الصحاح.

(٢) لسان العرب.

١٧١

الخليفة ، لإلقاء الضوء على موقفه ، وأنَّ موقفه يوحي بهذه الشهادة.

لا شك أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام هو أولى الناس وأحقهم بالخلافة ، لاجتماع مؤهلات الخلافة فيه دون غيره ، فهو أفضل الأمة علماً وعملاً ، وهو الإمام المعصوم ، والذي سبقهم إلى الإيمان ، والجهاد ، وإلى كلِّ فضيلة ، وهو أقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحبهم إليه.

وإذا عطفنا على مؤهلاته للخلافة ـ والتي تدل على أحقيته بها عقلاً ـ ما جاء به النقل من تفسير لآيات الذكر الحكيم ، وما صح ، وتواتر به النقل من الحديث النبوي الشريف كأحاديث الولاية ، وحديث المنزلة ، وما نص من الحديث على أنَّه أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وخاتمهم ، وإمام المتقين ، وخليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّه يبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعده (١) ، إنَّ مدلولات هذه الأحاديث تؤكد لكل منصف أحقيته بالخلافة بما لا يقبل الشك والتردد.

اُقصي الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة ثلاث مرات ، فبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان هو وأهل البيت عليهم‌السلام مشغولين بتجهيز الجثمان الطاهر ، بينما كان المسلمون يتنازعون على الخلافة ، طلبها الأنصار ، ونافسهم عليها المهاجرون ، وانتهى النزاع بغلبة قريش بدعوى القرابة ، وغُلب الأنصار على أمرهم بسبب النزاع القبلي بين الأوس والخزرج ، وفرضت خلافة أبي بكر ، وتمت البيعة له بإكراه فئة ، وتعصب أخرى.

وامتنع عن بيعة أبي بكر الإمام علي عليه‌السلام وكافة بني هاشم رهط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدد من أجلّاء الصحابة ، وذوي الفضل منهم من أمثال : سلمان ، وعمار ، وأبي ذر ،

__________________

(١) ما أشير إليه من الآيات والأحاديث تم بحثه وذكر مصادره في مختلف مواضيع هذا الكتاب.

١٧٢

والمقداد ، والزبير ، وأضرابهم ، وكل هؤلاء أكرهوا على البيعة بعد أن استتب الأمر للخليفة ، وتسلم السلطة.

وعندما بلغت الإمام علياً عليه‌السلام أنباء ما حدث في السقيفة ، استفسر مستغرباً ما حدث : ما قالت الأنصار؟!.

قالوا : قالت منّا أمير ومنكم أمير!.

قال عليه‌السلام : فهلّا احتججتم عليهم بأنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم؟!.

قالوا : وما في هذا من الحجة عليهم؟.

فقال عليه‌السلام : لو كانت الإمامة فيهم ، لم تكن الوصية بهم.

ثمَّ قال عليه‌السلام : فماذا قالت قريش؟.

قالوا : احتجت بأنَّها شجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال عليه‌السلام : إتجوا بالشجرة ، وأضاعوا الثمرة (١).

ومع انشغال الإمام علي عليه‌السلام بتجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصلاة عليه ، ومواراته ، إستغل القوم هذه الفرصة لإبرام البيعة ، برضا من رضي بها ، وإكراه من أكره.

ولا شك أنَّ هناك عوامل ساعدت في نجاح هذا التدبير في إبرام البيعة ، وإقصاء الإمام علي عليه‌السلام ، فالقرشيون وغيرهم هم أبناء القبائل العربية التي دخلت في الإسلام ، كانوا موتورين ؛ لأنَّه قتل ـ في مختلف المعارك التي دارت بين المسلمين والمشركين ـ العديد من رجالهم وأبطالهم ، ولأنَّه كان يعد رئيس بني هاشم بعد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان هو المسؤول عن تلك الدماء التي أريقت ـ حسب ما تقتضيه قواعد الثأر القبلية في الجاهلية ـ وإذا كان الإسلام هو الذي

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١١٦.

١٧٣

أهدر تلك الدماء ، فإنَّه لم يتمكن بعد من قلوب الكثيرين منهم.

إنَّ المكانة التي بلغها الإمام علي عليه‌السلام في ال إسلام ، ومنزلته من الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء في فضله من الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف ، كل هذه ال أمور كانت تثير الحسد في نفوس الكثيرين ممن كانوا يطمحون لنيل الفضائل.

عوامل إعراض الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة :

لمّا فرغ الإمام علي عليه‌السلام من تجهيز الجثمان الطاهر ، ودفنه ، وإذا به يجد كل شي قد تمَّ للقوم ، ولم يبق معه سوى أهل بيته ، ونفر قليل من الصحابة ، يقول عليه‌السلام : «فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمر من طعم العلقم» (١).

وفي ضوء ما تقدم فلم يبق أمام الإمام علي عليه‌السلام غير خيارين :

الأول : الجهاد في طلب حقه ، وأخذه بالقوة.

الثاني : الإكتفاء بدعوة الناس إلى نفسه بالتي هي أحسن ، وإقامة الحجة عليهم ، وترك الخلافة ، وحقه المغتصب فيها عند عدم نجاح هذا الأسلوب ، يقول عليه‌السلام : «وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء (٢) ، أو أصبر على طخية عمياء (٣) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٦٧.

(٢) جذاء : مقطوعة ، كناية عن عدم وجود الناصر.

(٣) طخية : ظلمة.

١٧٤

ربَّه ، فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى (١) ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا (٢) ، أرى تراثي نهبا ...» (٣).

إنَّ عدم وجود الأنصار من جهة ، ولأنَّ قسماً لا يستهان به من قريش ، ومن المنافقين ، كانوا يراقبون الوضع ليحصلوا على فرصة مواتية من جراء حصول أي نزاع للإجهاز على الإسلام ، وما رواه المؤرخون في وصف موقف أبي سفيان ـ يومذاك ـ يلقي الضوء على ما ذكرناه ، حيث أراد أن يرفع لواء الجاهلية باسم الإسلام ليتدارك ما فاته من القضاء على الإسلام في بدر ، وأحد ، والأحزاب.

روى الطبري ، قال : «لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان ، وهو يقول : والله إنّي لأرى عجاجة ، لا يفطؤها إلّا دم ، يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم؟!. أين المستضعفان؟!. أين الأذلّان علي والعباس؟!. وقال : يا أبا الحسن أبسط يدك أبايعك ، فأبى علي عليه ، فجعل يتمثل بشعر الملتمس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلّا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف معكوس برمته

وذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي عليه‌السلام ، وقال : «إنك ـ والله ـ ما أردت بهذا إلّا الفتنة ، وإنَّك ـ والله ـ طال ما بغيت الإسلام شراً ، لا حاجة لنا في نصيحتك».

وروى الطبري : (أنَّ أبا سفيان قال لعلي : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ، والله لئن شئت لأَملأنَّها عليه خيلاً ورجالاً. فقال علي : «يا أبا سفيان طال

__________________

(١) أحجى : أجدر.

(٢) شجا : ما يعترض في الحلق من عظم.

(٣) نهج البلاغة ١ / ٣١.

١٧٥

ما عاديت الإسلام وأهله ، فلم تضره بذلك شيئاً» (١).

وروى ابن عبد ربه ، قال : (فلما قدم ـ أي أبو سفيان وكان في سفر عند وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المدينة ، جعل يطوف في أزقتها ، ويقول :

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلّا منكم وإليكم

وليس لها إلّا أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر : إنَّ هذا قد قدم ، وهو فاعل شرّاً ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستألفه على الإسلام ، فدع له ما بيده من الصدقة ، ففعل ، فرضي أبو سفيان ، وبايعه) (٢).

ونلاحظ أنّ موقف أبي سفيان الذي تظاهر به مدعيّاً نصرة الإمام علي عليه‌السلام يحمل في طياته العودة إلى الجاهلية ، وعصبيتها القبلية ، فكلماته وما تمثل به ، وما أنشده من شعر ، يظهر أنَّ الرجل ينتصر لبني عبد مناف على بني تميم ، وبني عدي ، فهو يريد أن يثبت وجوده في الساحة ، ويعيد إلى الأذهان زعامته لقريش في الجاهلية ، تلك الزعامة التي أقصاه الإسلام عنها.

ويستخدم أبو سفيان عبارات جارحة على طريقة الجاهلية ، متصوراً أنها ستثير النعرة القبلية عند الإمام علي عليه‌السلام ؛ ليحمله على أوعر الطرق ، ثم يعرض عليه المساندة بالخيل والرجال ، ولكنه فشل في مسعاه ؛ لأنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لا يساوم على دينه ، ولا يطلب النصر مستعينا بمن لا دين له ، بل رد على أبي سفيان بكشف نواياه ، وإظهاره على حقيقته ، فيئس أبو سفيان ، وتراجع عن موقفه لقاء أموال الصدقة التي كانت تحت يده ، وتركت له.

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ٢ / ٤٤٩.

(٢) العقد الفريد ٤ / ٢٥٧.

١٧٦

لقد كان الإمام عليه‌السلام في ظل تلك الظروف يخشى أن تنجم الفتنة فتعصف بالناس ، وتعيد كثيراً من الناس إلى جاهليتهم ، حيث كانت الظروف مواتية للردة ، وحيث كان أكثر الناس يؤيدون الوضع القائم لسبب أو لآخر ، ولم يبق مع الإمام عليه‌السلام إلّا عدد قليل لا يقوى على التغيير.

احتجاجات حول الخلافة :

لجأ الإمام علي عليه‌السلام إلى خيار المهادنة ، والدعوة إلى نفسه بالتي هي أحسن ، وإقامة الحجة على أحقيته ، وكان امتناعه عن البيعة ومن تابعه على ذلك ، ومساندة البضعة الطاهرة ، وعمه العباس عليهما‌السلام له ، يشكل أقوى احتجاج على الوضع القائم ، له أثره الكبير ، ومعناه العميق ، وكان هو ومن معه يطعنون بالخلافة ، ويقارعون خصومهم بالحجة والبرهان كلما كانت الفرصة مواتية لذلك.

لقد احتج العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام على أبي بكر ، لابن أخيه ، قال : (فإن كنت برسول الله طلبت ـ الخلافة ـ فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت ، فنحن منهم ، متقدمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنَّما يجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين) (١).

وقيل لعلي : بايع أبا بكر. فقال : «أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً!. ألستم زعمتم للأنصار أنَّكم أولى بهذا الأمر ، لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الإمارة؟!. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّاً وميتاً ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢١.

١٧٧

فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلّا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون (١)».

وقال عليه‌السلام لأبي عبيدة : «الله .. الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله ـ يا معشر المهاجرين ـ لنحن أحق الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا : القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنَّه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى ، فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعداً (٢)».

قال ابن قتيبة : وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابة ليلاً في مجالس الأنصار ، تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنَّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول علي كرم الله وجهه : «أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته ، لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!».

فقالت فاطمة : «ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه (٣)».

يتبين لنا مما تقدم أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام ترك الخلافة حفاظا على الدين ، وإبقاءً على معتنقيه ، خوفاً من ردتهم ، وقد طلب بلسانه ما لم يتيسر له طلبه بالقوة ، فبين

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٨.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ١٩.

(٣) الإمامة والسياسة ١ / ١٩.

١٧٨

ظلامته للناس ، وقارع خصومه بالحجة والبرهان ، ولم يكن ذلك منه خوفا ، ولا جزعاً ، ولا نكوصاً ، ولا جبناً ، ولم يكن مخاتلاً يضمر غير ما يظهر ، بل أظهر سخطه ومعارضته بكل جرأة ، وطالب بحقه بوسائل تبعد الأمة عن الفتنة التي لا يعلم نتائجها إلّا الله ، ولم يصبه وهن ولا ذل ، ولم يراقب في ذلك سوى الله تعالى ، ولم يرتهب من السلطة.

ولابد من الإشارة إلى أنَّ الإمام علياً عليه‌السلام لم يطالب بالخلافة لينال بها الدنيا وما فيها من منصب ومكاسب مادية ومعنوية ، وما يأمل نيله الذين يطلبون الحكم والسلطان ، بل كان يطلب حقه الشرعي الذي استحقه بمؤهلاته ، وثبت له بالنص ، والذي كان يأمله من نيل الخلافة هو بسط العدل ، ونشر الفضيلة ، والحكم بما أنزل الله عزوجل ، حاله في ذلك حال المصلحين من الأنبياء والأوصياء ، وعندما عاد الحق إلى نصابه ، أعطى المثل الأعلى للحاكم العادل ، وكان القدوة الحسنة ، فكان طلبه لها جهاداً في سبيل الله تعالى ، وما أصابه من ظلم ، وما تحمله من أذى من أجل ذلك لم يكن لنيل مصلحة شخصية ، بل تحمل ما تحمل لمصلحة الدين الحنيف ، ومصلحة الأمة ، وكان عمله من أجل ذلك ، وكان تركه من أجله ، قال عليه‌السلام عند بيعة عثمان : «ولقد علمتم أنّي أحق الناس بها من غيري ، ووالله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلّا عليَّ خاصة إلتماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١٢٤.

١٧٩
١٨٠