الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

وإن في الأرض فقط (١) ، أو العبء فهما المثقلان الوازران فقط بين المكلفين (٢) ولذلك يفرغ لهما لا سواهما ، فالثقل والفراغ يوحيان أنهما اللذان يدور عليهما رحى التكليف ، والحساب الثواب والعقاب ، وإن كان معهما غيرهما من المكلفين المحشورين ، من أعلاهم غير المعروفين ، وأدناهم فيمن نعرف من سائر الدواب : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣) (٦ : ٣٨).

فحساب غير الثقلين ليس في فراغ ، مهما كان لهم حساب ، لتفاهة التكليف وخفته ، أو خفة العصيان وقلته ، وأما الثقلان فهما المثقلان تكليفا ووبالا ، كما هما المثقلان ثوابا وكمالا ، ثم الفراغ للحساب الجزاء من آلاء الرب للمؤمنين إذ ينتصر لهم يوم الدين من الظالمين ، ويثابون هناك على ما عملوا يوم الدنيا ، نعمتان لهم ، ونقمتان لمن سواهم من الظالمين ، فالفراغ للحساب لهم من الآلاء وللظالمين بلاء : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

* * *

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ

__________________

(١) ومما يشهد له ما تواتر عن الرسول (ص) «إني تارك فيكم الثقلين» : أي العظيمين «كتاب الله وعترتي» فليكن الانس والجان أيضا ثقلين بين سائر الخليقة.

(٢) تفسير روح البيان ج ٩ ص ٣٠ قال الصادق (ع) .. لأنهما يثقلان بالذنوب.

(٣) راجع ج ١ من الجزء ٣٠ ص ١٤٣ ـ ١٤٦ في حشر الحيوان.

٤١

مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

٤٢

تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨)

٤٣

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

المعشر هو الجماعة العظيمة والكثرة الكاملة ، فهل الخطاب به في محشر القيامة ، إذ يحشرون كاملة أجمعين؟ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) (٦ : ١٢٨) (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ..) (٦ : ١٣٠) أو أن الخطاب يشمل المعشرين : يوم الدنيا ويوم الدين؟

قد يكون. حيث تتحمله الآية في مغزاها.

وهل الآية تبشير للأنس والجان بملحمة غيبية هي إمكانية غزو الفضاء بسلطان علمي أو إقدار بتقدير الرحمان أم ماذا ، فهي خاصة بيوم الدنيا؟.

فهي لا تمت لهما بصلة بما احتفت به من إنذار وتهويل بعذاب يوم الدين : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ .. يُرْسَلُ عَلَيْكُما .. فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ .. وأين هكذا تبشير من هذا الإنذار؟.

ثم النفوذ هنا «من» : خروجا عن أقطار السماوات والأرض إلى غيرهما ، لا «في» : دخولا في أقطارها غزوا لها ، ثم النفوذ فرار من جهة الى اخرى كما ينفذ السهم ، وليس غزو السماء فرارا منها إلى الأرض ، ولا من الأرض إلى نفسها ، وإنما غزو السماء تزويد وتحكيم لقرار علمي سلطوي في الحياة الأرضية على السماء : أن بإمكان ساكن الأرض وما كنها غزو السماء.

فالآية لا تمت بصلة لما تهواه غزاة السماء وإنما هي آية الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٤٢ : ٢٩) إذ تعد بالجمع بين دواب الأرض والسماء ، لا تلك التي توعد محاولي النفوذ بإرسال شواظ من نار! فهل هو بعد وعد لغزو الفضاء مع وعيد النار؟.

ثم ولما ذا محاولة النفوذ من تلكم الأقطار؟ أفرارا من حساب الجبار وعذاب النار؟

٤٤

ف (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) ثم ولا فرار عن النار إلا بسلطان الجبار على ضوء سلطان من التقوى ، ودون حاجة للنفوذ من هذه الأقطار!.

أم خروجا من سلطان الله : ملكه وقدرته؟ فلو كان بعد الأرض والسماوات مكان لم يكن إلا بسلطان الرحمان : (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) : في ملك الله وقبضته ، فما محاولة الخروج عن سلطان الله إلا محاولة جنونية مستحالة.

فسواء أكانت محاولة النفوذ من الأقطار يوم الدنيا أم يوم الدين ، ف (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) : فأين تطير هذه الحشرة الهزيلة الذليلة ، وإلى أين ، أتحسبها تنجو من عذاب الرحمان ، أو تخرج عن سلطانه؟ فلتنفذ من الأقطار كل الأقطار ، فهل تفر من النار؟ (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) لا انتصار الفرار ، ولا إخماد النار ، ولا أي غلب على العزيز الجبار ، فلما ذا الفرار؟!

إن شواظ النار : لسانها اللهيب الخالص الأخضر ، ترسل على الفارين ولو إلى أبعد الأقطار ، والنحاس هنا المذاب السائل من الصفر ، أو الدخان المتصاعد من النار ، هما يرسلان عليكما ، ولا اليكما ، مما يوحي أن عذاب الله حاضر حاذر ولو خارج الأقطار ، لا يتطلب معونة الإرسال الى الفار ، ولو استطاع الفرار؟!.

فالسلطة الإلهية المطلقة هي من الآلاء ، وتحقيق العذاب على المستحقين من الآلاء ، وملاحقة الفارين عن العذاب من الآلاء ، عدلا أو فضلا من الرحمان : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن البلاء العدل على أهله من الآلاء الفضل على أهل الله.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

انشقاق السماء هو اخترامها وافتراقها عن التئامها وصلابتها :

٤٥

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) واهية وهي الدهان :

المهل ـ دردي الزيت إذ تمور مورا ، وكما علّها كانت حين دخانها وردة كالدهان فهي ذات الرجع إلى ما كانت يوم قيامتها فترجع كما كانت (وَرْدَةً كَالدِّهانِ).

وردة علّها احمرارة الحرب أو اصفرارة الخوف والغضب ، تسيل هي السماء كالدماء ، بدلا عن أن تسيل منها الدماء ، وردة الانشقاق في قيامة الإماتة تقدمة لقيامة الاحياء ، ويا لهما من آلاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

فهنا سؤال منفي هو الاستعلام ، ولما ذا يسأل علام الغيوب ، أو يسأل عمّا له الموكلون بالعذاب؟ إذ (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ف (لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢٨ : ٧٨) فإن وصمة الجريمة مثبتة على سيماهم ، ثم وهناك سؤال مثبت : سؤال تقبيح وإيلام : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣٧ : ٢٤) يسألون عما أجرموا ، لا عما أجرم غيرهم : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٣٤ : ٢٥) إذا فلا نفي السؤال يخص جماعة أو طائفة دون آخرين ، ولا إثباته (١). كما لا جواب للمجرمين عذرا ، ولا استجواب إلا حجة عليهم.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) : علامتهم ـ سيماهم في وجوههم وسائر أعضائهم وأحوالهم وأقوالهم ، الوجوه الكالحة الباسرة بكل الوجوه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) في المجمع عن الإمام الرضا (ع) انه قال في الآية : ان من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب في الدنيا عذب عليه في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه ، أقول انه في نفسه صحيح كواقع لا كتفسير للآية لأنها تعم الانس والجن جميعا.

٤٦

باسِرَةٌ) (٧٥ : ٢٣) وحتى إذا تكلفت بشاشة ونضارة ، فسيما الوجوه المجرمة معروفة عند أهله ، وحتى يوم الدنيا ، فالمؤمن ينظر بنور الله فيعرف المجرم بسيماه رغم نضارة النعمة وغزارة النهمة ، فكيف بيوم الطاعة ، إذ الوجوه باسرة ، ورجاسة السرائر في سيماهم ظاهرة ، وعمال العذاب ، الملائكة الموكلون به هناك ، أنظر بنور الله من المؤمنين يوم الدنيا ، فيا له من مشهد عنيف ، ومع العنف الهوان ، إذ تؤخذ بالنواصي : الجباه ، والاقدام ، فيقذفون في النار ، مع كل هوان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إذ لا مغالطة في عرفان المجرمين ، فلا مخالطة لهم بالمؤمنين.

وإنما تؤخذ بالنواصي والاقدام حين ينتهي دور الشفاعة والغفران ، فإنهما قبل إبرام الحكم وختام الأمر ، يوم البرزخ ، ويوم القيامة قبل الحساب ، أو بينه وبين إبرام العذاب وكما يروى عن الرسول الأقدس (ص) (١).

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

(هذِهِ جَهَنَّمُ) : نار شديدة التأجج (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا) بكونها وكيانها

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٤٥ ـ أخرج عبد الرزاق في المصنف عن رجل من كندة قال قلت لعائشة أسمعت رسول الله (ص) يقول : انه يأتي عليه ساعة لا يملك لأحد شفاعة؟ قالت : نعم ، لقد سألته فقال : نعم ، حين يوضع الصراط وحين تبيض وجوه وتسود وجوه وعند الجسر حتى يشحذ حتى يكون مثل شفرة السيف ، ويسجر حتى يكون مثل الجمرة ، فأما المؤمن فيجيزه ولا يضره ، وأما المنافق فينطلق حتى إذا كان في وسطه خر في قدميه يهوي بيديه إلى قدميه ، فهل رأيت من رجل يسعى حافيا فيؤخذ بشوكة حتى تكاد تنفذ قدميه ، فإنه كذلك يهوي بيديه إلى قدميه فيضربه الزباني بخطاف في ناصيته فيطرح في جهنم يهوي فيها خمسين عاما ، فقلت : أيثقل؟ قال : يثقل خمس خلفات فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام.

٤٧

وإحراقها لهم (الْمُجْرِمُونَ) الذين أجرموا ثمار الحياة الانسانية قطفا لها قبل إيناعها أو قطعا لها عن آخرها (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ) ماء (حَمِيمٍ) : حار (آنٍ) :

منتهى الحمّة والحرارة ، طواف الاضطرار والاستغاثة : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) (١٨ : ٢٩) وليس المغاث به خيرا من المغاث منه ، فلذلك يطوفون في هذا البين حائرين ، وإذا كان ماءها في منتهى الحمام ، فكيف بنارها؟ سبحان العزيز العلام! فطواف المجرمين بين مختلف العذاب من الآلاء : عدلا على مستحقيه ، وفضلا للمؤمنين بل وللمجرمين أيضا يوم الدنيا إذ ينذرون به فينتفعون ، مهما كان لهم عذابا يوم الدين : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ثم وإليكم مواصفات الجنات التي هي آلاء بشرى لأهلها يوم الدنيا وواقعا يوم الدين :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

هاتان الجنتان هما في جنة العدن الخلود : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٧٩ : ٤٠) وعلهما فيها الجنة الجسدانية والروحانية وهي اكبر : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٩ : ٧٢) (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) (٣ : ١٥) فكما ان خوف مقام الرب وتقواه مشتركان بين الروح والجسم ، فلتكن هكذا الجنتان ، أو هما فيها بستانان (٢) بما معهما من جنة المعرفة والرضوان ، أو انهما جنة الانس والجان. كل على حدة ، ولكنه خلاف المعروف من آي القرآن : من اشتراكهما في الجنان دون تباعد وانحياز ، وان «من»

__________________

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٤٧ ـ أخرج ابن مردويه عن عياض بن تميم انه سمع رسول الله (ص) قال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) قال : بستانان عرض كل واحد منهما مسيرة مائة عام فيها أشجار وفرعهما ثابت وشجرهما ثابت وعرصتهما عظيمة ونعيمهما عظيم وخيرهما دائم ولذتهما قائمة وأنهارهما جارية وريحهما طيب وبركتهما كثيرة وحياتهما طويلة وفاكهتهما كثيرة.

٤٨

يشمل كل واحد ، لا كل اثنين أحدهما من الانس والآخر من الجان ، ومن مقام الرب قيامه الربوبي بالقسط : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) (٣ : ١٨) وقيامه بما نكسب : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١٣ : ٣٣) وقيامه بكل متطلبات الحياة : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٣ : ٢) قيامات قيمات : قسطا في الحكم وقسطا في استنساخ الأعمال ، وقسطا في الجزاء ، فليس خوف مقام الرب إلا من قسطه العدل ـ لا القسط الظلم ـ من قيامه بالشهادة والحساب والعذاب ، ثم ومن مقام الرب قيام العبد في موقف الحساب : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٣ : ٦) فلمن خاف مقام ربه ، ومقامه عند ربه ـ جنتان : فلتحق لخائفه جنتان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ثم وكما الخوف من مقام الرب درجات كذلك جنتاه درجات ، ويعم درجات الخوف أن يتبنى حياته الخوف من مقام الرب ، دون اللامبالاة ، ومن أفضل الخائفين «من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويقول ويعلم ما يعمله من خير وشر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال (١)» ومن أدناهم من يقترف أحيانا بعض المعاصي ثم يتوب ، فهو من أهل الجنتين الدانيتين (٢).

__________________

(١) اصول الكافي عن أبي عبد الله (ع) في الآية .. ثم قال : فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

وفي كتاب الجنة والنار عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر الباقر (ع) في الآية : هو أن الرجل يهجم على شهوة من شهوات الدنيا وهي معصية فيذكر مقام ربه فيدعها من مخافته.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٤٦ ـ أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع والحكيم في نوادر الأصول والنسائي والبزاز وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء ان النبي (ص) قرء هذه الآية فقلت : وان زنى وان سرق يا رسول الله (ص) فقال النبي (ص) الثانية ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وان زنى وان سرق فقال الثالثة ولمن خاف مقام ربه جنتان ، فقلت وان زنى وان سرق ، قال (ص) نعم وان رغم أنف ابن أبي الدرداء ، أقول : تصديق هذه الرواية لا تناسب إلا للجنتين الأخريين. لا الأوليين العاليتين ، ولعل ذلك خطأ من الراوي ان النبي (ص) قرء آية العاليتين (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) أو إنما يناسب (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ).

٤٩

(ذَواتا أَفْنانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) جنتان ذواتا أفنان : أغصان مختلفة الألوان صغيرتان نديتان نضرتان ، فلكل جنة أغصان ، ولكلّ ألوان ، كل على حسبه كما الجنتان ، إن كانتا بستانين أو جنة جسدانية وجنة رضوان ، أو كلّ لكل من الانس والجان.

(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لكلّ عين جارية ، فلجنة الرضوان عين المعرفة الفائضة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وإنما دائبة فمتزائدة ، وكما للجنة الثانية ، فيا للعينين مع الأفنان من نضارة ولمعان : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فالزوجان هما الاثنان من كل نوع ، أحدهما متشابه لما رزقوه في الدنيا ، والثاني غير متشابه : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) (٦ : ١٤١) كلّ متشابه لما رزقوه من قبل : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (٢ : ٢٥) وغير متشابه هو الزوج الثاني ، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، حتى والمتشابه منهما بينه وبين الذي في الدنيا ، بون الجنة والدنيا.

ثم ومن فاكهة المعرفة أيضا زوجان ، متشابه لما عرفوها في الدنيا ، وغير متشابه لم يعرفوها فيها! (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وإذا كان بطائن هذه الفرش من إستبرق : حرير غليظ ، فما ذا إذا تكون

٥٠

ظواهرها؟ إنها أحسن وأنضر من إستبرق ، ولا أنضر لنا يوم الدنيا من إستبرق! (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) : أثمارهما المجتناة «دان» لا تكلّف إلا قطفا من دون تكليف إلا طوعا وعطفا.

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

قد توحي ضمير الجمع هنا دون التثنية المسبقة ، بأن الجنتين هناك هما الجسدانية والروحانية ، والنساء قاصرات الطرف لسن في جنة الرضوان ، والجنة الاخرى لأهلها ـ ككل ـ جنات ، وكما تتكرر فيما يلي (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) لا (فِيهِما) فلا تثنية إلا فيما يناسب جنة الرضوان.

فجنا جنة المعرفة دان لأهلها ، يجنونها من أشجارها ، كجنا غيرها ، وكذلك الأفنان ، وعينان تجريان ومن كل فاكهة زوجان.

فكما يتفكه الإنسان من فواكه يأكلها ، كذلك ـ واخرى ـ من فواكه تتفكه بها روحه ، وكما يتنصر من الأفنان الأغصان ، كذلك ـ وأحرى ـ من مختلف أفنان المعرفة والرضوان ، وكما يشرب أو يغمس في عين جارية بالأبدان ، كذلك ـ وأحرى ـ من عين المعرفة الفائضة بفضل الرحمان في جنة الرضوان ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فِيهِنَّ) الجنات الجسدانية ـ بنات (قاصِراتُ الطَّرْفِ) من القصر الكمال ، لا القصور النقص : فهن ، مقصورة أطرافهن على أزواجهن : أطراف العيون والقلوب ، فلا تهوي إحداهن إلا زوجها ، ولا تنظر إلا إليه (١) ، فإنهن عفيفات

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٤٧ ـ أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (ص) في الآية : لا ينظرن إلا إلى أزواجهن وفيه ١٥١ عن مجاهد في الآية قال : مقصورات قلوبهن وأبصارهن وأنفسهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ لا يرون غيرهن.

٥١

الشعور والنظرة ، وقصور الطرف هذا ليس مقصورا عليهم منذ الزواج ، وإنما منذ أنشأهن الله إنشاء إذ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) : لم يقتضهن قبلهم ويقترعهن بجماع أم سواه ، مسا أم سواه وبأي من ألوان الاستمتاع أو سواه (١) ومن طمث العفاف النكاح ـ وأحرى منه ـ اللاعفاف السفاح.

(إِنْسٌ ... وَلا جَانٌّ) : والنفي هذا يجوّز الإثبات : أن بإمكان الجن طمثهن كما الإنس ، وكذلك إمكانية طمث كل ذكر من الجن والإنس أنثى الآخر ، ثم ونفي الطمث في معنى أوسع انهن لم يدخلن معركة الحياة الزوجية باتعابها واشغابها وطوارئها ، ولا أية اتعاب تنقص من جمالهن ، فهن كما يروى عن الرسول (ص) بعد ما تلا الآية : «لم يصبهن شمس ولا دخان ، لم يعذبن في البلايا ، ولم يكلمن في الرزايا ، ولم تغيرهن الأحزان ، ناعمات لا ييأسن ، وخالدات فلا يمتن ، ومقيمات فلا يظعنّ ، لهن أخيار يعجز عن نعتهن الأوهام» (٢).

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

هنا يضاف إلى جمال البكارة وقصر النظرة جمال اللون والنضارة : ياقوتية اللون ومرجانيته ، فهن إذا في مثلث الجمال والطراوة ، الذي يجمع كمال الانوثة كله ، وكل ذلك النعيم العميم جزاء الإحسان ـ و :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

وإنه لجزاء الفضل وليس العدل ، فإن الإحسان من هؤلاء المحسنين لم يك ليرجع إلى رب العالمين ، وإنما إلى أنفسهم ، وكما الإساءة ليست إلا عليهم : (إِنْ

__________________

(١) الطمث لازما الحيض من يطمث مضموما ومتعديا من يطمث مكسورا كما هنا : الاقتضاض والاقتراع والمس ، ف «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» تجمع جميع ما تحل من الاستمتاعات النسائية ، أو ومعداتها حتى الخطبة.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٤٨ ـ أخرج ابن مردويه عن عياض بن تميم انه سمع رسول الله (ص) قال :

٥٢

أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (١٧ : ٧) على أن الحسنة لنا من الله ، فإنه الهادي للحسنى ، مهما كان لنا حول في الإحسان ، ف «هل جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد والإسلام إلا الجنة» (١)؟ فليس يعني الإحسان إلا إيجاد الحسن والإتيان به على ضوء شريعة الله ، أو العقل المؤيد بها ، لا كل تراه حسنا كما تهواه ، فإنه قد يكون إساءة ، أو لا إساءة ولا إحسانا! فيا علينا للرحمان من امتنان فيما أحسن إلينا من آلاء فاضلة ، ونعماء فاحلة يسميها جزاء الإحسان! (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

ثم آية الإحسان لا تختص المسلمين الصالحين بجزاءهم يوم الدين ، فإنها تعمهم والكافرين ، كما تعم يوم الدنيا ويوم الدين ، مهما كان من أفضله وأتمه للمؤمنين ، ليوم الدين ، وكما يروى عن الرسول (ص) : أنزل علي هذه الآية سجلة في سورة الرحمان في المسلم والكافر سواء : «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» (٢) : سواء يوم الدنيا لا يوم الدين.

فقد «جرت في الكافر والمؤمن والبر والفاجر سواء ، ومن صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به ، وليس المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يربي ، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٤٩ ـ أخرجه ب «الإسلام» ابن مردويه عن جابر بن عبد الله عنه (ص) وب (التوحيد) جماعة منهم ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر عنه (ص) والترمذي والبغوي والديلمي وابن النجار عن انس عنه (ص) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس عنه (ص).

كما وأخرجه الصدوق في التوحيد عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (ع) انه سمع النبي (ص) يقول :

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٤٩ ـ أخرجه ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان والديلمي عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) :

(٣) تفسير العياشي باسناده عن أبي عبد الله (ع) يقول : آية في كتاب الله مسجلة : هي (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) جرت.

٥٣

فكل من أحسن إليك ـ أيا كان دينه أو لا دين له ـ فعليك بالإحسان إليه وبأفضل مما أحسن ، وإلا فالبادئ أفضل ، إلا أن يفضل في جزاءه بإحسان يفوق ما فعل ، وكما هي سنة الله ، وإن كان لا يصله إحسان المحسنين ، اللهم إلا إليهم ، وقد تجري آية التحية في ردّها بأحسن منها أو مثلها هاهنا ، فإن الإحسان من التحية أو هو أفضل التحية.

ونجد الله تعالى يعد المحسنين أجمع الجزاء الحسنى ، إن في الدنيا والاخرى ، أم في إحداهما ، للمؤمن في الاخرى ، وللكافر ـ غير المستحق الاخرى ـ في الاولى ك (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦) فالدنيا دار جزاء للمحسنين لها ، كما الآخرة دار الجزاء الأوفى لمن أحسن لها ، ولا يظلمون فتيلا.

وآية الإحسان هذه ، في صورة الاستفهام ، تستخرّ الضمائر الحية ، معتبرة وجوب جزاء الإحسان بالإحسان عقليا وإنسانيا ، قبل كونه واجبا قرآنيا ، ولا ينكره إلا من سامح عن عقله وضميره ، حتى ولا الحيوان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

هاتان هما الجنتان العاليتان بما فيهما ومن فيهما ، فهل هناك أعلى منهما ، أو دونهما؟ أجل :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

وترى إذا كانت الأخريان دون الأوليان فما هي المنة فيهما على الإنس والجان؟

علّها في أن دونهما لمن هم دون من له الأوليان ، وإلا فلا جنة لهم لو لا الأخريان ، وهذا عدل في مراتب الجنات حسب الدرجات ، كما وان كل جنة هنا أو هناك أيضا درجات حسب القابليات ، أفليس ذلك القضاء العدل من آلاء الرحمان :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

٥٤

(مُدْهامَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فهناك الاوليان فيهما ذواتا أفنان ، وهنا الأخريان فيهما مدهامتان : خضراوان (١) ضاربتان الى السواد ، فأين أفنان : أغصان مختلفة الألوان ، من : خضراوتان؟.

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فهناك عينان تجريان ، وهنا نضاختان : ناضبتان بالماء ، وهذا دون الجريان.

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فهناك (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) ثانيهما غير متشابه ، وهنا (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) هي أولاهما المتشابه لما في الاولى ، دون غير المتشابه.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فهنا خيرات حسان ، تقارف قاصرات الطرف في بعض الخيرات ، وتفارقها في البعض ومن المفارقات هنا :

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

هنا مقصورات الطرف بقصر أزواجهن لهن وقصر الخيام ، وهناك قاصرات الطرف من ذواتهن دون قصر الأزواج ولا قصر الخيام ، فأين إذا مقصورات من قاصرات؟! فهذه من المفارقات ومن ثم المقارفات :

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ولأن الطمث ـ أيا كان ـ هو نقص الأنثى ، فلا يناسب الإحسان ولا الحسان في الجنان ، اللهم إلا هامشيا لمن يتذوقها.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٤٩ ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال سألت النبي عن قوله : مدهامتان ، قال : خضراوان.

٥٥

وترى ان كان الحور المقصورات في الخيام غير مطموثة من قبل ، فما هو دور النساء الإنسيات ، هل هن محرومات عن زواج الجنة ولسن حورا ، وكثير منهن مطموثات في الدنيا؟.

علّ الجواب أن الحور المقصورات هن من الخيرات الحسان لا كلهن ، فمنهن أيضا النساء الإنسيات (١) يجعلهن الرحمان عذارى أبكارا ، أم وإذا بقين ثيبات فلسن بمرغوبات عنهن لأزواجهن ، بل هن مرغوبات لهم طيبات ، ثم وهن أفضل وأجمل من الحور المقصورات وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لما يسأل :

«أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ، قيل : ولم ذاك؟ قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله ، ألبس الله وجوههن من النور وأجسادهن من الحرير» (٢).

وعلّ قاصرات الطرف والمقصورات ، اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان تشملهن ، وأحرى ، ف «قبلهم» قد يخص الآخرة ، وان طمثن يوم الدنيا بهم أو بغيرهم ، أو أنهم هم الذين طمثوهن في الدنيا فلم يطمثن قبلهم إنس ولا جان ، أو ان طمثهن مطموس يوم الآخرة فأصبحن غير مطموثات.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فهناك المتكآت فرش من إستبرق وجنا جنتيه دان ، وهنا رفرف :

__________________

(١) روضة الكافي باسناده الى الحلبي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : هن صوالح المؤمنات العارفات ، أقول وهذا من بيان أحد المصاديق البعيدة عن الأذهان بمناسبة (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ..)

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٥٠ ـ اخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ام سلمة قالت : قلت يا رسول الله (ص) (إلى أن قال «ص» بعد ما في المتن): «بيض الألوان ، خضر الثياب ، مجاهرهن الدر ، وامشاطهن الياقوت ، يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كان لنا» وفي الفقيه قال الصادق (ع) : الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا وهن أجمل من الحور العين.

٥٦

الأبسطة ـ خضر ، علّها الإستبرق التي كانت بطائن الفرش هناك ، أو فضول المجالس (١).

وعبقري حسان : نادرة حسنة : زرابي أو طنافس أو ثيابا موشاة أو الديباج ، أو أية حسان نادرة ، فأين جنتان وجنتان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

أجمل ختام لسورة الرحمان ، قد يكون الاسم المتبارك فيه أيضا هو الرحمان ، الذي افتتحت به سورة الرحمان ، خير بداية وخير ختام ، ولأن الآلاء المستعرضة فيها وسواها ، كلها من رحمة الرحمان ، أكانت رحمانية أم رحيمية فهو اسم ربوبي من أشمله الرحمان ، ويا له من اسم متبارك الكيان في كل زمان ومكان ، ويا لمسماه من جلال وإكرام ، جلال في ذاته وصفاته ، وإكرام برحمته وجلاله لمخلوقاته!.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٥٢ ، أخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب.

٥٧

(سورة الواقعة ـ مكية ـ وآياتها ست وتسعون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١)

٥٨

وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١)

٥٩

لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦)

٦٠