الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

١

٢
٣

٤
٥

رسالة من صاحب تفسير «الميزان» تعريفا بتفسير الفرقان

من عشرات الرسائل التي وصلتنا تعريفا بتفسير الفرقان من مختلف رجالات العلم وعباقرة الفضل والتفكير وأصحاب التفسير في شتى أنحاء العالم رسالة صاحب «الميزان» الإمام الأعظم سماحة الحجة السيد محمد حسين الطباطبائي دام ظله الوارف على رؤوس المسلمين ، وإليكم ترجمتها الحرفية :

فضيلة شيخنا الشيخ الدكتور محمد الصادقي المحترم دامت إفاضاته.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، زرنا مجلدين من تفسيركم الشريف (الفرقان) مع كتابكم الكريم ، فبعد فراق طويل بيننا بأعوام عدة ، وانقطاع أخباركم عنا بزمن بعيد ، يسرني أن وصلني نبأ صحتكم وتوفيق سماحتكم ، فحمدت ربي ، وأرجو منه سبحانه أن يقرنكم دائما بالعافية والتوفيق ، وأن يسدّد خطاكم ، ويؤيدكم بألطافه وعناياته الخاصة.

إن تفسير «الفرقان» الشريف الذي زرته ، إنه لكتاب يقرّ عيوننا ، وهو سند عزنا وأصل من مفاخرنا ـ نحن المفسرين ـ إن شاء الله تعالى تكرس كافة طاقاتك وإمكانياتك وتبذل جميع مساعيك في مواصلة هذا الأسلوب الفريد من

٦

التفسير ـ أعني : تفسير القرآن بالقرآن ـ فلا تمل ولا تكسل ولا تفشل في هذا المشروع العظيم ، خدمة للمعارف القرآنية ، وكشفا للقناع عن ذخائر هذا الكتاب المكنون السماوي ، وأرجو من الله عز اسمه لكم التوفيق وأن يؤيد سماحتكم في هذه السبيل ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد حسين الطباطبائي

٧

(سورة الرحمن ـ مكية أو مدنية ـ وآياتها ثمان وسبعون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

٨

تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٢)

٩

يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمان» (١) وانها حقا عروس القرآن ، وان كان القرآن عروسا كله ، فانها عروس في رنينها وطنينها إذ تزف بموسيقى التعبير المنسق الموزون ، كأنها شعر وليس به! وعروس في حنانها وحنينها (٢) إذ تشعرنا بالرحمة والعذاب ومواردهما ، وعروس ـ جملة وتفصيلا ـ في ألفاظها بمعانيها.

والرحمان هي السورة الوحيدة التي تتسمى بأشمل اسم من أسماء الله ويعتبر

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٤٠ أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن علي (ع) قال سمعت النبي (ص) يقول : ...

(٢) الحنان هو الرحمة والمودة ، والحنين شديد الطرب والبكاء ، وكذلك الشوق.

١٠

بوحدته آية واحدة ، ترمز الى رحمات رحمانيته ورحيميته في الاولى والآخرة تستعرضها السورة ، لمسات من الرحمتين ، وإعلان عام في ساحة الكون ينطلق من الرحمان فيتجاوب به الكون كله ، فالكون كله ، والسورة كلها ، معارض ومظاهر لآلاء الرحمان «فبأي آلاء ربكما تكذبان»؟.

(الرَّحْمنُ) :

.. انها اولى الأسماء والصفات الإلهية بعد «الله» لا يسمى بها إلا الله إلا زورا وغرورا ، فهي تشمل كافة الصفات والأسماء الإلهية الفائضة على الخلق عامة ، إذ هي أعم من الرحيم ، فانها لبعض الخلق خاصة ، فقد ذكرت الرحيم فيما ذكرت ، قرينة برحمات خاصة ، ولم تذكر الرحمان إلا عامة أو قرينة برحمات عامة ، مما يؤكد تفسيرها في السنة واللغة بالرحمة العامة ، وفيما تذكر برحمة خاصة ، لا تعني إلا شمولها لها ، وكما تشمل سائر الرحمات لا اختصاصها بها ، فهي على أية حال أشمل من الرحيم (١). ومن الرحمة العامة : الرحمانية ، رحمة الخلق وهداية الخلق : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ومن الهداية ما ترجع إليهما من صالح ذاتي أو وصفي وعارضي ، وقد تستعرض «الرحمن» قسما كبيرا من أقسام الرحمتين الرحمانية والرحيمية ، ومن أعظمها :

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) تتقدم على خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الأرض للأنام أم ماذا؟ رمزا الى أن القرآن هو الرحمة التي تعادل سائر الرحمات وتتقدمها ، فكتب الوحي كلها تقدمات للقرآن ، وخلق الكون كله بما فيه الإنس والجان خلق لمن يتوجب عليه فهم القرآن ، متذرعا كتاب التكوين آفاقيا وأنفسيا للوصول الى كتاب التدوين : القرآن.

__________________

(١) لقد ذكرت الرحمان ٧ ، مرة والرحيم ٩٥ مرة ، وفي أحاديثنا : الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة ، وكذلك في اللغة ـ وتجد تفصيل البحث عن الوصفين في بسملة الحمد ـ علنا نوفق للوصول إليها بتوفيق الله تعالى.

١١

وانها لنعمة كبرى ورحمة عظمى تتجلى فيها رحمة الرحمان لمن يمكنه تعلم القرآن من ملك او جن وانسان.

وترى أن «علّم» من تعليم العلامة (١) حتى يكون القرآن مفعوله الوحيد : أن جعل القرآن علامة لرسالة الرسول ، وكرامة لمن يتعلم القرآن؟ أم من تعليم العلم ، فمفعوله الأول مقدر هو كل من حمّل تعلّم القرآن ، من حامل رسالته الأصيلة (٢) ، الى حملته الفروع ، والى عامة المرسل إليهم.

ومن لطيف الأمر أن كلا التعليمين من أعظم الرحمات الإلهية ، رحمة الإعجاز ـ القمة ، ورحمة التعليم والتزكية ـ القمة ، والأوفق بأسلوب القرآن أن تعني «علم» كلتا القمتين.

وكما أن القرآن بين الكتب رحمة تشريعية قمة ، كذلك خلق الإنسان بين الخلق رحمة تكوينية قمة :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) :

فالإنسان مخلوق في أحسن تقويم ، مفضل على كثير من الخلق مهما ساواه آخرون : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ : ٧٠) فتخصيصه بالذكر هنا وعن الجان المشاركين إياه في تعليم القرآن ، ليس إلا لأنه موجّه إليه اصالة ، ثم إلى الجان كفرع من فروع الإنسان ، لا لأنه فقط المكلف بذلك ، أو هو المفضل على الخلق كله.

من ثم ـ وبعد تعليم القرآن وخلق الإنسان ـ يأتي دور تعليم البيان ، وهو

__________________

(١) قد يكون علم تفعيل علم فهو تعليم العلم ، أو يكون من علم فهو تعليم العلم والعلامة.

(٢) تفسير القمي عن أبي الحسن الرضا (ع) في الآية : الله علم محمدا القرآن ، أقول وهو من باب التفسير بأفضل المصاديق ، ويناسب كذلك تعليم العلامة كما قلناه.

١٢

الزاوية الثالثة في مثلث كيان الإنسان ، بما يتطلبه من الفطرة والعقل والفكرة ، ولكي تكون مادة للبيان ، وإلا فممّ وعما البيان؟!

وترى ما هو البيان؟ لكي يحتل من ميزات الإنسان قمتها! هل إنه إظهار ما في الضمير من الواقع ومن الطلبات؟ فقد يشاركه الحيوان ، كل مع ذوي نوعه وبحسبه ، كما الإنسان مع سائر الإنسان! أو انه بيان باللسان ، وبيان بالإشارة ، وبيان بالقلم ، وإلى سائر البيان : كافة الوسائل التي يتذرع بها ل «بيان كل ما يحتاج إليه الناس» (١) ما يحتاجه صاحب البيان أو غيره من إنسان ، بيان الإفادة والاستفادة ، بيان الإحتجاج أو طلب الحجة على ما يرام ، وترى أن للحيوان هكذا بيان؟ مهما كان له إظهار لما يتطلبه بإشارة أو لسان! كلا وانه الإنسان الذي زود بكل بيان وتبيان ، بأصولها ووسائلها وفصائلها وحصائلها ، فكما القرآن فيه تبيان كل شيء ، كذلك الإنسان ، فله أن يتبين من القرآن كل شيء ، ثم يبين على ضوئه كل شيء ، تجاوب كتابي التكوين والتدوين : الإنسان والقرآن! فإنسان القرآن هو مجمع الكتابين ومرج البحرين ، فيا له من إنسان عالي الكيان!

فقد منح من الوسائل بما لم يزود به سائر الحيوان ، إضافة إلى أن ضميره يفوق سائر الضمائر! فبيانه ـ إذا ـ يفوق سائر البيان! وهكذا بيان عن هكذا ضمير هو الذي يميّزه عن سواه فيمتاز على سائر الحيوان.

ترى لو لم يكن للإنسان بيان أكان إنسانا كما الآن؟ فدور البيان ـ إذا ـ دور أعظم كيان ، به يتعلم وبه يعلّم ، به يحتج وبه يحتج له أو عليه ، به يتكامل وبه يكمل ، ثم وكل وسيلة من وسائل البيان ، قلما ولسانا وسواه ، يتطلب كتابا ضخما بدراسة فخمة ، علّها توضّح طرفا من أطرافه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!

__________________

(١) تفسير القمي عن أبي الحسن الرضا في تفسير «عَلَّمَهُ الْبَيانَ».

١٣

ترى لو لا أن (الرَّحْمنُ .. َلَّمَهُ الْبَيانَ) من أين كان له هذه النعمة القمة السابغة ، السابقة سائر النعم ، الحاوية كافة القيم؟ لنأخذ مثالا ساذجا من وسائل البيان : اللسان وما معه من جهازات الصوت ، عضلانيا وشعوريا : ينتقل شعور ضرورة أو رجحان الإفادة أو الاستفادة من القلب وزملائه إلى الجهازات الصوتية ، فتطرد الرئة ، ما تحتاجه الكلمة من الهواء المخزّنة فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة المحيرة للعقول ، فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما قرره الإنسان وكيفما قرر : سرعة وبطؤ ام ماذا؟ ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفلك والأسنان ، يمر بها الصوت ، فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة ، وفي اللسان خاصة يمرّ كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع خاص ، يتم فيه ضغطه ، ليصوت الحرف بجرس خاص .. وذلك كله كلمة واحدة وراءها ومعها جنود الأفكار والمشاعر والضمائر والإحساسات ، عوالم غريبة وكلها من فضل الرحمن الذي (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)! (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) :

هذان السراجان ـ سراج النهار وسراج الليل ـ انهما كسائر الكون بحسبان : يصاحبهما حسبان من الرحمان منذ كان لهما كيان ويكون : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) (٦ : ٩٦) ترى أن الحسبان هنا هو الحساب : فهما مخلوقان بحساب ، ومجريان بحساب ، ويعرف بهما الحساب :

(وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١٠ : ٥) ام إنهما في جحيم العقاب كما يرسل الحسبان على من يستحق العذاب : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) (١٨ : ٤٠) وكيف يعذبان؟ وهما كوكبان طائعان لأمر الرحمان! وبما ذا يعذبان؟ اللهم إلا في تأويل يتيم بجانب

١٤

أسلوب القرآن (١).

الجواب : ان الحسبان هو الحساب أيا كان ، أفي إرسال العذاب على أهله ، فحسبانه انه بقدر وحساب دون فوضى ، أو في سراجي الليل والنهار ، ففي خلقهما وجريهما ، ولآخر المطاف في وقفتهما ورجعتهما عند قيامتهما ، فإنهما في كل ذلك بحسبان وميزان (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ)!

ثم ترى ألم تكن في السماء شمس أكبر وأضوء من هذه ، أو قمر أنور من هذا؟ فاختصا لذلك بالذكر من بين الشموس والأقمار؟

أجل ان هناك شموسا وأقمارا أكبر منهما بكثير وأنور وأحرّ ، ولكنهما أعرف نجمين وأهمهما بالنسبة لنا : سكنة الأرض ـ من حيث الفوائد الظاهرة.

فالشعرى اليمانية ـ كما سبقت ـ هي أثقل من شمسنا بعشرين ضعفا ، ونورها خمسون ضعفا ، وحجم السماك الرامح ثمانون ضعفا ، ونوره ثمانية آلاف ضعف وسهيل أقوى من الشمس بألفين .. ام ماذا؟ وكما هناك أقمار وأقمار!.

فهذان الكوكبان ـ كسائر الكواكب وسائر الكون ـ إنهما بحسبان : في خلقهما وحجمهما ووزنهما ونورهما وحرارتهما وسيرهما ووقفتهما ، في بعدهما عنا ، وفي الخسوف والكسوف ، وفي كيانهما ككلّ كما هما.

فالذي يصلنا من حرارة الشمس ليس إلا جزء من مليوني جزء من حرارتها فلو زادت

لاختنقت الأرض أو احترقت ، أو لو نقصت لبردت أو تجمدت ، وعلى التقديرين استحالت عليها الحياة أو صعبت .. وهكذا القمر وسائر النجوم

__________________

(١) القمي في تفسيره عن الحسن بن خالد عن الإمام الرضا (ع) في الآية : قال : يعذبان قلت : الشمس والقمر يعذبان؟ قال : سألت عن شيء فأتقنه ، ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله تجريان بأمره مطيعان له ، ضوءهما من نور عرشه وحرهما من جهنم ، فإذا كانت القيامة عاد إلى العرش نورهما ، وعاد إلى النار حرهما ، فلا يكون شمس ولا قمر.

١٥

والشموس والأقمار وسائر الكون : ف (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) والكون كله بحسبان (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ .. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟! (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) :

وكونهما يسجدان هو كذلك بحسبان ، كما الكون كله يشاركهما في هذا السجود الحسبان : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٦ : ٤٩) سجود التسبيح بالشعور المرموز : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) فليس التسبيح التكويني اللااختياري ، ولا القولي والعملي الاختياري ، إنهما ليسا مما لا نفقهه ، اللهم إلا ما لا نفقهه من الشعوري المرموز!.

وترى النجم هنا هل هو نجم السماء : الكوكب الطالع ، وهو المقصود في سائر نجوم القرآن ، أو من المقصود؟ كما وأن الشمس والقمر هنا تشيران إليه ، إذا فما ألطفه نزولا من السماء الى الأرض ، من طالع السماء الى طالع الأرض! وما أجمله رباطا بينهما ، يعني ـ فيما يعني معهما ـ ما بينهما من طالع وغارب ، من زائد وعازب : ان السماء وما ينجم فيها ، والأرض وما ينجم عليها ، انهما وما بينهما يسجدان!.

أو أن النجم هنا ما نجم من النبات دون ثبات (١) ، وجاه الشجر النابت على ثبات ، رمزا الى أن غير الثابتات من الكائنات والثابتات ، انها كلها لله ساجدات ، فمحراب الكون لا تخلو منه كائنة إلا ساجدة ، ثم ومن سجود النبات نجما وشجرا ، ما يظهر عليها من آثار صنعة الصانع الحكيم ، والمقدر العليم ، بالتنقل من حال الاطلاع الى حال الإيناع ، ومن حال الإيراق الى حال الإثمار ،

__________________

(١) لسان العرب : قد خص بالنجم من النبات ما لا يقوم على ساق كما خص القائم على الساق منه بالشجر.

١٦

غير متمنعة على المعرّف ، ولا ممتنعة على المدبر ، ثم وذلك كله ـ او من ذلك ـ ما هو عن شعور التسبيح : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)!

وفي تقديم النجم على الشجر في السجود إشارة الى تقدمه عليه في ظاهر السجود ، فيما النجم هو النبات المنبسط على الأرض ، فكله رأس وكله سجود ، مهما كان الشجر ساجدا بعروقه وسوقه الناعمة ، فان أصل الساق قائم وان كان قيامه أيضا سجودا فانه قيام بأمر الرحمان!.

فهل تعني هذه الآية ، اليتيمة في نجمها ، ما لا تعنيه آيات النجوم كلها (١)؟ ودون أية قرينة فيها! اللهم إلا قرينة الشجر؟ كلا! فعل الجمع أرفق ، وبالتدليل على السجدة الشاملة أوفق ، وقد تتحمله الآية دون تحميل ، كما وتتحمله اللغة : فالنجم يشمل كل ناجم وطالع ، وطلوع كل شيء بحسبه.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) :

ان رفع السماء يوحي بأنها كانت سماء من ذي قبل ثم رفعت ، ترى انها كانت سماء خافضة فرفعت والسماء هي جهة العلو؟ فكيف كانت سماء إذا؟ ثم ترى الى أين رفعت؟ وعلى م؟ وبم؟.

السماء هذه ـ قبل رفعها ـ هي الدخان الغاز ، حصيلة تفجرة المادة الام : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ..) (٤١ : ١٢) وكان الغاز هذا في المادة الام ففتقها الله فانفتقت أرضا هي زبد الأرض الام : مادة الأرضين السبع ، وانفتقت غازا هي السماء الام:

__________________

(١) إذ ليس في القرآن آية يتحمل النجم فيها ما ينجم من النبات إلا هذه ، وآيات النجوم اثني عشر آية.

(الفرقان ـ ٢)

١٧

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ..) (٢١ : ٣٥) فالمادة الام هي المرتوقة ، ثم السماء الام وأرضها هما المفتوقتان عن الام ، ثم وللسماء رفعان ، رفع الدخان الام ، المتصاعد الى أعماق الفضاء بعد تفجرة المادة الاولى ، ورفع الطبقات السبع ، كل فوق بعض ، وعل (السَّماءَ رَفَعَها) تعنيهما ، فلا تعني السماء جهة العلوّ فقط لكي تنافي خفضها قبل رفعها ، وإنما الغاز التي هي مادة السماء ، والجهات والفضاءات العلوية هي أمكنة السماوات ، وقد رفعت إليها ، وكما أن كل سماء مرفوعة على ما تحتها ، كذلك السماوات مرفوعة على ما تحتها من كرات ومنها الأرضون بما فيها أرضنا ، ثم وهي كلها مرفوعة بعمد ولكن لا ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢) (١).

فالله رفع السماء ، هذا الفضاء السامق الهائل الذي لا تبدو له حدود ، وعلق عليها مليارات القناديل ، السيارات منها والثابتات ، ولو لا التقدير والميزان الموضوع في أقدارها وحركاتها لانفلتت فأفلتت الكائنات عن مسيراتها ومصيراتها ، ولكن الرحمان :

(وَضَعَ الْمِيزانَ) : وضعا هو رفع لما له الميزان ، ميزان أنزله الرحمان :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) (٤٢ : ١٧) ميزان علم القرآن وسائر الميزان : وضعه في التكوين وفي التشريع ، في السماء والأرض ، للآخرة والاولى ، ميزان الكيان والرباط بسائر الكون ، ميزان العقل والعدل الذي تستقيم به الأمور ، ويعتدل عليه الجمهور : الانس والجان ، وكذلك سائر الميزان : ميزان الدليل : القرآن ونبي القرآن وخلفاءه المعصومون (٢) والعلماء الربانيون ، وميزان

__________________

(١) راجع سورة النازعات ص ٨٦ ـ ٨٨ ، وسورة الأنبياء في آية الفتق ، وسورة فصلت الآيات ٩ ـ ١٢.

(٢) في تفسير القمي عن الحسين بن خالد عن الامام الرضا (ع) في حديث : «الميزان أمير المؤمنين (ع) نصبه لخلقه ـ ألا تطغوا في الميزان : لا تعصوا الامام ـ وأقيموا الوزن بالقسط : أقيموا الامام بالعدل ، ولا تخسروا الميزان : لا تبخسوا الامام حقه ولا تظلموه ...».

١٨

المدلول : العدل في كافة زوايا الكون وحواياه ، فلو لا الميزان لم يبق لأي كائن كيان ، ولا للأنس والجان ، فليدرس الإنسان :

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) :

(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٥٧ : ٢٥) : فلندرس من كتابي التكوين والتدوين درسا في طغوى الميزان : سلبا : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) وإيجابا في تقواه : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ).

فتقوى الميزان هي الحساب العدل به وفيه ، وطغواه هي الفوضى اللاحساب ، وليس ميزان البيع فقط ، بل سائر القيم والموازين في سائر جوانب الحياة بمتطلباتها ومنها موازين المعاملات.

فهنا إقامة للوزن بالقسط العدل هي تقواه ، وتخسير للميزان بالقسط اللاعدل ، هو طغواه ، بما لهما من درجات ودركات ، فالحق في الأرض وفي حياة البشر مربوط ببناء الكون ، ومدروس عن ميزان الكون ، فكما الفوضى في وزن سائر الكون تفضي الى القضاء على الكون ، أو شلّ عجلته ودورانه ، كذلك الفوضى في ميزان حياة الإنسان تشل دوران حياته كإنسان ، وتخسره ما فضل به على سائر الحيوان وأضل سبيلا.

وترى أن «الميزان» في هذا المثلث (١) بمعنى؟ كلا! فالأول هو معيار الوزن تكوينا وتشريعا ، والثاني ما يمكن فيه الطغيان ، من ميزان التشريع تهريفا وتحريفا ، أو خلافا وعصيانا ، فميزان التكوين لا يقبل الطغيان ، اللهم إلا ما فيه خيار للإنسان ، والثالث هو الذي يقبل الإخسار من الميزان ، وزنا وموزونا ومعيارا ، اللهم إلا في معيار المعاملات ، حيث الإخسار لا يتجه إلى آلة الوزن ،

__________________

(١) ١ ـ وضع الميزان ٢ ـ ألا تطغوا في الميزان ٣ ـ ولا تخسروا الميزان.

١٩

فقد يحدد كل ميزان بالحد الذي تحدده قرائنه : وزنا ومعيارا وموزونا ، جمعا وتفريقا ، جملة وتفصيلا.

ثم الميزان ـ أي ميزان ـ في الأرض ، لانسانها وجانها ، انه مأخوذ من ميزان السماء ، فحساباتها الجسمانية مأخوذة عن مدارات الشمس ، والروحانية منها تؤخذ عن شموس التشاريع السماوية (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ)!.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) :

ترى أن الأنام هنا ـ ولا توجد في سواها ـ هي الإنسان كما قد يرام؟ وليس وضع الأرض حاصرا فيهم ، والأرض هنا محصور للأنام (١)! وقد خلق قبلهم الجان : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) فقد كانت الأرض لهم قبل أن تكون للإنسان! اللهم إلا أن يعنى به جنس الإنس بأنساله ، والمخلوق بعد الجن هو النسل الأخير ، إلا أنه لا يختص به خلق الأرض وله مشارك فيها وفي التكليف سواء ، حتى ولو خلق قبل الجن! اللهم إلا اختصاص التشريف ك (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩) ولكنها تختلف عن آية الأنام الحاصرة لهم وضع الأرض! اللهم إلا في تشريف مستغرق ، يدمج سائر مشاركيه فيه ، إلا أن «كما» في آية الآلاء تصريحة بشمول الأنام للإنس والجان ، فليس للجان ذكر مسبق على آيتها الاولى ، إلا أن تعنيه الأنام قبلها ، فلتشملها الأنام.

ثم وهل تشمل كل دابة ، أو كل حي من طائر وسابح ودابب؟ قد يكون وكما تصدقه اللغة (٢) ولكنما الفاكهة والنخل والرمان لا تناسب إلا الانس والجان ،

__________________

(١) تقديم المفعول (الأرض) يوحي بالحصر ، بخلاف آية الانتفاع.

(٢) كما عن ابن عباس انه الجن ، وقال انه : الخلق ، ولما سئل عن الدليل استشهد بهذا الشعر :

فان تسألينا مم نحن فاننا

عصافير من هذا الأنام المسخر

وقال أيضا : كل شيء يدب على الأرض ، وقال : كل شيء فيه الروح (الدر المنثور ٦ : ١٤١).

٢٠