صادق العلائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الآفاق للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٣
تحريف القرآن الصريح عند أهل السنة
الكلام هنا عن التحريف الصريح ويشتمل علی عدة أنواع
أولها : دعوی تحريف سور القرآن بزيادة ونقصان سور كاملة عن المصحف .
ثانيها : دعوی تحريف آيات القرآن بزيادة ونقصان بعض الآيات المزعومة عن المصحف .
ثالثها : التلاعب في مفردات الآية الواحدة ، وبعض هذه الموارد قد تؤول بنسخ التلاوة ، وقد خلصنا فيما سبق أنه لا يوجد دليل واحد يمكن التمسك به لإثبات وقوع نسخ للتلاوة ، ومحض الادعاء لا يؤخذ به في أُمورنا الدنيوية ، فكيف بالقرآن وهو ناموس الشريعة وركنها ؟!
ونزيد عليه ، أنه لو سلمنا جدلا بوقوع نسخ لتلاوة بعض آيات القرآن فهذا لا يجوّز لنا قبول ادعاء أي مدع ينسب للقرآن جملة زعم نسخها ! وهذا الحكم فضلا عن كونه معروفا ومشهورا بين علماء الأُصول فإن العقل قاض به ، لذلك اشترط علماء الأُصول عند أهل السنة في المنسوخ أن ينقل متواترا فالمستفيض ـ فضلا عن خبر الواحد ـ لا يركن إليه لإثبات النسخ ، وقد مرّت كلمات جملة من علمائهم في مبحث نسخ التلاوة .
وعليه فالموارد الآتية لا يمكن أن تكون من منسوخ التلاوة ؛ لأنها بأجمعها تفقد هذا التواتر الذي هو شرط لتحقق النسخ ، وحيث لا تواتر فلا نسخ .
هذا مع العلم أن أهل السنة لا تأويل عندهم لهذه الموارد غير نسخ التلاوة ، قال البيهقي في السنن الكبری : بسنده عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالی عنها قالت نزلت (فعدة من أيام أُخر متتابعات) فسقطت : (متتابعات) . قال البيهقي : قولها سقطت تريد : نُسخت . لا يصح له تأويل غير ذلك (١) .
وهذه الموارد لم تتواتر فليست بمنسوخة وحيث لا تأويل لها غير النسخ فهو تحريف صريح للقرآن بسقوط هذه الآيات ، ومن يدّعي نسخ أي جملة من الجمل التي نسبها الصحابة للقرآن فعليه أن يثبت وقوع نسخها بالتواتر ودونه خرط القتاد .
ونزيد عليه بأن إقرار أهل السنة بنسخ تلك الجمل تهربا من نسبة التحريف للقرآن أو لمعتقد الصحابة مبتنٍ علی تسليمهم المسبق بقرآنية ما ادعاه الصحابي وهذا بعينه تحريف للقرآن بالزيادة ، لأن إثبات قرآنيتها في الرتبة السابقة يحتاج إلی تواتر نقلها كقرآن كما مرت كلماتهم سابقا ، فكيف أثبتوا قرآنيتها بدعوی أحد الصحابة ؟! ، وهاك الإشكال بصورته الدقيقة :
دليل لإثبات التحريف الصريح لمن يدعي النسخ تلاوةً
بهذا الإشكال ذي الشقين يثبت تحريف القرآن لأهل السنة ثبوتا قطعيا ، سواء قالوا بشيء اسمه نسخ التلاوة أم لا ، ونحتاج لتقديم مقدمة فنقول :
___________
(١) السنن الكبری للبيهقي ٤ : ٢٥٨ ، ح ٨٠٢٣ ، باب قضاء شهر رمضان إن شاء متفرقا وإن شاء متتابعا .
أجمع علماء أهل السنة علی أمرين :
١ ـ آيات القرآن لا تثبت إلا بالتواتر ، فأي جملة نسبت للقرآن ، ولم يتواتر نقلها كقرآن فهي عندهم ليست من القرآن قطعا (١) .
٢ ـ نسخ أية آية من القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وما لم يتحقق التواتر فليست بمنسوخة قطعا .
واتفقوا أيضا علی أن وجوه الصحابة ادعوا قرآنية بعض الجمل والمقاطع التي ورد بعضها في صحيحي البخاري ومسلم ، وقال أهل السنة : إن تلك الجمل قرآن نزل من السماء ، وبعد أن قرأه الناس وتعبدوا به رفعه الله عز وجل ونسخت تلاوة تلك الآيات ، وعلی هذا نقول :
١ ـ كيف أثبت أهل السنة بأخبار آحاد قرآنية هذه السور والجمل الآتية ، مع أنها ليست من القرآن في نظرهم بعد أن كانت من أخبار الآحاد التي لا يثبت بها القرآن قطعا ؟!
فهذا إذن تحريف للقرآن بالزيادة ، لأنهم قالوا بقرآنية ما ليس بقرآن .
٢ ـ سلمنا جدلا أن أهل السنة أثبتوا قرآنية كل تلك الجمل بالتواتر ـ ولن يثبتوا ـ فلماذا لم تكتب في المصحف ؟! فإن قيل : نسخت تلاوته ! نقول : أين تواتر نسخها الذي هو شرط لوقوع النسخ ؟!
وحيث أن شرط النسخ غير متحقق ، فيثبت تحريف القرآن بالنقيصة لأن مصحفنا اليوم لا يحوي تلك الجمل التي ادّعی الصحابي قرآنيتها .
___________
(١) وقد مرت كلماتهم في القراءات الشاذة فراجع .
وعلی العادة نعقب كلامنا بما يؤيده من كلمات أهل السنة ، وهذا ما قاله أحدهم وهو الأستاذ محمد سعاد :
لا نستطيع الاقتناع بصحة وجود المنسوخ تلاوة الثابت حكما ؛ لأن صفة القرآنية لا تثبت لنصّ إلا بدليل قطعي ، والنسخ الوارد علی القطعي لابد أن يكون قطعياً . فلابد لإثبات كون النصوص المذكورة قرآنا منسوخا من دليلين قطعيين ، أحدهما : دالّ علی ثبوت القرآنية للنّص . وثانيهما : دال علی زوال هذه الصفة . وواحد من الدليلين لم يقم لواحد من تلك النصوص ، فلا يتم كونه قرآنا منسوخا ، فلا يصح عندنا في موضع الخلاف إلا القول بثبوت النسخ في الحكم دون التلاوة (١) .
فنخلص إلی أن التحريف ثابت لأهل السنة ، سواء قالوا بنسخ التلاوة أم لا ؛ لأن مجرد قبولهم الروايات التي فيها ادعاء الصحابي قرآنية ما ليس في مصاحفنا يلزمهم التحريف بالزيادة أولا ؛ لأنهم أدخلوا في القرآن ما لم يتواتر نقله كقرآن ، وهو شرط لثبوت القرآنية .
ولو أثبتوا قرآنيتها بالتواتر ـ ولن يثبتوا ـ ، فيقال لهم : أين ذهبت هذه الآيات ؟ فإن ادعوا نسخ تلاوتها تهربا من القول بنقص القرآن ، فنقول لهم : إن هذه الدعوی باطلة ؛ لأن وقوع نسخ التلاوة للآية إنما يثبت بالتواتر وحيث إن نسخ تلك الآيات لم يتواتر فلم تنسخ ، فلا مفر لهم إلا القول بفقدانها من المصحف ، وهذا عين التحريف بالنقيصة ، لذا فالموارد الآتية
___________
(١) صيانة القرآن من التحريف : ٣٠ .
تثبت التحريف بلا أدنی شبهة ، فاحفظ هذا الاستدلال بشقيه ، ولا داعي لتكراره في كل مورد (١) .
___________
(١) واتضح إلی هنا أن نسخ التلاوة بالإضافة لكونه مبنی هشا متآكلا كما مر في مبحثه ، لا ينفي التحريف بل يثبته ، فلا ضرورة للإطالة السابقة في مناقشة نسخ التلاوة لإثبات تحريف القرآن عند أهل السنة ، إذ هو ثابت سواء قلنا بنسخ التلاوة أو لم نقل .
( قسم السور )
أولا : زيادة سورتي الحفد والخلع للقرآن !
هذا نص سورة الخلع المزعومة :
(اَللّهُمّ إِنّا نَسْتَعِيْنُك وَنَسْتَغْفِرُكَ ونُثْنِيْ عَلَيْكَ اَلْخَيْرَ ، ولا نَكْفُرُك ، ونَخْلَعُ ونَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُك)
وهذا نص سورة الحفد المزعومة :
(اَللّهُمّ إيّاكَ نَعْبُدُ ، ولَكَ نُصَلِّي ، ونَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَی ونَحْفِدُ نَرْجُوْ رَحْمَتَكْ ونَخْشَی عَذَابَكَ الجَدّ إِن عَذَاْبَكَ بِالكُفّاْرِ مُلحِقٌ)
روايات أهل السنة القائلة أنهما قرآن منزل :
لنستعرض بعض رواياتهم التي تدل علی أنهما سورتان كغيرهما من سور القرآن ، وهذا يتم من ناحيتين : فتارة تنص تلك الروايات علی أنهما سورتان ، وأن بعض الصحابة كان يقرأ بهما في صلاته بل ومنهم من يحلف بالله أنهما نزلتا من السماء ، وتارة أخری تدعي الروايات أن بعض الصحابة كانوا يكتبون السورتين بين سور مصاحفهم ، وهاك نبذة منها :
النص علی كونهما سورتين :
أخرج محمد بن نصر
والطحاوي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يقنت بالسورتين (اللهم إياك نعبد) و (اللهم إنا نستعينك)
. وأخرج محمد بن نصر عن عبد الرحمان بن أبزي قال : قنت عمر رضي الله عنه بالسورتين
.
وأخرج محمد بن نصر عن عبد الرحمان بن أبي ليلی أن عمر قنت بهاتين السورتين : (اللهم إنا نستعينك) و (اللهم إياك نعبد) (١) .
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن سويد الكاهلي أن عليا قنت في الفجر بهاتين السورتين : (اللهم إنا نستعينك ... ) (٢) .
وأخرج محمد بن نصر عن سفيان قال : كانوا يستحبون أن يجعلوا في قنوت الوتر هاتين السورتين : (اللهم إنا نستعينك) و (اللهم إياك نعبد) . وأخرج محمد بن نصر عن إبراهيم قال : كان يقرأ في الوتر السورتين : (اللهم إياك نعبد) (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك) .
وأخرج محمد بن نصر عن الحسن قال : نبدأ في القنوت بالسورتين ، ثم ندعو على الكفار ، ثم ندعو للمؤمنين والمؤمنات .
وأخرج محمد بن نصر عن خصيف قال : سألت عطاء بن أبيّ رباح : أي شيء أقول في القنوت قال : هاتين السورتين اللتين في قراءة أُبي : (اللهم إنا نستعينك) و (اللهم إياك نعبد) .
___________
(١) الدر المنثور ٦ : ٤٢٠ (ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد) ، أقول : قد يتبادر إلی الذهن أن القنوت بهما يدل علی كونهما دعاء ، وليس كذلك ، فإن القرآن يصح أن يقرأ كدعاء مثل قوله تعالی (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران : ٨) .
(٢) الدر المنثور ٦ : ٤٢٠ .
وأخرج ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر عن ميمون بن مهران ، قال في قراءة أُبيّ بن كعب : (اللهم إنا نستعينك) (١) .
وعن أبي إسحاق قال : أمّنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان ، فقرأ بهاتين السورتين (إنا نستعينك) و (نستغفرك) (٢) .
وأخرج محمد بن نصر عن عطاء بن السائب ، قال : كان أبو عبد الرحمان يقرئنا (اللهم إنا نستعينك) زعم أبو عبد الرحمان أن ابن مسعود كان يقرئهم إياها ، ويزعم أن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم كان يقرئهم إياها (٣) .
وأخرج أبو الحسن القطان في المطولات عن أبان بن أبي عياش قال : سألت أنس بن مالك عن الكلام في القنوت فقال : (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك) قال أنس : والله إنْ أنزلتا إلا من السماء ! (٤) .
وأخرج محمد بن نصر عن يزيد بن أبي حبيب قال : بعث عبد العزيز بن مروان إلی عبد الله بن رزين الغافقي فقال له : والله إني لأراك جافيا ما أراك تقرأ القرآن ! قال : بلی والله إني لأقرأ القرآن وأقرأ منه ما لا تقرأ به . فقال له
___________
(١) الدر المنثور ٦ : ٤٢٢ .
(٢) مجمع الزوائد ، ٧ : ١٥٧ (باب فيما نسخ) وعلق عليه بـ (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) وعن الإتقان في علوم القرآن ١ : ٦٥ ، أقول : واضح أن الصلاة لا تتم بقراءة غير القرآن .
(٣) الدر المنثور ٦ : ٤٢٢ .
(٤) الدر المنثور ٦ : ٤٢٠ (ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد) .
عبد العزيز : وما الذي لا أقرأ به من القرآن ! قال : القنوت ، حدثني علي بن أبي طالب أنه من القرآن (١) .
ولا أری نصوصا هي أوضح وأجلی مما سبق لإثبات جزئيتهما من القرآن في نظر سلفهم الصالح .
أما في مذهب أهل البيت عليهم السلام الذي يدين به الشيعة ، فإن كل تلك الروايات وغيرها التي تفيد المعنی المزبور مرفوضة ، وعرض الجدار مضربها .
دمج بعض الصحابة لهما في المصحف علی أنهما سورتان :
قال ابن الضريس في فضائله : أخبرنا موسی بن إسماعيل ، أنبانا حماد قال : قرأنا في مصحف أُبيّ بن كعب (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك) قال حماد : هذه الآن سورة . واحسبه قال : (اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد وإليك نسعی ونحفد ، نخشی عذابك ، ونرجو رحمتك ، إن عذابك بالكفار ملحق) (٢) .
وفي مصحف ابن عباس قراءة أُبيّ وأبي موسی (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ، ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من
___________
(١) الدر المنثور ٦ : ٤٢٠ .
(٢) نفس المصدر .
يفجرك) . وفي مصحف حجر (اللهم إنا نستعينك) (١) .
أخرج البيهقي إن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ... ) قال ابن جريج : حكمة البسملة أنهما سورتان في مصحف بعض الصحابة .
وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أُبيّ بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين ، فذكرهما وأنه كان يكتبهما في مصحفه (٢) .
وفي مصحف ابن مسعود مئة واثنتا عشرة سورة ؛ لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ست عشرة ؛ لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع (٣) .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، ومحمد بن نصر والبيهقي في سننه عن عبيد بن عمير : أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ... ) وزعم عبيد أنه بلغه أنهما سورتان من القرآن من مصحف ابن مسعود (٤) .
شبهة !
قد يقال : إن تلك الروايات التي تحكي كتابة السورتين في مصحف كل
___________
(١) نفس المصدر .
(٢) ، (٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٦٥ ، ط . الحلبي الثالثة .
(٤) الدر المنثور ٦ : ٤٢١ .
من أُبيّ بن كعب وابن مسعود (١) وابن عباس لا يستفاد منها إلحاقها كسورتين مثل بقية سور القرآن ، وإنما كتبتا كذكر ودعاء ، في آخر المصحف حتی يسهل إيجادهما وقراءتهما ، فليس كل ما يضاف في آخر المصحف يعتبر من القرآن المنزل ، وهذا أشبه بما يفعل اليوم من دمج دعاء ختم القرآن في آخره ، وهذا لا يعني أنه دمج كسورة في المصحف .
وهذا الكلام غير صحيح ؛ لأن الروايات صريحة في كونهما سورتين ولم يعهد التعبير عن الدعاء بالسورة ، ثم إن رواياتهم بينت محل السورتين في مصحف بعض الصحابة وكيفية وضعها فيه :
فائدة : قال ابن أشته في كتاب المصاحف : أنبأنا محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو جعفر الكوفي قال : هذا تأليف مصحف أُبيّ : الحمد ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم يونس ثم الأنفال ـ إلی أن يقول ـ ثم الضحی ثم ألم نشرح ثم القارعة ثم التكاثر ثم العصر ثم سورة الخلع ثم سورة الحفد ثم ويل لكل همزة ... إلخ (٢) .
وقال ابن النديم في الفهرست : باب ترتيب القرآن في مصحف أُبيّ بن كعب : ... الصف ، الضحی ، ألم نشرح لك ، القارعة ، التكاثر ، الخلع ثلاث
___________
(١) هذه النسبة لمصحف ابن مسعود وقعت محل كلام وخلاف .
(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٦٤ ، ط . الحلبي .
آيات ، الحفد ست آيات اللهم إياك نعبد وآخرها بالكفار ملحق ، اللمز ، إذا زلزلت ، العاديات ، أصحاب الفيل ، التين ، الكوثر ، القدر ، الكافرون ، النصر أبو لهب ، قريش ، الصمد ، الفلق ، الناس ، فذلك مئة وست عشرة سورة ، قال : إلی هاهنا أصبحت في مصحف أُبيّ بن كعب وجميع آي القرآن في قول أُبيّ بن كعب ستة آلاف آية ومئتان وعشر آيات وجميع عدد سور القرآن (١) .
وعليه فالسورتان المزعومتان وقعتا بين السور ، وترتيبهما بهذا النحو في مصحف أُبيّ بن كعب شاهد علی أنهما دمجتا كسورتين من سور المصحف لا كدعاء ألحق في آخر صفحاته ! بل إن راوي الرواية قد صرّح بكونهما سورتين ، فجزئيتهما واضحة لا غبار عليها ، ومما يزيد الأمر وضوحا هذه الرواية :
وأخرج محمد بن نصر عن الشعبي قال : قرأت أو حدثني من قرأ في بعض مصاحف أُبيّ بن كعب هاتين السورتين : (اللهم إنا نستعينك) ، والأخری بينهما (بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ) قبلهما سورتان من المفصل وبعدهما سور من الفصل (٢) .
وواضح من موضع السورتين في المصحف أن دمجهما كان باعتبار قرآنيتهما ، وإلا لو كانتا دعاءً لما صح أن توضعا بين السور ، بل توضعا في آخر المصحف أو في هامش الصفحات ، وهذا التقريب ليس بذاك الشيء بعد
___________
(١) الفهرست ١ : ٤٠ .
(٢) الدر المنثور ٦ : ٤٢٠ ، وللزيادة تراجع روايات سورتي الخلع والحفد في الدر المنثور .
صراحة الروايات السابقة ونصها علی أنهما سورتان .
من عدهما سورتين من الصحابة والتابعين
يمكن أن تزودنا نظرة عابرة في رواياتهم بقائمة كبيرة من أسماء سلفهم الصالح الذين كانوا يقولون بقرآنيتهما ، وهم : أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، وأبو موسی الأشعري ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي ، وسفيان الثوري ، والحسن البصري ، وعطاء بن رباح ، وأبو عبد الرحمان بزعم عطاء بن السائب ، وقد قال ابن عباس وعبد الرحمان بن أبي ليلی وعبد الرحمان بن أبزی وعبيد بن عمير : إن عمر بن الخطاب كان يقرأ هاتين السورتين في الصلاة .
وسيأتي ذكر كلمات علماء أهل السنة الذين صرحوا بأن هذين المقطعين سورتان في مصاحف بعض الصحابة كبقية سور القرآن .
ومن الغريب أن علّامتهم جلال الدين السيوطي قد وضع هذه الجمل التي لا ترقی لمستوی البلاغة القرآنية في آخر تفسيره الدر المنثور بعد المعوذتين إيمانا منه بأنهما سورتان من القرآن ! ولا أدري كيف خفي عليه وهو رجل أدب وحليف لغةٍ وبلاغة ما لأسلوبها من اضمحلال وضعف عن رونق الإعجاز القرآني ، وليت شعري كيف نحتج باعجاز القرآن وبلاغته علی غير أهل ملتنا مع تجويز دخول تلك العبارات في حريم القرآن ، أفلا ينفيها إعجازه البلاغي ؟!
أين ذهبت ؟!
السؤال المهم الذي علی
أهل السنة الإجابة عنه هو أين ذهبت هاتان
السورتان ؟ ، ولماذا لم تكتبا في المصحف زمن عثمان ؟ خاصة وأن الصحابة كانوا يقرأونها بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم بمدة طويلة بعد زمن عثمان ، وكتبوهما في مصاحفهم ، بل كان الخليفة وغيره من التابعين يؤمّون الناس بهما في الصلاة ولا من نكير أو معترض !
ثانيا : إخراج سورتي الفلق والناس عن حريم القرآن !
هذا نوعٌ آخر من التحريف وهو إنكار المسلّم الثابت ضرورة بإجماع المسلمين ، فبعض كبار الصحابة أنكر هذا الضروري وقال بنفي قرآنية المعوذتين ، بل ادعی نزولهما من السماء كعوذتين عوّذ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم بهما الحسنين سيدي شباب أهل الجنة عليهما السلام ، وكان هذا الصحابي متجاهرا بذلك يجادل فيه أهل لا إله إلا الله الذي اجمعوا علی خلافه ، بل ويحكّها من المصحف بدعوی أنها ليست منه ! وهذا ما نصت عليه أصح الروايات عند أهل السنة وكذا ذكرته روايات الشيعة .
من هو ابن مسعود ؟
عبد الله بن مسعود الصحابي غني عن التعريف ، ولنقتصر في الكلام عنه بما جاء في الإصابة لابن حجر : عبد الله بن مسعود . أحد السابقين الأولين ، أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها ولازم النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم وكان صاحب نعليه ، وحدث عن النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بالكثير . وآخی النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بينه وبين الزبير ، وبعد الهجرة بينه وبين سعد بن معاذ ، وقال له في أول الإسلام : إنك لغلام معلَّم .
وأخرج البغوي من طريق القاسم بن عبد الرحمان بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : قال عبد الله : لقد رأيتني سادس ستة ، وما علی الأرض مسلم غيرنا .
وبسند صحيح عن ابن عباس قال : آخی النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم بين أنس وابن مسعود .
وقال أبو نعيم : كان سادس من أسلم ، وكان يقول : أخذت من في رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم سبعين سورة . أخرجه البخاري . وهو أول من جهر بالقرآن بمكة . ذكره ابن إسحاق عن يحيی بن عروة عن أبيه وقال النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم : من سره أن يقرأ القرآن غضا كما نزل فليقرأ علی قراءة بن أم عبد . وكان يلزم رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم ويحمل نعليه ، وقال علقمة : قال لي أبو الدرداء : أليس فيكم صاحب النعلين والسواك والوساد ، يعني عبد الله .
وقال له رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم : أذنتك علی أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي حتی أنهاك . أخرجهما أصحاب الصحيح . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم : تمسكوا بعهد ابن أم عبد . أخرجه الترمذي في أثناء حديث .
وأخرج الترمذي أيضا من طريق الأسود بن يزيد عن أبي موسی قال : قدمت أنا وأخي من اليمن ، وما نری ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم ؛ لما نری من دخوله ودخول أُمّه علی النبي صلی الله عليه [وآله] وسلم .
وعند البخاري في التاريخ بسند صحيح عن حريث بن ظهير جاء نعي عبد الله بن مسعود إلی أبي الدرداء فقال : ما ترك بعده مثله (١) .
وقد قتل علی يد جلاوزة ابن عفان حينما أمر عثمان بحمله ورميه خارج المسجد ، فأخذ وحُمل ودُقّ بالأرض فتكسّرت أضلاعه ، ومن قبلها عزله عثمان عن عمله بعد أن كان خازنا لبيت مال المسلمين في الكوفة ، وحرمه عطاءه ، ودفن ليلا بوصية منه لعمار رضوان الله تعالی عليه بعد أن استشهد بسبب كسره ، وكان مما أوصی به عمار أن لا يشهد عثمان جنازته ، وقد فعل عمار رضوان الله تعالی عليه ذلك .
مكانة ابن مسعود من القرآن عندهم
روايات أهل السنة تصور لنا ابن مسعود القارئ الأوحدي للقرآن ، وقد اعتنی به رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم أيما اعتناء ، حتی أخذ ابن مسعود من فيه صلی الله عليه وآله وسلم سبعين سورة ، وقد ذكرت رواياتهم أن : من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا ، كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن مسعود ، وذكرت أيضا أنه صلی الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة بأن يأخذوا القرآن من أربعة ، وشيخهم المتربع علی عرشهم هو ابن مسعود ، وهذه من تلك الروايات :
أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم أمر
___________
(١) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٣٣ ، ت ٤٩٥٧ .
الصحابة باستقراء القرآن من أربعة : أولهم ابن سعود .
قال عبد الله بن عمرو : إن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً . وقال : إن أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقاً . وقال : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولی أبي حذيفة وأُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل (١) .
وفي صحيح مسلم أن ابن مسعود رد نصيحة من نصحه بالقراءة علی قراءة زيد قائلا : علی قراءة من تأمروني أن أقرأ ؟! فلقد قرأت علی رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم بضعاً وسبعين سورة ، ولقد عَلِم أصحاب رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم أنّي أعلمهم بكتاب الله ، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه ، قال شقيق : فجلست في حَلَق أصحاب محمد صلی الله عليه [وآله] وسلم فما سمعت أحدا يردُّ ذلك عليه ولا يعيبه (٢) .
فتدل هذه علی أن ابن مسعود لا يری أحدا أعلم بالقرآن منه ! وهو مفاد رواية أُخری أخرجها مسلم : والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلّا أنا أعلم حيث نزلت ، وما من آية إلّا أنا أعلم فيما أنزلت ، ولو أعلم أحدا
___________
(١) صحيح البخاري (كتاب فضائل الصحابة) باب مناقب عبد الله بن مسعود ٤ : ١٩٩ .
(٢) صحيح مسلم ٧ : ١٤٨ ، لعل شقيقا هذا لم يجلس عند معلم الكل بعد رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وهو الإمام علي عليه السلام .
هو أعلم بكتاب الله مني تبلغُه الإبل لركبت إليه (١) .
___________
(١) نفس المصدر .
أقول : مما لا ريب فيه أن هذا الكلام باطل ، ويكاد يغلب علی ظني أنها من نسج بني أمية الذين عمدوا لفضائل وأقوال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فنسبوها لغيره من الصحابة ، والقول السابق مشهور عنه عليه السلام ، قال العلامة الأميني رضوان الله تعالی عليه في الغدير ٦ : ١٩٣ ـ ١٩٥ : ... ويرفع عقيرته علی صهوات المنابر بقوله سلام الله عليه : ((سلوني قبل أن لاتسألوني ولن تسألوا بعدي مثلي)) . (أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ : ٤٦٦ وصححه هو ، والذهبي في تلخيصه) .
وقوله عليه السلام : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالی ولا سنة عن رسول الله صلی الله عليه [وآله] وسلم إلا أنبأتكم بذلك (أخرجه ابن كثير في تفسيره ٤ : ٢٣١ من طريقين وقال : ثبت أيضا من غير وجه) وقوله عليه السلام : سلوني والله لا تسألوني عن شيء يكون إلی يوم القيامة إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل . (أخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم ١ : ١١٤ ، والمحب الطبري في الرياض ٢ : ١٩٨ ، ويوجد في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٢٤ ، والإتقان ٢ : ٣١٩ تهذيب التهذيب ٧ : ٣٣٨ ، فتح الباري ٨ : ٤٨٥ ، عمدة القاري ٩ : ١٦٧ ، مفتاح السعادة ١ : ٤٠٠) .
وقوله عليه السلام : ألا رجل يسأل فينتفع وينفع جلساءه . (أخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم ١ : ١١٤ ، وفي مختصره : ٥٧) .
وقوله عليه السلام : والله
ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أُنزلت ، وأين أُنزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ، ولسانا سؤولا . (أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ١ : ٦٨ ، وذكره
___________
صاحب مفتاح السعادة ١ : ٤٠٠) .
وقوله عليه السلام : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، وما من آية إلا وأنا أعلم حيث أنزلت بحضيض جبل أو سهل أرض ، وسلوني عن الفتن ، فما من فتنة إلا وقد علمت من كسبها ومن يقتل فيها . (أخرجه إمام الحنابلة أحمد وقال : روي عنه نحو هذا كثيرا (ينابيع المودة ص ٢٧٤) .
وقوله عليه السلام وهو علی منبر الكوفة ، وعليه مدرعة رسول الله صلی الله عليه واله وسلم ، وهو متقلد بسيفه ومتعمم بعمامته صلی الله عليه واله وسلم ، فجلس علی المنبر وكشف عن بطنه فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنما بين الجوانح مني علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلی الله عليه واله وسلم ، هذا ما زقني رسول الله صلی الله عليه واله وسلم زقا زقا ، فو الله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتی ينطق الله التوراة والإنجيل فيقولان : صدق عليٌّ قد أفتاكم بما اُنزل فيَّ وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون . (أخرجه شيخ الإسلام الحمويني في فرائد السمطين عن أبي سعيد) .
وقال سعيد بن المسيب : لم يكن أحد من الصحابة يقول : سلوني . إلا علي بن أبي طالب وكان إذا سئل عن مسألة يكون فيها كالسكة المحماة ويقول :
والأهم من هذا كله أن ابن مسعود كان آخر الصحابة عهدا بالوحي وعرضة القرآن الأخيرة علی النبي صلی الله عليه وآله وسلم ، ولسان الرواية يقول : إن ابن مسعود علم ـ بزعمهم ـ ما نُسخ وما بُدّل من الآيات ، وعليه فابن مسعود في رواياتهم أعلم الصحابة بالقرآن ، ويحتم علينا الرجوع له في معرفة نصوصه ؛ لأن قراءته هي القراءة التي استقر عليها كتاب الإسلام
___________
إذا المشكلات تصدين لي |
|
كشفت حقائقها بالنظر |
فإن برقت في مخيل الصواب |
|
عمياء لا يجتليها البصر |
مقنعة بغيوب الأُمور |
|
وضعت عليها صحيح الفكر |
لسانا كشقشقة الأرحبي |
|
أو كالحسام اليماني الذكر |
وقلبا إذا استنطقته الفنون |
|
أبر عليها بواه درر |
ولست بإمعة في الرجال |
|
يسائل هذا وذاما الخبر ؟ |
ولكنني مذرب الأصغرين |
|
أبين مع ما مضی ما غبر |
(أخرجها أبو عمر في العلم ٢ ص ١١٣ ، وفي مختصره : ١٧٠ ، والحافظ العاصمي في زين الفتی شرح سورة هل أتی ، والقالي في أماليه ، والحصري القيرواني في زهر الآداب ١ : ٣٨ والسيوطي في جمع الجوامع كما ترتيبه ٥ : ٢٤٢ ، والزبيدي الحنفي في تاج العروس ٥ : ٢٦٨ نقلا عن الأمالي . وذكر منها البيتين الاخيرين الميداني في مجمع الأمثال ٢ : ٣٥٨ اه ، وهو في تفسير القرطبي ١ : ٣٥ ، فتح الباري ٨ : ٥٩٩ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٢٩٧ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٤٨٧ ، الطبقات الكبری ٢ : ٣٣٩) .