إعلام الخلف - ج ١

صادق العلائي

إعلام الخلف - ج ١

المؤلف:

صادق العلائي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الآفاق للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠١
الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣

تدرّج فيها القرآن في مراتب الكمال والصيانة والحفظ والحصانه إنما قام بها رجال الشيعة فقط دون غيرهم ، فامتازوا بحفظ هذا الكتاب الكريم من التلاعب والتغيير ، والحمد لله رب العالمين.

ليلة المبعث النبوي الشريف

سنة ١٤٢٢ه

٢١
٢٢

الفصل الاول

الشیعة الإمامیة و تحریف القرآن

٢٣
٢٤

التهمة القديمة المتهالكه!

من تلك التهم السائرة الدائرة على مر الأيام التي مني بها آل الله وآل رسوله صلي الله عليه وعليهم أجمعين فرية تحريف القرآن ، بدعوى أن الشيعة من مذهبهم القول بسقوط بعض آيات من القرآن ، وكثير من الكتيبات التي كتبتها أيادي الفرقة تريد حشر هذه التهمة في رأس الذج والبساط.

ولا شك أن ناشر هذه الفرية ليس إلاّ صلف الوجه لا يعبأ بما يقال فيه كيف لا! والشيعة ليست من الفرق البائدة التي لا يخبر عنها إلاّ في الكتب العتيقة وبين صفحات التراجم السحيقة العهد ، فهذه أعيانهم في كل مكان وعلماؤهم بين أظهرنا ، وكتبهم ظاهرة سهلة المنال وكلمات محققيهم ومراجعهم لا تخفي إلأّ على ميت الأحياء ، والقول الفصل عند مراجعهم كلهم أجمعين أكتعين أن القرآن الذي نزل على النبي صلي الله عليه وآله وسلم هو هذا المصحف الموجود في بيوتنا وبيوتات المسلمين بجمعيه وتمامه لا نقيصة فيه ولا زيادة ، وهذا واضح عند من دار في شوارع المسلمين أو مرّ في أضيق أزقتهم.

الشذوذ عن فكر المذهب

وكون التحريف فرية واضحة على مذهب أهل البيت عليهم السلام لا ينفي شذوذ بعض نفر عما ذهب له الجمهرة والسود الأعظم ، وهذا واضح

٢٥

لدى من امتلك شيئا من العقل ، فبعض علماء الشيعة شذوا عن رأي الطائفة حيث قالو بعدم صيانة القرآن من التحريف وحالهم كحال من شذ عن مذهب أهل السنة وقال بوقوع التحريف في القرآن وعدم صياتنه منه (١) وهذه القلة من الشيعة ذات ميول خاصة ومبان انفردت بها وخالفت سوادهم الأعظم ، وقد اقرضت تلك الفئة مع ما شذّوا به.

ومن الدعاوى العريضة أن نقول : إن الشيعة انقسموا في الاتجاه والمشرب الفقهي إلى قسمين ، لكل منها أصوله في استنباط الأحكام الشرعية ، إذ الفرع الذي ألقي بذرته الأمين الإستر آبادي رضوان الله تعالى عليه قبل أربعمئة سنة ثم انكسر واجبتث بعد مئتي سنة من بزوغه لا يقسم الشيعة الإمامية في مذهبهم الاستنباطي السائر منذ ألف سنة إلى قسمين أحدهما ظهر قريبا وانتهى بمدة مئتي عام!

وقد كان للأَخبارية (٣) قواعد ترتكز عليها مدرستهم وصارت من معالمها ، وهذه المدرسة لا وجود لها اليوم كتيار له منظّرون بما للكلمة من معنى ، وذلك لانقضاء أمر هذا التيار على يد مراجع الطائفة رضوان الله تعالى عليهم حينما تصدوا لهم فنقضوا أصولهم وبينوا عوارها حتى قضي الأمر

__________________

(١) سيأتي ذكر أسمائهم وأقوالهم بإذنه تعالى.

(٢) مفهوم الأَخباري كان متداولا منذ زمن بعيد ومنداولا بين قدماء علماء الطائفة ، ولكن كلامنا عن اليار ذي المرتكزات والقواعد التي أسسها الأمين الإستر آبادي رحمه الله ، فالكلام على وجه الخصوص.

٢٦

واستوت الطائفة وعادت نمرقةً وسطى كما كانت على يد الوحيد البهبهاني رضوان الله تعالى عليه.

أسسٌ افترق بها هذا التيار المحدَث عن فكر امذهب :

من أهم مباني الأَخبارية التي شذوا بها عن جمهره الإمامية القول بعدم حجية ظواهر القرآن ، واعتمادهم على الأخبار فقط أي السنة الواردة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام فلذلك سموا أَخبارية.

وسبب قولهم بعدم حجية ظواهر القرآن (١) دعوى أن كلام الله عزّ وجلّ أجل وأرفع من أن يناله عقل البشر العاديين ، فإن كلام رب الناس لا تدركه عقول الناس! ومن الإجحاف بساحته جل وعلا أن يدرك مرام كلامه وينفقه مغزاه البشر العادي ، لذا على الفقهاء إيكال فهم ظواهر القرآن إلى من خوطب به ، وهم الراسخون في العلم ، اي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام وهم عِدل القرآن بنص حديث الثقلين المواتر (٣).

وننقل هنا أقوال بعض مراجع الطائفة الحقة في كتبهم الأصولية التي هي المعتمد الحق في بيان ما شذت به الأَخبارية.

قال السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه في تقريرات بحثه :

__________________

(١) الظاهر هو ما كانت دلالته مظنونة لرجحانها ، النص أو المحكم هو ما لا يحتمل إلاّ وجها واحدا ، والمتشابه هو ما احتمل على وجهين فصاعدا ، أي يكون مجملا مرددا بين معان مختلفة.

(٢) للمزيد انظر : ملحق رقم (٦)

٢٧

ما يظهر من الظائفة امنتحلة إلى الإمامية رضوان الله عليهم ، المعروفين بالأَخبارية وهو عدم حجية ظواهر القرآن.

اعلم أن حجية ظواهر الكتاب كانت معروفة غير محتاجة إلى الاستدلال؛ لأنه كتاب نزل به الروح الأمين على قبله صلي الله عليه وآله ليكون بشيرا ونذيرا للعالمين ، ويكون به هداية الناس والجنة أجمعين ، وبه انقلب الجهل إلى العلم في جزيرة العرب ، بحيث صار موردا لتعجب العقلاء والمتمدنين والفصحاء المتكلمين فلا شبهة أنه كتاب أنزل لإفهام المطالب الحقة لجميع الناس وإيصالهم إلى الكمالات الائقة بجالهم ، ولم يشك فيه أحد من الناس إلاّشرذمة قليلة من الذين أشرنا إليهم في صدر العنوان. وعمدة ما وجه أو يوجه به قولهم ونظرهم أمور خمسة : أحدها : كونه مشتملا على المضامين العالية التي لا تصل إليها إلاّ أفهام الأوحدي من الناس. وفيه : أولا ... (١). فبدأ رضوان الله تعالى عليه بتوجيه الأدلة لكسر مقالتهم الشاذة.

وقال السيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه : وأما ما ذهب إليه جمهور الأَخباريين من عدم حجية ظواهر الكتاب ، فقد ذكر له في الكفاية وجوها خمسة :

الأول : ما ورد من النصوص الدالة على أن القرآن لا يعرفه إلاّ أهله ومن خوطب به ، وهم النبي والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام.

الثاني : أن القرآن يحتوي على مطالب عالية شامخة ومضامين غامضة ،

__________________

(١) تقريرات في أصول الفقه : ٥٤٤ ـ ٢٥٥ ، للشيخ علي الاشتهاردي.

٢٨

فلا يسطيع أن يفهمه أحد ، فان فيه علم كل شئ. ولا يستطيع كل أحد أن يصل بفكره إلى ما اشتمل عليه القرآن (١).

وقال السيد محمد سعيد الحكيم حفظه الله تعالى وسدد خطاه في المحكم في أصول الفقه بعدما بين فساد أدلة الأَخبارية : وبهذا يظهر حال بقية الوجوه التي استدل بها للأَخباريين ، فقد استدل لهم بوجوه كثيرة لا مجال للتعويل عليها بعد ما عرفت من إجماع الأصحاب وتسالمهم على حجية ظواهر الكتاب. مع أنها في أنفسها غير صالحة للاستدلال (٣).

وننقل هنا ما قاله أحد الأفاضل في كتابه دروس في أصول فقه الإمامية : ومضافا إلى إن سيرة المسلمين في التعامل مع ظواهر القرآن بالأخذ بها والعتماد على مؤدباتها دليل حجية ظهورات القرآن بخصاتة. هذا هو رأي جممهور المسلمين بما يكاد يرقى إلى مستوى الضرورة ومنهم أصحابنا الأصولية من الإمامية (٣) ، وفي مقابل هذا الرأي ذهب أكثر الأخبارية من الإمامية إلى عدم جواز الأخذ بظواهر القرآن إلاّ عن طريق ما فسر به من أحاديث رويت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام (٤).

وحيث أن الأصوليين لا ينعزلون عن روايات أهل البيت عليهم السلام

__________________

(١) منتقى الأصول ، تقرير بحث الروحاني للحكيم رضوان الله تعالى عليهما ٢١٧ : ٤ ، للزيادة راجع حقائق لأصول ٢ : ٨٥ ـ ٩٠ للسيد محسن الحكيم رضوان الله تعالى عليه.

(٢) المحكم في أصول الفقه ٣ : ١٧٩.

(٣) وهم كل الشيعة اليوم إن لم نعبأ بالنادر الذي لا يذكر.

(٤) دروس في أصول فقه الإمامية : ١٤٤.

٢٩

حين استنباط الأحكام الشرعية من ظواهر القرآن ، فلا يظهر الخلاف واضحا بين المسلكين ، ويظهر في حال عدم وجود مانع من الروايات يمنع من الروايات يمنع من التمسك بظهور الآيات القرآنية فحينها يعتمد لأصوليون على ظواهر القرآن؛ لأنها حجة في نفسها ، بخلاف الأخباريين ففي هذه الحالة لا يتمسكون بظواهر القرآن ؛ لأنها ليست بحجة في نظرهم ، بدعوى أن عقولنا أقل شأنا من إدراك ظاهر كلام المولى عزّ وجلّ ، فتكون ظواهر لآيات من المتشابه ولا يسعهم حينها إلاّ الاسترجاع وتلاوة قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (١).

قال في مصادر الاسنتباط : وقد اجاب المحدث الاسترآبادي عن عمل الأخباريين في الظواهر القرآنية مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣) وقوله تعالى (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) (٣) وقوله تعالى : (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) (٤) وفي ظواهر السنن النبوية ، مثل قوله صلي الله عليه وآله وسلم : (لا ضرر ولاضرار في الإسلام) حيث قال ـ أي المحدث ـ : نحن نوجب الفحص عن أوالهما بالرجوع إلى كلام العترة الطاهرة عليهم السلام فإذا

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) المائدة : ٧.

(٣) النساء : ٤٣.

(٤) المائدة : ٦.

٣٠

ظفرنا بالمقصود وعلمنا حقيقة الحال علمنا حقيقة الحال علمنا بها ، وإلا أوجبنا التوقف ولاتثبيت (١).

ومن مبانيهم المسلمة القول بصحة كل الروايات لاواردة في الكتب الأربعة ، أي الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والاستبصار ، والتهذيب ، فلا داعي لمناقشة السند فيها ، وهذا رأي غير مقبول عند الشيعو اليوم.

وهناك كثير من الأمور التي شذ بها الأَخباريون عن الجمهور ، وقد : أنهى الشيخ عبد الله بن صالح لاسماهيجي هذه الفروق إلى ثلاثة وأربعين فرقا ، وقد تتبع الشيخ يوسف البحراني هذه الفروق فاقتصر على ذكر ثمانية منها وأخذ بمناقشتها ، وانتهى إلى عدم وجود فرق جوهري بين الطرفين حيث قال : فللأن ما ذكروه من وجوه بينهما جلّه أو كله لا يثمر فرقا في المقام. ولعل الشيخ البحراني قد بالغ في عدم الفرق فإن الفروق موجودة ، غير أنه قد شرح وجهة نظره بأن هذه الفروق لا توجب تشنيعا ولا قدحا؛ لأنه نظير الاختلاف الحاصل بين علماء الطائفة. أما الشيخ جعفر كاشف الغطاء فقد ألف كتابا خاصا في هذا لاموضوع أطلق عليه أسم (الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين) حيث ذكر الفروق فأنهاها إلى ثمانين فرقاً ، كما انهى محمد بن فرج الله الدسقوري هذه الفروق إلى ستة وثمانين فرقا ، وأغلب ما ذكر هو في الفروع التي يختلف فيها الأصوليون أنفسهم فلا تشكل فروقا حقيقية (٣).

__________________

(١) مصادر الإسنتباط بين الأصولين والأَخباريين : ٨٠ ، ط دار الهادي.

(٢) مصادر الستنباط : ٦٦ ط دار الهادي.

٣١

وماذهبت إليه الأخبارية فُنذ بأدلة أقامها محققو الطائفة المحقة رضوان الله تعالى عليهم ، وهنا يمكننا القول : إن الأَخباريين لهم أصولهم وعالمهم الخاص في لاتعامل مع الأدلة ، ولامغاير لما عليه جمهور الشيعة ، ونادرا ما تجدهم في حالة وفاق ، حتى أن بعضهم كان يتهجم على البعض الأحيان! ولأصوليون بطابع عام يتبرؤون من أفكار هذا التيار ، ولا بأس هنا بنقل تقييم الشهيد مطهري رضوان الله تعالى عليه لهذا المباني والمرتكزات التي قام عليها التيار الأَخباري :

قبل أربعة قرون تقريبا ظهرت بيننا نهن الإمامية فرقة باسم الفرقة الأَخبارية ، وهي في قبال الأصولية القائلة بالاجتهاد ، وقد سيطرت على أفكار الناس ما يقارب القرنين أو الثلاثة قرون ، ولم تترك عملا شنيعا إلاّ وارتكبته من إشعال حربٍ وقتل وأمثالهما ، أما اليوم فان عدد الأَخباريين قليل جدا (١).

وقال رضوان الله تعالي عليه : هذا هو التيار الأَخباري وتعصبه الأحمق اللامحدود الذي جعل أصحابه بعتبرون الصحيح والضعيف من الأحاديث على حدٍّ سواء ، إنّه تيار فكري خطر ظهر في دنيا الإسلام ، وتمخض عن جمود فكري لا زلنا نعاني من تبعاته ، إذ سرت عدواه إلى أوساطنا (٣).

__________________

(١) الإسلام ومتطلبات العصر : ١١٦ ط دار الأمير.

(٢) المصدر السابق : ١٢٢ ـ ١٢٣.

٣٢

من هم القائلون بالتحريف؟

على ضواء اعترافات بعض علماء الأَخبارية نتوصل إلى أن هؤلاء النفرر الذين قالوا بتحريف القرآن من الشيعة هم بعض الأَخبارية لا كلهم ، وعدد من نسب إليه الوهابيون ـ مع تتبعهم ـ تحريف القرآن لا يزيد عن عشرة ونيف ما بين من تيقنا بصحة النسبة إليه ومن لم نتيقن منها؛ لغرابة بعض تلك الأسماء التي لم نسمع بها من قبل ولعدم توفر المصادر ، ولا نستطع الوثوق بما ادعاه الوهابيون لما سيأتي من بيان مدى مصداقيتهم.

كيف توصلوا لتلك الفجيعة؟

ليس من العجب عند من نظر في مباني الأَخبارية أن بعضهم قال بتحريف القرآن ، فإن الركون والاقتصار على الأَخبار على ما في بعضها من نقل للتحريف ، والتساهل الشديد بوثاقة الرواة ، والقطع بصحة كل ما في الكتب الأربعة ، وكذا القول بعدم حجية ظواهر القرآن حتى لا يصح التمسك بالآيات التي تتعهد بنفي التحريف عن القرآن ، كل هذه تجعل القول بتحريف القرآن أمراً متوقعاً لا غرابة فيه ، فكل من ينسج على منوالهم ويلتزم بمبانيهم ليس له إلاّ التسليم بما دل على التحريف من الروايات ، بلا أي عرض مقاييس القبول والرفض ، فزمام الحكم على القرآن كان بيد الروايات على ما فيها من وضع ودس وضعف!

ولنذكر هنا كيفية تجاوزهم للاعتراضات والعقابات التي وقفت أمام قول بعضهم بتحريف القرآن :

٣٣

١ ـ تأويلهم للآيات النافية للتحريف

ولم تستطع الآية الكريمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١) ثنيهم عما ادعوه لذهابهم إلى عدم حجية ظواهر القرآن بدعوى أن كلام الله تعالى أعز من أن تناله وتدركه عقولنا! فصار الظاهر من المتشابه الذي يوكل أمره إلى الله ، والآية الكريمة من هذا النحور ، فيجب أن يرجع إلى الروايات لمعرفة معناه ، والروايات التي فيها ما فيها تقول : إن القرآن محرف ، فيجب تأويل الآية المباركة!

وحتى لو قالوا بحجية الظاهر فقد نوقشت دلالة ظاهر الآية الكريمه على حفظ القرآن من التحريف ، فقال أحدهم :

وفيه أنّ كون أصل القرآن الذي نزل به الروح الأمين على خاتم النبييين صلى الله عليه وآله وسلم محفوظا عند الأئمة الذين هم خزّان علم الله وكهوف كتله ، يكفي في صدق الآية ولا دلالة فيها على كون ما بأيدينا محفوظا كما لا يخفى ، مضافا إلى احتمال أن يكون المراد أنه سبحانه يحفظه إلى آخر الدهر ، بأن بعث جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه بين الخلق ، فتحفظه الأمة ، ونتاولته الأيدي قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة ، لقيام الحجة به على الخلق وكونه معجزة النّبوة ، وهذا كله بعد الغضّ عن رجوع الضمير في (لَهُ) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا ـ كما ذهب إليه الفرّاء ـ فيسقط

__________________

(١) الحجر : ٩.

٣٤

الاستدلال رأساً ، قال ابن الأنباري : لما ذكر الله الإنزال والمنزلِّ والمنزَّل دلّ وذلك على المنزَّل عليه ، فحسنت الكناية عنه لكونه أمرا معلوماً ، كما في قوله (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) ، فإن عود الضمير إلى القرآن مع عدم تقدّم ذكره لكونه معلوما من المقام.

توجيههم الأول هو ما اعتمدوا عليه ، فان ظاهر الآية غاية ما يدل عليه هو تعهد الله عزّ وجلّ بصيانة القرآن من التحريف ، ولكنها ساكتة عن شخص هذا القرآن والمصحف الذي تكفل المولى بحفظه ، فلا يلزم من التسليم بدلالة الآية على صيانة القرآن من التحريف أن يكون هذا الحفظ لجميع مصاحف المسلمين ، بل يكفي حفظ القرآن عند إمام المسليمن وقائدهم حتى يتحقق عنوان الحفظ في الآية الكريمة ، وعلى قولهم يكون الله عزّ وجلّ قد تعهد بحفظ القرآن عند المستودع للشريعة وهو الإمام المعصوم في كل زمان ففي أول الأمر كان عند الأمر كان عند الإمام علي عليه السلام ومنه إلى الحسن ثم الحسين. وهكذا إلى أن استقر الآن عند صاحب العصر الإمام المهدي عليه وعليهم السلام ، والآية أجنبية عن التعهد بحفظ القرآن عند جميع الناس وفي كل مصاحف المسلمين ، فلا تعارض بين روايات التحريف والآية الكريمة.

وكذا لم تثنهم الآية الكريمة : (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٣). عن مدعاهم ، فقالوا رداً على من استدل بالآية

__________________

(١) القدر : ١.

(٢) فصلت : ٤٢.

٣٥

على أن ورود التحريف فيه إتيانه الباطل :

وفيه أن المراد بالآية أنّه ليس في إخباره عمّا مضى باطل ، ولا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل ، بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها ، رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ، وفي تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال : (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ) من قِبل التوراة ولا من قِبل الإنجيل والزبور (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) لا يأتيه من بعده كتاب يبطله.

وهكذا لم يثبت القرآن الكريم صيانة القرآن من التحريف في نظرهم وصار القول الفصل للروايات.

٢ ـ تأويلهم للروايات النافية للتحريف

وفي المقابل توجد بعض الروايات التي يلزم من الأخذ بظاهرها نفي التحريف عن القرآن ، كالروايات التي تأمر بعرض الأخبار المنسوبة لأهل البيت عليهم السلام على القرآن ، فما وافق القرآن قاله أهل البيت عليهم السلام ، وما خالفه يضرب به عرض الجدار ، وسنرى أن هذه الروايات صريحة في كون القرآن هو القيّم والميزان لتمييز صحة الرواية من سقمها ، بعد علم أهل البيت عليهم السلام بكثرة الكذب والافتراء عليهم ، فلم يكن إمامٌ إلاّ وله كذاب يكذب عليه ، كما ورد في الرواية ، فلا ريب في وجود كثير من الزخرف الملبس والباطل المموه ، وهو وليد الوضع والاختلاق ، ولكن بعض الأَخبارية قاموا بتأويل الروايات الناقية للتحريف وصرفها عن ظاهرها لتتوافق مع روايات التحريف! وهاك نبذة مما أوّلوه على خلاف ظاهره ليتسنى

٣٦

لهم التوفيق بينها وبين روايات التحريف :

عن أيوب بن الحر قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف.

عن كليب بن معاوية الأسدي : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل.

عن الهشامين جميعا وغير هما قال : خطب النبي صلي الله عليه وآله فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف القرآن فلم أقله.

عن أيوب : عن أبي عبد الله عليه لاسلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا حدثتم عني بالحديث فأنحلوني أهنأه وأسهله وأرشده فان وافق كتاب الله فأنا قتله ، وإن لم يوافق كتاب الله فلم اقله (١).

وحدثني الحسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف يرويه من يثق به ، فقال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتموه له شاهد من كتاب الله أو من قول رسول الله صلي الله عليه وآله ، وإلا فالذي جاءكم به أولي.

عن النوفلي عن السكوني : عن أبي عبد الله عن آبائه عن علي عليهم السلام قال : إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه.

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٢٠ ، ح١٢٨ و ١٢٩و ١٣٠.

٣٧

عن هشام بن الحكم : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : رسول الله صلى الله عليه وآله ـ في خطبة بمنى أو مكة ـ : يا أيها الناس ما جاءكم عني يوافق القرآن فأنا قلته ، وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم اقله.

عن محمد بن مسلم قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : يامحمد ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به ، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به.

عن سدير قال : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : لا تصدق علينا إلاّ بما يوافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه واله.

عن الحسن بن الجهم عن العبد الصالح عليه السلام قال : إذا كان جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وعلى أحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حق وإن لم يشبههما فهو باطل (١).

وهذه الروايات تتصادم مع القول بتحريف القرآن ، إذ من غير المعقول أن يُجعل المحرف والمتلاعب به ميزانا لبيان صحة الأخبار وسلامتها من التحريف ، وكذا الحال في حديث الثقلين المتواتر الذي أُمِر المسلمون به باتمسك بالقرآن والعترة؛لأن من تمسك بهما عصم من الضلالة ، ومن غير

__________________

(١) بحار الأنوار٢ : ٢٤٢ ، ح٤٣ ، ٤٤ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٥١ ، ملاحظة : رواية ابن أبي يعفور ورواية الحسن بن جهم يستفاد منهما جعل السنة في عرض القرآن في كونهما قيمين على الرواية وهذا لا مانع منه؛ لأن الحاظ الإمام عليه السلام إلى السنة القطعية لا إلى مطلق الروايات حتى يلزم الدور.

٣٨

المعقول أن نعصم من الضلالة مع تمسكنا بالمحرف ولامبدل! ، ولكن كل هذا لم يُجْدِ نفعا عندهم ، فقد قال السابق عن الاستدلال بحديث الثقلين :

أما الطائفة الأولى فلا دلالة فيها على الُمدعى أصلا؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان أمرنا باتباع الكتاب والعرض عليه ، ولم يتطرق عليه تحريف يومئذ ، كما امرنا باتباع أهل بيته وعترته وأخذ الأحكام عنهم والاقتباس من أنوارهم ، وإنما طرأت السوانح بعدما اختار الله سبحانه له صلى الله عليه وآله وسلم لقاءه فمنع المكلفون على أنفسهم اللطف بسوء اختيارهم ، وغيّروا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم ، كما تركوا العترة وصاروا سببا لا عتزالهم وتشريدهم إلى أن انتهى الأمر إلى الغيبة الكبرى ، فكما أن غيبتة الإمام عليه السلام واعتزال الأئمة وقصور اليد عن اتباع القرآن امنزل على ما هو عليه لا ينافي أمر النبي صلي الله عليه وآله وسلم لم يكن إلاّ لأجل أن لا يفعلوا في كتاب الله ما فعلوه ، وأَن لا يقصرّوا في حقّ الآل ما قصروا.

__________________

(١) هذا قياس مع الفارق؛ لأن عدم الوجود الظاهر والمشاهد لأئمة أهل البيت عليهم السلام لا يمنع من التمسك بهم ، بل يكفي الرجوع لكلماتهم واقتفاء سننهم ، كما أن الكل بدعي اقتفاء سنن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم لم يروا له شخصا ، بخلاف القول في القرآن فإن دعوى التحريف فيه مانعة من التمسك به.

٣٩

وقال ردا على اروايات التي تأمر بعرضها على القرآن : وأما الطائفة الثانية فلا دلالة فيها أيضا؛ لأنّا نقول : إن الأئمة عليهم اسلام إنما أمرونا بالرجوع إلى هذا الكتاب الموجود بأيدينا مع ما هو عليه من التحريف وانقصان لأجل التقية والخوف على أنفسهم وشيعتهم ، فيكون ما استفدناه حكماً ظاهرياً بالنسبة إلينا فافهم (١).

وردّ دلالة روايات العرض بوجه آخر وهو : إن أهل بت المعصمة سلام الله عليهم لعلمهم بعدم طرو التحريف على آيات الأحكام رخصونا في الرجوع والعرض ، فبملاحظة ترخيصهم بحصل لنا القطع بكونها محفوظة عن الخلل أو أنهم رخّصونا في ذلك؛ لعلمهم بأنّه ليس في الساقط ما يرجع إليه أو يعرض عليه إلاّ وفي الثابت ما يقوم مقامه (٣).

وعلى هذا فلا قرآن يثبت عندهم صيانة القرآن من التحريف ولا الروايات تثبت ذلك (٣) ، وكثير من الروايات في كتب أهل لا إله إلاّ الله من

__________________

(١) وهذا غير مقبول؛ لأن الأصل عدم التقية وخلاف الأصل يحتاج إلى دليل ، ثم إن الروايات : تقول ما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار ، وأين التقية في ذلك؟! وهل أهل البيت عليهم السلام يخالفون ما بأيدينا من القرآن حتى يقال : إن الأمر بموافقته من موارد التقية؟!

(٢) وما احتمله هنا مجرد ظن لا يغني من الحق شيئا ، ويلزمه الإتيان بالدليل عليه.

(٣) ليس من الغريب ألا تصلنا روايات تنص على عدم تحريف القرآن ، فلا تجد لا من طرق الشيعة ولا من طرق السنة مثل هذه الروايات؛ لبداهة كونه محفوظا من التحريف الذي كان يغني عن ذكره ، فمن غير المعقول أن يستغرب مثلا من عدم وجود رواية عن إمام معصوم

٤٠