إعلام الخلف - ج ٣

صادق العلائي

إعلام الخلف - ج ٣

المؤلف:

صادق العلائي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الآفاق للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩
الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

على جميع القرآن ، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف ، وقد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيتها ، فمنها : (والعصر ونوائب الدهر) فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين (ونوائب الدهر) (١) .

ومنها (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها) فادعى هذا الإنسان أنه سقط على أهل الإسلام من القرآن (وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها) (٢) وذكر مما يدعي حروفا كثيرة . وادعى أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم زادوا في القرآن ما ليس فيه ، فقرأ في صلاة المغرب والناس يسمعون (الله الواحد الصمد) فأسقط من القرآن ( قُلْ هُوَ ) وغيّر لفظ ( أَحَدٌ ) وادعى أن هذا هو الصواب والذي عليه الناس هو الباطل والمحال ، وقرأ في صلاة الفرض (قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون) وطعن في قراءة المسلمين .

وادعى أن المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف

___________

=

جمعه .

(١) بصريح رواياتهم أن هذه قراءة الإمام علي عليه السلام ، وقراءة عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي وعبد الله بن عتبة بن مسعود .

(٢) وتنص رواياتهم على أنها قراءة لسيد القراء أُبيّ بن كعب وحبر الأُمة ابن عباس ومروان بن الحكم .

٢٤١
 &

مفسدة مغيرة منها ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) فادعى أن الحكمة والعزة لا يشاكلان المغفرة ، وأن الصواب (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم) ، وترامى في الغي في هذا وأشكاله حتى ادعى أن المسلمين يصحّفون ( وَكَانَ عِندَ اللَّـهِ وَجِيهًا ) (٢) . والصواب الذي لم يغيّره عنده (وكان عبدا لله وجيها) ، وحتى قرأ في صلاة مفترضة على ما أخبرنا جماعة سمعوه وشهدوه (٣) (لا تحريك به لسانك إنا علينا جمعه وقراءته فإذا قرآناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به) وحكى لنا آخرون عن آخرين أنهم سمعوه يقرأ (ولقد نصركم الله ببدر بسيف عليّ وأنتم أذلة) ويروي هؤلاء أيضا لنا عنه قال (هذا صراط عليّ مستقيم) .

وادعى أن عثمان رضي الله عنه لما أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب ؛ لأن عبد الله بن مسعود وأُبيّ بن كعب كانا أولى بذلك من زيد ؛ لقول النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : (أقرأ أمتي أُبيّ بن كعب) ، ولقوله عليه السلام : (من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أُمّ عبد) (٤) ، وقال هذا القائل : لي أن أخالف

___________

(١) المائدة : ١١٨ .

(٢) الأحزاب : ٦٩ .

(٣) إمامته للناس في الصلاة ومعرفته بشواذ القراءات وأسماء الله وصفاته ، كلها تدل على أنه كان ذا مرتبة علمية وعلى دراية بما يقول .

(٤) وهذا قول كل عاقل عندما يرى إسناد عثمان جمع القرآن لزيد ، وفي الصحابة العلماء الأجلاء كأُبيّ وابن مسعود وغيرهم من خبراء القرآن ، ورأي عالمهم هو رأي ابن مسعود فلماذا

=

٢٤٢
 &

مصحف عثمان كما خالفه أبو عمرو بن العلاء فقرأ (إن هذين) (فأصدق وأكون) ، (وبشر عباديَ الذين) بفتح الياء ، (فما آتانيَ الله) بفتح الياء والذي في المصحف ( إِنْ هَـٰذَانِ ) (١) . بالألف ، ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن ) (٢) . بغير واو ( فَبَشِّرْ عِبَادِ ) (٣) ، (فما آتانِ الله) بغير باءين في الموضعين ، وكما خالف ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي مصحف عثمان فقرأوا (وكذلك حقا علينا نُنْج المؤمنين) بإثبات نونين يفتح الثانية بعضهم ويسكنها بعضهم ، وفي المصحف نون واحدة ، وكما خالف حمزة المصحف فقرأ (أتَمدُّونِ بمال) بنون واحدة ووقف على الياء . وفي المصحف نونان ولا ياء بعدهما ، وكما خالف حمزة أيضا المصحف فقرأ (ألا أن ثمودا كفروا بربهم) بغير تنوين واثبات الألف يوجب التنوين ، وكل هذا الذي شنع به على القراء ما يلزمهم به خلافٌ للمصحف .

وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي وكان الله قويا عزيزا) فقال في القرآن هجرا ، وذكر علياً في مكان لو سمعه يذكره فيه لأمضى عليه الحد وحكم عليه بالقتل (٤) .

___________

=

اختص النكير بهذا العالم ؟!

(١) طه : ٦٣ .

(٢) المنافقون : ١٠ .

(٣) الزمر : ١٧ .

(٤) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١ : ٨١ ـ ٨٤ ، ط . إحياء التراث العربي .

٢٤٣
 &

وغفل ابن الأنباري أن هذه الزيادة (بعلي) هي قراءة لابن مسعود ، وقد قلد عالمهم فيها هذا الصحابي ، فكان من الأجدر لابن الأنباري أن يوجه سيف أمير المؤمنين عليه السلام إلى عنق ابن مسعود لا إلى هذا المسكين ! (١)

___________

(١) حاول أحد الوهابية ـ وهو المتناقض (ناصر . ق) ـ نفي هذه الطامة عن مذهب أهل السنة فرماها في عنق الشيعة من باب أفضل الدفاع الهجوم ! ، فقال إن هذا الرجل شيعي المذهب لأن كان يقرأ هكذا (ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة) ، فقال في أصول مذهب الشيعة ١ : ٢٠٤ ، بعد أن ذكر مقطعا من أول كلام ابن الأنباري ومحل الشاهد فقط : هذا النص قاله ابن الأنباري المولود سنة ٢٧١ هـ ، وهو يشير إلى أن هذا الافتراء بدأ في زمنه (أي في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع) . ويدل النص المذكور أيضا على : أن مصدر هذا الافتراء من طائفة الشيعة كما تفيده تلك الزيادة المفتراه (بسيف علي) ، كما يدل على أنه لم يكن للأمة المسلمة في ماضيها عهد بهذه المفتريات حتى ظهر هذا الزائغ عن الملة ، وكأن ابن الأنباري بهذا يشير إلى شخص بعينه ، إلا أنه لم يذكر إسمه ، ولكن بدت هويته المذهبية من خلال افتراءاته) .

أقول : حسب الوهابي أن كل من يقرأ (بعلي) فهو من الشيعة ! ، وقد مر أن ابن مسعود كان يقرأ بهذه الزيادة في (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي وكان الله قويا عزيزا) ولم يكن شيعيا كما يعتقد الوهابي !! ، ولو كان هذا الرجل ـ شيعيا كما زعم الوهابي ـ لما كان هناك أي مجال لتستر ابن الانباري وإخفاء اسمه ، وبالنظر في كلمات هذا الشخص المجهول ونقله للروايات يعلم بعدم تشيعه ، فالشيعة ملتزمون بأقوال أهل البيت عليهم السلام ، فلو كان شيعيا لقرأ بالزيادات الموجودة في كتب الشيعة ، المنسوبة لأهل البيت عليهم السلام لا أن يقرأ بالزيادات التي جاءت في كتب أهل السنة وعن الصحابة كابن مسعود الذي ذمت

=

٢٤٤
 &



___________

=

قراءته كما حكته رواية الكافي !! ، وما يثبت قوة هذا الوجه أن الوهابي أخفى ذكر كل هذه الموارد واقتصر على القراءة التي فيها (بعلي) حتى لا ينكشف كذبه ، ثم كيف يقول : إن أبي بن كعب وابن مسعود كانا أولى بجمع القرآن من زيد ويترك علي بن أبي طالب عليه السلام ، فهل هذا شيعي ؟! ثم أين هذه الروايات في مصادر الشيعة (أقرأ أمتي أبي بن كعب) ؟! ، وهذه (من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد) ؟ مع أن رواية الكافي قالت عن ابن مسعود أنه ضال في إنكاره للمعوذتين ؟! ، ثم أليس قد زعم الوهابي ـ المتناقض دوما ـ أن كلام ابن الأنباري واضح في أن القول بتحريف القرآن قد بزغ في زمنه ومن خصوص هذا الشخص ، فزعم الوهابي أنه من الشيعة ، فكيف يرجع ويقول بعدها مباشرة : إن تحريف القرآن كان عند الشيعة قبل هذا الزمن بحوالي مئة سنة ؟! ، بل أكثر من ذلك فإن الكليني وشيخه القمي رضوان الله تعالى عليهما اللذين نسب لهم الوهابي تحريف القرآن قد توفيا قبل منتصف القرن الثالث أي قبل أن يبزغ هذا القائل بتحريف القرآن ، أفلا يدل هذا على أن الأمر الذي حدث وبزغ في زمن ابن الأنباري ليس من نتاج الشيعة ؛ لأنهم قالوا به مسبقا ؟! سبحانك يا معطي العقول ! .

ثم يقول الوهابي المتناقض بعد كلامه السابق : (بينما نجد الملطي ت ٣٧٧ هـ يشير إلى أن هذا الشخص صاحب هذه الفرية هو هشام بن الحكم ، فزعم أن القرآن الذي في أيدي الناس وضع أيام عثمان ، وأما القرآن فقد صعد به إلى السماء لردة الصحابة بزعمه . ولكن هشام بن الحكم توفي سنة ١٩٠ هـ ، وهذا يعني أن هذا الافتراء أقدم مما ذكره ابن الأنباري) !

فها قد اعترف بالضمن ، إن الذي بزغ ليس من الشيعة لأنه قال : إن تحريف القرآن عند الشيعة كان أقدم مما ذكره ابن الأنباري ، وقد أقر مسبقا أن كلام ابن الأنباري يدل على أن ما

=

٢٤٥
 &



___________

=

جاء به هذا المحرف لم تعرفه الأمة من قبل !

وهلا قال لنا المتناقض كيف ادعى أن الملطي أشار إلى أن الرجل الذي ذكره ابن الأنباري هو هشام بن الحكم ؟! ، ثم أنظر كيف نفى ذلك بعد أن جزم به !! ، فما معنى (نجد الملطي يشير إلى أن هذا الشخص صاحب هذه الفرية هو هشام بن الحكم) ؟! هل هو قص ولصق وهذا بلا ريب كذب على هشام ؛ لأن هشام بن الحكم لم يكن يرى أن القرآن رفع إلى السماء وما عندنا ألفه الصحابة ! ، واستدلالات هشام بالقرآن في كتب أهل السنة فضلا عن كتب الشيعة شاهدة على كذب هذه الدعوى ، وهاك مثالا ذكرته كتب الفقه عند أهل السنة في خصوص مسألة طلاق الحائض :

قال ابن قدامة الحنبلي في المغني ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ :

فان طلق للبدعة وهو أن يطلقها حائضا أو في طهر أصابها فيه أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم ، قال ابن المنذر وابن عبد البر : لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال وحكاه أبو نصر عن ابن علية ، وهشام بن الحكم والشيعة قالوا : لا يقع طلاقه ؛ لأن الله تعالى أمر به في قبل العدة ، فإذا طلق في غيره لم يقع ، كالوكيل إذا أوقعه في زمن أمره موكله بإيقاعه في غيره ، ولنا حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض ، فأمره النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أن يراجعها ، وفي رواية الدارقطني قال : فقلت : يا رسول الله ـ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ـ أفرأيت لو أني طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؟ قال : لا كانت تبين منك وتكون معصية) انتهى .

فها هو هشام قد استدل بقول الله عزّ وجلّ على فساد طلاق الحائض وهو قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (الطلاق : ١) فكيف يقال : إنه يعتقد أن

=

٢٤٦
 &

والأدهى أن هذا العالم كان له أنصاره أيضا ، ويدل عليه قول ابن الأنباري : ويقال لهذا الإنسان ومن ينتحل نصرته أخبرونا عن القرآن ... ألخ . (١)

من ستر عليه أبو عبيد :

قول أبي عبيد صريح في أن اعتقاد التحريف بعد زمن الصحابة والتابعين كان موجودا بين أهل السنة ، فحتى في زمن الإمام أبي عبيد المتوفى سنة ٢١٠ هـ كان منهم من يقول بوقوع التحريف في القرآن :

___________

=

القرآن رفع والصحابة اخترعوا قرآنا آخر ؟! ، والملطي هذا من نفس فصيلة الوهابية ! فانظر بماذا ختم كذبه على المذهب الذي ينتسب له هشام بن الحكم ، قال في التنبيه والرد : ٣٢ : (واعلموا رحمكم الله أن في الرافضة اللواط ، والأبنة ، والحمق ، والزنا ، وشرب الخمر ، وقذف المؤمنين والمؤمنات ، والزور ، والبهت وكل قاذورة ليس لهم شريعة ولا دين) ، وعلى مثل هذا فليعول أهل الحق والإنصاف !

ومن باب التنبيه أقول : إن كتاب (أصول مذهب الشيعة) لهذا الوهابي قد وصلني بعد أن فرغت من كتابة هذا الكتاب تماما وكنت على عجلة من أمري ، فأحببت أن أبين بعض السخافة التي فيه ، فاتضح بالتصفح السريع أنه مليء بالمتناقضات التي لو تصدى المرء لبيانها لأتى على مجلدات تفوق كتابه أضعافا مضاعفة ، فأرجو من الله عزّ وجلّ أن يقيض له من يبين جميع تناقضاته وكذبه في النقل وسقم فهمه للنصوص ، إنه سميع مجيب .

(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١ : ٨٥ .

٢٤٧
 &

وقال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان رضي الله عنه في جمعه القرآن يعتد له بأنه من مناقبه العظام ، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ فانكشف عوراه ووضحت فضائحه (١) .

ولا يقال إن العالم السابق وأتباعه الذين ظهروا في زمن ابن الأنباري هم الذين عناهم أبو عبيد ؛ لأن ابن الأنباري توفي عن سبع وخمسين سنة عام ٣٢٨ هـ ، وأبو عبيد توفي سنة ٢١٠ هـ فلم ير ابن الأنباري أبا عبيد وما أدرك زمانه ، فمن تكلم عنهم أبو عبيد أسبق زمنا من ذاك العالم الذي تحدث عنه ابن الأنباري .

بعض من ستر عليهم القرطبي :

الحق أن كثيرا من هذه الإشارات موجودة في كتب أهل السنة ، ولكنهم عرفوا كيف يتسترون على مثل هؤلاء الأعلام فأخفوا أسماءهم ونكروهم ، فها هو القرطبي يحكي لنا عن بعض أعيانهم أنه ادعى أن في القرآن غلطاً وتحريفا حصل من كتّاب المصحف :

وقال بعض من تعسف في كلامه : إن هذا غلط من الكتّاب حين كتبوا مصحف الإمام ، قال : والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف ، فقال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها . وهكذا قال : في سورة النساء ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ) وفي سورة المائدة ( وَالصَّابِئُونَ ) (٢) .

___________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٨٤ .

(٢) نفس المصدر ٢ : ٢٤٠ .

٢٤٨
 &

وذكر القرطبي في موضع آخر ما ادعاه عالم آخر من علمائهم ، حيث أنكر قرآنية المعوذتين ، وقد احتج له بأن من روى قرآنية المعوذتين هو عقبة بن عامر وهو ضعيف ، قال القرطبي :

فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين ، فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها فروايته مطرحة (١) .

وهذا السني المطلع على علم الرجال وطرق الرواية هو واحد ممن تغلب على لهيب التنكيل وسياط التبديع ، وعبر عما بداخله مع كل هذه الضغوط ، فما بالك بمن سكت وأضمر خوفا من تلك المواجهة ؟! .

وكما قلنا سابقا إن أهل السنة عرفوا كيف يتسترون على علمائهم الذين قالوا بتحريف القرآن ، فتعمدوا عدم ذكر أسمائهم ، ولا نقول إلا اللهم استر ولا تنشر !

هذا مع العلم أن الكتب القديمة لم تصل إلينا وكثير من مصنفات أهل السنة بادت وضاعت ، وعليه فالقول إن أحدا من أهل السنة لم يؤلف ما يثبت فيه تحريف القرآن رمي للكلام على عواهنه ورجم بالغيب لا برهان لهم به .

___________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٦ : ٢٩٨ .

٢٤٩
 &

ملاحظة !

السمة البارزة فيمن قال بتحريف القرآن من أهل السنة كونهم قريبي العهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بالأحرى من الحوادث التي طرأت على القرآن ، كالصحابة والتابعين وعلماء السلف من أهل السنة الذين عايشوا أحداث جمع القرآن وتحريق المصاحف وادعاءات عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم ، وما اعترض به على جمع القرآن والصيحات المنهالة على عثمان والمستنكرة لما آلت إليه عدد آيات السور القرآنية بعد جمع عثمان للمصاحف من ابن مسعود تارة ، ومن عائشة تارة أخرى ، وأمورا أخرى كثيرة كانت بمجموعها أرضية خصبة تجعل إدعاء وقوع التحريف في القرآن من أي شخص آنذاك أمرا ليس بالغريب ولا بالمستهجن لما في تلك الأوضاع والحوادث من قابلية لمثل هذه الأقوال ، فلم تكن في تلك الأزمنة هذه الحساسية الشديدة الموجودة بيننا ، والتي نواجه بها اليوم من يدعي تحريف القرآن .

وعليه فلا يلتفت لاستغراب بعض العوام حينما ينقل له قول عالم أو صحابي أو تابعي في نقص القرآن ؛ لأن هذا الاستغراب إنما هو نتاج الحالة التي نحن فيها من الأخذ المسلّم للمصحف ، وعدم المقتضي لإثارة مسألة وقوع التحريف في كتاب الله عزّ وجلّ بأيدي الجامعين له سهوا أو عمدا ، ناهيك عن الانعزال التام عن الظروف التي كانت تحيط بالقضية في زمن هذا الصحابي أو التابعي ، فنعلم أن الحكم بكفر من أنكر سورة من القرآن أو آية واحدة ، أو حتى حرفا واحدا أمر مستحدث لم يكن موجودا بين الصحابة

٢٥٠
 &

وهذا هو سبب عدم وجود رواية واحدة عن أي صحابي يكفر فيها من أنكر نص القرآن ، وكيف لا ؟! ومنهم من جاهر بوقوع التحريف في القرآن كعمر وعائشة وابن عباس وابن مسعود ؟! ، بل إن ابن مسعود نفسه قد وقع أمامه تكذيب رجل لكتاب الله عزّ وجلّ فما كفره ولا حكم بارتداده ، وإنما أقام عليه الحد ؛ لأنه شرب المسكر ولم يقل له : يا كافر . لم كذبت القرآن ؟! ، قال في نيل الأوطار :

وعن علقمة قال : كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف ، فقال رجل : ما هكذا أنزلت ؟! فقال عبد الله : والله لقرأتها على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، فقال : أحسنت . فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر ، فقال : أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب ؟! فضربه الحد . متفق عليه (١) .

فلو أن حكم الكفر والارتداد لمن أنكر حرفا من القرآن كان واضحا ومعلوما عند الصحابة لما تركه ابن مسعود دون أن يحكم بارتداده وكفره ، فما بالك بمن لم ينكر القرآن الثابت وإنما أنكر كون المصحف المجموع قد حوى كل آيات القرآن ؟ فهذا لا يحكم الصحابة بكفره بالأولوية ، مع العلم أن وجوه الصحابة قد قالوا وجاهروا به أيضا كما مر أيضا ، وعليه يتضح أن إطلاق الكفر على كل من أنكر حرفا من القرآن لم يكن موجودا بين الصحابة ، فضلا عمن أنكر شمول المصحف لكل القرآن .

___________

(١) نيل الأوطار ٧ : ٣٢٧ ، مصنف عبد الرزاق ٩ : ٢٣١ ، ح ١٧٠٤١ ، المعجم الكبير ٩ : ٣٤٤ ح ٩٧١٢ ، ح ٩٧١٣ .

٢٥١
 &

الخلاصة

هذه جموع سلفهم الصالح من الصحابة ، بل من أكابر الصحابة ومن التابعين ، بل من أكابر التابعين وبعض من علماء أهل السنة قد جاهروا بوقوع التحريف في القرآن الكريم ، ونقلناها من كتب أهل السنة أنفسهم وسيأتي في البحث التالي إن شاء الله تعالى شهادات واعترافات من علماء أهل السنة المتأخرين على أن هؤلاء المتقدمين بأسمائهم وأعيانهم قد قالوا بتحريف القرآن ودانوا به .

ومع كل هذا يأتينا بعض صبيان الوهابية كـ (عثمان . خ) ليقولوا : نريد أي عالم ، بل شبه عالم من أهل السنة يقول بالتحريف . ويطلقون القول تغريراً بعوامهم وضحكاً على عقولهم ، فيقولون : إن من قال بالتحريف كافر مرتد عن ملة الإسلام كائنا من كان ! .

وهؤلاء أعلام أهل السنة وكلماتهم أمامنا فإن كانوا صادقين فليكفروهم ، ولن نتبع أساليبهم الملتوية وغير العلمية ، بل نطالبهم بتكفير كل من صحت له النسبة وصح الإسناد إليه ، بل نتنازل ولا نطالبهم إلا بتكفير البعض منهم كابن مسعود وعائشة وابن عباس وابن عمر ومجاهد وسفيان الثوري وابن أبي مليكة وأبي عمرو بن العلاء ، بل نتنازل أكثر وأكثر ونريد منهم تكفير من سيعترف ابن تيمية وابن الجوزي والقرطبي والطبري وابن قتيبة وابن كثير وابن حجر العسقلاني والقسطلاني وغيرهم بأنه قال بتحريف القرآن ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، بل نتنازل ونتنازل ونقبل منهم

٢٥٢
 &

تكفير واحد من هؤلاء ، فهل يفعلون ؟! ، ( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (١) .

___________

(١) الصف : ٣ .

٢٥٣
 &

إعلام الخلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السلف

٢٥٤
 &

اعترافات علماء أهل السنة بأن من أكابر الصحابة والتابعين من كان يدين لله بتحريف القرآن

كلمات هؤلاء الأعلام ليست كل ما في الباب ، وإنما هي ما يسره الله عزّ وجلّ لي من المصادر في المكتبات العامة ، ولعل الله يتم البحث على يد علماء أفاضل (١) .

___________

(١) لا بأس بالتنبيه هنا إلى أن كاتب هذه الأوراق ليس من علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وقد طرقت هذا المجال ؛ لأن علماءنا حفظهم الله تعالى استحقروا السخافات التي يفتريها الوهابية وينسبونها لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، فآثروا الترفع وعدم الخوض في سخافاتهم ـ وهذا من حقهم ـ فكان من اللازم عليّ في هذه الأوراق أن أثبت للوهابية عمليا أن أحد عوام الشيعة ، ومن هو في أوائل العقد الثاني من عمره قادر على الرد عليهم وكشف كذبهم ، وعلى أي حال فكل ما يوجد في هذه الأوراق مما لا ينطبق مع الموازين العلمية ينسب لشخص الكاتب لا أكثر من ذلك ، وهذه الأخطاء لا تضر شيئا لأن بيت القصيد هو هذا المبحث المطروح هنا ، إذ أن إثبات قول بعض الصحابة والتابعين بتحريف القرآن بكلمات علماء أهل السنة ينهي القضية .

٢٥٥
 &

اعترافات علماء أهل السنة :

(الحافظ شيخ الحرم ابن جريج المكي)

الحافظ ابن جريج (١) يقول إن من الصحابة من كان يرى القنوت سورتين كغيرهما من سور القرآن :

أخرج البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ...) قال ابن جريج : حكمة البسملة أنها سورتان في مصحف بعض الصحابة (٢) .

(إمام أئمة الحديث سفيان الثوري)

اعترف إمامهم سفيان الثوري ـ مرت ترجمته ـ في تفسيره أن ابن عباس كان يرى وقوع التحريف في هذه الآية الكريمة ( لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا ) (٣) حيث قال الثوري :

قال ابن عباس : أخطأ الكاتب (حتى تستأذنوا) (٤) .

وذكر ابن جرير الطبري اعتراف الثوري في تفسيره : قال سفيان : وبلغني أن ابن عباس كان يقرؤها (حتى تستأذنوا وتسلموا) ، وقال : إنها خطأ من

___________

(١) انظر ملحق رقم (٢٦) .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٦٥ ، ط . الحلبي الثالثة .

(٣) النور ٢٧ .

(٤) تفسير سفيان الثوري : ١٨٣ ، ط . الهند سنة ١٩٦٥ م .

٢٥٦
 &

الكاتب (١) ، وهذا اعتراف صريح من الثوري بأن حبر الأمة ابن عباس كان يرى وقوع التحريف في القرآن .

(حافظ العصر سفيان بن عيينة)

سفيان بن عيينة أشهر من النار على المنار ، والشمس في رائعة النهار ولا شك أن قوله مستند قوي وشهادة لا تهمل بحال ، على جلالة قدره وسمو مقامه ورفعة منزلته عندهم (٢) ، وقد اعترف سفيان بن عيينة أن ابن مسعود أنكر قرآنية المعوذتين :

ليستا في مصحف ابن مسعود . كان يرى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين ، ولم يسمعه يقرأ بهما في شيء من صلاته ، فظن أنهما معوذتان فأصر على ظنه ، وتحقق الباقون كونهما من القرآن فأودعوهما (٣) .

لاحظ أن ابن جريج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة من أعلم الناس وأوثقهم وأقربهم من عهد الصحابة في نظر أهل السنة ، ولا أفضل عندهم من هؤلاء ليخبروهم بواقع حال صحابتهم .

___________

(١) تفسير الطبري ١٨ : ١٠ ، ط . دار المعرفة .

(٢) انظر ملحق رقم (٢٧) .

(٣) تفسير سفيان بن عيينة : ٣٤٩ ، جمع وتحقيق أحمد صالح محابري . نقلا عن مسند أحمد ٥ : ١٣٠ .

٢٥٧
 &

(شيخ الإسلام يزيد بن هارون)

ذكر الإمام يزيد بن هارون (١) في مجمع كُفر من أنكر قرآنية المعوذتين فقال له بعض ممن حوله : إن ابن مسعود أنكر قرآنيتهما ! ، فقال مستقلا لرأي ابن مسعود : أنه لم يكن يحفظ القرآن كله ! فلم ينكر ما نسبه السائل لابن مسعود من تحريف للقرآن ، بل أقره وتخلص من الإشكال الذي سببه رأي ابن مسعود بقول تافه ! ، قال يزيد بن هارون :

المعوّذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ، من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله (٢) .

نلاحظ هنا كيف كان رأي ابن مسعود مشهورا ومعلوما بين الناس في عهد التابعين وتابعيهم ، فما كان أحد منهم ينكر ذلك ، ونلاحظ أيضا كيف تقف أفعال الصحابة وما ثبت عنهم من تحريف للقرآن عقبة كؤودا لا يمكن تجاوزها أمام من يدعي كفر من اعتقد تحريف القرآن بالزيادة أو النقيصة .

(إمام المحدثين ابن جرير الطبري)

وهو أوحد مفسري السلف ، صاحب المصنفات الذائعة الصيت

___________

(١) انظر ملحق رقم (٢٨) .

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٥٣ .

٢٥٨
 &

الشائعة الذكر ، فقد اعترف بأن بعض السلف قالوا بتحريف القرآن وهذا نص قوله :

ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب ( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) وهما من صفة نوع من الناس فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، وإنما هو (لكن الراسخون في العلم منهم والمقيمون الصلاة) ، ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد بن سلمة عن الزبير ، قال : قلت لأبان بن عثمان ما شأنها كتبت ( لَّـٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ) (١) ؟ قال : إن الكاتب لما كتب ( لَّـٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ) حتى إذا بلغ قال : ما أكتب ؟ قيل له : أكتب ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ) ، فكتب ما قيل له .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه أنه سأل عائشة عن قوله : ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ) (٢) وعن قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (٣) . وعن قوله : ( إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (٤) . فقالت : يا بن أختي هذا عمل الكُتّاب أخطأوا في الكِتاب . وذكر أن ذلك في قراءة

___________

(١) و (٢) النساء : ١٦٢ .

(٣) المائدة : ٦٩ .

(٤) طه : ٦٣ .

٢٥٩
 &

ابن مسعود (والمقيمون الصلاة) (١) .

واعترف في موضع آخر من تفسيره حيث قال : القول في تأويل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) . اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم تأويله (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا) ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها) قال : وإنما ( تَسْتَأْنِسُوا ) وَهْمٌ مِن الكُتّاب .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية ( لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ) وقال : إنما هي خطأ من الكاتب (حتى تستأذنوا وتسلموا) .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بمثله ، غير أنه قال : إنما هي (حتى تستأذنوا) ولكنها سقط من الكاتب .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا معاذ بن سليمان عن

___________

(١) جامع البيان للطبري ٦ : ١٨ ، ط . دار الحديث .

(٢) النور : ٢٧ .

٢٦٠