أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

سكون الياء المكسور ما قبلها

قَرَأَ الحَسَنُ : (اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيْ مِنَ الرِّبَا) (١) بكسرِ القافِ وسكونِ الياءِ.

قَالَ أَبُو الفتح : قَدْ سَبَقَ ما فِي سكونِ هذِه الياءِ المكسور ما قبلها في موضع النَّصبِ والفتح بشواهدِهِ (٢) ، ومنه قول جرير :

هُوَ الخليفةُ فارضَوْا ما رَضِي لَكُمُ

مَاضِي العزيمةِ مَا فِي حُكَمِهِ جَنَفُ (٣)

وَقَرَأَ الأعمش : (فَنَسِيْ وَلَمْ) (٤) لا ينصبُ الياء.

قَالَ أَبو الفتح : قَدْ قَدَّمْنَا القولَ عَلَى سكونِ هذِهِ الياءِ (٥) في موضعِ النَّصْبِ والفتح وَأَ نَّهُ عِنْدَ أَبِي العبَّاسِ مِنْ أَحسنِ الضرورات (٦) حَتَّى أَنَّهُ لو جاءَ بِهِ جَاء بالنثرِ لكانَ قياساً (٧).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٢٧٨ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَو آْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ).

(٢) تُنظر ، ص : ٥٥٤. والمحتسب : ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٣) ويروى البيت هكذا :

هو الخليفة فارضوا ما قضى لكم

بالحقّ يصدَعُ مَا في قَولِهِ جَنَفُ

ديوان جرير : ٣٩٠ والبحر المحيط : ٢ / ٣٣٧ ، والمحتسب : ١ / ١٤١.

(٤) من قوله تعالى من سورة طه : ٢٠ / ١١٥ : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

(٥) تُنظر ، ص : ٥٥٤. والمحتسب : ١ / ١٢٦.

(٦) تُنظر ، ص : ٥٥٤.

(٧) المحتسب : ٢ / ٦٠.

٥٦١
٥٦٢

الباب الثاني عشر

القَسَمُ ، الاستفهام ، بعض الحروف

٥٦٣
٥٦٤

القَسَمُ

قَرَأَ الحَسَن والثَّقفي : (فَلاَءُ قْسِمُ) (١) بغيرِ أَلِف.

قَالَ أبو الفتح : هَذَا فعلُ الحَالِ ، وَهُنَاك مبتدأٌ مَحْذُوفٌ ، أَيْ : لاََ نَا أُقْسِمُ فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي القرآنِ من الأقْسَامِ إنَّمَا هُوَ عَلَى حاضرِ الحالِ ، لا وعد الأقسام ، كَقَولِهِ سبحانه : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (٢) (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) (٣) وَكَذَلِكَ حُمِلَتْ (لاَ) عَلَى الزيادَةِ فِي قَوْلِهِ : (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (٤) وَنَحْوَهِ. نَعَمْ لَوْ أُريدَ الفعلُ المستقبلُ لَلِزِمَتْ فِيهِ النونُ ، فَقيلَ : لاَُقْسِمَنَّ ، وَحَذْفُ هَذِهِ النون هُنَا ضعيفٌ جِدًّا (٥).

وَقَرأ الحَسَن : (لاَُقْسِمُ) (٦) بغير ألف.

قَالَ أَبو الفتح : يِنْبَغِي أنْ تكونَ هَذِهِ اللاّمُ لامَ الابتداءِ ، أيْ : لاََ نَا أُقْسِمُ بيومِ القيامةِ ، وحذفُ المبتدأ لِلْعِلْمِ بِهِ عَلَى غِرَّةِ حَالِ الحَذْفِ والتَّوكيدِ. فَهَذَا هو الذي يَنبِغِي أَنْ تُحَمَلَ عَلَيهِ هَذِهِ القراءَة ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَرادَ النَّونَ

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٥ : (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ).

(٢) سورة التين : ٩٥ / ١.

(٣) سورة الشمس : ٩١ / ١.

(٤) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٥.

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٠٩.

(٦) من قوله تعالى من سورة القيامة : ٧٥ / ١ : (لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).

٥٦٥

للتَّوكِيدِ لاَِنَّ تِلْكَ تختصُّ بالمُسْتَقْبَلِ لاَِنَّ الغَرَضَ إنَّمَا هُوَ الآن مُقْسِم لاَ أَنَّهُ سَيُقْسمُ فِيَما بَعْدُ ، وَلِذَلِكَ حَمَلُوهُ عَلَى زيادَةِ (لاَ) وقالوا معناه : أقسم بيوم القيامة أَيْ : أَنَا مَقْسِمٌ الآن ، وَلاَِنَّ حذفَ النُّونِ هُنَا ضَعيفٌ خبيثٌ (١).

الاستفهام

حذف همزة الاستفهام

قَرَأَ أَبو جعفر : (آسْتَغْفَرْتَ) (٢) بِالمَدِّ وَرُويَ عَنْهُ : (استَغْفَرتَ) بالوصلِ.

قَالَ أَبو الفتح : هَاتَانِ القِرَاءَتانِ كِلْتَاهُمَا مَضْعُوفَتَانِ.

أَمَّا (آسْتَغْفَرَتَ) بالمدّ فَلاَِ نَّهُ أَثْبَتَ هَمْزَةَ الوصلِ ، وَقَدْ استغني عنها بهمزة الاستفهام من قبلها ، وليس كذلك طريق العربية ، ألا تَرَى إلَى قولِ ذِي الرُّمَة :

أسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أَشْيَاعِهِم خَبَراً

أَمْ عَاوَدَ القَلْبَ مِنْ أَطْرَابِهِ طَرَبُ؟ (٣)

وَأَمّا (اسْتَغْفَرْتَ) بالوصل ففي الطَّرف الآخر منَ الضَّعْفِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ حَذَفَ همزَة الاستفهام وهو يريدها (٤). وَهَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بالتجوُّز فيهِ الشِّعْرُ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٣٤١.

(٢) من قوله تعالي من سورة المنافقون : ٦٣ / ٦ : (سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

(٣) يروى (راجع) مكان (عاود) يقول أبكاؤك وحزنك لخبر حدثَ ، أَم راجَعَ قلبَك طَربٌ؟ الديوان : ١ والخصائص : ١ / ٥٩٥ والخزانة : ١ / ٣٨٠.

(٤) ذهب بعض النحاة إلى أنَّ حذفَ همزةِ الاستفهامِ من ضروراتِ الشعرِ وهو ظاهرُ كلامِ

٥٦٦

لا القرآنُ نحو قولِهِ :

لَعَمْرُك مَا أدري وَإنْ كُنْتُ دَارياً

شُعَيْثُ ابنُ سَهْم أَمْ شُعَيثُ ابنُ مِنْقَرِ (١)

وَقَرأَ : (أَنْذَرْتَهُمْ) (٢) بهمزة وَاحِدَة مِنْ غَيرِ مَدّ (٣).

قَالَ أَبو الفتح : هذا مِمَّا لاَ بُدَّ فِيهِ أَنْ يكونَ تقديرُهُ : (أَأَنذَرْتَهُمْ) ثُمَّ حَذَفَ همزةَ الاستفهامِ تخفيفاً لِكرَاهةِ الهمزتينِ وَلاَِنَّ قَوْلَهُ : (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) (٤) لاَ بُدَّ أَنْ يكونَ التسوية فِيهِ بينَ شيئينِ أوْ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ وَلِِمجيءِ أَمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أَيضاً.

وَقَدْ حُذِفَتْ هَذِهِ الهَمْزَة في غيرِ مَوضِع مِنْ هَذَا الضرب. قَالَ :

فَأَصْبَحْتُ فِيهِم آمِنَا لاَ كَمَعْشَر

أَتَوني فقالُوا : مِنْ رُبِيعةَ أَمْ مُضَرْ (٥)؟

__________________

سيبويه ، وذهبَ الأخفشُ إلى جوازِ حذفِها في الاختيارِ وإنْ لَمْ يَكُنْ بَعدَهَا أَمْ. الكتاب : ١ / ٤٨٥ وشرح الكافية : ٢ / ٢٧٣ والبحر المحيط : ٧ / ١١ والجنى الداني : ١٠٠ والمغني : ١ / ٧ و ١٥.

(١) البيت للأسود بن يعفر التميمي ونسب إلى اللعين المنقري التميمي. وشعيثُ اسمُ رجل وحُذِفَ تنوينُهُ للضرورة. وابنُ خبرُهُ ، يقول ما أدري أي النسبين هو الصحيح. الكتاب : ١ / ٤٨٥ والمقتضب : ٣ / ٢٩٤ والكامل : ٣ / ١٧٨ والمغني : ١ / ١٤ والهمع : ٢ / ١٣٢ وشرح التصريح : ٢ / ١٤٣ وشرح الأشموني : ٣ / ١٠١ ، ١٠٢ وخزانة الأدب ـ بولاق ـ ٤ / ٤٥٠ والمحتسب : ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٢) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٦ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).

(٣) هي قراءَة ابن مُحَيصِن. المحتسب : ٢ / ٣٨١ ومختصر في شواذ القرآن : ٢ وشواهد التوضيح والتصحيح : ٨٨.

(٤) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٦ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).

(٥) البيت لِعِمْرَانَ بنِ حِطَّان الخارجي : ويروى (أو) مكان (أَم). الخصائص : ١ / ١٨١ وأمالي الشجري : ١ / ٢٦٧ و ٣١٧ وشواهد التوضيح والتصحيح : ٨٨.

٥٦٧

فيمن قَالَ : أَمْ ، أيْ : أمِنْ ربيعةَ أَمْ مضر؟ وَمِنْ أَبيات الكتاب :

لَعَمْرُكَ مَا أدري وَإنْ كُنْتُ دَاريا

شُعَيْثُ ابنُ سَهْم أَمْ شُعَيثُ ابنُ مِنْقَرِ (١)

وقَالَ الكُمَيتُ :

طَربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ

وَلاَ لَعِباً مِنّي وَذُو الشَّيبِ يَلْعَبُ (٢)

قِيلَ أَرادَ أَوَ ذُو الشيبِ يَلْعَبُ؟ وَقَالُوا فِي قولِ اللهِ سبحانه : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٣) أرادَ : أَوَ تِلْكَ نعمةُ؟ (٤) قَالَ :

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِيَ وَإنْ كُنْتُ دَارياً

بِسَبْع رَمينَ الجمْرَ أَمْ بِثَمَانِ (٥)

يُريدُ : أَبِسَبْع؟ وَعَلَى كُلِّ حال ، فَأَخبَرَنَا أَبو عَلِيّ ، قَالَ : قالَ أبو بكر : حذفُ الحرفِ لَيسَ به قياسٌ وَذَلِكَ أنَّ الحرفَ نائبٌ عن الفِعْلِ وَفَاعِلِهِ. أَلاَ تَرىَ أَنَّكَ إذَا قُلْتَ : مَا قَامَ زيدٌ ، فَقَدْ نَابَتْ (مَا) عَنْ (أَنْفِي) كَمَا نَابَتْ (إِلاَّ) عَنْ (أَستثني) وَكَمَا نَابَتْ الهمزةُ وَهَلْ عَنْ (أَسْتَفْهِم) ، وَكَمَا نَابَتْ حروفُ العَطفِ

__________________

(١) تقدَّمَ الشاهد في : ص : ٥٦٧.

(٢) البيت مطلع إحدى هاشميات الكميت بن زيد الأسدي. الهاشميات : ٣٦ والكامل في اللغة ـ تحقيق محمد الدَّالي : ٢ / ٩٠ والأغاني تحقيق المُهنا : ١٧ / ٣٠ ـ ٣١ وأخبار شعراء الشِّيعة : ٦٥ والخصائص : ٢ / ٢٨١ وأمالي الشَّجري : ١ / ٢٦٧ وشواهد التَّوضيح والتَّصحيح : ٨٨ والمغني : ١ / ١٤ وأعيان الشيعة : ٩ / ٣٥ وشرح الهاشميات : ٣٩ والنبي وآله (عليهم السلام) في الشعر العربي : ٤٧.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢.

(٤) القول بحذف الهمزة يرجع لغير أبي الفتح كما يتّضح مِن صدرِ عبارته لكن ابن مالك نسب هذا القول إلى أَبي الفتح ، حيثُ قَالَ : قَالَ أبو الفتح وغيرهُ أراد : أو تلك نعمة. شواهد التوضيح والتصحيح : ٨٧.

(٥) البيت لعُمرَ بنِ أَبي ربيعةَ. ويُروَى (رميتُ) مكانَ (رمينَ). الديوان : ٢٥٨ والكتاب : ١ / ٤٨٥ والمقتضب : ٣ / ٣٩٤ وخزانة الأَدب ـ بولاق ـ ٤ / ٤٤٧.

٥٦٨

عَنْ (أَعطْفُ) ، وَنَحو ذَلِكَ. فَلَوْ ذَهَبْتَ تَحْذِفُ الحرفَ لَكَانَ ذَلِكَ اختصاراً ، واختصارُ الُمختَصر إِجْحَافٌ بِهِ ، إِلاَّ أَنَّه إذَا صَحَّ التَّوجّهُ إِليهِ جَازَ في بعضِ الأَحوال حذفُهُ لقوةِ الدّلالةِ عليه.

فإن قِيلَ : فَلَعَلَّه حَذَف هَمْزَةَ (أَنْذَرْتَهم) لَِمجِيءِ همزة الاستفهام فكانَ الحُكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه.

قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ جَوازُ حذفِ همزةِ الاستفهامِ عَلَى مَا رَأَيْنَا فِي غَيرِ هَذَا ، فَيَجُبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَيهِ أَيضاً.

وَأَمَّا همزةُ أَفْعَل فِي المَاضِي فَمَا أَبْعَد حَذَفَهَا فَلْيَكُنْ العَمَلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِإذْنِ اللهِ (١).

وَقَرَأَ ابنُ مُحَيْصِنْ والزُّهري : (أَنذَرْتَهُم) (٢) بِهَمْزة وَاحِدَة عَلَى الخَبرِ.

قَالَ أَبوُ الفتح : الَّذي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي هذا أَنْ يكونَ أَرادَ همزةَ الاستفهام كَقِراءَةِ العامّة : (ءَأَنْذَرْتَهُمْ) إلاّ أَنَّهُ حَذَفَ الهَمْزَةَ تَخْفِيفاً وَهوَ يُريدهَا (٣) ، كَمَا قَالَ الكُمَيتُ :

طَرِبْتُ وَما شَوْقاً إلَى البِيضِ أَطْرَبُ

وَلاَ لَعِبَا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ (٤)

قَالُوا مَعْنَاهُ : أَو ذو الشَّيبِ يَلْعَبُ؟ تناكُراً لِذَلِكَ وتعجُّباً. وكبيتِ الكتابِ :

لَعْمركَ مَا أَدْرِيَ وَإنْ كُنْتُ دَاريا

شُعَيثُ ابنُ سَهْم أَمْ شُعَيثُ ابنُ مِنْقَرِ (٥)

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٥٠ ـ ٥١.

(٢) من قوله تعالى من سورة يس : ٣٦ / ١٠ : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُـم لاَ يُؤمِنُونَ).

(٣) تنظر : ص : ٥٦٧.

(٤) تقدّم الشاهد في : ص : ٥٦٨.

(٥) تقدَّمَ الشاهد في : ص : ٥٦٧.

٥٦٩

يريدُ : أَشعيثُ بن سَهم أَم شعيثُ بن مِنْقَر؟ وَيَدَلُّ عَلَى إرادة هذه القراءة الهمزةَ وأَ نَّها إنَّما حُذِفَتْ لِمَا ذَكَرْنَا بقاءُ (أَمْ) بَعْدَهَا ولو أَرَاد الخبر لقالَ : أَو لم تنذرْهم. فَإن قِيلَ : تكون (أَمْ) هَذِهِ منقطعة كَقَوْلِهِم : إنَّهَا لإِبِلٌ أَمْ شاءٌ (١) ، قِيلَ : إذَا قَدَّرْتَ ذلكَ بَقِي قولُهُ تَعَالى : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) منقطعاً لا ثانِيَ لَهُ ، وَأَقلَّ مَا يَكُونُ خبرُ سواءٌ اثنان. فَقَد عَلِمْتَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ ابنِ مُجَاهد عَلَى الخَبَرِ لاَ وَجْهَ لَهُ ، اللّهمَّ إِلاَّ أنْ يُتَمَحَّلَ لَهُ ، فَيُقَالُ : أَرَادَ بِلَفْظِ الخَبَرِ الإخبارَ ، وَفِيهِ مِنَ الصنعةِ مَا تَرَاهُ (٢).

وقرأ يحيى والأَعرجُ وشيبةُ وأَبو جعفر وَصَفوانُ بنُ عمرو : (إِذَا مِتْنَا) (٣) بغيرِ استفهام.

قَالَ أَبو الفتح : يَحْتَمِلُ هَذَا أَمْرَينِ :

أَحَدُهُمَا : حذفُ همزةِ الاستفهامِ عَلى القراءةِ العامّة ، فَحَذَفَهَا تَخْفِيفاً ، وَقَدْ مَضَى نَحوُ هَذَا وَذَكَرنَا ضعفَهُ (٤).

والآخرُ : أَنْ يَكُونَ غَيرَ مُريد لِلْهَمْزَةِ ، فكأ نَّهُ قَالَ : إذَا مِتنا وكُنَّا تُرَاباً بَعُدَ رَجْعُنَا وَنُشُورُنَا (٥).

__________________

يلاحظ هنا إن أبا الفتح كرّر الشواهد في أكثر من موضع وقد تابعناه على ذلك حسب ورودها.

(١) مثل بهذا المثال سيبويه في الكتاب : ١ / ٤٨٥.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٠٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة ق : ٥٠ / ٣ : (أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

(٤) تنظر : ص : ٥٦٦ ـ ٥٦٩. والمحتسب : ١ / ٥٠ و ٢ / ٢٠٥ و ٣٢٢.

(٥) المحتسب : ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٥٧٠

ما الاستفهامية

قَرَأ عِكْرَمة وعيسى : (عَمَّا يَتَسَاءَلُونَ) (١) قَالَ أَبو الفتح : هَذَا أَضْعفُ اللغتين ، أَعْنِي إثبات الألف فِي (مَا) الاستفهامية إذا دَخَلَ عَلَيْهَا حرف جَرّ.

وَرَوَيْنَا عَنْ قُطْرُب لِحَسَّان :

عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ

كَخِنْزِير تَمَرَّغَ فِي دَمَانِ (٢)

فَأَثْبَتَ الأَلِف مَعَ حَرْفِ الجَرِّ (٣).

التنبيه بـ (أَلا)

قَرَأَ زيد بن علي عليه السلام : (أَلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ) (٤) بِفَتح الهمزة خفيفة.

قال أَبو الفتح : وَجهُهُ أَنَّ الوقوفَ فِي هَذَهِ القراءة على قوله تعالى : (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (٥) ، ثمّ استأنفَ منبّهاً فقال : (أَلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة النبأ : ٧٨ / ١ : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ).

(٢) ينسب البيت لحسّان بن ثابت كما ينسب إلى حسّان بن المنذر وينسب إلى الفرزدق. ويروى (في دمال) و (في رماد) مكان (دمان) و (ففيم تقوم) مكان (على ما قام) ومن نسبه إلى حسّان بن ثابت قال : هو من قصيدة يهجو بها بني عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. والدَّمان بالفتح والدِّمن بالكسر السرقين المتلبّد والبعر.

أمالي الشجري : ٢ / ٢٣٣ والبيان : ٢ / ٢٩٣ وشرح المفصل : ٤ / ٩ وشرح الكافية : ٢ / ٥٤ وشواهد العيني على شرح الأشموني : ٤ / ٢١٦ والهمع : ٢ / ٢١٧ والدرر اللوامع : ٢ / ٢٣٨ والخزانة ـ بولاق ـ ٢ / ٥٣٧ وتاج العروس ـ دمن ـ.

(٣) المحتسب : ٢ / ٣٤٧.

(٤) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٥٠ : (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي).

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٥٠.

٥٧١

فَلاَ تَخْشَوهُم واخْشَوْنِي) (١) كقولَكَ مُبْتَدِئاً : ألا زيدٌ فاعرضْ عَنْهُ وَأَقبْلِ علَيَّ (٢).

إِضمار قَدْ

قَرَأَ عِكْرِمة : (لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة دَخَلُواْ الْجَنَّةَ) (٣). وَقَرَأ طلحة بن مُصَرّف : (بِرَحْمة أدْخِلُوا الجنّة) أَيْ : فُعِلَ ذَلِكَ بِهِم.

قَالَ أَبو الفتح : الذي في هاتين القراءَتين خطابُهُم بقولِهِ سبحانه : (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وطريق ذلِكَ أَنَّ قوله : (أَهَؤلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُم لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة) الوقف هنا ، ثُمَّ يُستَأَ نَف فَيُقال : دَخَلُوا الجنّة أَوْ أُدْخِلُواالجَنَّةَ ، أَيْ : قَدْ دَخَلُوا أَوْ أُدْخِلوُا ، وإضمار (قَدْ) موجود في الكلام ، نحو قَوْلِهِ : (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُم) (٤) أي : قد حَصِرَتْ صُدُورُهُم ، أي : فَقَد دَخَلُوا الجَنَّةَ فَقَال لَهُم : (لاَ خَوْفٌ عَلَيكُم وَلاَ أَنْتُم تَحزَنُونَ) (٥).

(لا) النافية

قَرَأ ابنُ مُحَيصِن : (وَلاَ يُضَارُّ) (٦) رَفْعٌ.

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٥٠ : (إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم فَلاَ تَخْشَوهُـم واخْشَوْنِي).

(٢) المحتسب : ١ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأعراف : ٧ / ٤٩ : (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ).

(٤) سورة النساء : ٤ / ٩٠ : وتنظر : ص : ٥٦. لملاحظة الآراء حولَ هذه الآية.

(٥) المحتسب : ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٦) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٢٨٢ : (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِـبٌ وَلاَ شَهِيدٌ).

٥٧٢

قَالَ ابنُ مجاهد : لاَ أَدرِي ما هي؟ قَالَ أَبو الفتح : هذا الذي أَنكره ابنَ مجاهد معروفٌ ، وذلكَ على أنْ تَجْعَلَ (لا) نفياً أي : وليس ينبغي أنْ يُضَارَّ كقوله :

عَلَى الحَكِمِ المَأتِي يَوماً إذَا قَضَى

قَضِيَّتَهُ أَلا يَجُورَ وَيَقْصِدُ (١)

فَرَفَع (يقصدُ) على أَنَّهُ أَرادَ : وينبغي لَهُ أَنْ يقْصدَ فَرَفَعَ يَقْصِدُ كَمَا يرتفعُ ينبغي (٢) فكذا هذا أي : وينبغي (ألاَ يُضَار). وَإنْ شِئْتَ كَانَ لفظْ الخَبر عَلَى مَعْنَى النَّهي حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : وَلاَ يُضَارِرْ ، كَقْولِهِم في الدُّعَاءِ : يرحمُهُ اللهُ أيْ : لِيَرْحَمْهُ اللهُ ويغفرُ اللهُ لَكَ أَيْ : لِيَغفرَ اللهُ لَكَ ، وَلاَ يرحمُ اللهُ قَاتِلَكَ فرُفِعَ عَلَى لَفْظِ الخَبَرِ وَأَنْتَ تُرِيدُ : لاَ يَرحمْهُ اللهُ جزماً فَتأتِي بِلَفْظ الخَبَرِ وَأَنْتَ تُريدُ مَعْنَى الأمْرِ والنَّهي عَلَى مَا ذَكَرْنَا (٣).

قَرَأ أَبو مُسلم صاحبُ الدولة : (فَلاَ يُسْرِفُ فِي القَتْلِ) (٤).

قَالَ أبو الفتح : رفع هذا على لفظ الخبر بمعنى الأَمر كقولِهِم : يرحمُ اللهُ زيداً ، فهَذا لفظ الخبر ، وَمَعْنَاهُ الدعاءُ. أَيْ : لِيَرْحَمْهُ اللهُ ومثله قوله :

__________________

(١) البيت لعبد الرَّحمن بن أُمِّ الحَكَمِ ويُنسَبُ إلى أَبِي اللحَّام التَّغلبي واسمُهُ حُرَيث.

ويروى (حق) مكان (يوم). انظر : الكتاب : ١ / ٤٣١ وشرح المفصل : ٧ / ٣٨ واللسان : ٤ / ٣٥٣ والخزانة ـ بولاق ـ ٣ / ٦١٣.

(٢) قال الأخفشُ : أرادَ فينبغي أَنْ يقصدَ فلمَّا حذفه وأوقع يقصد موقع ينبغي رَفَعَهُ لوقوعِهِ موقع المرفوع. وقال الفرَّاء : رفعه للمخالفةِ لاَِنَّ معناهُ مُخَالِفٌ لِمَا قبلهُ.

لسان العرب : ٤ / ٣٥٣.

(٣) المحتسب : ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٤) من قوله تعالى من سورة الإسراء : ١٧ / ٣٣ : (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِّي الْقَتْلِ).

٥٧٣

(وَالمُطَلّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) (١) أي : لِيَتَرَبَّصْنَّ ، وَإنْ شِئْتَ كَانَ معناهَا دونَ الأمر ، أَيْ : يَنْبَغِي أَلاَّ يُسْرِفَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَربَّصْنَ. وَعَلِيهِ قولُهُ :

عَلَى الحَكَمِ المَأَتِي يوماً إذَا قَضَى

قضيتَهُ أَلاَّ يجورَ ويَقْصِدُ (٢)

فَرَفَعَهُ عَلَى الاستئنافِ وَمَعْنَاهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ (٣).

(لا) الزائدة

قَرَأَ علي عليه السلام وابن عباس رضي اللهُ عنه بِخِلاَف وَسعيدُ بنُ جُبَيرْ وأَنسُ بنُ مالك ومحمّد بن سيرين وأَبَي بن كعب وابنُ مسعود وميمون بن مهران : (ألاَّ يَطَّوَّفَ بِهما) (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

(٢) تقدَّمَ الشاهد في : ص : ٥٧٣.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٠ ـ ٢١.

(٤) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٥٨ : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا). على أَنَّ نسبة هذه القراءة إلى الإمام علي عليه السلام لم تثبتْ بوجه صحيح البتة ، والثابتْ عن أهلِ البيت عليهم السلام قراءة الآية كما في المصحف ، فقد سئل الإمـام الباقر عليه السلام عن قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآ ئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ، فقال عليه السلام : «الطواف بهما واجب مفروض ، وفي قول الله عزّوجلّ هذا بيان ذلك ، ولو كان في ترك الطواف بهما جُنَاحاً ، وكذلك في ترك الطواف بهما رخصة ; لقال : فلا جناح عليه ألاّ يطوف بهما ، ولكنّه لما قال : (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ، عُلم أنَّهم كانُوا يَرون في التَّطوّفِ بهما جُناحاً ، وكذلك كان الأمر ، كان الأنصار يُهِلّونَ لِمَناة ، وكان مَنَاةُ حذوَ قديد ، فكانوا يتحرّجُون أنْ يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلمّا جاء الإسلام سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ذلك ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)» ، نقله البحار : ٩٦ / ٢٣٨ ـ

٥٧٤

...

__________________

٢٣٩ / ١٧ عن : دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد (ت / ٣٦٣ هـ) : ١ / ٣١٥ ـ ٣١٦. وفي الجامع لأحكام القرآن تحقيق الدكتور التركي : قال أنس بن مالك كنَّا نرى أنَّها من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنها ، فأنزلَ الله عزَّوجلَّ : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآ ئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ، ويُفهم من لسان حديث الإمام الباقر عليه السلام وجود من لم يرَ وجوب الطواف بسببِ الفَهْمِ الخَاطِئ لتلكَ الآية ، وهو كذلك ، فهذا عروة بن الزبير (ت / ٩٣ هـ) كان لا يرى على أَحد جُناحاً في ترك الطواف ، حتّى قال لعائشة : ما أُبالي أنْ لا أطوَّفَ بينهما. فقالت له : بئس ما قلتَ يا ابنَ أختي ، طافَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وطافَ المسلمون ، فلو كانتْ كما تقولُ ، لكانت فلا جناح عليه ألا يطَّوَفَ بهما ، فقد سنَّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله الطواف بينهما فليس لأحد أَنْ يَترُكَ الطوافَ بينهما فتبيّنَ له الخطأ. ينظر : السنن الكبرى : ٦ / ٢٩٣ / ١١٠٠٩ ، و ٦ / ٤٧٥ / ١١٥٤٨ ، والجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٤٧٠ والبحر المحيط تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض : ١ / ٦٢٧ ، والدرّ المنثور تحقيق الدكتور التركي : ٢ / ٨٧ ، و ٩١ ، وقال القرطبي : روى عطاء عن ابن عباس انه قرأ : (ألا يَطَّوفَ بهما) ثمّ قال : وهي قراءة ابن مسعود ، ويروى أنَّها في مُصحَفِ أُبَي ، ويُروى عن أنس مثل هذا ، وهذا خلاف المصحف فلا يترك ما قد ثبتَ في المُصحَف إلى ما لا يُدرَى أصحتْ أم لا؟ ثم قال القرطبي : وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع ، والرواية عن أنس قد قيل : إنّها ليستْ بالمضبوطةِ أو تكون (لا) زائدة للتوكيد ، ولم ينسبْها القرطبي ولا أبو حيَّان ولا ابن الجوزي ولا السيوطي إلى الإمام علي عليه السلام ، وقد اعتاد هؤلاء أن يذكروا أَسماءَ القُرَّاءِ ولا سيما أَبي حيانَ ولكنَّهم كلّهم لم يذكروا أَنَّ الإمام علي عليه السلام قرأ بها مع من قرأ هذه القراءة ممّا يُثيرُ الشكَّ في كون إقحام اسمه عليه السلام من عملِ النُّسَّاخ ، ويُعزِّزُ هذا الشكَّ قول النّاسِخ قرأ علي وابن عباس (كرّم الله وجوههما) المحتسب : ١ / ١١٩ وهذه ليست لغة أبي الفتح الرصينة ، فلو كانت منه لقال (كرّم الله وجهيهما) ، ثمّ إذا كان بعضُهم يقول عن أمير المؤمنين علي عليه السلام : كرّم الله وجهه لأ نَّه امتازَ عن غيره بأ نَّه ما سجد لصنم

٥٧٥

قَالَ أَبُو الفتح : ظاهرهُ أَنَّهُ مَفْسُوحٌ في تَركِ ذَلِكَ. وَقَد يمكن أيضاً أنْ تكونَ (لا) على هذه القراءة زائدة.

فيصير تأويلهُ وتأويل قراءة الكافّة واحداً حتَّى كأَ نَّهُ قال : فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بهما ، وزاد (لا) كما زيدت في قوله تعالى : (لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مِّن فَضْلِ اللَّهِ) (١) أَيْ لِيَعْلَمَ (٢).

وَكَقَوْلِهِ :

مِنْ غِيرِ لاَ عصْـف وَلاَ اصـطـرافِ (٣)

__________________

قط ، ولم يخالطِ الشِّرْكُ وعيَهُ طرفةَ عين ، فما معنى أنْ يُقال ذلكَ عن ابنِ عباس الذي وُلِدَ بعدَ البعثة بعشر سنوات ، وقد أسلمت أُمّه بعد إسلام خديجة عليها السلام!! الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٤٧٧ ، وزاد المسير : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٢٧ ، والدر المنثور : ٢ / ٨٧ ، و ٩٢ ، ولهذا جاء حديث الإمام الباقر عليه السلام مُوَضّحاً أنَّ الذي يُستعمل للدلالة على عدم الوجوبِ عيناً هو رفعُ الإثمِ عن التَّرْكِ ، وأمَّا رفعُ الإثم عن الفعل فقد يُستعمل في المُبَاح كما يُستعمَل في المَندُوب والواجب أيضاً. وحيث أَنَّ بعضَ المُخاطَبين كانُوا يفهمون الإثم في الطواف بين الصفا والمروة للسبب المذكور ، فخُوطِبُوا بنفي الإثم وإنْ كان الفعل في نفسه واجباً. فالآية الشريفة جاءتْ لنفي زعم الإثم في الطواف بين الصفا والمروة ، لا لإفادة أنَّ الطواف بينهما مباح أو ليس بواجب. وظاهر القراءة المذكورة دالٌّ على عدم وجوب الطواف ، ولكن لم يأخذ أحدٌ بذلك الظاهر ، وصَرّحُوا باحتمال زيادة (لا) في تلك القراءة للتوكيد. كما في : مجمع البيان : ١ / ٤٤٢ ، والجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٤٧٧ ، وقد شكّك الأخير ، كما مرَّ ، بنسبة تلك القراءة إلى الصحابة.

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٩.

(٢) مضى على ذلك أئمّة اللغة : انظر : الكتاب : ٢ / ٣٠٦ والحُجَّة : ١ / ١٢٢ والمقتضب : ١ / ٤٧ والتَّمام : ١٢٠ والكشاف : ٢ / ٨٩ و ٤ / ٤٨٣ وأَمالي الشجري : ٢ / ٢٢١ و ٢٣١ والجنى الداني : ٣٠٨ والبحر المحيط : ٤ / ٢٧٢.

(٣) للعجاج. ويروى (بغير) مكان (من غير) والعصف : الكسب ، والاصطراف : التصرّف في وجوه الكسب. انظر : الديوان : ٤٠ والخصائص : ٢ / ٢٨٣ واللسان : ١١ / ١٥٥.

٥٧٦

أي : مِنْ غَيرِ عَصْف ، وَهُوَ كَثيرٌ (١).

وروى الـمُـفَضَّلُ عَنِ الأَعمش عن يحيى وإبراهيم وأصحابِهِ : (أَلاَّ تَقْسِطُوا) (٢) بفتح التاء.

قَال ابنُ مجاهد : ولا أَصلَ لهُ.

قَالَ أَبو الفتح : هذا الذي أنكره ابن مجاهد مستقيم غير منكر ، وَذَلِكَ عَلَى زيادةِ (لاَ) حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : وَإنْ خِفْتُمْ أَنْ تَقْسِطُوا في اليتامى أي : تجوروا.

يُقال قسط إذا جَارَ وَأَقسط إذا عَدَلَ.

قَالَ اللهُ جلَّ وَعَلا : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (٣) وَزِيَادةُ (لا) قد شاعتْ عَنْهُم واتّسعتْ ، مِنْهُ قُوْلُهُ تَعَالَى : (لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) (٤) وقوله : (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) (٥) وَعَلَيه قَوْلُ الراجز :

وَمَا أَلوم البِيضَ أَلاَّ تَسْخَرَا

إذَا رَأَينَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا (٦)

__________________

(١) المحتسب : ١ / ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ٣ : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ).

(٣) سورة الجن : ٧٢ / ١٥.

(٤) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٩.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٩.

(٦) ينسب هذا الرجز إلى رؤبة وينسب لأبي النَّجم. الشَمَط : الشَّيبُ.

والقفندر : القبيح المنظر : وفسَّرَهُ ثعلب بالشيب في القفا. المقتضب : ١ / ٤٧ ومجالس ثعلب : ١ / ١٦٥ والخصائص : ٢ / ٢٨٣ وأمالي الشجري : ٢ / ٢٣١ والمخصص : ٢ / ١٥٧ والجمهرة : ٣ / ٣٣٤ واللسان : ٦ / ٤٢٥.

٥٧٧

أي : أنْ تَسْخَرَ ، والأمر فيهِ أوْسَعُ فبهذا يُعْلَمُ صحةُ هَذِهِ القراءَة (١).

(إِنْ) النافية

قَرَأَ الحَسَن : (سُبْحَانَهُ إِنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (٢) بكسر الأَلف.

قَالَ أَبَو الفتح : هذه القراءة توجبُ رَفْعَ (يكونُ) وَلَم يذكر ابنُ مجاهد إعرابَ يكونُ وإنَّما يجبُ رفعُهُ لاَِنَّ (إنْ) هُنَا نَفي (٣) كَقَوْلِكَ : مَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَهَذَا قَاطع (٤).

وَقَرأَ ابنُ مَسْعُود وَالأَعْمَشُ : (إِنْ كُلٌّ إِلاّ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) (٥).

قَالَ أَبو الفتح : مَعْنَاهُ : مَا كُلٌّ إلاَّ واللهُ لَيُوَفِّيَنَّهم كَقَوْلِكَ : مَا زيدٌ إلاّ لأِضربَنَّهُ ، أَيْ : مَا زيدٌ إلاّ مُسْتَحِقٌ لاَِنْ يُقَالَ فِيهِ هَذَا وفيهِ وَجْهٌ (٦) ثَان (٧).

وَقَال اللهُ تَعَالى : (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَ نَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (٨) قَالَ أَبُو الفتح : وَهُوَ أَنْ تَكُون (إنْ) بِمَعْنَى مَا ، أَيْ : مَا كَانَ للرحمن ولدٌ (٩) ، فَأَنَا

__________________

(١) المحتسب : ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٧١ : (إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).

(٣) (إِنِ) النافيةُ ضَربَانِ : عاملةٌ وغيرُ عاملة ، فالعامِلَةُ تَرفَعُ الاسمَ وتنصبُ الخبرَ وفي هذا خلاف. وغير العاملة كثيرٌ وجودها في الكلام. الجنى الداني : ٢٢٩ ـ ٢٣١.

(٤) المحتسب : ١ / ٢٠٤.

(٥) من قوله تعالى من سورة هود : ١١ / ١١١ : (وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(٦) الوجه الثاني هو أن تكون (أَنْ) مُخفَّفَة من الثقيلة وإلاّ زائدة.

(٧) المحتسب : ١ / ٣٢٨.

(٨) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨١.

(٩) البيان في غريب إعراب القرآن : ٢ / ٣٥٥.

٥٧٨

أَوَّلُ العَابِدِينَ لَهُ ، لاَِ نَّهُ لا وَلَدَ لَهُ (١).

أَنْ بمعنى أَيْ

قَرَأَ الأَعْرَج بِخِلاف وَأَبو رَجاء وَقَتَادَة وعيسى وَسلاَّم وعمرو بن ميمون وَرُوِيَ عَنْ عَاصم : (أَنْ لَعْنةُ اللهِ) (٢) (وَأَنْ غَضَبُ اللهِ) (٣).

قَالَ أَبو الفتح : لاَ يَجوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) هُنَا بِمَنْزِلَةِ أَيْ لِلْعِبَارَةِ كَالَّتي فِي قَوْلِ اللهِ سبحانه : (وَانطَلَقَ الْمَلاَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) (٤) مَعْنَاهُ : أَيْ امْشُوا.

قال سيبويه : لاَِ نَّهَا لا تَأَتِي إلاَّ بَعْدَ كَلام تَام (٥) ، وَقولُهُ : (وَانطَلَقَ الْمَلاَُ) كلامٌ تامٌّ وَلَيْسَتْ (الْخَامِسَةَ) وَحْدَهَا كلاماً تامّاً فتكون (أَنْ) بمعنى أَيْ ، ولا تكونُ (أَنْ) هُنَا زائدةً كالتي فِي قَوْلِهِ :

وَيَوْماً تُوَافِينَا بِوَجْه مُقَسَّم

كَأَنْ ظَبية تَعْطُو إلى وَارِقِ السَّلَمْ (٦)

لاَِنَّ مَعْنَاهُ والخامسة أَنَّ الحالَ كَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِراءَة الكافَّةِ : (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ) (٧).

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٥٨.

(٢) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٧ : (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).

(٣) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٩ : (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

(٤) سورة ص : ٣٨ / ٦.

(٥) عبارة سيبويه : «لأَن أي إنّما تجيء بعد كلام مستغن».

الكتاب : ١ / ٤٨٠.

(٦) تقدَّم الشاهد في : ص : ١٨٣.

(٧) المحتسب : ٢ / ١٠٣.

٥٧٩

حذفُ أَحدِ الحرفينِ الزائدينِ

مِنْ ذَلِكَ قراءة السُّلَمِي والحَسَنِ وابنِ مُحيصن وَسَلاَّم وَقَتَادَة : (يَوَقَّدُ) (١).

قَالَ أَبُو الفتح : المُشْكِل مِنْ هَذَا (يَوَقَّدُ) وَذَلِكَ أَنَّ أَصلَهُ يَتَوقَّدُ فَحَذَفَ التاءَ لاجتماعِ حرفينِ زائدينِ فِي أَوَّلِ الفِعْلِ وَهُمَا : الياءُ والتاءُ الَمحْذُوفَة. والعرفُ فِي هَذَا أَنَّهُ إنَّمَا تُحْذَفُ التاءُ إذَا كَانَ حَرفُ المُضَارعة قَبْلَها تاء نحو : (تَفَكَّرُونَ) و (تَذَكَّرُونَ) (٢) والأصْلُ تَتَفَكَّرُونَ فيكونُ اجتماعُ المِثْلَينِ زَائِدَينِ ، فَيُحْذَفُ الثاني مِنْهُمَا طلباً لِلخِفَّةِ بِذَلِكَ وَلَيْسَ فِي يَتَوَقَّد مِثلانِ فيحذف أَحَدَهُمَا لَكِنَّهُ شَبَّهَ حَرْفَ مُضَارَعَة بحرفِ مُضَارَعَة أَعنِي شَبَّهْ اليَاءَ فِي يَتَوَقَّد بالتَّاء الأُولَى فِي تَتَوَقَّد إذ كَانَا زائدين كَمَا شُبَّهَتِ التَّاءُ والنُّونُ في تَعِدُ وَنَعِدُ بِالياءِ فِي يَعدُ فَحُذِفَتِ الواوُ مَعَهُمَا كَمَا حُذِفَتْ مَعَ الياءِ فِي يَعِد.

وَقِياسُ مَنْ قَالَ (يَوَقَّدُ) ـ عَلَى مَا مَضَى ـ أَنْ يَقُولَ أَيضاً : أَنَا أوقَدُ وَنَحْنُ نَوَقَّدُ فَيُشَبه النُّون والهمزة بالتَّاءِ كما شَبَّه الياءَ بِهَا فَيَما مَضَى.

وَنَحوٌ مِنْ هَذَا قِراءَةُ مَنْ قَرأَ : (نُجِّي المؤْمِنينَ) (٣) وَهُوَ يُريدُ نُنْجِي المُؤمنين ، فَحَذَفَ النَّونَ الثَّانيةَ وَإنْ كَانَتْ أَصليةً وَشَبَّهَهَا ـ لاجتماعِ المِثْلين ـ بالزائدةِ. فَهَذَا تَشْبِيه أَصل بِزائد لاتفاقِ اللَّفظين ، والأول تشبيه حرف

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٣٥ : (يُوقَدُ مِن شَجَرَة مُّبَارَكَة زَيْتُونِة لاَّ شَرْقِيَّة وَلاَ غَرْبِيَّة).

(٢) كقوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ١٥٢ : (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وغيرها ، أصلها : لعلّكم تتذكّرون فحذفت التاء الثانية من التاءين الزائدتين في ذَكَرَ.

(٣) من قوله تعالى من سورة يونس : ١٠ / ١٠٣ : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِك حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

٥٨٠