إعلام الخلف - ج ١

صادق العلائي

إعلام الخلف - ج ١

المؤلف:

صادق العلائي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الآفاق للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠١
الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣

يكتب ذلك عنه بالغدر!، فعن الطبقات الكبرى : عن الشعبي : أن مروان دعا زيد بن ثابت ، وأجلس له قوما خلف ستر ، فأخذ يسأله وهم يكتبون ففطن زيد ، فقال : يا مروان! أغدرا إنما أقول برأيي! (١)

ورواياتهم صريحة في أنه كان يقتي بلا تثبت : حدثنا أيوب عن عكرمة : أن ناسا من أهل المدينة سألوا ابن عباس عن امرأة حاضت بعدما أفاضت. فقال : تنفر. فقالوا : ما نبالي أفتيتنا أم لا وزيد بن ثابت يقول : لا تنفر. فقال ابن عباس : إني لأقول ما أعلم ولا أبالي أخذتم به أو لم تأخذوا به ، ولكن إذا قدمتم المدينة فسلوا أم سليم وغيرها. فأخبرتهم أن عائشة قالت لصقية : أفي الخيبة أنت ، إنك لحابستنا!فقال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : ما ذلك! فقالت عائشة : صفية حاضت. قال : قيل إنها قد أفاضت. قال : فلا إذن. قال ك فرجعوا إلى ابن عباس فقالوا : وجدنا الحديث على ما حدثتنا. (٣)

وكذا : عن عكرمة قال سأل أهل المدينة إبن عباس عن امرأة طافت بالبيت يوم النحر ثم حاضت فقال : تنفر. فقالوا : لا نأخذ بقولك وهذا زيد ابن ثابت يخالفك. قال : إذا أتيتم المدينة فسلوا. فلما قدموا المدينة سألوا فأخبروهم بصفية وكان فيمن سألوا أم سليم فأخبرتهم بصفية. (٣)

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ : ٢٧٦ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ٤٣٨، وذكر في آخره (رواه ابراهيم بن حميد الرؤاسي عن ابن أبي خالد ، نحوه وزاد : فمحوه).

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٢٥ : ١٢٩، ح ٣١٤.

(٣) المعجم ٥ : ١٦٣، ح ٩٥٤٢. وعلق عليه الطبراني (ورواه البخاري في الصحيح عن أبي النعمان

٣٤١

بل كان يعترض على ابن عباس في قوله السابق وعندما يعلم زيد بخطئه ينتابه الضحك!: عن طاوس قال : منت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت : أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ قال : نعم. قال : فلا تفت بذلك. فقال ابن عباس : أما لى ، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم؟ قال : فرجع إليه زيد بن ثابت يضحك ويقول : ما أراك إلا قد صدقت!. (١)

وفي رواياتهم أيضا أن ابن الخطاب عندما بلغته فتوى عن زيد في مسألة قال له عمر : يا عدو نفسه! أنت تضل الناس بغير علم!. (٣)

وكان زيد لا يساوي بين المتخاصمين في المعاملة ، فيكيل بالمكيالين ، ويتودد للأمراء دون الناس حال التنازع ، والأدهى طلبه من خصم الخليفة إعفاء الخليفة من اليمين!! وهذه كلها خصال منافية للعدالة :

حدثنا الشعبي قال : كان بين عمر بن الخطاب وبين أبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما تداري في شيء ، وادعى أبي على عمر رضي الله تعالى عنهما ، فأنكر ذلك فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتياه في منزله فلما دخلا عليه قال

__________________

عن حماد قال البخاري: ورواه خالد وقتادة عن عكرمة) وللزيادة راجع ، ح ٩٥٤٢٣ و ٩٥٤٤ و ٩٥٤٥ من نفس الجزء.

(١) المعجم ٥ : ١٦٣ ، ح ٩٥٤٠ ، وأخرجه بطريق آخر ، وعلق عليه الطبراني : (رواه المسلم في الصحيح عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد).

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٥ : ٤٢ ، ح ٤٥٣٦.

٣٤٢

له عمر رضي الله تعالى عنه : أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم. فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال : ههنا يا أمير المؤمنين. فقال له عمر رضي الله تعلى عنه : لقد جرت في الفتيا ، ولكن أجلس مع خصمي. فجلسا بين يديه فادعى أبي وأنكر عمر رضي الله عنهما فقال زيد لأبي : أعف أمير المومنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر رضى الله عنه ثم أقسم لا يدرك زيد بن ثابت القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء. (١)

أنبأ شعبة عن سيار قال سمعت الشعبي قال : كان بين عمر وأبي رضي الله تعالى عنهما خصومة فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلا قال : فجعلا بينهما زيد بن ثابت قال : فأتوه قال : فقال عمر رضى الله تعالى عنه : أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم. قال : فلما دخلوا عليه أجلسه معه على صدر فراشه. قال : فقال : هذا أول جور جرت في حكمك ، أجلسني وخصمي مجلسا ، قال فقصا عليه القصة. قال : فقال زيد لأبي : اليمين على أمير المؤمنين ، فإن شئت أعفيته. قال فأقسم عمر رضي الله تعالى عنه على ذلك ، ثم أقسم له لا تدرك باب القضاء حتى لا يكون لي عندك على أحد فضيلة. (٣)

وقد زاد هنا في الطنبور نغمة! إذ اتضح أنه لا يهتم بشرائط القضاء عندما يخاصم ولا يمتثل لما يؤمره القاضي به! : عن داود بن الحصين إنه سمع أبا

__________________

(١) السنن الکبرى ١٠ : ١٣٦ ، ح ٢٠٢٥٠.

(٢) نفس المصدر ١٠ : ١٤٤، ح ١٠٢٩٧. راجع تاريخ المدينة لابن شبة ٢ : ٧٥٥ ـ ٧٥٦.

٣٤٣

غطفان بن طريق المزيد قال : اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار ، فقضى باليمين على زيد بن ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار ، فقضى باليمين على زيد بن ثابت على المنبر فقال زيد : احلف له مكاني. قال مروان : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق. فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ، ويأبى أن يحلف على المنبر ، فجعل مروان يعجب من ذلك. (١)

وهذا نوع آخر من أحكام زيد بن ثابت : عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت كانت له جارية فارسية وكان يعزل عنها فجاءت بولد ، فأعتق الولد وجلدها الحد (!) ، وقال : إنما كنت استطبت نفسك ، ولا أريدك. وفي رواية قال ك ممن حملت؟ قالت : منك! ، فقال : كذبت ، وما وصل إليك مني ما يكون منه الحمل وما أطؤك إلا أني استطبت نفسك. (٣)

فمثل زيد بن ثابت هذا لا يكاد يصلح لهذه المهمة الخطرة المصيرية ، فها هو يجعل رأيه واستحسانه طريقا لمصادرة ميراث الورثة الشرعيين ويضعه في بيت المال!، ويجيب مروان على مسائله برأيه ، ويفتي بغير علم وبعد أن يتضح له الأمر يضحك ويهش ويبش بدلا من الندم ، ويحيف في حكمه ويتودد للأمراء حال التقاضي ، ولا يلتزم بشرائط القضاء ، فمثل هذا الشخص لا يمكن أن يطمأن لجمعه ، فكيف وهو حدث السن أيضا؟!

والأخطر من ذلك كله أنه عبد مطيع لما يميله الحاكم ، يداهن ويجامل على حساب حفظ القرآن من التحريف!، فقد أخرج أبو عبيد وسعيد وابن جرير

__________________

(١) السنن الكبرى ١٠ : ١٧٧، ح ٢٠٤٨٤.

(٢) المغني ١٠ : ٤١٢.

٣٤٤

وابن المنذر وابن مردوية عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري: أن عمربن الخطاب قرأ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسان) (١) ، فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في (الَّذينَ) فقالله زيد بن ثابت : (وَالَّذينَ) فقال عمر : (الَّذينَ) فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم (!!). فقال عمر رضي الله عنه : ائتوني بأبي بن كعب ، فاتاه فسألة عن ذلك ، فقال أبي : (وَالَّذينَ) فقال عمر رضي الله عنه : فنعم إذن فتابع أبيا. (٢)

فلو كان عمر يرى مصداقية ووثاقة لكلام زيد لما انصرف عنه إلى أبي بن كعب وطلب رأيه ، وبعد هذه كله كيف يوثق بجمع زيد هذا ، وكيف يضرب باعتراض ابن مسعود على شخص زيد عرض الجدار؟!

٤ ـ التهاون في توقيفية السور والآيات!!

وهنا أمر عجيب! تحكي رواياتهم حال جامعي القرآن وما كانوا عليه من التهاون في إثبات نصوصه ،فكانوا يثبتون ما أرادوا من الآيات لما أرادوا من السور! وعلى استعداد لاختراع سور جديدة وجعلها من القرآن بتقطيع بعض الآيات منه ، وهو أمر جائز في نظرهم ولم يكن بذاك العزيز ، بل كان على وشك التنجيز عند جمعهم للقرآن!

__________________

(١) التوبة : ١٠٠.

(٢) الدر المنثور٣ : ٢٦٩.

٣٤٥

التهاون في توقيفية السور :

أخرج الحاكم وأبو داود والنسائي وابن حبان وأحمد والترمذي : عن ابن عباس ، قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ن وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم) ووضعتموها في السبع في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها ، فقبض رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم) فوضعتها في السبع الطوال. (١)

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٢ : ٢٢١ و ٣٣٠ وعلق عليه الحاكم (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي ، سنن أبي داود ، ح ٧٨٦ في الصلاة باب جهر بها ، سنن الترمذي ، ح ٣٠٨٦ في التفسير باب ومن سورة التوبة ، وحسنه ، النسائي (في فضائل القرآن):٣٢ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٤٢ ، والمصاحف لابن أبي داود : ٣١ ـ ٣٢ ، وصحيح ابن حبان ١ : ٢٣٠ ، ح ٤٣. والترمذي ٥ : ٢٧٢ ، ح ٣٠٨٦ (باب ومن سورة التوبة) قال الترمذي :

٣٤٦

قال العسقلاني تعليقا على الرواية السابقة : ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى النفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه ، ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود. (١)

وهذه الرواية تدل على أن خليفة المسلمين والصحابة ليسوا على علم بحال سورة التوبة ، هل هي سورة لوحدها أم تكملة لسورة الأنفال!، والأدهى أن ابن عفان لا ينسب هذا الجهله ولجهل من حوله ، وإنما يدعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهمل أمر هذا القرآن ، فلم يبين لهم هل هي سورة بحد ذاتها أم لا؟!

وليس في هذا القسم مشكلة سوى :

١ ـ جهل جامعي المصحف بسور القرآن.

٢ ـ يجعل عثمان اجتهاده سبيلا لتقسيم سور القرآن بحذف البسملة،لا أن أصل السورة لا بسملة فيها!

٣ ـ إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهمل أمر القرآن ، حتى لم يستطع كبار الصحابة وكتاب الوحي التمييز بين السور!

حتى قال القرطبي في تفسيره : وقول رابع قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة. وقال

__________________

(هذا حديث حسن صحيح).

(١) فتح الباري ٩ : ٤٢ ، فضائل القرآن.

٣٤٧

بعضهم : هما سورتان. فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنهما سورتان ، وتركت (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم) لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف. (١)

التهاون في توقيفية الآيات

الجمع زمن عمر :

أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبي داود ، عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال : أتى الحرث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم‏) (٣) إلى عمر بن الخطاب فقال : من معك على هذا؟ قال : لا أدري والله ، وغني أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعتها في آخر براءة. (٣)

وهذه الرواية واضحة في أن المتصدي لجمع القرآن كان على درجة كبيرة

__________________

(١) تفسير القرطبي ٨ : ٦٢.

(٢) التوبة : ١٢٨.

(٣) كتاب المصاحف لابن ابي داود ١ : ٢٢٦ تحقيق محب الدين واعظ ، مسند أحمد ١ : ١٩٩الطبعة الميمنية ، مجمع الزوائد للهيثمي المجلد السابع : ٣٥ وعلق عليه (رواه أحمد وفيه ابن اسحاق وهو مدلس وبقية رجاله ثقات) ، وهو في كنز العمال ٢ : ٤٢١ ، ح ٤٣٩٨ (سورة التوبة) ، والدر المنثور ٣ : ٢٩٦ ط. دار المعرفة ، وفي فتح الباري لابن حجر ٩ : ١٥.

٣٤٨

من الجرأة وحرية التصرف في توزيع آيات القرآن! وكأنه يرى أن تقسيم آي القرآن خاضع لاجتهاد ورأي الخليفة فقو ـ له: لو كانت ثلاث آيات لجعلها سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها في آخرها ، واضح فيه، ويستفاد منها أن هاتين الآيتين ليستا في محلهما الصحيح من القرآن ، بل أقحمتا في مكان وقع اختيارهم عليه ، وهو آخر براءة.

الجمع زمن عثمان :

ومما أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف : فقام عثمان فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ـ وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان ـ فجاءه خزيمة بت ثابت فقال : إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا : ما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) (١) إلى آخر السورة ، فقال عثمان : فأنا أشهد أنهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة. (٣)

وهذه تنص على أن دمج الآيات المتفرقة في السور لم يكن توقيفيا ، فقول ابن عفان : (فأين ترى أن نجعلهما؟) واضح في عدم معرفته بمكان الآيتين

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) كتاب المصاحف لابن أبي داود ١ :١٨٢، ح ٣٣ وهو منقطع كما مر. وهو في كنز العمال ٢ : ٣٦١ (جمع القرآن) وفتج الباري ٩ : ١٥ ،أقول من غير المعقول أن تتكرر الحادثة بنفسها مع عمر وعثمان ، ولكنا ندور مع رواياتهم في هذا المقام.

٣٤٩

من القرآن ، وكذا حال المجيب بقرينة جوابه الذي لم يحدد فيه اسم السورة وإنما قال : (آخر ما نزل من القرآن!). أي سواء كانت براءة أم غيرها!، ويقربه نقل العسقلاني للرواية بهذا الشكل:

وقد وقع عند ابن أبي داود من رواية يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إني رأيت تركتم آيتين فلم تكتبوهما! قالوا : وما هما؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة فقال عثمان : وأنا أشهد فكيف ترى أن تجعلهما قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن (١)، أي بدون تحديد اسم السورة المختومة بالآيتين! والعجيب أنهم يرون أن آخر ما نزل من السور هي سورة التوبة ، مع أنها سورة المائدة!!

زيد بن ثابت ينسب العبقرية لنفسه!

وكما ينطبق الأمر على ابن الخطاب وابن عفان كذلك ينطبق على ابن ثابت ، فقد رووا أنه قال نفس تلك الكلمة (ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)!

عن الطبري قال زيد : ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُم) (٣) إلى آخر السورة ، فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد

__________________

(١) فتح الباري ٩ : ٢١.

(٢) التوبة : ١٢٨.

٣٥٠

منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا فأثبتها في آخر براءة ، ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة. (١)

وهو ما فهمه إمامهم الباقلاني حيث قال : لأن زيدا قال : اعترضت المهاجرين والأنصار فلم أجدها ، وهو لا يقول ذلك إلا بعد أن يبالغ في الطلب ، فكره أن يجعلهما سورة على حالها لما لم يجد في القرآن سورة أقل من ثلاث آيات ، فرأى إلحاقها ببراءة أولى. (٣)

وهذا حال زيد وعدم تحرجه عن إعمال استحساناته ورأيه في تقسيم آيات القرآن ، بل لو زاد ما وجده عن آيتين لكانت الآيات سورة مستقلة!، ونخلص إلى أن عدم علمهم بمكان تلك الآيات كان سببا لوضعهما في آخر براءة!

النتيجة :

مع كل هذا وتصريح علمائهم به ، ما الذي يضمن لنا أن بعض السور القصار لم تدخل في غيرها من سور القرآن؟ أو أن بعض الطوال لم تتفرق في غيرها من السور. إذا كان الجامع يقسم الآيات بمزاجه؟، بل ما الذي يمنع من حصول التهاون في عدم طلب بعض الآيات إذا كانت روح التهاون موجودة في نفوس من تصدوا لجمعه ، وقد أثرت هذه الروح في جعل آيتين في سورة

__________________

(١) جامع البیان فی تفسیر القرآن للطبري ١ : ٢١ ، تاريخ المدينة ٣ : ١٠٠١.

(٢) نكت الإنتصار لنقل القرآن : ٣٣٢.

٣٥١

براءة للمزاج والرأي؟!

٥ ـ في المصحف المجموع لحن!!

قال الراغب الأصفهاني : لحن : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف ، وقال الجوهري في الصحاح : اللحن : الخطأ في الإعراب. (١)

من المؤسف أن الخطأ واللحن ادعي في الجمع الثاني للقرآن ، أي الجمع الذي استمر عليه القرآن إلى يومنا الحالي ، ولو ادعي هذا اللحن في جمع أبي بكر لهان الأمر ، والأدهى أن عثمان وهو من أمر بالجمع يدعي أن هنالك أخطأ وقعت في رسم المصحف المجموع وأن الأيام كفيلة بتصحيحه بدل أن يقوم بالدفاع عن جمعه!! وقد ذكر ابن أبي داود في كتابه المصاحف فصلا كاملا عن اللحن في القرآن.

عن عكرمة قال : لما أتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن فقال : لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا. (٣)

عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر القرشي قال : لما فرغ من المصحف أتي به عثمان فنظر فيه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها أخرجه أبو داود بطريقين.

وسيأتي الكلام عنه مفصلا في مبحث آخر ، مع ذكر لبقية الروايات

__________________

(١) الصحاح للجوهري ٦ : ٢١٩٣ ، المفردات للراغب : ٤٤٩.

(٢) كتاب المصاحف لابن أبي داود ١:٢٣٢ وما بعدها.

٣٥٢

ولبقية أفراد فرقة التلحين!

٦ ـ إحراق عثمان للمصاحف أضاع ستة أمثال القرآن

ذكرنا سابقا ما تبناه علماؤهم سلفا وخلفا من أن الأحرف السبعة تعني نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، فحذفت تلك الأحرف والأوجه السبعة من المصحف بأمر من عثمان وأحرقها عيانا ، وقد مرت بعض كلمات علمائهم في ذلك.

وشذ بعض علمائهم فصاروا إلى التأويل ، وتأويلهم هذا خروج عما أملته الأدلة الصريحة كما بيناه فيما سبق ، وسبب هذا التأويل ـ أو قل الهروب ـ هو ما تضمنته تلك الروايات من دعوة لتحريف القرآن ، ومن جهة أخرى عدم إمكانية تبني مسلك الشيعة الطارح لتلك الروايات رأسا ، لذا قالوا : آمنا به كل من عند ربنا ، فما كان لهم منفذ بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت سوى التأويل ، فقالوا إن الأحرف السبعة كلها موجودة في القرآن ، ومصحفنا مشتمل عليها ولم يحذف منه شيء ، وقد مر الكلام عن هذا كله فلا نعيد.

التحريف ثابت على كلتا النظرتين بلا فرق

في رأي جمهور السلف والخلف:

لا أرى أحدا له مسكة من عقل يدعي أن ما فعله ابن عفان ليس حذفا وتحريفا لقرآن منزل ، كيف لا؟ وقد أحرق الأحرف الستة الباقية التي نزل عليها القرآن ، والتي دونت من قبل في مصحف أبي بكر ، ففقدت بتحريق عثمان ستة أضعاف ما هو موجود اليوم في مصحفنا!

٣٥٣

وقد يعتذر لعثمان بأنه أحرق ما قد أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقراءته من باب التوسعة والرخصة ، وها قد انقلبت الرخصة إلى نقمة فيكفي بقاء حرف واحد منها نرفع فيه النقمة.

وهذا غير مقبول لأسباب:

١ ـ الكلام فيه مغالطة لأن جواز الترك شيء وجواز الحذف الإعدام شيء آخر ، والكل يعلم أن المرخص بتركه لا يعني المرخص بحذفه وإلغائه من الدين ، فكتاب الله شأنه بيده عزوجل والتغيير فيه راجع له وحده ، ولا يصح تحريف كتاب الله اعتمادا على الظنون!

ولو أمكن حذف الشيء لأنه من باب التخيير لقمنا بحذف الكفارات المخيرة كما في كفارة إفطار العمد في شهر رمضان ، واقتصرنا على واحدة ، بدعوى أن الجميع رخصة ولا ملزم لأحد منها ، وواضح أن من يفعل هذا يرمى بتحريف أحكام الله عزوجل.

٢ ـ صريح القرآن لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغيير شيء من شؤون التشريع من نفسه مستقلا عن الله عزوجل ، ولا أن يبدل حرفا واحدا من القرآن ، فكيف يصح هذا لغيره فيحذف ستة أمثال القرآن؟

قال تعالى: (وَإِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لي‏ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسي‏ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‏ إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيم) (١) وقال

__________________

(١) يونس:١٥.

٣٥٤

تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزين) (١) وقوله تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‏ إِلَي) (٢) فهذه الآيات المباركة تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس له الحق بتغيير أي كلمة أو حرف من كتاب الله عزوجل ، بل لا يصح له أن يسبق الوحي بسرد ما وقف على علمه مسبقا صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعالى : (ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْني‏ عِلْما) (٣) ، فإن كان الاستعجال في تبليغ ما علمه الله عزوجل له صلى الله عليه وآله وسلم بحذف أضعاف القرآن منه من غير إذن من الله عزوجل ويقال هذا مراد الله عزوجل؟!، (أاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون) (٤).

٣ ـ قولهم : إن الأحرف السبعة أصبحت نقمة يناقض ما نصت عليه رواياتهم من أن هذه الوجوه المتعددة أنزلها الله رحمة لا نقمة (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون) (٥) ، فمن الذي نعتمد تشخيصه فلان وفلان من الصحابة

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

(٢) الأنعام : ٥٠.

(٣) طه : ١١٤.

(٤) يونس : ٥٩.

(٥) النور : ١٩.

٣٥٥

أم الله عزوجل؟!، فلعل الله عزوجل جعل الأحرف المحذوفة حتى تبين لنا منها كثيرا من مبهمات القرآن ومعضلاته وتشريح معانيه شرحا لا يختلف فيه أحد.

٤ ـ سلمنا ، ولكن من قال إن إحراق وتخريق الأحرف السبعة هو الحل الذي يريده الله عزوجل؟!، فلماذا لا يمنع من قراءتها مع الاحتفاظ بنصها في مكان آخر المصحف؟

٥ ـ سلمنا ، ولكن بأي دليل اقتصر على هذا الحرف بالذات من الألفاظ المتفقة في المعني؟!

لذا أجهد أهل السنة أنفسهم لإيجاد ما يمكنهم إقناع الناس به بأن ما حذفه عثمان وأنقصه كان رضا لله عزوجل ، فكان نتيجة جهدهم هو أن التحريق والتخريق لستة أمثال القرآن كان بمرأى ومسمع من كل الناس وما غيروا عليه ورضاهم رضا الله. وهذا الكلام غير مقبول البتة ، لأمور:

أ‌ ـ لا ملازمة بين سكوت غير المعصوم وإمضائه ، فإن عدم الجهر بلإنكار أعم من الموافقة ، فلعل البعض غير راض بما يجري لكنه لم يجهر بالإعتراض لأسباب خاصة ، فكم من مرة غير الأمراء أحكام الله عز وجل دون رضا الناس ولا تجد أحدا منهم ينكر عليهم.

ب‌ ـ سلمنا ، ولكن من الذي أحرز رضا المسلمين وهم في شتى بقاع الأرض؟!، فهل أحرزوا رضا من في اليمن والبصرة وفارس ومصر وو؟!!

ج ـ سلمنا، ولكن الإجماع لم يتحقق بمخالفة عبد الله بن مسعود ومن معه من أهل الكوفة حيث عارضوا تحريق عثمان للمصاحف وإلغاءه أضعاف القرآن ، فقد كان يأمرهم ابن مسعود ليغلوا المصاحف ولا يعطوها لجلاوزة

٣٥٦

عثمان فيحرقها ، وليلقوا الله بها يوم القيامة ، ناهيك عن أن رواياتهم تنص على أن ابن مسعود هو مرجع الصحابة في القرآن بتعيين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

د ـ سلمنا ، لكن من قال إن الإجماع يصحح حذف قرآن أنزله الله عزوجل؟! وإلا فما معنى أمره صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالتمسك بكتاب الله عزوجل؟!

هـ ـ إن كان إجماع الصحابة كاشفا عن حكم الله في كتابه ، فما بال الصحابة والتابعين خالفوا حكم الله عزوجل فعادوا بعد احراق المصاحف وإلغاء الأحرف الستة أن يقرأوا بالشواذ ويكتبوها في مصاحفهم؟!، وكان هذا فعل عائشة وحفصة حتى بقي في مصحف الأخيرة زيادت شاذة إلى زمن متأخر، وكذلك فعل ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم ، كما سيأتي بإذنه تعالى.

وهكذا يتضح أن ما ذكروه من التخريج مناقش مبنى وبناء ولا يمكن التعويل عليه لإثبات جواز إحراق القرآن وإلغاء أضعافه ، فعلى نظرتهم تلك نعلم بأن عثمان بن عفان هو أكبر محرف للقرآن في تاريخ البشرية.

على نظرة المؤولين:

المعني الآخر ـ غير المشهور ـ يفيد أن الأحرف السبعة موجودة بين طيات مصحفنا اليوم ، وهذا المعنى يخرج عثمان بن عفان عن دائرة التحريف ، ولكن من جهة أخرى يثبت التحريف لكثير من أكابر الصحابة ، فقد نصت رواياتهم الصحيحة على أن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمر بن الخطاب وأبا موسى الأشعري وعائشة وحفصة وابن الزبير وأم سلمة

٣٥٧

وغير هم كانت لهم مصاحف تختلف نصا عما هو موجود في مصحفنا اليوم ، وكانوا يقرأون بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير على أنه منزل من عندالله عزوجل!كما سيأتي بإذنه تعالى ، لذا قال السيد ابن طاووس رضوان الله عليه في رده على أبي علي الجبائي:

كلما ذكرته من طعن وقدح على من يذكر أن القرآن وقع فيه تبديل وتغيير فهو متوجه إلى سيدك عثمان ؛ لأن المسلمين أطبقوا على أنه جمع الناس على هذا المصحف الشريف ، وحرف وأحرق ما عداه من المصاحف، فلولا اعتراف عثمان بأنه وقع تبديل وتغيير من الصحابة ما كان هناك مصحف يحرق وكانت تكون متساوية. (١)

وحتى أصحاب هذا الرأي المؤول لم يسلموا من الخدش فيه من قبل الجمهور!، قال في كتاب دراسات حول القرآن : وإذا كان عثمان قد كتب مصحفه على الأحرف السبعة فلا يكون في ذلك قضاء على الفتنة ولظل الناس على اختلافهم إلى يومنا هذا وليس كذلك. (٣)

وعلى أي حال فإن احراق المصاحف وإلغاء بعض نصوصها يقتضي أحد أمرين : إما كون تلك النصوص قرآنا فيكون عثمان قد أسقط الكثير من القرآن وهو ستة أضعاف ما عندنا ، وإما أن لا تكون قرآنا فيثبت التحريف لكثير من سلفهم الصالح الذي قال بقرآنية ما ليس منه.

__________________

(١) سعد السعود :١٤٤.

(٢) دراسات حول القرآن : ٨٠ للدكتور بدران أبو العينين بدران ، أقول : هذا التضارب متوقع لأن الحل الوحيد هو رفض هذين المعنيين من الأحرف السبعة.

٣٥٨

ثانيا : الشيعة الإمامية وجمع القرآن

الشيعة لم يقبلوا ما ذهب له أهل السنة من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحل إلى ربه عزوجل وترك القرآن مفرقا في نتاتيف من خوص النخيل وقطع من الحجارة وعظام أكتاف الإبل ، فهذا عندهم أقرب للخيال من الواقع ، وكذا الحال بالنسبة لجمعه على يد بعض الصحابة بتلك الطريقة الساذجة ، قال الشيخ على الكوراني العاملي حفظه الله تعالى في تدوين القرآن:

هذه الأدلة التي يمكن أن يضاف إلها غيرها حتى تبليغ خمسين دليلا ... يكفي بعضها لإثبات أنه لم تكن توجد مشكلة عند المسلمين اسمها جمع القرآن!! ولكن الباحثين في أمور القرآن وعلومه من إخواننا السنة يريدون منا أن نغمض عيوننا عن أدلة وجود نسخ القرآن وانتشارها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر وعمر ... مع أن الإسلام بلغ مناطق واسعة من الشرق والغرب ، وأقبلت الشعوب من ورثة الحضارة الفارسية والرومانية على قراءة القرآن ودراسته ... وكان في كل مدينة وربما في كل قرية من يقرأ ويكتب ويريد نسخة من القرآن المنزل على النبي الجديد ... بل كانت الرغبة والتعطش لسماع القرآن وتعلمه وقراءته موجبة عارمة في شعوب كل البلاد المفتوحة حتى أولئك الذين لا يعرفون العربية!! يريدون منا أن نغمض عيوننا عن هذا الواقع وأن نقبل بدله نصوصا قالت إن نسخة القرآن كانت تواجه خطر الضياع ، لأنها كانت مكتوبة بشكل بدائي ساذج على العظام وصفائح

٣٥٩

الحجارة وسعف النخل .. الخ. وأن الدولة شمرت عزيمتها ونهضت لإنقاذ كتاب الله من الضياع والاندثار .. وشكلت لجنة تاريخية ، وبذلت جهودا مضينة في جمع القرآن .. حتى أنها استعطت آياته وسوره من الناس استعطاء على باب المسجد! لا بأس أن نمدح الصحابة وجهودهم لخدمة الدين والقرآن .. لكن بالمعقول ، فالمدح غير المعقول ابن عم الذم!! ولا بأس أن نمدح الصحابة وجهودهم لخدمة لخدمة الدين والقرآن .. لكن بشرط أن لا نوهن الدين والقرآن والرسول صلى الله عليه وآله!. (١)

إذن لا واقع لتلك القصة الشيقة باعتبارها جمع القرآن الأول ، نعم لها واقع آخر لكثرة رواياتهم التي تلزمنا التسليم بخطوطها العريضة وسيأتي ذكر الهدف من ذلك الجمع ، ولكن لا مجال للقول بانبثاق قرآن المسلمين شرقا وغربا من ذلك الجمع ، وعدم وجود كيان جمعي للقرآن ومصحف مدون قبل ذلك العمل الخطير الذي نسب إلى زيد.

الشيعة وأول من جمع القرآن :

إن أول من أمر بجمع القرآن وقام بتنظيم آياته وأثبتها في مواضعها المرادة لله عز وجل هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو الذي بدرايته وحفظه أتم السور ورتبها ، وأشرف عليها ممليا ومستكتبا ، آمرا الناس بكتابته والقيام بحفظه والاشتغال بنسخه ، وما أرجأ آية نزلت ولا كلمة إلى زمن آت لتكتب ، ولا مقام آخر لتدون ، وما اعتمد على أمته في هذا الدور الخطير الذي

__________________

(١) تدوين القرآن : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٣٦٠