الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

الذين رعوا الرهبانية حق رعايتها (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) كما وهم لا يزالون في الصوامع والأديرة ، دكّات التجارات والغايات ، وأديرة التحمير والاستثمارات!.

فكثير من الراهبين التاركين الزواج بواحدة ، يغوصون في بحر من الدعارات بالراهبات ، وكثير من الراهبات التاركات الشهوات ، الرافضات الزواج الواحد ، يتلوثن بدعارات في الأديرة مع جماعات الرهبان.

هذا! ولكنما الرهبانية في الإسلام ممنوعة بكافة صورها ، فكان من حق رعايتها للرهبان المؤمنين بمحمد أن تركوها لأنها ممنوعة في الإسلام ، كما قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «رهبانية امتي الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة» (١) جمعا بين ألوان الواجبات الجماعية والفردية ومن أهمها الجهاد وكما قال : «رهبانية هذه الامة الجهاد في سبيل الله» (٢) طبعا وبكل الطاقات : نفسا ونفيسا ، قلما ولسانا وفكرا أم ماذا ، دون الرهبانية الانعزالية الصومعية التقشفية ، العازلة عن الحياة ، المنعزلة عن المجتمعات ، ولو كانت محصورة في العبادات ، فالإسلام كله حياة ، وكله هجرة ، وكله جهاد ، وكله حج وعمرة وصلاة ، لا تختلف إلا في الصورة ، وأما السيرة والمسيرة فصيغة واحدة هي : سبيل الله!.

ان الرهبانية حتى الحقيقية منها لم تكتب علينا ، وإنما أبدل عنها بالجهاد ، وما ألطفه المروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث يقول : «إني لم أؤمر بالرهبانية» (٣)

__________________

(١) كما مضى حديثه عن المجمع عن ابن مسعود وفي عيون الأخبار عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : صلاة الليل.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٧٨ أخرج أحمد والحكيم والترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلي والبيهقي في الشعب عن انس أن النبي (ص) قال : لكل امة رهبانية ورهبانية هذه الامة الجهاد في سبيل الله.

(٣) أحمد بن حنبل ٣ ، ٨٢ ، ٢٦٦.

١٨١

«ان الرهبانية لم تكتب علينا» (١) «وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام» (٢) حتى ولا حالة التقية ، دونما حاجة الى صومعة أو دير ، ويروى أن نفرا من الصحابة أخذهم الخوف والخشية حتى أراد بعضهم أن يعتزل عن النساء ، وبعضهم الإقامة في رؤوس الجبال ، وبعضهم ترك الأكل والشرب فنهاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنها وقال : «لا رهبانية في الإسلام» ، وقال : «رهبانية امتي في المسجد» ، وان كنت ولا بد ، فكن في الناس ـ إذا ـ ولا تكن معهم ، وآخر المطاف أن تهاجر بدينك الى بلد يحملك أو تتحمله ، أو القتل أخيرا في سبيل الله ، فإن الحياة عقيدة وجهاد.

فبدعة الرهبانية فلتة بين البدع ، إذ ليست في النار «وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» فإنهم حفاظا على إيمانهم لم يجدوا بدا من هذه البدعة ، وقد احتفت بجعل إلهي لرهب الرهبنة من قبل مع المودة والرحمة في قلوبهم ، وبكتابتها كرهبنة حقيقية بعد ما ابتدعوها : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ... ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ).

ومن ثم المؤمنون أجمع سواء المسلمون وسواهم كالذين اتبعوا المسيح ، هم يؤمرون أن يؤمنوا بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تكملة الإيمان بالرسالة ، أو الإيمان بها :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) :

هنا يبرز الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بشموخ الرسالة كأنه الرسول لا سواه: (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) وان الرسل قبله قد هيأوا ظروف رسالته العالمية الختمية دون أن يستقلوا بجنبه في شيء ، اللهم إلا رسالة للتعريف به وتعبيد المسالك لوصوله ، كالصفوف التكميلية المهيأة لقمة الثقافة!.

__________________

(١) سنن الدارمي نكاح ٣.

(٢) أحمد بن حنبل ٦ : ٢٢٦.

١٨٢

والمخاطبون أن يؤمنوا ثانيا بهذا الرسول هم المؤمنون من أهل الكتاب وسواهم ، وعد كلا كفلين من رحمته ، فالأولون إذ كانوا مؤمنين من قبل ثم استجدوا الإيمان به فلهم أجران (١) والآخرون إذ آمنوا أولا ثم ازدادوا إيمانا فلهم كفلان ، ومن ثم فمن لم يؤمن من أهل الكتاب تجاهلا وعنادا فلا كفل له ولا أجر وإنما وزر على وزر ، وإذا كان جهلا قاصرا فله أجر ، كمن آمن بالرسول من غيرهم ثم لم يستجد الإيمان فله كفل ، والمشركون وسواهم الذين لم يؤمنوا أولا وأخيرا فعليهم وزر (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ).

وعلّ هذه الآية الشاملة لفريقي المؤمنين تأمين للمسلمين منهم إذ فزعوا من أجر الآخرين مرتين : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٢٨ : ٥٥).

فلما نزلت هذه الآية قالوا يا معاشر المسلمين! أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله هذه الآية : الكفلين (٢).

إذا فالمحور الأصيل فيها هم المؤمنون من غير الكتابيين كما ويدل عليه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ...) فإنهم بحجة آية الأجرين علموا تفوقهم على المؤمنين لو آمنوا ، ومساواتهم لو بقوا ، فلا يقدر المسلمون على شيء من فضل الله!.

__________________

(١) الجمع عن النبي (ص) في حديث : وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد (ص) فله أجران.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٧٩ أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس ، وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.

١٨٣

كلا! فهناك إيمان من أهل الكتاب قبل أن يسلموا ، ثم إيمان بعده فلهم أجران ، وهنا إيمان من غيرهم بداية ، ثم تقوى تحكّم ذلك الايمان فلهم كفلان ، حيث الايمان الأول للآخرين هو الايمان الثاني للأولين ، فقد فاقهم المؤمنون المتقون ـ إذا ـ في تحكيم الايمان ، فطالما لأولئك أجران ، فلهؤلاء كفلان إضافة الى نور يمشون به وغفران ، اللهم إلا أن يثلثوا إيمانهم بتقوى الايمان فهم سواء مع المؤمنين المثنين الايمان.

وترى ما هما الكفلان ، وما هو النور والغفران؟

الكفل هو الكفيل الضامن ، والرحمة الكفلان علّها الحسنتان : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢ : ٢٠١) وعلى النور الذي يمشون به فيهما ، وعذاب النار الذي يوقونها فيهما ، هما الكفلان أو منهما ، فحسنة الدنيا كفيلة لحسنى الحياة فيها ، بتحويلها الى حسنها في الاخرى ، وحسنة الاخرى التي هي الاخرى كفيلة بالروح والرضوان ، أو الحسنتان هما كفل ، والوقاية عن عذاب النار هو الآخر : كفالة إيجابية واخرى سلبية.

ثم النور الذي يمشون به هو الفرقان الناتج عن تقوى الايمان ، المخرج عن طغوى العصيان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (٨ : ٢٩) (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩ : ٢٢) (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٦ : ١٢٢) في ظلمات الوسواس الخناس ومهابط الأحوال ومخابط الأوحال فلا ينزلق أو يتخبط.

وهذا النور كفل للمؤمنين عظيم ، يكفل تنويرهم في الحياتين ، ويتحول من الدنيا الى الأخرى نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، ويتممه الله هناك :

(يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٦٦ : ٨).

ثم دور الغفران هو تتميم نور الإيمان ، وكفارة عما ربما يعرضه من نسيان وعصيان.

١٨٤

وكما عرفناه ، لا يكفل الكفلان إلا لمن زاد إيمانا على إيمان ، أيا كان وإنما بحساب وميزان ، وأجران لمؤمني أهل الكتاب ، ثم ولهم كفلان لو زادوا إيمانا على إيمان :

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) :

فآية أجرهم مرتين علمتهم أن المؤمنين من غيرهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ، ومنهم من زعموا أنهم كأهل الكتاب لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي يؤتاه المسلمون ، وآخرون ـ وهم كثير ـ تعصبوا كأن الجنة خاصة بهم : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢ : ١١١) أو أن النبوة خاصة بآل إسرائيل كأنها محتكرة فيهم ، وآية الكفلين هدمت هذا المربع المزعوم بأضلاعه وتبنت صرحا عاليا بكفلين أعلى من الأجرين ، اللهم إلا إذا تحول أصحاب الأجرين الى حالة الكفلين ، أو تحول أصحاب الكفلين الى حالة الأجرين أو أدنى ، فلكل أجره وكفله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

هكذا يحكم الله في آية الكفلين (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ) : هم أو المسلمون (عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) فالمسلمون قادرون على فضل الله وأحرى ، كما هم قادرون ، دون اختصاص ولا حكرة لفضل الله بقوم خاص ، وإنها القدرة بالإيمان والعمل كما يشاء الله ويرضى ، لا القدرة بالأمنية والأمل كما يهوون ، اللهم إلا الرسالة الالهية التي لا يقدر عليها أحد إلا صفاء هي كظرف للاصطفاء.

(لِئَلَّا يَعْلَمَ ...) حال : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) تكوينا وتشريعا ، لا بأيديهم كما يهوون ، ولا بأيدي الفوضي (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لا من يشاءون ، وبميزانه العدل لا كما يزعمون.

١٨٥

ف «لا» هنا ، كما في غيرها نافية ، وقولة القائل انها زائدة فارغة زائدة ، تضم غلطة معنوية الى غلطتها الأدبية (١) كما الواو في «وان الفضل» حالية وليست عاطفة تجعل (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) متعلق اللاعلم : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ ... أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) نقيض ما يعنيه القرآن من تعليم الحقائق دون إغراء بجهالات وخرافات.

__________________

(١) لما عجز جماعة من الناس من تفسير «لِئَلَّا يَعْلَمَ» نفيا ، قالوا «لا» هنا زائدة ، فالمعنى إذا «ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله» وسواء أكان ضمير الجمع لأهل الكتاب أنفسهم أو للمسلمين فآيتا الأجر والكفل تناقضانهما ، فكل منهما قادر على شيء من فضل الله بفضل الايمان وغير قادر بالأماني.

١٨٦

(سورة المجادلة ـ مدنية ـ وآياتها اثنتان وعشرون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ

١٨٧

يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ

١٨٨

وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١)

سورة تحمل ـ فيما تحمل ـ أحكاما تربوية جماعية أخلاقية ، جارفة التصورات الخاطئة ، والتصرفات الغالطة ، والعادات الجاهلة ، منشأة أسسا جديدة ، ومبادئ عالية ، في نفوس الجماعة المسلمة ، ولكي تحمل دعوة الإسلام آمنة مطمئنة لمن يبتغي السلام.

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

طرف من عنت الجاهلية بحق المرأة المظلومة المنكوبة ـ بين مئات الأعنات ـ أن الرجل كان يغضب على امرأته فيحرمها على نفسه بالظهار قائلا : «أنت عليّ كظهر امي» فتحرم عليه ، ولا تطلق منه كالمعلقة : لا أيّم ولا ذات بعل ، ظلما ما أفحشه بحقها وبحقه أيضا.

فالإسلام منذ بزوغه في أفق الجزيرة ، أخذ يجرف هذه الهرطقات آونات حدوثها ، ومن ذلك الظهار : ظاهر رجل من امرأته فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تجادله في زوجها ، وتشتكي الى الله بأسها وبؤسه ، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يملك حكما ولا جوابا حتى يأتيه الوحي ، فانصرفت آئسة بائسة ، فإذا بالوحي يأتيه حاملا تفاصيل الحكم : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ...).

إن الله تعالى يسمع الأقوال لا كما نسمعها ، ويبصر الأحوال لا كما نبصرها ، فإنه سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ، فطالما يكلمنا عن نفسه بلغتنا لكي نتفهم ، ولكنه لا يعني منها إلا ما يناسب ساحة قدسه دون مناسبات الممكنات ، فسمعه وبصره هما علم ما يسمع وما يبصر ، دون سمع ولا بصر كما لسواه.

١٨٩

وهنا سمع أول ، يشمل سمع العلم بالشكوى ، وسمع إجابتها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ ...) وسمع ثان علّه يخص الأول : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أو يشمل الثاني ، وثالث يعمهما أيضا : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) : الدعاء : قولا وإجابة (بَصِيرٌ) بموارد الإجابة ، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.

وهل تجوز مجادلة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للشكاة على المشكي عنهم ، وليس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذي يتخلى عن الحكم الحق وفصل الخصومات والإنتصار للمظلومين؟.

إن الاشتكاء إلى الله هنا يوحي بأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يملك حكما حينها ، فالمشتكية عن زوجها ما ملكت نفسها حتى جادلت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لامسا بكرامته ، وإنما طبيعة المضطر الذي يضيق عليه المخرج أن يجادل الحاكم ويشتكي إلى الله الذي فوقه لكي يحكم ويحلّ ، فالاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه رجاء حلّه ، فإذا لم يجد حلا عند الخلق يرفع شكواه إلى الخالق ، وهذه هي السنة السنية أن يشتكى الى المؤمن فإنه شكوى الى الله ، فلو قصر أو قصّر رفعها الى الله ، توسلا بالأسباب ، ثم الى مسبب الأسباب ، وهي الطريقة المثلى ، دون الاقتصار على الأسباب ، أو رفضها بتاتا والاشتكاء الى الله في كل قليل وجليل! ثم الجدال ـ لغويا ـ لا توحي بسوء ، فمنها شيء ومنها حسن ومنها أحسن ، ولم تكن شكوى المظاهر منهما الى الله على رسول الله ، وإنما على المظاهر ، ولقد كان النبيون يجادلون الله : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (١١ : ٧٤) : جدال خير ، رغم (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) (٦ : ١٢١) : جدال شر ، فإن الجدال أصله المفاوضة للإحكام ، من جدلت الحبل : أحكمت فتله : إحكام حق أو باطل ، وما كانت المظاهر منها تجادله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا لإحكام حقها وانتصارها على زوجها المظاهر ، في محاورة : مرادّة بينها وبين الرسول : تقول : «يا رسول الله إن فلانا زوجي ، وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته ولم ير مني مكروها ، أشكوه إليك ، فقال : فيم تشكونيه؟ قالت : إنه قال : «أنت عليّ حرام

١٩٠

كظهر امي» وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري ، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها الى الله عز وجل والى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وانصرفت .. وأنزل الله في ذلك قرآنا : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قَدْ سَمِعَ اللهُ ...) (١).

وهذه المنعة والحائطة الرسولية مما تحكم عقد الرسالة وتطمئن الناس أنه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وكما أمره الله : (... لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ...) (٤ : ١٠٥) فما هو إلا رسول وليس مشرّعا!.

ثم الشكوى هذه توحي بأن المرأة في الإسلام لها حق المجادلة بحقها ، والمحاورة بشأنها ، حتى ومع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن يحكم عليها بالسكوت والخمول ، وأنّ إذن الزوج لا يشترط فيما يحق لها من جدال وتراجع لأخذ الحق الى حكام العدل.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

تنديد شديد بالمظاهرين من نسائهم ، زاعمين أنهن يصبحن كأمهاتهم بهذا القول الزور المنكر.

__________________

(١) القمي باسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : ان امرأة من المسلمات أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت : ...(نور الثقلين ٥ : ٢٥٤). أقول : وهذه المرأة حسب الروايات هي خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت ومن ذلك ما روته عائشة قالت : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء اني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهم اني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل جبرئيل بالآيات ، (الدر المنثور ٦ : ١٧٩).

١٩١

فهنا علاجان لمشكلة الظهار : علاج من أساس : أنه منكر من القول وزور كما هنا فليترك ، وعلاج ثان : تحليل المظاهر منها بالكفارة كما يأتي.

فالزوجة لن تصبح اما : لا واقعا ، فهي التي ولدته ، ولا شرعا إلا في التي أرضعته : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) (٤ : ٢٣) أو نساء النبي حفاظا على كرامته (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ودونهما : ف (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) :

حصر الامومة الواقعية في الوالدة ، ثم الشرعية الاعتبارية منها لا تحصل إلا بالرضاع فتحرم مؤبدة وهي مثل الام إلا في الميراث ، وإلا في أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وتحصل الحرمة المؤقتة تأديبا في الظهار ، فلا امومة فيه لا واقعا ولا اعتبارا وتنزيلا.

فالحصر هنا وان كان محصورا في الامومة الواقعية ، ولكنما المنكر والزور موجهان الى التنزيلية المقصودة من التشبيه.

فالقول : إن المظاهرين من نسائهم إنما كانوا يشبهونهن بأمهاتهم بغية التحريم كما هن ، لا أنهن أمهاتهم واقعا ، والآية تنفي الامومة الواقعية هنا دون التنزيلية ، فأين المنكر والزور؟ يرده أن نفي الامومة الواقعية ينفي التنزيلية والمشابهة في الحكم أيضا إلا بدليل ، والمنكر والزور هنا هو الحكم بالحرمة كالام ، أو الإخبار بها : فالقول «أنت عليّ كظهر امي» إن كان إنشاء تشريعا لحكم الحرمة فهو منكر ينكره العقل والعاطفة ، وكذلك زور ، لأن ذلك من اختصاصات الشارع الإلهي دون سواه ، وإن كان إخبارا عن حكم الله فهو زور وغرور.

ف (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ينفي الامومة الواقعية ، وبما أن نفيها لا يكفي لنفي المشابهة ـ وان كان يوحي به ـ يثنيّه بنفيها أيضا : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) إذ لا دليل على المشابهة هنا ، بخلاف (أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وزوجات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فهن محرمات كما الأمهات الواقعيات ، بدليل هذه الآيات.

١٩٢

فالقول «أنت عليّ كظهر امي» منكر ينكره الواقع والشرع والضمير واعتبار العقل ، وزور يكذبه الشرع والواقع ، عادة جاهلية تعرّقت فيهم كأنها أصل يعتمد عليه.

والظهار من الظهور بمعنى الغلبة والعلو : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) : يعلوه ، فالزوج غالب على زوجته يملكها في بضعها ، ويعلوها في أمره وإرشاداته : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا) كذلك ويعلوها ويركبها حين يطؤها ، ولذلك قد يعبّر عن طلاقها بالنزول عنها : «نزلت عن امرأتي» إذ كان يركبها ، مسيطرا عليها ... فليس ـ إذا ـ من الظهر ، فإنه ليس أولى بالذكر من الأمام الذي فيه مواضع المباضعة والتلذذ منها ، فظهر المرأة ليس أصلا فيما يرغب منها ، بل وفي إتيانها منه قول بالتحريم!.

وإذا كان الظهار منكرا من القول وزورا فهو محرم قطعا ، ولا ينافيه عفو الله وغفره : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فإنه بعد التوبة والكفارة التالية.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

صحيح أن الظهار لا تجعل الزوجة كالام في حرمة مؤبدة وكالمعلقة ، ولكنها تحرّمها مؤقتة نكالا من الله ، فالمقصود منه لم يقع ، والواقع غير مقصود ، وحكم الحرمة المؤقتة الزائلة بالكفارة من الله تعالى تأديب وتأنيب للمظاهرين من نساءهم ، وليس إمضاء لسنة جاهلية.

و (مِنْ نِسائِهِمْ) تعم الدائمة والمنقطعة وملك اليمين خلافا للأربعة في الثانية إذ لا يعتبرونها زوجة ، ولأبي حنيفة والشافعي في الأخير ، وعموم النساء للثلاث ، وان المنقطعة زوجة بالكتاب والسنة ، حجة عليهم ، وكما سويت بين الحرة والأمة

١٩٣

في أحاديثنا (١). وقد تشمل المطلقة الرجعية فإنها زوجة ، فلو ظاهر منها حرم وطئها قبل الكفارة ، ولا تشمل قبل التزويج خلافا لمالك وأبي حنيفة في الأخير ، وقولهما يخالف النص : «من نساءهم».

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) : القول هنا هو الظهار ، وليس العود له تكراره ، فإنه عود اليه لا له ، ولا صرف الندم على الظهار ، فإن العود ظاهر في العمل دون النية والحالة ، وتجاوبنا الآيتان : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) : من النجوى المحرمة ، مواصلة فيها ، وإنما يعني العود للظهار ، نقضا له وعودا الى حاله قبله ، كأن لم يكن ظهار : ان يواقعها ، ويوحي به (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وفي الصادق عليه السلام «إذا أراد أن يواقع امرأته» (٢).

إذا فلا يراد من العود له إلا ثالث ثلاثة : عودا لنقضه ، ورجوعا الى حالة ما قبل الظهار ، فعود التكرار يكرر الكفارة ، وليس موجبها لأول مرة ، إذ هو منكر وزور كما في مرات اخرى بعدها ، ونص الآية يثبت الكفارة بعد العود.

ثم لا يحرم بالظهار إلا الجماع الذي تحلله الكفارة ، فغيره من الالتذاذات حلال قبل الكفارة ، إلا على تفسير التماسّ بمطلق الالتذاذ جماعا وسواه ، ولكن التماس نفسه ينفيه ، فإنه مس من الجانبين كناية عن المواقعة ، بل المس أيضا كذلك في متعارف القرآن فضلا عن التماس ، كما في العلوي (٣).

__________________

(١) الكليني عن إسحاق بن عمار قال سألت أبا ابراهيم عليه السلام عن الرجل يظاهر من جاريته فقال : الحرة والأمة في ذلك سواء ومثله كثير(الوسائل ١٥ : ٥٢٠).

(٢) رواه ابن بابويه في الصحيح عن جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام أنه سأله عن الظهار متى يقع على صاحبه فيه كفارة؟ فقال : إذا أراد أن يواقع امرأته (قلائد الدرر ٣ : ٢٧٠).

(٣) الكليني باسناده عن الباقر عليه السلام عن أمير المؤمنين في حديث طويل : «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» يعني مجامعتهما (الوسائل ج ١٥ : ٥١٠) ورواه القمي في تفسيره مثله ، وفيه ص ٥١٨ القمي عن الصادق عليه السلام سألناه عن الظهار متى يقع على صاحبه الكفارة؟ قال : إذا أراد أن يواقع امرأته ورواه الشيخ والصدوق مثله.

١٩٤

ويحرم على الزوجة ما يحرم على الزوج بنفس سند التماس حيث يحرّم المس من الطرفين ، فيحل لها بكفارة الزوج ، والحكمة في هذا الحرمان من جانب الزوجة أن تساعد على حرمان الزوج.

ويصح ظهار العبد كما الحر ، وعدم ملكه لرقبة حتى يعتق يدخله فيمن لم يستطع ، دون أن يخرجه عمن يصح ظهاره ، ولكنه لا يصح من المرأة للنص : (مِنْ نِسائِهِمْ) إضافة الى أن لغة الظهار لا تناسب إلا الزوج كما سبق في أحاديثنا (١).

وهل يصح الظهار قبل الدخول؟ نعم لإطلاق الآية ، ولا للأحاديث المقيدة لها بالمدخول بها ، خلافا للأئمة الأربعة ، وفاقا للأئمة الاثنى عشر عليهم السلام إذ يروون عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم شرط الدخول (٢) ، كما رووا اشتراطه بحالة طهر غير المواقعة بحضور عدلين كالطلاق خلافا للأربعة (٣).

والنص هنا (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) فلو لم يعد فهل تحرم عليه حتى يعود ، أو لا يعود فتصبح كالمعلقة؟ قطعا لا! فكيف يرضى الله بهذا الذي سماه كذبا وزورا أن يستمر ، وإنما يجبر على أحد أمرين : العود مع الكفارة ، أو الطلاق فيما إذا رفعت المظاهر منها أمرها الى الحاكم ، كما في أحاديثنا : انه يجبر على أحد الأمرين بعد ثلاثة أشهر من المرافعة.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) : إذا كانت عنده رقبة ، وإلا فليشتر

__________________

(١) القمي باسناده عن الصادق عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام إذا قالت المرأة : زوجي علي كظهر امي فلا كفارة عليها.

(٢) الكليني بإسناده عن الصادق عليه السلام عن رجل مملوك ظاهر من امرأته فقال عليه السلام : لا يكون ظهار ولا إيلاء حتى يدخل بها ورواه الصدوق بسندين عن الصادقين عليهما السلام (الوسائل ١٥ : ٥١٦).

(٣) الكليني بإسناده إلى الباقر عليه السلام قال : لا يكون ظهار إلا في طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين ورواه القمي في تفسيره مثله ومثله كثير(الوسائل ١٥ : ٥٠٩).

١٩٥

ويحرّر ، وهل يشترط فيها الإيمان؟ اللهم نعم ، كما تدل آيات التحرير وحكمته.

تحرير رقبة جزاء بما نوى أسر رقبة : أن يحرم زوجته عما يحق لها وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة ، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب ، وحكم الإسلام بالترقيق لأسرى الحرب ، ثم حكمه هنا وهناك بتحريرهم ، حكمان عادلان ، في الأول تسلب حرية الأسير الكافر كفا عن بأسه ، وإشغاله كما يجب إسلاميا ، وتثقيفه كذلك ، حتى إذا أسلم يأتي دور الحكم الثاني : التحرير.

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أن تكفّروا فلا ترجعوا لمثله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) :

من ظهار ، وعود له ، أو وطيء قبل الكفارة أو بعدها (خَبِيرٌ).

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).

لم يجد تحرير رقبة ، سواء أكان عدم الوجدان لعدم وجود رقبة كما في هذا الزمان ، أو لعدم مال يكفيه لاشتراءه ، أو لأنه هو رقبة فلا يملك رقبة حتى يحررها ، أو لحاجة مدقعة إليه رغم وجود المال ، أو وجود الرقبة ، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. كفارات مترتبة أوسطها صيام شهرين متتابعين ، والتتابع هنا كما في كفارة الصيام.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ).

والنص : «ستين» يحكم بعدم جواز إطعام واحد أكثر من واحد ، خلافا لأبي حنيفة : أن «لو أطعم مسكينا واحدا ستين مرة يجزي» : خلافا لنص الآية» (١).

وواجب الإطعام هو المعتاد في الطعام ، وان زاد ففضل ، «ذلك»

__________________

(١) ومن الغريب احتجاج أبي حنيفة لرأيه بان «المقصود دفع الحاجة وهو حاصل» وهذا اجتهاد مقابل نص القرآن!.

١٩٦

الضغوط النفسية والمالية عليكم (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فلا تأتوا بتصرفات وأقوال منكرة وزور فإنها خلاف الإيمان (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) لا ما حددتم لأنفسكم في مثل الظهار أن تكلفتم ما لم تكلّفوا (وَلِلْكافِرِينَ) عقائديا أو عمليا بهذه الحدود الإلهية (عَذابٌ أَلِيمٌ).

وعدم استطاعة الصوم شهرين متتابعين أعم من العجز عن أصل الصوم ، أو الصوم هكذا ، أو أن الشبق الشديد والغلمة الهاجمة يطيقانه عن أن يصبر شهرين رغم إمكانية الصوم ، شرط ألا يجد طريقا آخر لإطفاء نائرة الشهوة كزواج منقطع ومثله.

وإذا لم يجد ما يطعم يستغفر الله ويؤدى عنه من بيت المال لو أمكن ، وهو ممن يأكل من الكفارة لو كان مسكينا كما في أحاديثنا (١).

وهل تسقط هذه الكفارات إذا واقعها قبلها؟ كلا! وإنما تثبت كفارة اخرى للوقاع قبلها (٢). و (قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) بيان لظروف وجوبها وان الوقاع قبلها محرّم ، فلو واقع فعل محظورا ، فهل إن فعل المحظور يسقط الكفارة!.

__________________

(١) القمي بإسناده عن الصادق عليه السلام قال : جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله! ظاهرت من امرأتي ، قال : اذهب فأعتق رقبة ، قال : ليس عندي ، قال : اذهب فصم شهرين متتابعين ، قال : لا أقوى ، قال : اذهب فاطعم ستين مسكينا ، قال : ليس عندي ، قال : فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أنا أتصدق عنك فأعطاه تمرا لإطعام ستين مسكينا ، فقال : اذهب فتصدق بها ، فقال : والذي بعثك بالحق لا أعلم بين لابتيها أحدا أحوج اليه مني ومن عيالي ، قال : فاذهب وكل وأطعم عيالك (نور الثقلين ٥ : ٢٥٧).

(٢) الشيخ الطوسي بإسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السلام عن الرجل يظاهر من امرأته ثم يريد أن يتم على طلاقها؟ قال : ليس عليه كفارة ، قلت : إن أراد أن يمسها؟ قال : لا يمسها حتى يكفر ، قلت : فان فعل فعليه شيء؟ قال : إي والله إنه لآثم ظالم ، قلت : عليه كفارة غير الاولى؟ قال : نعم يعتق أيضا رقبة وروي ما في معناه عن الحسن الصيقل عنه عليه السلام وعن أبي بصير عنه عليه السلام (الوسائل ١٥ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨).

١٩٧

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

المحادة هي الممانعة ، والكبت : رد بعنف وتذليل ، وهذا المقطع صورة من صور الحرب والنكاية للذين يحادون الله ورسوله : يأخذون لأنفسهم مواقف وحدود مستقلة وجاه حدود الله ، في التكوين وفي التشريع ، واقفين عند حدّهم ـ حسب زعمهم ـ لحدود الله ، يتعدونها في تبجح وغرور ، فيختلقون أحكامهم المنكرة الزور ، كمن كانوا يظاهرون من نسائهم ، انهم (كُبِتُوا) :

ردوا بعنف وتذليل ، عن حدودهم الى حدود الله ، كما ردّ الذين من قبلهم من حماقى الطغيان ، وهذه الآيات البينات تكفي بيانا لحدود الله (وَلِلْكافِرِينَ) بها (عَذابٌ مُهِينٌ) كما أهانوا الله في محادتهم. ان المحادين لهم كبت في الدنيا ، وعذاب مهين فيها وفي الآخرة :

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) كما عملوا ، فيسمعهم ما قالوا ، ويريهم ما عملوا (أَحْصاهُ اللهُ) : في الشهداء من أنفسهم وأعضائهم وأرضهم وفي نفوس الملائكة الكرام الكاتبين والنبيين ، أحصاه : تلقيا منهم وإلقاء ، رغم أنهم (نَسُوهُ) (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): حاضر علما في تلقيها ، وحاضر علما في إلقائها ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فليطمئن بحضوره وشهوده المؤمنون ، وليحذر من حضوره وشهوده الكافرون.

لا فحسب أنه شهيد على كل شيء ، فإن له علما شاملا بالكون كله ، فإلى صورة حية منه تمس أوتار القلوب :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى

١٩٨

ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

(أَلَمْ تَرَ) : رؤية العلم كأنها عيان ، استفهام تقرير : أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يرى ـ فيما يرى ـ (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من سرّ وإعلان ، دون أن يكون شيء أقرب له من شيء ، أو أبين له من شيء ، يعلم ما في الكون على سواء ، دون أي جهل أو خفاء ، ويعلم من يتناجون ونجواهم و (هُوَ مَعَهُمْ) معية العلم والقيومية ، لا معية الكيان والحدّ والعدد (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) : أشخاص رجالا أو نساء أم مختلطين ، تناجيا ومسارة بينهم (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) وليس ثالثهم ، إذ لا يتناجى معهم ولا يتناجون معه ، وليس داخلا في أي حد وعدد ، وإنما «رابعهم» في علمه بما يتناجون ، دون أن تخفى عليه خافية ، أجل ، وانه تعالى لا يتمم عدد الكائنات بذاته ، فهو «واحد بعدد ، ولا عن عدد ، ولا بتأويل عدد» فليس رابعا لهم ككائن محدود بحدودهم ، يقارنهم في كيانهم وزمانهم ومكانهم ومكانتهم ، وإنما مقارنة المعية العلمية والقيومية (داخل في الأشياء لا بالممازجة ، خارج عن الأشياء لا بالمزايلة) (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) بنفس المعنى (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) اثنين أو واحد : كمن يتناجى ونفسه : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (وَلا أَكْثَرَ) من خمسة وأكثر (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) : وهذه المعية المطلقة اللامحدودة تفسير عميق أنيس لكونه تعالى رابع المتناجين أو سادسهم ، انه المعية العلمية دون حجاب ، لا والمعية العددية وسواها من المعيات التي لا تناسب ساحة قدسه تعالى ، كما وان (أَيْنَ ما كانُوا) يخرجه وينزهه تعالى عن المكان أيا كان ، فليس للمحيط على كل ماكن ومكان أن يكون في كل مكان ، إلا كونا علميا ، وكما في جواب الامام علي عليه السلام عما

١٩٩

سأله جاثليق : أين هو؟ وعما سئل عنه أبو بكر (١) وكما عن الامام الصادق والكاظم عليهما السلام (٢).

وانها لصورة سارية سارّة من الحيطة العلمية الإلهية ، بكل شيء ، وبنجوى المتناجين ، ومعاريض المتخافتين ، سامعا للحوار ، وشاهدا للسّرار ، تترك القلوب وجلة لا تثبت لها ، ولا تقوى على مواجهتها ، ثم هي في نفس الوقت أنيسة أليفة لمن يعرفون الله ويرجون له وقارا.

__________________

(١) اصول الكافي بإسناده سأل الجاثليق أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أخبرني عن الله عز وجل أين هو؟ فقال عليه السلام : هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله : «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ... (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (البرهان ٤ : ٣٠٣).

وفي إرشاد المفيد : وجاءت الرواية أن بعض أخبار اليهود جاء الى أبي بكر فقال له : أنت خليفة نبي هذه الامة؟ قال له : نعم ، فقال له : إنا نجد في التورات أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم فخبرني عن الله أين هو؟ في السماء هو أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر : هو في السماء على العرش ، فقال اليهودي : فأرى الأرض خالية منه! وأراه على هذا القول في مكان دون مكان! فقال له أبو بكر : هذا كلام الزنادقة ، اغرب عني وإلا قتلتك ، فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : يا يهودي! قد عرفت ما سألت عنه وأجيب عنه به ، وإنا نقول : ان الله جل جلاله أيّن الأين فلا أين له ، وجل أن يحويه مكان ، هو في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة ، يحيط علما بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره تعالى ... (الى أن قال) فقال اليهودي : أشهد أن هذا هو الحق وأنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه (نور الثقلين ٥ : ٢٦٠).

(٢) تفسير البرهان ٤ : ٣٠٢ عن الكافي بإسناده عن ابن أذينة عن الصادق عليه السلام في هذه الآية : هو أحدي الذات بائن من خلقه وبذاك وصف نفسه وهو بكل شيء محيط بالإشراف والاحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالاحاطة والعلم لا بالذات لأن الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمها الحواية.

وفيه عن الامام الكاظم عليه السلام قال : ان الله تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال.

٢٠٠