الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. خافِضَةٌ رافِعَةٌ) الواقعة هذه هي واقعة قيامة الإماتة والتدمير ، التي تتلوها قيامة الإحياء والتعمير : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٦٩ : ١٥) : الحادثة التي هي لا محالة واقعة ، لحدّ تسمت باسم الواقعة ، إذ لا بداء عنها ولا رجوع ، فإنها حتمي الوقوع لحد كأنها الآن واقعة ، كما توحي له الفاعلة مرتين : مرة لأن الفاعل لا بد وهو شامل للحال ، مهما شمل ـ أيضا ـ الاستقبال ، واخرى إن كانت تاءها للمبالغة ، كما قد تؤيده تاء الكاذبة ، قرن مبالغة الوقوع بمبالغة اللاوقوع.

و «إذا» الظرفية ـ هنا مضمّنة معنى الشرط ، أنها رغم ما كانت لها كاذبة قبل وقوعها ، ليس لوقعتها كاذبة ظرف وقوعها ، إذ يجد الكاذبة نفسه والكون كله ، يجدها في واقع الواقعة ، فأنى له أن يكون لها كاذبة؟! أو أن الجزاء محذوف يستوحى من «ليس .. خافضة رافعة». ثم ف «كاذبة» هي مبالغة «كاذب» كما «الواقعة» تبالغ في «الواقع» :

إن الذين كانوا يصرون مبالغين في تكذيبها يوم الدنيا ، ليسوا ليكذبوا بها في الاخرى ، فوقعتها ـ وهي وقوعها مرة دون مهل ولا تكرار ـ هي التي تزيل عنهم ذلك التكذيب الإصرار ، فتحولهم إلى التصديق والإقرار ، حين لا يفيدهم تصديق ولا إقرار ولات حين فرار.

٦١

ثم (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قد تكون وصفا ل (كاذِبَةٌ) : الذي يكذب بها خفضا لها عن دورها الموعود ، في الحساب العدل والعقاب ، والفضل والثواب ، أو رفعا لها عن الكيان والوجود : أن لا قيامة فلا حساب ، فلا ثواب ولا عقاب!.

أو أنها خبر محذوف المبتدء : «هي خافضة رافعة» : خافضة أقواما ترفعوا يوم الدنيا دونما حق أو صلاحية فرفضتهم إلى النار وبئس القرار ، ورافعة آخرين تنزلوا عما يحق لهم ، فرفعتهم إلى الجنة (١) ، ونعم القرار ، ولأن الواقعة ظاهرة حق وحساب دون الدنيا الفوضى اللاحساب!.

أو أن الوصفين تشملان الواقعة والكاذبة بالمعنيين ، فقد تتحملها الجملة أدبيا ومعنويا : فلا كاذبة للواقعة خفضا ولا رفعا ، بل هي خافضة لمكذبيها رافعة لمصدقيها.

وقد يتخطى نفي الكاذبة لها يوم الواقعة ، إلى ما قبلها ، أن تكون (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) وصفا للواقعة قبل وقوعها (٢) كما تصفها ليوم وقوعها : أن ليس لوقعة الواقعة قبلها ، من يبالغ في التكذيب بها يوم الدنيا ، كما ليس لها كاذبة يومها ، سواء ، إذ لا سناد لمكذبيها يبالغون به في تكذيبها ، إلا ظنونا وأوهاما لا تملك إلا التشكيك بها ، لا التأكيد من عدم وقوعها ، وهذا ما يبرر المبالغة في الكاذبة ، إذ لا يكذب بها الواقع فيها ، المتواجد عندها ، فضلا عن أن يبالغ في تكذيبها ، حتى يبرر نفي المبالغة.

__________________

(١) الخصال للصدوق عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين عليه السّلام يقول في الآية : خافضة خفضت والله بأعداء الله في النار ، رافعة رفعت والله أولياء الله إلى الجنة.

وفي الدر المنثور ٦ : ١٥٣ عن محمد بن كعب : تخفض رجالا كانوا في الدنيا مترفعين وترفع رجالا كانوا في الدنيا منخفضين ، ومثله عن السدي وقتادة.

(٢) ذلك وإن كانت الجملة منكرة لا تأتي وصفا إلا لنكرة ، فان الواقعة أيضا ليست معرفة حيث اللام فيها ليست تعريفا ، وإنما هي موصول ، كما يقال : الذي يقع ، ترى الجملة هذه معرفة أم نكرة؟!

٦٢

فكما الواقعة يوم وقوعها تملك واقع البرهان الملموس على أنها واقعة ، كذلك هي الآن ، وطوال أيام الدنيا ، تملك من البراهين ، ما توضحها وضح النهار ، وكأنها الآن واقعة ، بما تمكّن من واقعها المستقبل من براهين ، وما تفرضها بعد إمكانيتها من براهين اخرى.

فلا يملك أحد من ناكريها يوم الدنيا أن يكذب بها خفضا عن شأنها ، أو رفعا ونكرانا لكونها وكيانها ، كما لا يملكون في الاخرى ـ ف :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) : قيامة الإماتة والإحياء والمتأكدة (لَيْسَ) حينها (لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (١) من يبالغ في تكذيبها (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) لا تكذيب الخفض من دورها ، ولا رفعها إزالة لها ، كما و (لَيْسَ) الواقعة (لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) لا في الاخرى ولا الاولى «خافضة» لها أو «رافعة» ... بل هي ـ الواقعة «خافضة» لأقوام «رافعة» لآخرين.

فهي هي خافضة لمن ترفع دون حق ، ورافعة لمن تخفض بباطل ، دون أن يملك أحد خفضها هي أو رفعها ، إذ الملك يومئذ لله وله الحكم واليه يرجعون ، دون الدنيا الدنية التي أكثر ملاكها ظالمون ، خافضون دون حق ورافعون ، كما وأنها خافضة للسماء المرفوعة بأنجمها ، ورافعة للأرض المخفوضة بجبالها ، خفض الزلزال ورفعه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ).

ففي يوم الواقعة تختل الموازين والقيم الأرضية الواهية ، وتحتل مكانها القيم والموازين الإلهية ، بلا مؤاربة ولا مسايرة.

وترى ماذا يحدث اثر حدث الواقعة ، أو ماذا الذي يحدثها؟

__________________

(١) فاللام هنا للتوقيت ، وعلى الوجه الثاني للتعدية.

٦٣

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا).

... نموذج من مواصفات الواقعة في الأرض والجبال ، فرجرجة الأرض واضطرابها ، وانبساس الجبال وهباءها ، هذا وذلك من مئات المئات من واقعات الواقعة التي تشمل الأرض والسماوات ، فلا تبقي ولا تذر.

إن للأرض رجفات أربع ورجرجات : دائبة هي حركاتها المتداخلة المعدّلة ، وموضعيته هي زلازلها قبل الواقعة ، ومدمرة هي رجة الإماتة كما هنا ، ومعمرة هي رجة الإحياء بعدها ، ورجة الإماتة هي الهائلة المخوفة ، كما توحي لها «رجّا» تعني عظيما مهولا ، محولا للأرض إلى غير الأرض : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (١).

وبسّ الجبال إرساءها وتسييرها ـ (فَكانَتْ هَباءً) : ذرات في الهواء (٢) ـ وتفتيتها وبثّها فكانت (مُنْبَثًّا) كالعهن المنفوش ، أفهذه الجبال الراسية تتحول هباء ، بعد ما رست قواعدها في الأرض ، وعلت رؤوسها في الهواء؟ أجل ومع الأرض والجبال السماء.

ترى ثم ماذا بعد قيامة التدمير؟ انها قيامة الإحياء والتعمير ، وانقسام المكلفين الى أزواج ثلاث ، حسب الأعمال والقابليات :

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) : أقرانا تحشرون إلى الساهرة جنب بعض ، وإنما تثلثكم سيرة مفارقات الأعمال والنيات ، دون أن ينظر إلى صورة الأشكال أو مقارفات الأعمال ولمّا.

__________________

(١) راجع تفسير سورة الزلزال ج ٣ ، ص ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٦ أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب (ع) قال : الهباء المنبث رهج الذرات ، والهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكرة.

٦٤

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : وهم الذين عاشوا يمين الحياة ويمنها ، إيمانا بالله ، يمينا ، في سبيل الله ، فيمنا في مرضات الله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٩٠ : ١٨).

والميمنة هي ناحية اليمين واليمين ... يمنا وبركة في حياتهم كل الحياة ، ويمينا في اتجاهات الحياة الى الدين ، ويمينا يوم القيامة إذ يؤتون كتبهم بأيمانهم.

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٩٠ : ٢٠) شؤما في الحياة حيث انحازوا الى شمالها ، ولؤما في العقائد والأعمال والتصرفات إذ جدّوا في إهمالها ، فالمشأمة هي ناحية الشؤم واللؤم قبال اليمين.

والسؤال في أصحاب الميمنة سؤال تبجيل وتجليل ، كما أنها في أصحاب المشأمة سؤال تذليل وتهويل ، ومن ثم السابقون يؤتي بذكرهم دون سؤال ، علّه لأنهم سبقوا السؤال والجواب ، واجتازوا كل حساب ، لأنهم مقربون! وهم ورثة الكتاب لأنهم مصطفون : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥ : ٣٢).

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) : هل هم السابقون زمانا؟

وليس لسبق الزمن دور في القرب والزلفى! ثم وهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين! أترى أن القلة الآخرة كالثلة الاولى سابقة زمنا؟ أم هم السابقون شرفا وإيمانا فلما ذا التكرار؟.

٦٥

ترى لأن الثاني خبر الأول؟ ومن شأن الخبر التنكر : «سابقون» وأن يفيد ، وما هي افادة حمل الشيء على نفسه ، حملا ذاتيا أوليا لا يعنى إلا في المنطقيات دون المعرفيات! أو انه وصف له؟ فكذلك الأمر! فالوصف يزيد الموصوف معنا ، لا أن يكرره دون معنى ولا جدوى! أو أنهما وصفان للزوج الثالث من (أَزْواجاً ثَلاثَةً) فالأول يعني السبق في الاولى ، والثاني سبق الاخرى نتيجة الاولى جزاء الحسنى بالحسنى؟ فهذا ما يقتضيه أدب اللفظ والمعنى ، فالسابقون بالخيرات : (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (٣٥ : ٣٢) إيمانا وعملا صالحا في الاولى ، هم السابقون بالخيرات جزاء فضلا في الاخرى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٢٣ : ٦١) فهم في صراع الحق والباطل سراع الى الحق وسبّاق اليه دون مماطلة ومماهلة ، ولا تلعثم وتوان ف (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) إلى الله زلفى ، أئمة الهدى ، بدو امة التقى ، فلهم العقبى الحسنى كما أحسنوا في الاولى.

فالسابقون سبقوا أصحاب الميمنة في كافة ميادين سباق التقوى حالا ومقالا وإيمانا ، من حمل الرسالات الإلهية أصالة بالوحي ، أو خلافة عن أصحاب الوحي ، ومن سنّ السنن الحسنة التي ظلت سبلا للخيرات لأهل الخيرات ، ومن أي سباق في أية صبغة إلهية (١) فأصبحوا هم المقربين لهم الأرواح العليا (٢) ،

__________________

(١) كالسباق الى اجابة دعوات المرسلين ، كما في الدر المنثور ٦ : ١٥٤ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في آية «السَّابِقُونَ» قال : يوشع بن نون سبق الى موسى ، ومؤمن آل ياسين سبق الى عيسى ، وعلي بن أبي طالب سبق الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه عنه انها نزلت فيهم وكل رجل منهم سابق أمته وعلي أفضلهم سبقا.

(٢) في أمالي الشيخ المفيد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في آية السابقين : «فأما ما ذكره من أمر السابقين فإنهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين جعل فيهم خمسة أرواح : روح القدس وروح الايمان وروح القوة وروح الشهوة وروح البدن ، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير

٦٦

والدرجات الحسنى ، وأفضل الزلفى في الاولى ، ومن ثم الاخرى ، ازدواجية السباق «السابقون السابقون ...».

ثم «المقربون» هنا ـ لا «المتقربون» توحي بازدواجية مكانة القرب لهم من الله : انهم تقربوا اليه كما اسطاعوا ، ومن ثم أكمل الله تقربهم اليه أن قربهم فأصبحوا «مقربين» : قرّبوا لسبقهم سواهم ، فسبقوهم في الجنة لقربهم!.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ترى من هم الأولون الثلة؟ ثم الآخرون القلة؟ أهم الأولون والآخرون من هذه الامة؟ والخطاب «كنتم» شامل كل الخليقة المكلفة ، ولا دليل على الإختصاص بهذه الامة! ولا يربوا الأولون منهم على الآخرين عددا أو عددا ، اللهم في المعصومين الأربعة عشر ، والسابقون يعمهم وكل سابق بالخيرات بإذن الله.

أو أن الثلة وهي الجماعة العظيمة هي ممن قبل الرسالة الأخيرة ، من أنبياءهم وأئمتهم وربانيهم ، ولا ريب أنهم الكثرة الكثيرة ، والقلة ـ وهي هنا بجنب ذلك الكثرة ـ إنها السابقون منذ الرسالة المحمدية الى يوم القيامة ، من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والأخصين به : الأئمة الاثني عشر ، ومن أجلاء أصحابه وأصحابهم ، ثم الربانيين القمة في هذه الامة الى يوم القيامة (١) فمهما كان أصحاب الميمنة منهم ثلة

__________________

(١) وفي روضة الواعظين قال أبو الحسن موسى عليه السّلام إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين حواري محمد بن عبد الله رسول الله (ص) الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر ، ثم ينادي : أين حواري علي بن أبي طالب عليه السّلام وصي محمد بن ـ

٦٧

كالأولين ، فالمقربون منهم قلة دون الأولين ، فأين عدد النبيين السابقين ، وهم أئمة السابقين الأولين ، وأين هم المعصومون في هذه الامة وهم أئمة السابقين الآخرين؟

ومن ثم أوصياء كلّ والأوفياء من أصحاب كلّ ، السابقين الى الايمان برسالاتهم ، أين هم بجنب الأوصياء الاثني عشر في هذه الامة ، والأوفياء السابقين القمة فيهم؟! مهما كان السابقون القلة أعظم درجة من السابقين الثلة وأتم عددا ، ولكن هؤلاء أكثر عددا.

إذا فالسابقون السابقون ، هم ثلة من الأولين وقلة من الآخرين ، ولقد اصطلحت «الآخرون» لأهل الرسالة الأخيرة ، كما ان رسولها رسول الساعة ، ورسول آخر الزمن ، وأمتها هي الامة الأخيرة ، وانعطافا الى ساير آيات الأولين والآخرين : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٦ : ٤٩) كما وأن استعراض أحوال القيامة ، الشاملة لأهل الجمع أجمع يشهد لهكذا تفسير ، ذلك ، وكما يشهد له أئمة السابقين الآخرين صلوات الله عليهم

__________________

ـ عبد الله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر وميثم بن يحي التمار مولى بني اسد واويس القرني ، قال : ثم ينادي المنادي : أين حواري الحسن ابن علي ، ابن فاطمة بنت محمد بن عبد الله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فيقوم سفيان بن ليلى الهمداني وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : ثم ينادي : أين حواري الحسين بن علي؟ فيقوم من استشهد معه ولم يتخلف عليه ، قال : ثم ينادي : أين حواري علي بن الحسين ، فيقوم جبير بن مطعم ويحي بن ام الطويل وأبو خالد الكابلي وسعيد بن المسيب ، ثم ينادي : أين حواري محمد ابن علي وحواري جعفر بن محمد عليهما السّلام ، فيقوم عبد الله بن شريك العامري وزرارة بن أعين وبريد بن معاوية العجلي ومحمد بن مسلم وأبو بصير ليث المرادي وعبد الله بن أبي يعفور وعامر بن عبد الله بن جذاعة وحجر بن زائدة وحمران بن أعين ، ثم ينادي سائر الشيعة مع سائر الأئمة عليهم السّلام يوم القيامة فهؤلاء أول السابقين وأول المقربين وأول المتحورين من التابعين.

أقول : والمذكورون ليسوا هم الحاصرون ، وإنما القمة منهم ، أو أن هناك مهمة دعت الى اختصاصهم بالذكر.

٦٨

أجمعين (١).

هؤلاء السابقون المقربون ، هم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) : جنات فوق سائر الجنات ، وأفضلها جنات المعرفة والرضوان : في الاولى ـ وأحرى ـ في الاخرى ، وهم في جناتهم :

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ. وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ).

(مَوْضُونَةٍ) منسوجة نسج الدروع وعل نسيجها الذهب والفضة : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) (٥٢ : ٢٠). مرمولة : مزينة بهما وبالجواهر (٢) فهي موضونة توضن بقضبان الذهب والفضة.

(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) : مطمئنين ، حال كونهم (مُتَقابِلِينَ) فجلسة التقابل بين المتحابين خير الجلسات وأحلاها (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) غلمان حدثة وليدة (مُخَلَّدُونَ) لا في المقامة بالخدمة فحسب ، وإنما مثلث الخلود : كونا ، وكيانا : خدمة وولدنة.

وترى من هؤلاء الولدان ، أهم ممن أنشأهم الله في الجنة؟ أم هم ـ أو معهم ـ ولدان توفوا قبل أن يبلغوا الحلم ، فلا هم يستحقون النار ، ولا جنة الأبرار ، فهم يخدمونهم دون تعب ولا شغب؟ قد يكون ، ويوافقه العقل والنقل (٣).

__________________

(١)في كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن أبي جعفر عليه السّلام ونحن السابقون السابقون ونحن الآخرون

وفي روضة الواعظين عن الصادق عليه السّلام ثلة من الأولين : ابن آدم المقتول ومؤمن آل فرعون وصاحب ياسين ، وقليل من الآخرين : علي بن أبي طالب.

أقول ، وهذا تفسير ببعض المصاديق منهما ، مختلف فيه كعلي عليه السلام أو مشكوك الشمول كالثلاثة الاول.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٥٥ عن ابن عباس قال : مرمولة بالذهب ، ومثله عن مجاهد وسعيد ابن جبير وقتادة.

(٣) المجمع عن علي عليه السّلام أنهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها فانزلوا هذه المنزلة.

٦٩

ثم ترى أهم من ولد المقربين ، ولكي لا يكونوا مهانين بما يخدمون؟ علهم هم : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٥٢ : ٢٤) إذ توحي اللام باختصاصهم بهم ، أم انهم اختصوا بالمقربين دونما قرابة بينهم ، وليس في تطوافهم عليهم تطفيف عن شأنهم وإنما ترفيع ولا تخفيف ، ولا سيما من كان منهم من ولد المشركين وكما يروى.

ثم ويكون طوافهم (بِأَكْوابٍ) : أقداح ، (أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) (٧٦ : ١٥).

(وَأَبارِيقَ) : آنية لها خراطيم وعرى ، كلّ لما يناسبه من شراب (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) : خمر هي مأخوذة من عين جارية متلمعة : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٧) (١).

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) : صداع الرأس «ولا ينخرفون» : فراغ العقل.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فاكهة حسب التخير : انتخابا لأحسنها تفكها ، ولحم طير من أي نوع يشتهون ، وبأية طبخة يريدون ، أو انطباخة دون طبخ ، فالفاكهة تختار لأنها عند الشبع ، واللحم يشتهى ، فانه عند الجوع ، فليس تعبير الاختيار والاشتهاء ، اشتهاء فوضى في التعبير ، وإنما اختيار ببلاغة العليم الخبير.

(وَحُورٌ عِينٌ) : جمع عيناء : واسعة العيون الجميلة ، تحير الناظر إليها. (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) المصون عن كل لمسة ونظرة ، أو أية عارضة ، لم تثقبه يد ، ولم تخدشه عين ، كذلك الحور العين إذ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) ويزيدهن لطفا انهن طائفات حول أزواجهن (٢).

__________________

(١) راجع ص ٢٢٧ ج ٣٠ من التفسير : خمر الدنيا والآخرة.

(٢) لأن «وَحُورٌ عِينٌ» عطف على «وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» يطوف عليهم ولدان مخلدون وحور عين.

٧٠

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : لا بما كانوا يعلمون أو يأملون ، أو بما كانوا يعتقدون أو يؤمنون ، وإنما عمل الإيمان الذي كانوا به يداومون.

هذا طرف من نعيم الجنة الجسدانية ، فإليكم طرفا من الجنة النفسانية :

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) فلما ذا اللغو هناك وهم غارقون في نعمة الله ومعرفته ، ولماذا التأثيم ولا إثم هناك ولا تأثيم ، فإن بواعث اللغو ، وهواجس اللهو ، ووساوس النفس هناك منفية ، لأنهم ظهروا على الحقائق كلها وظهرت لهم ، وكملت عقولهم وأحلامهم (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٤٧ : ٣٦) فلا أضغان تدفع الى تناحرات ، ولا غلّ يدعو لتنافرات : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١٥ : ٤٧) فدافع اللغو والتأثيم ، جهل تحول الى العلم والمقربون كانوا عالمين ، أو طيش استقر بالنعيم ، وهم كانوا يملكون طيشهم ، أو جهالة تحولت الى معرفة وهم كانوا عارفين ، فلا لذة لهم أحلى من العبودية ، ولا ذلة لهم أبلى من ترك العبودية ، فحياتهم هناك حياة أمن واستقرار بإيمان ، دون شغب ولا نصب ، ف (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) فضلا عن أن يأتوا به (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) :

قيل من رب العالمين : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٣٦ : ٥٨) وقيل من الملائكة المقربين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (١٣ : ٢٤) وقيل من سائر المقربين وسائر أهل النعيم : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (١٠ : ١٠) فهي لهم سلام ودار السّلام : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٦ : ١٢٧) (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (١٥ : ٤٦) فليست لهم فيها إلا قيلات السّلام وحيات السّلام يرف عليهم فيها السّلام ، فالجو كله سلام سلام ، فانه دار السّلام ، وصاحبها هو الله السّلام.

ومن قيل السّلام السّلام ، قيلات تحمل تزويدهم بمعرفة الرحمان وذكره

٧١

بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وهل يأنس المقربون ـ وفي جنة الرضوان ـ إلا بقيلات تقربهم زلفى الى الحنان المنان؟

ومن قيله محاوراتهم فيما بينهم وسواهم من أهل الجنان ، أنيسة حنونة أليفة ليس فيها إلا سلام سلام ، فهم يسمعون سلام كما يسمعون سلام!.

وترى ما هو وجه التكرار في «سلاما»؟ قد يكون رمزا الى مختلف السلام من الله ومن أهل دار السلام ، أو انه سلام لا يحمل ساما كما في سلام المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وإنما سلام يحمل سلاما بكل ما له من معنى صادق لائق ، وقد يكونان هما المعنيّان.

ثم ومن هنا نتبين أن «سلاما» خير تحية وإكرام ، فلنستنّ بسنة أهل الجنة هنا فيسلم بعضنا على بعض.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) : هم أصحاب الميمنة المسبقين ، يؤتون كتابهم بيمينهم وكما عاشوا يمين الكتاب والدين ، وترى كيف سموا «أصحاب الميمنة» عند ذكر الأقسام ، و «أصحاب اليمين» عند ذكر الإنعام؟ علّه لأن الميمنة هي سبب اليمين ، فلولا ميمنة الدنيا ويمنها بيمينها ، لم يؤتوا في الاخرى كتابهم بيمينهم ، كما لو لا مشأمة المشئومين يوم الدنيا لم يؤتوا كتابهم بشمالهم أو وراء ظهورهم.

ثم وأصحاب اليمين لهم درجة بعد السابقين ، ترى «ما أصحاب اليمين» في حالهم وحلهم وترحالهم؟.

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) : شجر النبق «يخضده الله من شوكه» (١) فيستظل به

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٥٦ ، أخرج الحاكم وصححه البيهقي في البعث عن أبي أمامة قال كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقولون : ان الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، أقبل أعرابي يوما فقال يا رسول الله! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما هي؟ قال : السدر ـ

٧٢

أصحاب اليمين لكثرة غناءه في الإظلال ، لسعة ورقة وتداخله ، فكما الله يبدل سيئاتهم حسنات ، يبدل سيئة السدر حسنة لكي ينتفعوا بما كان يشيكهم بشوكه ، وليتبرّدوا وينتزهوا ببرده ، أو ويأكلوا من فواكهه.

ان الحدائق في الجنان ظليلة* فيها الكواعب سدرها مخضود (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) : شجر الموز (١) ، المقصود منه الثمر للاستغلال وهو من أقوى الثمر وألطفه ، والمرغوب منه الورق للاستظلال ، ومن جماله نضد

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٥٧ ، أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله «وطلح منضود» قال : هو الموز ، كما أخرج جماعة عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري والحسن وقتادة ومجاهد.

وروي عن علي وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قرءا «وطلع منضود» وهذا زور وافتراء عليهما عليهما السلام فانه خلاف القرآن المتواتر فليضرب عرض الحائط ، وما أسخفه رواية

تروى عن علي عليه السلام أخرجها ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قيس بن عبادة قال قرأت عن علي عليه السلام «وطلح منضود» فقال علي عليه السلام ما بال الطلح ، أما تقرأ وطلع؟ ثم قال : وطلع نضيد ، فقيل له يا أمير المؤمنين! أنحكها من المصاحف؟ فقال : لا يهاج القرآن اليوم (الدر المنثور ٦ : ١٥٧).

أقول : ما هي دلالة طلع نضيد هناك على لزوم طلع ـ كذلك ـ في منضود هنا؟ ولو كان طلعا هنا فعلى إمام المسلمين أن يثبته طلعا ويمحيه طلحا ، فأمثال هذه الروايات ليست إلا زورا من هؤلاء الذين يصرون على وصمة التحريف في القرآن ، وهم يستندون فيه الى ما ينسبونه زورا الى الرسول والأئمة من آل الرسول عليهم السلام.

رغم المروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قرأ «وطلح منضود» كما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم

وفسره علي (ع) بالموز ، وتبعها الصحابة المذكورون مسبقا ، وقد ذكر النبي (ص) في موضع آخر الموز من فواكه الجنة كما في كتاب صنعة أهل الجنة والنار عن أبي جعفر قال قال رسول الله (ص) : ... ان نخل الجنة ... وموزها ورمانها أمثال الدلى ...

٧٣

الثمر والورق ، قرنا إلى قدم ، ثم نضد أغراسه ، فهو في مثلث النضد : بعضه على بعض ، وهو فاكهة وإدام مع بعض! وما ألطفه أكلا وهو حار الطبع ، تحت سدر مخضود وهو بارد الطبع.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٤ : ٥٧) فهو ظليل ممدود ، منبسط لا يتقلّص ، دائم لا تنسخه أو تتفرج به شمس أو سواها ، بسقف وأشجار وخيام أم ماذا؟ مما يدل ـ مع سدر مخضور ـ على وجود الشمس في الجنة ، هذه التي تكور ثم ترجع ، أم سواها من شمس يستظل عنها أهل الجنة فيها ف (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٧٦ : ١٣).

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ) : مصبوب من عل دون انقطاع ، أو جار في الأنهار نابعة دون أخاديد وأحفار.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) : كثيرة الطعوم والألوان ، وكثيرة الأنواع والأعداد ، وكثيرة المدة والمدى دون انقطاع ولا امتناع ، لا تقطع لأنها من الرحمة الواسعة اللامحدودة ، ولا تمنع ، ولماذا تمنع؟ أبخلا من المضيف؟ أم مرضا من الضيف؟ فلا بخل أبدا ، ولا مرض هناك.

ومن (ظِلٍّ مَمْدُودٍ) وأحرى ـ ظل الله الممدود على أهل الله في دار كرامة الله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) (٢٥ : ٤٥) ومن (ماءٍ مَسْكُوبٍ) اصول العلم الإلهي التي بها حياة أهل الجنة الروحانية ، ومن (فاكهة ..) فاكهة المعرفة والعلم ، التي يتفكه بها أهلوها (١).

__________________

(١) روى سعد بن عبد الله القمي باسناده عن نصر بن قابوس قال : سألت أبي عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) قال : يا نصر! كأنه والله ليس حيث يذهب الناس ، إنما هو العلم وما يخرج منه. أقول : إنه من باب بيان أفضل المصاديق وأخفاها.

٧٤

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ).

(وفرش) : جمع فرش ـ وفراش ، فرشا للراحة اتكاء أو نوما عليه ، وفراشا : حليلة ينام معها على الفرش (مرفوعة) : عن الأرض ، فرشا من حيث العلو معنويا وماديا ، ومن حيث الأشكال والأنواع ، ومرفوعة عن الدناءات فراشا بمن فيها من حليلات : مرفوعات جلالا وجمالا وأحوالا. ف :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) : أوليا بابتداع كالحور العين ، أو ثانويا بعد ابتداء كالمؤمنات المنشآت في النشأة الاخرى ، وكما عن الرسول (ص) : «ان من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا (١)» (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٢).

وترى ما هي حاجة الأبكار من المؤمنات أو الحور المنشآت ، أن ينشأن أبكارا كما الثيبات ، فالأوليات كن أبكارا ، والاخريات حديثات الخلق المبدعات ، لزامهن البكورة دون جعل حديث؟ علّ الوجه أن هذا الجعل هنا وهناك يجعل البكورة لهن لزاما ، لا تزول بزواج : ف (إن أهل الجنة إذا جامعوا النساء عدن أبكارا (٣)) فللباكرات من الدنيا والحور ، تجعل بكورة الخلود ، وللثيبات «إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا» (٤) كأن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٥٨ ـ أخرجه من عدة طرق عن انس قال قال رسول الله (ص).

(٢) الدر المنثور عن زيد الجعفي سمعت النبي (ص) يقول في قوله : إنا أنشأناهن إنشاء قال : الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا.

(٣) الدر المنثور أخرج الطبراني عن أبي سعيد قال قال رسول الله (ص).

(٤) الدر المنثور أخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة ان النبي (ص) أتته عجوز من الأنصار فقالت : يا رسول الله (ص)! ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : إن الجنة لا يدخلها عجوز ، فذهب يصلي ثم رجع فقالت عائشة : لقد لقيت من كلمتك مشقة ، فقال : إن ذلك كذلك ـ إن الله إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا.

٧٥

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) إذا فهن سواء في خلود البكورة بما أنشأهن الله فجعلهن أبكارا ، ومن ثم :

(عُرُباً أَتْراباً .. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٣٨ : ٥٢) (وَكَواعِبَ أَتْراباً) (٧٨ : ٣٣) فما هي العرب وما هي الأتراب؟

فالعرب جمع عروبة وهي المعربة بحالها وأقوالها عن عفافها وتعشقها لزوجها فهن المتعشقات لهم والمتغنجات ، الجاذبات لهم والمنجذبات المتغزلات :

يعربن عند بعولتهن إذا خلوا

وإذا هم خرجوا فهن خفار

فهن عرب بكافة مظاهر الزوجية ومآربها ومعاربها ، وبكافة مزاهر الجمال مع أزواجهن ، وخفار مع سواهم ، ومن عرب مقالهن عربية كلامهن ولغتهن (١) فإنها أجمل اللغات ، وهي لغة أهل الجنة ، فهن عرب في الأقوال والأعمال والأحوال! والأتراب هن لدات منشآت مع بعض ، متماثلات متوافيات السن والجمال مع لداتهن ، ومع أزواجهن ، متكافئات معهم في شؤون الزوجية ، عبر عنهن بالاتراب لمماثلتهن الترائب : ضلوع الصدر المتقارنات المتقاربات : (أَنْشَأْناهُنَّ) :

(عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) فهن أتراب لأصحاب اليمين كما هن أتراب مع بعض ، وترب العمر بين الزوجين وإن كان مرغوبا عنه في الدنيا ، ولكنه مرغوب فيه في الاخرى ، لبقاءهما على حالهما هناك ، وتغيرهما عن أحوالهما هنا (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٥٩ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ص) في قوله عربا : قال : كلامهن عربي ، وفي كتاب صفة الجنة والنار عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (ع) في حديث أوصاف أهل الجنة : صاروا .. وعلى لسان محمد العربية.

(٢) ان مماثلة العمر بين القرناء من المرغوب فيه مبدئيا ، كتقارب العقلية والفكر كتقارب الجسم ، وكونها مرغوبا عنها بين الزوجين إنما هو باعتبار المستقبل حيث يستقبلان الشيخوخة ، والمرأة أسرع فيها ، والرجل بحاجة دائما إلى شابة تؤنسه ، وأما إذا بقيا في عنفوان العمر فالمماثلة مرغوب فيها دون ريب.

٧٦

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ).

ومهما كان السابقون الآخرون قلة وجاه ثلة الأولين ، فأصحاب اليمين الآخرون ثلة كما الأولون ثلة ، وأين ثلة من ثلة؟

وإذ لا تناسخ في الأخبار ، وإلا كان أحدهما كذبا أو كلاهما ، فلا يعقل أن تنسخ أية ثلة الآخرين من أصحاب اليمين ، أية قلة الآخرين من السابقين ، وكيف والموضوع أيضا مختلف ، فهنا أصحاب اليمين وهناك سابقون ، فلتضرب أحاديث النسخ هنا عرض الحائط(١).

والآخرون الثلة هنا هم من الامة الإسلامية كما الآخرون القلة هناك وكما يروى (٢) خلاف ما يروى ان «هما جميعا من هذه الامة» (٣) فإذا كانوا جميعا منهم ، فما هو دور الأوسطين من المسلمين ، وما هو دور سائر الأمم؟ أفليس منهم أصحاب اليمين؟

وترى أية ثلة اكثر عددا وأعظم عددا؟ آية الثلتين لا توحي بشيء! فقد تكونان سواء ، أو إحداهما أو فر من الآخر لحدّ لا تجعلها قلة (٤) ، وقد توحي

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٥٥ ـ أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ضرب أصحاب رسول الله (ص) وقالوا إذا لا يكون من امة محمد إلا قليل ، فنزلت نصف النهار وثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، وتقابلون الناس ـ فنسخت الآية وقليل من الآخرين.

أقول : ولا يفسر القرآن هكذا إلا منسوخ عقله لا يميز بين السابقين القلة وأصحاب اليمين الثلة.

(٢) الدر المنثور : أخرج الطبراني عن ابن مسعود عن النبي (ص) في حديث طويل : اني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة فكبر القوم ثم تلا هذه الآية.

(٣) الدر المنثور ٦ : ١٥٩ عن أبي بكرة عنه (ص) في الآية «هما جميعا من هذه الامة».

(٤) الخصال للصدوق عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال : قال رسول الله (ص) أهل الجنة مائة وعشرون صفا ، هذه الامة منها ثمانون صفا.

أقول : الأربعون قبال الثمانين ، لا ريب وانهم قلة ، اللهم إلا إذا كانت صفوف المسلمين أقل عددا من صفوف غيرهم حتى يتقارب أصحاب اليمين الأولين والآخرين.

٧٧

ثلة الآخرين : أصحاب اليمين ، ان الامة الإسلامية ككلّ اكثر عددا من سائر الأمم ، فأطول زمنا منهم ، فدور الرسالات الواجدة برسلها بين الأمم ، اكثر انتاجا من دور الفترة الرسالية ، وإذا كان أصحاب اليمين من الرسالة الأخيرة ثلة كالأولين ، من حيث العدد ، فليكن الأولون قلة من حيث الزمن بجنبهم ، أو ان اكثر الثلة في الدولة الأخيرة الإسلامية المهدوية ، فلا تتطلب هذه الثلة زمنا أطول ، فبالإمكان أن يكون زمن الأولين أطول من زمن الآخرين ، لا ندري!

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ)؟ وقد يكفي تعريفا بهم انهم أصحاب المشأمة الشمال ، إذ يؤتون كتبهم بشمائلهم إمارة السقوط ، كما يؤتى أصحاب اليمين بأيمانهم علامة النجاح ، وثم هنا الإجابة عن «أين مكانهم في القيامة» :

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) :

(فِي سَمُومٍ) فالسمّ والسمّ كل ثقب ضيق كسم الخياط ، فالسموم هو النار والريح ، الحاملتا السمّ ، لطيفتا التأثير ومبالغتاه ، تدخلان البواطن ثقبا ونقبا ، فالهواء هناك ساخنة هباء تنفذ المسام بشواظ سامّة فتشوي الأجسام ، فكيف إذا النار!

ثم الماء هناك (حَمِيمٍ) كالنار ، لا يبرد ولا يروي ولا يغني من اللهب ، لأنه نفسه لهب ، وإذا كان المتسمم المحموم قد يخف عن سمّه وحمّه بظلّ ، فلهؤلاء المناكيد (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) : دخان لافح خانق : (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٧٧ : ٣١) (لا بارِدٍ) يخفف عن وطأ السموم والحميم (وَلا كَرِيمٍ) معتدل قد يعدل من شظا حمّته ، أو يخففه عن قمته ، وإنما يزيده تسمما وخنقا ـ ولماذا هذا العذاب الخناق :؟ ل :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا

٧٨

يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) :

ثالوث الكفر بالله وبرسالات الله وبيوم الله.

فالمترف هو الذي أبطرته النعمة وأطغته ودللته ، فأخذ من شهوته فيها مداها وانغمس فيها منتهاها ، فليس هو كل ذي نعمة ولا كل طاغ دون نعمة ، وسواء أكانت نعمة المال التي أغفلته ، أو نعمة القوة أو الجمال التي ألهته ، أو أية نعمة من شأنها الإبطاء والإطغاء ، فجماع هذه النعم ظرف لجماع البطر والطغيان ، ثم وكل على حسبه.

فالفقير الذي لا يجد مالا ولا مجالا لتحقيق آمال من قوة أو جمال ، إنه مهما كان كافرا لا يصل إلى قمة الكفر والطغيان ، اللهم إلا هامشا للطغاة المترفين ، فهو أيضا من المترفين ، إذ أترف في نعمة العقل الداعي إلى عبادة الرحمن ، إلى نقمة الطغيان ، وغرته هؤلاء بما يعدونه ويؤتونه من تافه الأنعام ، فالترف له دركات ، وكما الخروج عنه درجات ، والمترفون بدركاتهم من أصحاب الشمال فهم في النار ، وسواهم بدرجاتهم من السابقين أو أصحاب اليمين فهم في الجنة.

هذا ، ولكن الترف الذي يجعل صاحبه طرفا للسابقين وأصحاب اليمين ، هو ذروته لأصول الضلالة والطغيان ، وقد ينجو الهامش ولو بعد زمان وكما يلمح به القرآن :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٣٤ : ٣٤) (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣ : ٢٣) هذا وكما انهم المعذبون الأصول ، والسبب الرئيسي للعذاب (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٧ : ١٦) فأمر الله الموجّه إلى المترفين غير ما يوجه إلى غير المترفين ، ولأنهم أولوا نعمة وقوة ، فتكاليفهم أثقل ، وعذاب التخلف عنها أعضل.

٧٩

ومما يدفعهم إلى الترف إصرارهم على الخلف والنقض العظيم : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) فالحنث هو الخلف وهو النقض وهو الميل عن الحق إلى الباطل ، والقول غير الحق ، والذنب ، فالحنث العظيم هو العظيم من كلّ ، ولا أعظم من نكران وجود الله ، والشرك بالله ، وتكذيب رسالات الله ، ونكران يوم الله.

ان حنث نكران القيامة هنا مفرد بالذكر ، ولأن الأصل في نكران سواه إنكاره لا سواه ، ولكي يخلصوا عن عبء التكاليف الإلهية.

فنكران الالوهية الحقة حنث عظيم بكل معانيه الخمسة : فهو خلف للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ونقض لميثاق الفطرة وحكم العقل ، وميل عن الحق الذي تتوفر له كافة البراهين ، إلى الباطل الذي ترفضه كل البراهين ، فهو قول بغير حق ، وذنب عظيم لا أعظم منه ، وكما يتلوه متفرعا عليه حنث نكران الرسالات ونكران يوم القيام.

هؤلاء المترفون ، كان حياتهم الترف ، والإصرار على الحنث العظيم ، ومنه نكران اليوم العظيم : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ. قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

تقوّل عن استبعاد وبكل إصرار واستبداد : (أَإِذا مِتْنا) وصرنا ترابا ، ثم مضى زمن بعيد عن الكينونة الترابية : (وَكُنَّا تُراباً) فبعد هذه المدة وهذا التحول (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) كما كنا من قبل : تنكّر للبعث المؤكد المشار إليه باللام (ل) تأكيدا للنفي ، مقابلة الإصرار بالإصرار! (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الذين هم أبعد منا زمنا ، فهم في أمر مريج من ثالوث الاستبعاد : بعدين زمنيين بعد بعد أصل البعث (١).

__________________

(١) اقنومه الأول الموت والثاني الكينونة الترابية الماضي عليها زمن يعبد لهم. والثالث لمن هو أبعد منهم زمنا : آباؤهم الأولون.

٨٠