الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

كما وأن استسلام البعض منهم ـ وهم ضعفاء الايمان ـ لدولة الكفر والطغيان ، بغية الحفاظ على أنفسهم ونفائسهم ، ليس هذا انتصارا لهم ، فإنما الغلبة الايمانية تظهر في مختلف وجوه المناضلات في مختلف ميادين النضال : إن قتلوا انتصروا ، وان قتلوا انتصروا ، فهم أعزة منتصرون قاتلين ومقتولين ، شاردين ومشرودين ، حاكمين ومحكومين ، فقراء ومثرين ، كما وأن المحادّين لله ورسوله هم في الأذلين ، في ميزان الحق ، في كافة الصور ، وكفى المؤمنين غلبا ـ بين أسبابه ـ : ان للحق دولة وللباطل جولة!.

ترى إن حادثة الطفّ صورة من غلب الفيء الطغيان الأموي على أهل بيت الرسالة المحمدية صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ كلا ، فإن قتل حسين وذووه في الجسد ، فقد قتل يزيد وحزبه في كافة الموازين الإنسانية ، يزيد يقتل حسينا في جسده ، وحسين يقتل يزيد في روحه ، إذ إن حادثة الطفّ أثبتت للعالم أن يد الإثم والطغيان فيها لم تك يد انسان ، وإنما أيدي وحوش مجانين وأضل سبيلا ، حيث لم ترحم الأطفال الرضّع والنساء والضعفاء : قد غير الطعن منهم كل جارحة ، سوى المكارم في أمن من الغير.

أجل وان صمود المؤمنين في وجه الطغاة ، إذ يحميهم إيمانهم من الانهيار ، ويحمي زملائهم في حزب الله من ضياع الشخصية ، ومن خضوعها للطغيان ، إن هذا الصمود الصارم غلب لهم وانتصار على الكفار ، بجنب سائر الانتصارات التي تختصهم دونهم.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) :

٢٢١

إن الإيمان الصحيح بالله دخول في حدّ الله وحزبه ، وخروج عن محادّة الله وحزب الشيطان ، فلا ملتقى بينهما ، ولا أنصاف حلول ولا موادّة ولا مواربة ولا مسايرة ، فإنهما بين طرفي النقيض فكيف يجتمعان؟.

فأسباب الموادّة بين الحزبين فاشلة ، وإنما الحاكم اللازم بينهما المحادّة ، ولو كانوا من كانوا من الأقارب الأدنين آباء وأبناء وإخوانا وعشيرة ، فإنها المفاصلة القاطعة بين حزب الله وحزب الشيطان ، والتجرّد من كل جاذب وجامع ، فروابط الدم والقرابة كلها منهارة عند حد الإيمان ، تتقطع هذه الأواصر التي لا ترتبط بعروة الإيمان ولا تنبع منها ، فهناك يقتل علي عليه السلام وحمزة أقاربهما في حروب عدة ، ويقتل أبو عبيدة أباه يوم بدر ، ويقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير ، متحللين من أواصر القرابة إلى آصرة الإيمان ، فتنزل في شأنهم هذه الآية ، ف (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) كما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

فما هي حدود هذه الموادة اللاإيمانية الممنوعة للمؤمنين؟ نقول : منها ولاية من يستحبون الكفر على الإيمان : (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) (٩ : ٢٣) هذا ولا سيما إذا كان ابتغاء العزة :

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٤ : ١٣٩) (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (٥ : ٥١) ولكنما الولاية والموادة توحيان بالمحبة وآثارها ، فأما أن نعاشرهم بحسن الخلق علهم يؤمنون ، أو يميلون إلى الإيمان ، أو نأمن بأسهم ، فلا محظور بالنسبة لمن لم يحاربنا في الدين : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٨٧ ـ أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال قال رسول الله (ص) : ... وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال قال رسول الله (ص) : اللهم لا تجعل لفاجر عندي يدا ولا نعمة فيوده قلبي فإني قد وجدت فيما أوحيت إلي : «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...» الآية.

٢٢٢

دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٦٠ : ٩).

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) : «أولئك» المؤمنون الصامدون غير الموادّين لمن حادّ الله ورسوله ، «كتب» الله (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) : ثبّته في قلوبهم وقرّره في ضمائرهم ، فصار كالكتابة الباقية ، والرقوم الثابتة ، ولكنها كتابة إلهية ما لها من زوال ، فإنها بيمين القدرة والرحمة ، فقلبت قلوبهم عن التقلبات إلى الثبات ، وإنما تتقلب تدرّجا إلى الكمال والأكمل ، ولحد تتهيأ لوحي الرسالة الإلهية لو شاء الله ، وليست كتابة الإيمان في قلب فوضى دون شرط ، إنما هي بين الإيمان والعمل وفقه ، ومن ثم تأييد الله فكتابة الإيمان ، وهذه هي زيادة الهدى من الله بعد الاهتداء بسعي المهتدي : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٨ : ١٣) (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧)) فليس لهم صنع في زيادة الهدى ، اللهم إلا في سببه بفضل من الله (١).

فهذا الإيمان المكتوب في القلوب ، المؤيد بروح من الله ، إنه صدّ رصين متين يسدّ عن الإنسان هجمات الشيطان ، ويصدّه عن اتباعه في مزالق الشك واللاإيمان ، وكما في زمن الغيبة التامة إذ لا إمام حاضرا نلجأ اليه (فنكفأ تكفّأ السفينة في أمواج البحر ، لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه) (٢).

__________________

(١) اصول الكافي عن الصادق (ع) سئل عن هذه الآية : هل لهم فيما كتب في قلوبهم صنع؟ قال : لا.

(٢) اصول الكافي عن مفضل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله (ع) وعنده في البيت أناس ، فظننت انه إنما أراد بذلك غيري ، فقال (ع) : أما والله ليغيبن عنكم صاحب هذا الأمر وليخملن حتى يقال مات ، هلك ، في أي واد سلك (وتتمة الحديث في المتن) (نور الثقلين ٥ : ٢٦٨).

٢٢٣

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) تشرق قلوبهم بهذه الروح النورانية ، فالروح ـ بوجه شامل ـ ما به الحياة ، نباتية وحيوانية وعقلانية إنسانية ، وإيمانية ، وإلهامية مسددة للإيمان ، وقدسية بالوحي ، فالأخيرة خاصة برسل الوحي ، وهي روح في روح الإلهام ، كما أن هذه خاصة بالرعيل الأعلى من المؤمنين ، وهي روح في روح الإيمان ، وهذه عامة لمختلف درجات المؤمنين ، وهي روح في روح الإنسان ، كما أنها عامة لبني الإنسان العقلاء ، وهي روح في روح الحيوان ، وهذه عامة لمطلق الحيوان كما هي روح لروح النبات ، فالروح القدسية هي روح الأرواح كلها ، وقس عليها ما قبلها لما دونها في المكانة من الأرواح ، فكل روح كجسد لما فوقه ، وهي كروح لما دونه من أرواح.

فالإيمان المكتوب المستقر في القلب هو يستحق روح الإلهام ، دون المستودع : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (٦ : ٩٨) كما ان الايمان المستقر الملهم قد يصطفى لرسالة السماء فيزوّد صاحبه بروح القدس : روح النبوة وروح الوحي.

وقد يعبر عن روح الإلهام بفرقان من الله نتيجة التقوى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٨ : ٢٩) وهو نور في القلب يفرق بين الحق والباطل إذا اختلطا وضاق المخرج : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٦٥ : ٣) فهذه الروح ـ دوما ـ شريطتها التقوى وعلى حدّ تفسير الإمام الرضا (ع) (١). ثم كان عاقبة هؤلاء الأماجد بما آمنوا واتقوا : «ويدخلهم» الله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) دخول

__________________

(١) اصول الكافي بإسناده الى أبي خديجة قال : دخلت على أبي الحسن (ع) فقال لي : «إن الله تبارك وتعالى أيد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي ، ويغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا ، رحم الله امرءا هم بخير ففعله ، او هم بشر فارتدع عنه ، ثم قال : نحن نؤيد بالروح بالطاعة لله والعمل له» (نور الثقلين ٥ : ٢٦٩).

٢٢٤

الجنة في الجنة وخلودها فيها (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما اتقوا وتحللوا عن إنياتهم وأنانياتهم ، فنسوا أنفسهم دون مرضاة الله (وَرَضُوا عَنْهُ) حينما اتقوه ، وإذ يدخلون الجنة ف (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) جماعته الخاصون به ، الخالصون له ، المتجمعون تحت لوائه ، المنقادون بقيادته ، دون أن يكون للشيطان وحزبه منهم نصيب (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) دنيا وعقبى ، مهما اختلفت ألوانه وظروفه ، اختلاف الدنيا والآخرة.

والإفلاح هو شق الطريق الشاق الملتوي ، نحو الهدف المرمي ، فحزب الله يشقون أمواج الفتن في معارك الحياة بسفن النجاة ، فلا يغرقون ، إنما يفلحون هم ويفلجون خصومهم ، ولأنهم حزب الله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

أجل ـ ولأنهم أهل معرفته ومحبته وأهل توحيده ، يفوزون بنصر الله من مصارع المحن والمهن ، فالله تعالى أسبل على وجوههم نور هيبته ، وأعطى لهم أعلاما من عظمته وكلأهم بحسن رعايته.

إن حزب الله يلتقون في الرابطة التي تؤلفهم ، في وحدة متراصّة متينة رصينة ، فتذوب كافة الفوارق تحت هذه الراية ، دون أن يتحكم فيهم أحد إلا الله ، أو يبتغون إلا مرضاة الله ، محادين حزب الشيطان.

فهذان حزبان متناقضان لا يختلطان ولا يتميّعان ويستحيل اجتماعهما استحالة اجتماع النقيضين.

٢٢٥

(سورة الحشر ـ مدنية ـ وآياتها أربعة وعشرون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠)

حادث جلل رعيب ، ونفاق عارم رهيب ، ونقض عهد منقطع النظير من بني النضير ، نزلت فيه هذه السورة ، وتعلقت به نصوصها ، مبتدأة بتسبيح الله ومختتمة به ، بدء وختام مسك ، يمسك ويربط ما توسطهما بتنزيه الله عن الظلم

٢٢٦

والضيم فيما فعل بالذين كفروا من أهل الكتاب ، دمار وبوار لبني النضير عديم النظير ، وليعلموا أنهم هم الأذلون بما حادّوا الله ورسوله ، والمؤمنون هم الأعزون بما ارتبطوا بحد الله.

تقول الروايات : كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود : بني النضير وقريضة وقينقاع ، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عهد ومدة ، فنقضوا عهدهم شر نقض وأخطره ، والسبب هم بنو النضير (١) فلم ير رسول الله بدا إلا حربهم وإخراجهم لمّا غدروا وخانوا خيانة مخيفة على كيان الإسلام : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٨ : ٥٩).

وإنهم وعدوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخرجوا دون حرب ، ثم تحالفوا مع المنافقين نقضا ثانيا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ

__________________

(١) كانت واقعة بني النضير أوائل الرابعة من الهجرة بعد أحد وقبل الأحزاب ، يذهب الرسول (ص) مع عشرة من كبار أصحابه إلى بني النضير طالبا منهم المشاركة في أداء دية قتيلين ، وفق ما كان بينه وبينهم أو مقدمه على المدينة ، وأن لا يكونوا له ولا عليه ، فاستقبلوه بالبشر والترحاب ووعدوه بأداء ما عليهم ، بينما كانوا يدبرون أمر اغتيال الرسول (ص) ومن معه ، ينتدب عمرو بن جحاش بن كعب ليلقي عليه صخرة ، فيلهم الرسول بغدرهم فيقوم كأنما يقضي أمرا ثم علموا انه دخل المدينة ، فأمر الرسول (ص) بالتهيؤ لحربهم ، إضافة إلى ما كان من كعب ابن الأشرف من هجاء الرسول وتأليب الأعداء عليه ، وانه اتصل مع رهط من بني النضير بكفار قريش اتصال تحالف وتآمر ضد الرسول (ص) فلما نبذوا عهدهم هكذا نبذ إليهم الرسول على سواء كما قال الله ، فتجهز (ص) وحاصر محلتهم وأمهلهم ثلاثة أيام أو تزيد ليجلوا عن المدينة على أن يأخذوا أموالهم ويقيموا وكلاء عنهم على الباقية ، ولكن المنافقين أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة كما قال الله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا» فتحصن اليهود في الحصون فأمر الرسول (ص) بقطع نخيلهم والتحريق فيها فنادوه ان يا محمد! قد كنت تنهي عن الفساد فما بالك تفسد هكذا فأجابهم الله «فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» لا للفساد ، إنما لدفع الفساد ، ولما بلغ الحصار ست وعشرين ليلة يئس اليهود من صدق وعد إخوانهم المنافقين وقذف الله في قلوبهم الرعب فكان كما قال الله في هذه السورة.

٢٢٧

يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٥٩ : ١٣).

مكر تلو مكر ، وغدر تلو غدر ، يهدفون به المقام في المدينة ثم احتلالها مع إخوانهم المنافقين ، ولكن الله يطلع نبيه عليه ، ويخرجهم لأول الحشر ، وعلّه أول الجمع بين المتحالفين : اليهود والمنافقين (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) :

إن تسبيح الله وتنزيهه ـ طوعا أو كرها ـ هو لزام ذوات الكائنات ، فكيانهم كخلق الله تسبح الله عن أي نقص في الخلق (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ثم وهي تسبح الله عن شعور ولكن لا تفقهون : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) ثم العقلاء النبلاء منها يسبحون الله كما يعرفون : تسبيحات ثلاث في الكائنات لا يخلو منها حتى الملحدين الكفار ، وان كفروا به في ثالث ثلاثة : التسبيح الاختياري العقلاني ، بما حملوا وخانوا أمانة التكليف.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) :

فلو كانوا مؤمنين بكتاب الله ـ التوراة ـ ما خالفوا بشاراته بحق الرسول الاسماعيلي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما نقضوا عهودهم معه بعد ما أحكموها ، ولكنهم كفروا بالكتاب ، رغم أنهم من أهل الكتاب ، يؤمنون ببعض الكتاب ـ لصالحهم كما يظنون ـ ويكفرون ببعض ـ كتجار الشريعة الإلهية!

هؤلاء اليهود الكفار من بني النضير أخرجهم الله تعالى من ديارهم لأول الحشر ، فما هو الحشر هنا؟ وما هو أوله؟.

٢٢٨

يقال : الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم ، وإزعاجهم عنه الى الحرب ونحوها ، فما هو معنى إخراج بني النضير من ديارهم لأول الإخراج الى الحرب؟ فقد كان إخراجهم حيادا عن الحرب ، وتخلصا عن كيدهم وميدهم. ثم نرى عشرات من آيات الحشر لا تناسب لا الإخراج ، لا غاية الحرب :

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢ : ٢٠٣) أفإخراجا لحرب الله؟! وإنما الحشر هو جمع خاص ، في الدنيا أو في الآخرة ، كل حسبه وبحسابه ، أللهم إلا إذا كان معدّى ب «على» : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) (٦ : ١١١) وليست الحرب والإضرار هنا أيضا إلا مدلولة ل «على» دون الحشر ، فالحشر أيا كان وأينما ، هو الجمع عن تفرق ، في الأبدان أو الأرواح أو فيهما ، في العقيدة أو العمل أو فيهما ، في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ، في الخير أو الشر أو فيهما ، الى خير أو إلى شر أو إليهما.

وحشر بني النضير هنا كان في الدنيا ، وعلّه أو أنه حشرهم وجمعهم مع إخوانهم المنافقين ، وتآلفهم وتعاهدهم ضد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فما أن حشروا حشرهم اللئيم ، إلا وأطلع الله نبيه على كيدهم وأخرجهم من ديارهم.

«لأول الحشر» : بداية الجمع المؤلّب على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وإن كان إخراجهم الأول من بلاد الإسلام أيضا ، ولكنه لا يغير لغة الحشر عن معناه ، وإن وافق واقعه هنا : أخرجهم لأول جمعهم اللئيم ، ولأول مرة في تاريخهم اللئيم ، ومن أول الحشر الأرض التي منها يحشرون (أرض اليهود) على حدّ المروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ قال لهم : (اخرجوا ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر) (١). ف «لأول الحشر» يحشر الحشرين ، وما أليقه وأنسبه جمعا بين

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٨٧ ـ أخرجه البزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : من شك ان المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية ... قال لهم رسول الله (ص) ... وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : لما أجلى رسول الله (ص) بني النضير قال : هذا أول الحشر وإنا على الأثر.

٢٢٩

المعنيين ، من حشرهم الشرير في الدنيا ، وإلى حشرهم الشرير في الآخرة ، فمهما يكن الحشر الأول مبتدء يستحق «من» والثاني منتهى يستحق «إلى» ولكن في «ل» إيحاء بهما وإيفاء لهما «لأول الحشر».

فقد حشروا حشرهم هكذا بغية احتلال المدينة وعصيان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والقضاء عليه ، فردّ الله عليهم حشرهم فأخرجهم لأوله ولمّا ينضج أو ينتج ، وللأرض التي منها يحشرون.

(... ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) :

إنه لم يكن إخراجهم لضعفهم في عدّة أو عدّة حيث (ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) ولا لقوتكم أنتم في عدّة أو عدّة ، لحدّ : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ولكن الله تولى مهمة هذا الإخراج : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) نصرا من الله للرسول والمؤمنين المجاهدين.

فرغم عدم توقع المؤمنين خروج هؤلاء من عاصمة الرسالة الإسلامية ، ورغم المنع المنيعة في حصونهم لحدّ أنستهم قوة الله التي لا تمنعها الحصون ، ورغم أنهم بالتالي كانوا يحسبون أنفسهم بحكم هذه العدد الظاهرية ظاهرين على المسلمين ، رغم هذا كله (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا).

فهنا حساب واحتساب يستطيعه الإنسان ويعرفه ويتبناه لما يهدف ، وهناك حساب في ميزان الله يغلب كل حساب واحتساب ، لا قبل له بأي حساب ، فأين حساب من حساب؟

فمهما يملك الإنسان ـ كما يزعم ـ كلّ دوافع الغلبة والظهور ، ولكنه لا يملك قلبه الذي هو مصدر أمره ونهيه ، قوته ووهنه ، سقوطه ونجاحه ، فمنه

٢٣٠

تصدر الأوامر لعساكر العقول والأفكار ، والحواس والأعضاء ، وعلى حد المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.

فهنا نجد بني النضير استعدوا بعدّة عديمة النظير ، ولكنما الله أتاهم من حيث لم يحتسبوا ، من حيث قلوبهم التي هي بيد الرحمان (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أتاهم من دواخل حصون القلوب فكسرها ، لحدّ ساعدوا المؤمنين في خراب حصونهم في القوالب (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) «بأيديهم» حيث كانوا يخربونها من دواخل حصونها لكيلا تقع في أيدي المؤمنين ، (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) إذ كانوا يهدمونها من خوارج حصونها لكي يخرجوهم ويحتلوها ، ولما كانوا هم السبب لهجوم المؤمنين وهدمهم بيوتهم بما نقضوا عهودهم ، صحت نسبة تهديم المؤمنين إلى اليهود أنفسهم (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).

وهذا لما وهنوا بما قذف في قلوبهم الرعب ، فسألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الأسلحة ، فأجابهم صلّى الله عليه وآله وسلّم فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به آبالهم ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه ، فيحمله على ظهر بعيره ، أو يخربه ويكسر الأبواب حتى لا يقع في أيدي المؤمنين. وبما وهنوا استطاع المسلمون أن يهدموا بيوتا وحصونا ، تناصرا من الجانبين في هدم البيوت مهما كانت الأهداف مختلفة ، ولكنما الواقع الذي حصل (هدم البيوت) كان لهم وهنا وللمسلمين قوة وعزا (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) : (ولا يصح الاعتبار إلا لأهل الصفا والبصيرة) (١).

ومن هذا الاعتبار ألا يعتمد الإنسان ـ أيا كان ـ على أي من معدات الحياة الدنيا ، فليؤمن بالله ، وليؤمنّ حياته ونجاته بحول الله وقوته.

إن الاحتلال والتخريب وعيث الفساد في الأرض ، إنها من صفات اليهود السيئة طول تاريخهم البئيس التعيس ، تأخذ مثالا منه نعيشه اليوم من سلطات

__________________

(١) في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (ع).

٢٣١

الاحتلال الإسرائيلي في بلادنا المقدسة الزاهرة الطاهرة ، أنهم ما أبقوا من قنطرة وقنيطرة من باقية ، حينما احتلموهما ، وعند ما ارتحلوا عنها ، بلادا كانت من أعمرها ، فأصبحت في الدمار لحدّ إذا زرتها ما عرفتها ، (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ)!.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) :

إن جلاءهم : تسفيرهم عن أرض الوطن دون رجوع ، إنه لون من عذاب الخزي لهم في الدنيا ، عذاب نفسي أصعب من العذاب الجسدي أحيانا ، فلو لا أن كتبها الله عليهم لعذبهم بصور اخرى كما عذب الذين من قبلهم باستئصال ، أو سبي ، أو اقتتال ، كإخوانهم بني قريظة ، ولكنما المكتوب لا يحوّل ، ثم لهم في الآخرة عذاب النار وبئس القرار.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) :

إن مشاقّة الله وهي اعتباره في شق غير شقهم ، هي نكران لربوبيته ، كما وأن مشاقة الرسول نكران لرسالته ، كأنهم آلهة أو رسل! فالعقاب الشديد الناشب إلى الدنيا أيضا ، هو لزام المشاقة هذه وتلك.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) :

صحيح أن اللينة : النخلة الناعمة الجيدة ـ لا ذنب لها لكي تقطع ، ولكنها من خلق الله ، قد تقطع بإذن الله ، لحكم يعلمها الله ، استئصالا لأصحابها ، (فَبِإِذْنِ اللهِ) ليعز المؤمنين ، (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ، ففي هذا القطع أهداف حكيمة عدة من أبرزها إخزاء الفاسقين (١).

__________________

(١) الواو هنا كما في أمثالها تدل على معطوف عليه محذوف ، يستفاد من المقام أو لا يستفاد ، ومن المعطوف عليه هنا إعزاز المؤمنين.

٢٣٢

فقد قطع المسلمون لينات عدة من اليهود ، وأبقوا أخرى (١) ، فتحرجت صدورهم من القطع : أنه كان منهيا عندهم لأنه إفساد ، ومن الترك أنه يتنافى وهدف التدمير والخراب ، فهو تناقض من التصرفات الحربية ، هكذا تقوّلوا على المسلمين لما تحرجوا من فعالهم ، ولكي يخسأ هؤلاء الكلاب النابحة ، ولكي تطمئن قلوب المسلمين ، يأتي هذا التصريح هنا : (فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) فقطعها يخزيهم بالحسرة عليها ، وتركها يخزيهم أنهم مضطرون ليتركوها (٢) ، فهذا من إخزاء الله لهم بأيدي المؤمنين.

ومن الإيحاءات الفقهية هنا جواز قطع الأشجار وإفساد الثمار ، إذا اقتضى الأمر ذلك لصالح غلب المسلمين وعزهم وإذلال الكافرين وخزيهم ، وإن كان الأصل الأول عدم السماح في شيء من ذلك ، ولكنما عز المؤمن وذلّ الكافر كذلك هما أصلان أصيلان فوق الأصول من هذا النمط.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) :

تتجاوب آية الفيء هذه وآية السعي : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) في أن الأصل في أية فائدة هو السعي والعمل لانتاجها قدره دون فوضى ، فما أفاء

__________________

(١) في التفسير الكبير للرازي ٢٩ : ٢٨٣ روى أن رجلين كانا يقطعان ، أحدهما العجوة والآخر اللون ، فسألهما رسول الله (ص) فقال : هذا تركتها لرسول الله ، وقال : هذا قطعتها غيظا للكفار.

(٢) في التفسير الكبير للرازي ٢٩ : ٢٨٣ روى انه عليه السلام حين أمر ان يقطع نخلهم ويحرق قالوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت هذه لآية.

وهذا الشيء في الدر المنثور ٦ : ١٨٨ ـ أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية : استنزلوهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحاك في صدورهم ، فقال المسلمون قد قطعنا بعضا وتركنا بعضا فلنسألن رسول الله (ص) هل لنا فيما قطعنا من أجر وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ...)

٢٣٣

الله على رسوله : (الغنيمة التي لا يلحق فيها مشقة ، الراجعة إلى حالة محمودة) إنها ليست للذين كانوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن الله هو الذي سلّطه عليهم وعليها (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) وأن المؤمنين ما حاربوا في هذه المعركة ، وإنما ألقى الله في قلوب أعدائهم الرعب فأخذوا يخربون بيوتهم «فما أوجفتم» : أسرعتم «عليه» : الفيء «من خيل» : أفراس «ولا ركاب» : جمال ، فلا نصيب لكم إلا من ذكره الله.

فالآية تنبه المسلمين ان هذا الفيء الذي خلّفه بنو النضير وراءهم ، لم يركضوا هم عليه خيلا ، ولم يسرعوا إليه ركبا ، فليس حكمه حكم سائر الغنائم التي لهم أربعة أخماسها والباقي لمن قررهم الله ، إنما هو كله للرسول (ص) يصرفه في وجوه وجهه الله لها.

وأحرى من قرية بني النضير فدك وهي انتقلت إلى فاطمة الصديقة إما نحلة أو لا أقل إرثا.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) :

ان آية الفيء هذه وآية الأنفال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (٨ : ١) تتجاوبان في ضابطة اقتصادية إسلامية حكومية : أن الأموال غير الخاصة ، والتي لم يعمل ولم يسع لها أحد ، بأي من صنوف الأعمال ، إنها أموال عامة تختص برئيس الدولة الإسلامية يصرفها لصالح المسلمين ، دون أن تكون دولة بني الأغنياء منهم ، سواء في ذلك الأراضي والأموال التي ملكت بغير قتال ، والأراضي الموات والغابات ورؤوس الجبال وبطون الأودية والبحار والأنهار ، وميراث من لا وارث له وما شابه ذلك من الثروات العامة (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٥ ج ٤ ـ الكافي باسناده عن العبد الصالح موسى بن جعفر (ع) في حديث : وله (الإمام) بعد الخمس الأنفال ، والأنفال كل أرض خربة باد أهلها وكل أرض

لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال ، وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها ، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأن الغصب كله مردود ، وهو وارث من لا وارث له ، يعول من لا حيلة له ، وان الله لم يترك شيئا من صنوف الأموال إلا وقد قسمه فأعطى كل ذي حق حقه (إلى أن قال) والأنفال للوالي ، كل أرض فتحت أيام النبي (ص) إلى آخر الأبد ، وما كان افتتاحا بدعوة أهل الجور وأهل العدل ، لأن ذمة رسول الله (ص) في الأولين والآخرين ذمة واحدة ، لأن رسول الله (ص) قال : المسلمون اخوة تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم.

٢٣٤

فالفيء ـ كما أسلفناه ـ الغنيمة التي لا يلحق فيها مشقة ، الراجعة إلى حالة محمودة ، من فاء : رجع محمودا محبورا ، والنفل مقابل الفرض ، وهو هنا الزائد ، زوائد الأموال ، وهي التي لم تفرض للأشخاص ، إذ لم يفرضها أحد لنفسه بسعي خاص ، فالفيء النفل ، لا يفيء ويرجع إلا إلى رئيس الدولة الإسلامية ليصرفه في المصالح العامة والخاصة كما أراه الله ، وتقرّره وتقرّه شريعة الله للحفاظ على الكيان الإسلامي من الانهيار (١).

وفيما إذا سئلنا : إذا كان الفيء والأنفال واحدا ، فلما تختص آية الأنفال أموالها بالله والرسول ، وآية الفيء تعمها وصنوفا أربعة أخرى؟

والجواب : أن الرسول إنما له الفيء والأنفال لأنه رسول ، لا كشخص من أشخاص المسلمين ، إنما كرسول ، ورئيس للدولة الإسلامية ، فما كان له بحجة الرسالة وجهتها يصرف في محاويج الإسلام والمسلمين ، ومنها ما شرحتها آية

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٩٢ ـ أخرج احمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله (ص) خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.

أقول : ومما يدل على وحدة الفيء والنفل ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله (ع) انه قال في حديث : الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل ، والأنفال مثل ذلك هو بمنزلته (الوسائل ٦ : ٣٦٧ ج ١١).

٢٣٥

الفيء : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كما وأنه يصرف ما لله في سبيل الدعوة إلى الله ، وشيئا مما له في تحكيم الرسالة الإسلامية.

فليس «لله» هنا تعني ان الله يملك سدسا من الفيء ملكا ذاتيا ، فإن له ملك السماوات والأرض! ولا ملكا عرضيا بالتمليك أو التملك وحاشاه! إنما تعني أنه يصرف في الإلهيات ، كما تعنى «للرسول» أنه يصرف في شؤون الرسالة ، سواء في ذلك شؤون الرسول (ص) الخاصة به ، أو شؤون رسالته ، أو في محاويج أمته ، وكما كان يفعل «كما يحب» (١) ويجب.

ومن شؤون الرسول ذووا قرابته الملتصقون به ، المحرمة عليهم الزكاة والصدقات فإن لهم حقا مما للرسول ، وأقرب القربى هم الأئمة من آل الرسول عليهم السلام.

«وذي القربى» : ذي قربى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقط ، شريطة الحاجة ، فيمن سوى الأئمة من آله ، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وعلّهم أعم من ذرية الرسول ، ثم ولا يشترط في اليتامى وابن السبيل المسكنة وإلا لاكتفي بالمساكين ، ولو اجتمعت عناوين عدة في واحد منهم استحق حقوق العدة ، كهاشمي يتيم ابن سبيل ، فله حقوق ثلاثة.

ولا يعني ذكر هؤلاء اختصاص الأنفال بهم ، إنما هم من المصاديق الأكثرية في استحقاق الأموال العامة ، ولذلك لا تذكر آية الأنفال إلا الله والرسول ، إيحاء أن للرسول ما يحب ويستصلحه.

وإذا كانت الفيء والأنفال لله وللرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكلاهما في تصرف الرسول

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٦٧ عن الإمام الصادق (ع) في حديث : والأنفال لله وللرسول فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحب.

٢٣٦

للمصالح المسبقة ، ثم إلى الخلفاء المعصومين من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) فما هو مصيرها بعدهم (ع) زمن الغيبة الكبرى إذ لا نبي ولا إمام ظاهرا؟

أقول : إنها للنواب العامين زمن الغيبة ، يصرفونها فيما يحق لتعزيز شوكة الإسلام وعيلولة من لا حيلة له (٢) وحياطة المسلمين وحيلولتهم عن أعدائهم ، فهم ولاة الأمر على الشعوب المسلمة ، فليست هي ميراثا أو مالا لهم خاصا ، إنما بسبب النبوة أو الإمامة أو الولاية الشرعية ، وتجمعها الزعامة الإسلامية (٣) فلا يحق لهم صرفها لمصالحهم الخاصة ، إلا بقدر ما يصرف لغيرهم من المسلمين ، والأحاديث المحلّلة إياها للمسلمين زمن الغيبة لا تعني الفوضى في تصرفها لمن يشاء كما يشاء ، وإنما عن طريق الوالي العام العادل ، تقسيما عدلا ، دون اختصاص أو زيادة للأغنياء :

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) :

قيل الدولة بالفتح والضم واحدة ، وقيل : الأول لما يتداول من الحال ، والثاني لما يتداول من المال والجمع دول ودول ، وعلى أية حال فدولة الأغنياء ودولتهم طبقية عارمة ظالمة لا يقرها الإسلام ولا أية شريعة من شرائع الله ، كما ويندد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك قائلا : «إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين صيروا

__________________

(١) كما هو الشأن في كل ما للرسول وعليه (ص) من تكاليف رسالية ، وبذلك استفاضت الأحاديث كما رواه في الكافي عن الصادق (ع) (فيما يعد من الأنفال) فهو لرسول الله (ص) وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء(الوسائل ٦ : ٣٦٤ ج ١) ومثله كثير.

(٢) الكافي عن الإمام موسى الكاظم في حديث الأنفال وأهلها : ان الله لم يترك شيئا من صنوف الأموال إلا وقد قسمه فأعطى كل ذي حق حقه ... والأنفال إلى الوالي (المصدر ٣٦٦).

(٣) كما في الفقيه باسناده عن علي بن راشد قال : قلت لأبي الحسن الثالث (ع) أنا نؤتى بالشيء فيقال : هذا كان لأبي جعفر (ع) عندنا فكيف نصنع؟ فقال : ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنة نبيه (ص) (المصدر ٣٧٤).

٢٣٧

مال الله دولا وكتاب الله دغلا وعباده خولا والفاسقين حزبا والصالحين حربا» (١) والواجب تداول الدولة والدولة بين الناس كل الناس إلا النسناس ، كلّ حسب سعيه وقدره واستحقاقه وقدرته على الإصلاح والاستصلاح ، وكما هو صالح الشعوب المسلمة ، واما أن تتنقل دولة المال ودولة الحال بين الأغنياء ، أو الأقوياء ام من ذا؟ فلا!

إنها قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الإسلامي اقتصاديا وجماعيا ، تمثل جانبا عظيما من أسس الحكم العدل ، فرغم ان الملكية الفردية معترف بها فيها ، ولكنها محددة بقاعدة عدم اختصاص دولة المال بين الأثرياء ، ممنوعة عن الفقراء فكل محاولة وكل حالة تفضي إلى دولة المال بين الأغنياء ، او دولة الحال بينهم أو بين الأقوياء ، إنها حالة سيئة ومحاولة سيئة حسب التنظيم الإسلامي الذي لا يؤصّل إلا أصالة الحق والعدل أينما حل ، ومن أي حصل.

وبذلك يوحي تحريم التكنيز وإن كان من الأموال الشخصية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٩ : ٣٤) فدولة المال وتكنيزه وتضخم الثروة ، إنها مما لا تتوافق والروح الإسلامية العادلة الفاضلة.

وبما أن النظام الرأسمالي قائم على دولة المال بين الأثرياء ، وعلى الحكرة والرباء ، وعلى عدم الإنفاق للبؤساء العجزة المعوزين ، فالنظام الاقتصادي الإسلامي منه براء.

وبما أن النظام الشيوعي لا يحترم الملكية الفردية العادلة ، ولا يعدل بين السعي والمنتوج تماما ، فاقتصاد الإسلام منه براء ، طالما كان أشبه به في بنود.

__________________

(١) القمي في تفسيره عن أبيه عن النبي (ص) قال : (نور الثقلين ٥ : ٢٧٨). ومثله ، في العيون في باب ما كتبه الرضا (ع) للمأمون من محض الإسلام وشرائع الدين ، والبرائة ممن نفى الأخيار وشردهم وآوى الطرداء اللعناء وجعل الأموال دولة بين الأغنياء.

٢٣٨

وإنما الإسلام نظام خاص فريد متوازن الجوانب ، لا شيوعية ولا رأسمالية مهما تشابهتا معه في جوانب لا محيد عنها في كافة المتخالفات.

فعلى الشعوب المسلمة المحرومة المحطمة المظلومة كفاح صارم ضد دولة الحال ودولة المال على ذوي الاثرة والكبرياء فيهما ، لإيصال كل ذي حق إلى حقه ، ولتسود الجماعات المسلمة دولة الإسلام ودولة لصالح الجماهير كلها ، ولن تتحقق هذه الدولة الكريمة إلا على ضوء إتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والرسالة الاسلامية بكافة بنودها :

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ):

توحي الآية بأن البعض من المسلمين ما كانوا يرضون بتقسيم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كان يحرم بعضا ويؤتي بعضا ، وكان يزيد بعضا على بعض حسب ما يراه ، وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قسم الفيء بين المهاجرين ونفر من الأنصار المحاويج ، فاعترضه الباقون وتسائلوه في ذلك ، فصدرت ضابطة عامة أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مفوض إليه الأمر في دولة الحكم ودولة المال وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن الأئمة من آله (ع) (١) دون أن تختص الآية بإيتاء المال والنهي عنه ، مهما نزلت بهذه المناسبة.

فهذه هي النظرية الدستورية الاسلامية ان أصل القانون من الله لا سواه ، وتطبيقه من رسول الله ، لا سواه ، خلاف كافة النظريات الدستورية الوضعية

__________________

(١) الكافي باسناده إلى الميثمي عن أبي عبد الله الصادق (ع) : ان الله عز وجل أدب رسوله حتى قومه على ما أراد ثم فوض إليه فقال عز ذكره (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فما فوضه الله إلى رسوله فقد فوضه إلينا.

أقول : وهذا المعنى متواتر عن أئمة آل البيت ـ راجع تفسير البرهان (٤ : ٣١٤ ـ ٣١٦) ونور الثقلين (٥ : ٢٧٩ ـ ٢٨٤).

٢٣٩

طول التاريخ ، التي تؤصل الأكثرية في سنّ القوانين ، أو تحصر حق التقنين برئيس الدولة الذي هو بشر كسائر البشر يخطأ ويسهو ويجهل ويميل.

نحتج بهذه الآية فيما نحتج لحجية سنة الرسول قولا وعملا وتقريرا ، أنها من سنة الله ، وان ما سنه ليس إلا بما أراه الله.

ثم تختم الآية بذيل يربط هاتين القاعدتين الرئيسيتين بتقوى الله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) : تقوى في دولة المال ودولة الحال ، فلله الدول على أية حال ، يؤتيها من يشاء ويمنعها عمن يشاء ، فدولة المال عامة لجميع الشعوب حسب الحقوق والمساعي بما قررها الله ، ودولة الحال وهي الحكم بين الناس ، إنها لله ولرسل الله الحاملين المبلغين رسالات الله ، ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا.

ثم آية الأنفال تختصها بالله والرسول ، وآية الفيء تعمهما والأربعة الباقية ، ثم الآية التالية تختص بالذكر الفقراء المهاجرين ... مما يوحي بتفويض الرسول في الفيء والأنفال ، وأن النسب ليس شرطا أصيلا في استحقاقها :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) :

«للفقراء» علّه بدل عن (الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كما اللام توحي بذلك (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...) : وللفقراء مهما كانوا من يتامى الهاشميين ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، أم من المهاجرين والأنصار ، كما يروى أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قسم فيء بني النضير بين المهاجرين وثلاثة من فقراء الأنصار ، مما يبرهن على عدم اختصاص الفيء بالهاشميين ، وللرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأولي الأمر فيه الخيرة.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا أرض الوطن في سبيل الله (الَّذِينَ

٢٤٠