أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه

قَرَأَ مُسْلِم بن جُنْدَب : (وأَنَّ الظَّالِمينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ) (١) نصبٌ.

قَالَ أَبو الفَتْحِ : هُو معطوفٌ عَلَى (كَلِمَةِ الفَصْل) أَيْ : ولَولاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ ، وأَنَّ الظَّالِمينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ ، ولَولاَ أَنَّ الظَّالِمِينَ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ أنَّهُمْ سَيَخْتَارُونَ ما يوجِبُ عَلَيْهِم العذاب لهم لَقُضيَ بَيْنَهُمْ.

وجَازَ الفَصْلُ بَيْنَ الَمعْطُوفِ والَمعْطوفِ عَليهِ بجوابِ (لَوْلاَ) ، الَّذِي هُو قَولُهُ : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لاَِنَّ ذَلِك شَايِعٌ وكَثيرٌ عَنْهُم.

قَالَ لَبِيد :

فَصَلْقنَا فِي مُرَاد صَلْقَةً

وصُدَاء أَلْحَقَتْهُمْ بِالثَّلَلْ (٢)

أيْ : فَصَلَقْنَا فِي مُرَاد وصُدَاء صَلْقَةً.

وفيهِ أَيضاً فَصْلٌ بَيْنَ الموصوفِ الَّذِي هُو صَلْقَةٌ والصِّفَة الَّتِي هِيَ قَولُهُ : أَلْحَقَتْهُم بِالثَّلَلْ ، بالمَعْطُوفِ الَّذِي هُو قَولُهُ : (وصُدَاء) ، والْمَوصوفُ مَعَ ذَلِكَ نَكِرةٌ. ومَا أَقْوى حَاجَتَها إِلَى الصفَةِ! ومِثْلُهُ مَا أنشَدَنُاهُ أَبو علي مِنْ قـولِ الآخر :

أمَرَّتْ مِنَ الكَتَّانِ خَيْطَاً وأَرْسَلَتْ

رَسُولاً إلَى أُخْرَى جَرِيًّا يُعِينُهَا (٣)

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الشورى : ٤٢ / ٢١ : (وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

(٢) فصلقنا : فصحنا. الثلل : الهلاك ، ومراد وصُدَاء قبيلتان. الديوان : ١٩٣ والمحتسب : ٢ / ٢٥٠ ولسان العرب : ـ ثلل ـ و ـ صلق ـ ١٢ / ٧٤ و ١٣ / ٩٥ ومعجم شواهد العربية : ٢ / ٢٦١.

(٣) الجَرِيْ : الوكيل ، ويريدُ بهِ الشاعرُ الرسولَ لاَِ نَّهُ يَجْري في إداءِ رِسَالته.

أراد : وأرسلت إلى أُخرى رسولاً جرياً. انظر : التمام : ٩٣ والخصائص : ٢ / ٣٩٦.

٤٤١

فَفَصَلَ بَيْنَ قَولِهِ : (رَسُولاً) وبَيْنَ صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ (جَرِيًّا) بِقَولِهِ : إلى أُخْرَى ، وهَو معمولُ أَرْسَلَتْ. عَلَى هَذَا حَمَلَه أبو عَلَيّ وإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنّ يَكُونَ صِفَةً لـِ (رَسُول) متعلّقة بمحذوف وأَنْ يَكُونَ أَيضاً مُتَعلّقاً بِنَفْسِ (رسول).

وقَدْ يجوزُ في (أنَّ) أَنْ تَكونَ مَرْفُوعةً بفعل مُضْمَر حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : ووجَبَ ، أَو وحَقَّ أَنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. يُونسكَ بانقطاعهِ عَنِ الأوَّلِ إلى هُنا قِرَاءَةُ الجماعةِ بالكَسْرِ و (إِنَّ) (١).

زِيَادَةُ الوَاوِ عِنْدَ الكُوفِيينَ

قَرَأَ طلحة ـ رواهُ عبدُ الرحمنِ بن محمّد بن طلحة عَنْ أَبيه عَنْ جَدِّهِ ـ : (نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمُ وَلِتُكَلِّمُنَا أَيْدِيِهم ولِتَشْهَدَ أَرُجُلُهُمْ) (٢).

قَالَ أبو الفتح : مَنْ ذَهَبَ إلَى زِيادَةِ الواو نَحْو قَولِ اللهِ سُبْحَانَهُ : (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) (٣) جَازَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا المَوضِعَ (٤) فَكأَ نَّهُ اليومَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِم لِتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِم ، فأَمَّا الواو فِي قَولِهِ تعالى : (ولِتَشْهَدَ) فَعَطَفَ عَلَى مَا قبلها وهْو (لِتُكَلِّمَنَا) وعَلى أنَّ زِيادةَ الواو

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) من قوله تعالى من سورة يس : ٣٦ / ٦٥ : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٣.

(٤) ذهب إلى زيادة واو العطف الكوفيون والأخفش والمُبَرِّدُ من البصريين. انظر : معاني القرآن للأخفش : ١٦٣ / أومعاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٨١ والمقتضب : ٢ / ٨٠ والإِنصاف : ١ / ٢٤٣ والمغني : ٢ / ٣٦٢.

٤٤٢

لاَ يَعْرِفُها البصريونَ ، وإنَّمَا هُو لِلْكُوفِيينَ خَاصّة (١).

أَو

قَرَأَ ابنُ أبِي إِسحاق : (أَو نُرَدَّ) (٢) بِنَصبِ الدَّالِ.

قَالَ أَبو الفتح : الَّذِي قَبْلهُ مِمَّا هُو مُتَعَلَّقٌ بهِ قَولُهُ : (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا) ، ثُمَّ قَالَ : (أَوْ نُرَدَّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (٣) ، فَعَطَفَ (نُرَدَّ) عَلَى (يَشْفَعُوا) وهَلْ مَنْصُوبٌ لاَِ نَّهُ جوابُ الاستفهامِ وفيهِ مَعْنَى الـتَّـمَنِّي ، وذلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لاَ شَفِيعَ لَهُمْ وإِنَّما يتمنّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ هُنَاكَ شُفَعَاءَ فَيُردَوا بِشَفَاعَتهِم فَيَعْمَلُوا مَا كَانُوا لا يعملون مِنَ الطاعةِ فَيصَيرُ بهِ المعنى إِلى أَنَّهُ كَأَ نَّهُمْ قَالُوا : إِنْ نُرْزَقَ شُفَعَاءَ يشفعوا لنا أَو نُرْدَدْ (٤).

بَـلْ

قَرَأَ سعيد بن جُبَير : (بَلْ مَكَرُّ اللَّيلِ والنَّهَارِ) (٥) وهْيَ قِراءَةُ أَبي رَزِين أَيْضاً.

وقَرَأ : (بَلْ مَكْرٌ اللَّيلَ والنَّهَارَ) قَتَادَة.

قَالَ أَبو حَاتِم : وقَرَأَ رَاشِد الَّذِي كَانَ نَظَر فِي مَصَاحفِ الحَجَّاحِ : (بَلّ مَكَرَّ) بالنصب.

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢١٦.

(٢ و ٣) من قوله تعالى من سورة الأعراف : ٧ / ٥٣ : (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَو نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).

(٤) المحتسب : ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٥) من قوله تعالى من سورة سبأ : ٣٤ / ٣٣ : (وقَالَ الَّذِينَ استُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ الليلِ والنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ باللهِ ونَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادَاً).

٤٤٣

قَالَ أَبو الفَتْحِ : فَإنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى دخول (بل) هنا ، وإنَّمَا هيَ جوابِ الاستفهامِ؟ وأَنتَ لا تقولُ لِمَنْ قَالَ لَك : أَزيد عِنْدَك؟ : بَلْ هُو عِنْدِي ، وإنَّمَا تَقُولُ : نَعَمْ ، أو لاَ.

قِيلَ : الكلاُم مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ ، وذَلِك فِي قَولِهِم : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم) (١) مَعْنَاهُ الإِنكارُ لَهُ ، والرَّدُّ عليهم في قولِ المُسْتَضْعَفِينَ لَهُمْ : (لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٢) فَكَأَ نَّهُم قَالُوا لَهُمْ فِي الجوابِ : مَا صَدَدْنَاكُم ، فَرَدُّوه ثَانِيةً عَلَيْهِم ، فَقَالُوا : بَلْ صَدَّنَا عَنْهُ تَصَرَّمُ الزَّمانِ عَلَينا وأَنْتُم تَأْمرونَنَا أَنْ نَكْفُرَ باللّهِ.

وقَدْ كَثُرَ عَنْهُمْ تَأَويلُ مَعْنَى النَّفِي وإنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِراً إِلى بادئ اللفظ قَالَ اللهُ تَعَالَى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (٣) أيْ مَا حَرَّمَ إِلاَّ الفَواحِشَ ، وعَليهِ بيتُ الفرزدق :

أنا الدَّافِعُ الحَامِي الذِّمَارَ وإنَّما

يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِكُم أَنَا أَو مِثْلي (٤)

أَيْ : مَا يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِكُم إِلاّ أَنَا. ولِذَلِك عِنْدَنَا ما (٥) فَصَلَ الضَّميرَ

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٢.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٣١.

(٣) سورة الأَعراف : ٧ / ٣٣.

(٤) يروى صدر البيت :

أَنا الضامِنُ الرَّاعي عَلَيْهم وَإنَّمَا

 ......

كما يروى (أَحسابهم) مكان (أَحسابكم). الديوان : ٧١٢ وشرح المفصل : ٢ / ٩٥ و ٨ / ٩٦ والمغني : ١ / ٣٠٨ والهمع : ١ / ٦٢ وشرح التصريح : ١ / ١٠٦ وشرح الأشموني : ١ / ١١٦ والدرر اللوامع : ١ / ٣٩.

(٥) ما زائدة.

٤٤٤

فَقَالَ : أَنَا وأَنْتَ. لا تقول : يقوم أَنَا ، ولا نقعدُ نحنُ ، ولَوْلاَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِرادَةِ النَّفِيِّ لَقَبُحَ الفصلُ ، وأَنْشَدَنَا أَبو عَليّ :

فَاذْهَبْ فَأَيُّ فَتىً فِي الناسِ أَحْرَزَهُ

مِنْ يَومِه ظُلَمٌ دُعْجٌ ولاَ جَبَلُ (١)

أَيْ مَا أَحَدٌ أَحْرَزَهُ هَذَا مِنَ المَوتِ ، ونَظائِرهُ كَثِيرة (٢).

أَو بمعنى بَلْ

روى ابنُ مجاهد عن روح عن أَبي السَّـمَّـال : أَنَّهُ قَرَأَ : (أَوْ كُلَّـمـَا عَهِدُوا) (٣) ساكنة الواو.

قَالَ أَبو الفتح : لاَ يجوزُ أَنْ يَكُونَ سكونُ الواو فِي (أَوْ) هذهِ على أَنَّها في الأَصل حرفُ عطف كَقِراءَةِ الكافّةِ (أَوَ كُلَّمَا) من قبل أَنَّ واوَ العطف لم تُسَكَّنْ في موضع علمناهُ ، وإنَّما يُسَكَّنُ بَعْدَها مِمَّا يُخْلَط مَعَهَا فَيَكُونَانِ كالحرفِ الواحدِ ، نَحو قولِ اللهِ تَعَالى : (وَهُوَ اللهُ) (٤) وقوله سبحانه : (وَهُوَ وَلِيَّهُم) (٥) بِسكُونِ الهاءِ ، فِأَمَّا واو العطف فلا تُسَكَّنُ من موضعين :

أَحَدُهُمَا : أَنَّها في أَوَّلِ الكلمِةِ والسَّاكُن لا يُبتدأ بِه.

والآخر : أَنَّها هُنَا وإِنْ اعَتَمَدتْ عَلَى هَمْزَةِ الاستفَهامِ قَبْلَهَا فَإنَّهَا مَفْتُوحَةٌ

__________________

(١) البيت للمتنخل الهُذَلي يرثي ابنه أُثَيْلَة. ويُروَى (حتفه) مكان (يومه) و (حيل) مكان (جَبل). ديوان الهذليين : ٢ / ٣٥ ، ومعاني القرآن للفرّاء : ١ / ١٦٤ والخصائص : ٢ / ٤٣٣ وأمالي الشجري : ١ / ٧٧ و ٢ / ٣٢ والمغني : ٢ / ٣٥٥.

(٢) المحتسب : ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٩٩ ـ ١٠٠ : (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَات بَيِّنـَات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٣.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٧.

٤٤٥

والمفتوحُ لا يُسَكَّنُ استخفافاً ، وأ نَّـمَـا ذَلِك فِي المَضْمُومِ والمَكْسُورِ نَحو كَرْمُ زيد وعِلْم اللهِ. فَإِذَا كَانَ كَذلِك كَانَتْ (أَو) هَذِهِ حَرْفاً واحداً ، إِلاَّ أَنَّ مَعَنَاهَا مَعْنَى بَلْ لِلتَّرْكِ والتَّحَوُّلِ ، بمنزلةِ أَمْ المنقطعة ، نحو قولِ العَرَبِ : إنَّها لاَبِلٌ أَمْ شَاءٌ (١) ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : بَلْ أَهْيَ شَاءٌ؟ فَكَذَلِك مَعْنَى (أو) ها هنا حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) بَلْ (كَلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدَاً نَبَذَهُ فَريقٌ مِنهم). يؤكّد ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ، فكأ نَّهُ قال : بل كُلَّمَا عاهدُوا عَهْداً بَلْ أكثرهم لا يؤمنون.

و (أَو) هَذِه التي بِمَعَنى أَمِ المنقطعة ـ وكِلْتَاهُمَا بِمَعْنَى بَلْ ـ مَوجُودَة فِي الكَلامِ كثيراً ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَتَهَدَّدُهُ : واللهِ لاََفْعَلَنَّ بِكَ كَذَا ، فَيَقُولُ لَهُ صَاحِبُهُ : أَو يُحْسِنُ اللهُ رَأَيْكَ ، أو يُغَيِّرُ اللهُ مَا فِي نَفْسِك. مَعْنَاهُ : بَلْ يُحْسِنَ اللهُ رَأَيَكَ ، بَلْ يُغيِّرُ اللهُ مَا فِي نَفْسِكَ. وإلى نحو هَذَا ذَهَب الفرَّاءُ (٢) فِي قَولِ ذِي الرِّمَّة :

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمسِ فِي رَونَقِ الضْحَى

وصورَتِها أَو أَنْتِ فِي العَيْنِ أَمْلَحُ (٣)

قَالَ : مَعْنَاهُ : بَلْ أَنتِ فِي العينِ أَمْلَحُ (٤) ، وكَذَلِك قَالَ في قَولِ اللهِ تعالى :

__________________

(١) انظر : الكتاب : ١ / ٤٨٤ ومعاني الحروف : ٧٠ والأُزهية : ١٣٦ ورصف المباني : ٩٥ والمغني : ١ / ٤٥ وشرح المفصل : ٨ / ٩٧.

(٢) قال أبو الفتح : (أو إنَّمَا أصْلُ وضْعِها أنْ تَكُونَ لاَِحَدِ الشَّيئَينِ أَينَ كَنتْ وكَيفَ تَصَرَّفَت. فَهْيَ عِنْدَنَا عَلَى ذَلِكَ وإنْ كَانَ بَعضُهُم قَدْ خَفِيَ عَلَيهِ هَذَا مِنْ حَالِهَا فِي بعضِ الأحْوال حَتَّى دَعَاهُ إلى نَقلهَا عَنْ أَصلِ بِابِهَا وذَلكَ أَنْ الفرَّاءَ قَالَ : قَدْ تأتِي بِمَعنَى بِلْ). الخصائص : ٢ / ٤٥٧.

(٣) اُنظر : معاني القرآن للفرّاء : ١ / ٧٢ والخصائص : ٢ / ٤٥٨ والأُزهية : ١٢٨ والخزانة

ـ بولاق ـ ٤ / ٤٢٣. وليس في ديوان ذي الرِّمَّة.

(٤) انظر : معاني القرآن للفرّاء : ١ / ٧٢.

٤٤٦

(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) (١) ، قَالَ : مَعُنَاهُ : بَلْ يَزِيِدونَ (٢) وإِنْ كَانَ مَذْهَبُنَا نَحْنُ فِي هَذَا غيرُ هَذَا (٣) فَإِنَّ هَذَا طريقٌ مَذْهُوبٌ فيهِ عَلَى هَذَا الوجْهِ (٤).

أَمْ بِمَعنَى بَلْ

قَرَأَ الناسُ : (أَمْ هُمْ قومٌ طَاغُونَ) (٥) وقَرَأَ مُجَاهِد : (بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُونَ) فِي الطُّورِ (٦).

قَالَ أَبو الفتح : هَذَا هُو المَوضِعُ الَّذِي يقولُ أَصْحابُنَا فِيه : إنَّ أَمِ المنقطعة بمعنى بَلْ (٧) ، للتَّركِ والتَّحَوُّلِ ، إلاَّ أَنَّ مَا بَعْدَ بَلْ مُتَيَقَّنٌ ومَا بَعْدَ أَمْ مَشْكُوكٌ

__________________

(١) سورة الصافّات : ٣٧ / ١٤٧.

(٢) اُنظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٩٣.

(٣) قال في الخصائص : (أَمَّا قولُ الله سبحانه : (وَأَرْسَلنَاهُ إِلى مِاْئَةِ أَلف أَو يَزِيدُونَ) فَلاَ يكونَ فِيه (أو) عَلَى مَذهبِ الفرّاءِ بمعنى (بَلْ) وَلا على مذهَبِ قُطرب في أَنَّها بِمَعنَى الواو ولَكنَّهَا عِندَنَا عَلى بابِها في كونِهَا شَكّاً ، وهَذَا هو رأي البصريينَ. وقال الأخفش في قوله تعالى : (وأَرْسَلْنَاهُ إلى مِاْئَةِ أَلف أَو يَزِيدُونَ) يقول : كانوا كذلك عندكم.

اُنظر : معاني القرآن للأخفش : ١٦٢ / أوالخصائص : ٢ / ٤٦١ والإنصاف : ٢ / ٢٥٤.

(٤) المحتسب : ١ / ٩٩ ـ ١٠٠ ، وقد ذهب إلى مجيء (أو) بمعنى (بل) عبد الله بن عباس ، والخليل ، والمبرّد ، والفرّاء ، وثعلب ، والطبري ، والأزهري ، والجوهري ، وابن جني ، والشريف المرتضى ، والرضي الأسترآباذي ، وأبو حيّان النحوي الأندلسي ، وابن هشام الأنصاري ، وابن منظور ، وغيرهم ممن بيّناه في حاشية من قرأ : (وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْف ويزيدون) في آخر موضوع العطف : ص : ٤٢٢ ، فراجع.

(٥) سورة الطور : ٥٢ / ٣٢.

(٦) آية الطور كما تقدّم : (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) وأما قوله تعالى (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) فهو في سورة الذاريات : ٥١ / ٥٣.

(٧) أصحابُهُ يعني بهم البَصْريينَ وهَذَا قَولُهُمْ. معاني الحروف : ٧٠ والأُزهية : ١٣٥ ورصف المباني : ٩٥ والجنى الداني : ٢٢٥ والمغني : ١ / ٤٥.

٤٤٧

فيهِ مَسؤولٌ عَنْهُ ، وذَلِكَ كَقَولِ عَلقَمةَ بن عَبدَةَ :

هَلْ مَا عَلِمْتَ ومَا استودِعْتَ مَكْتُومُ

أَمْ حَبْلُهَا إذْ نَأَتَكَ اليومَ مَصْرُومُ (١)

كَأَ نَّهُ قَالَ : بَلْ أَحَبْلُهَا إِذْ نَأَتْكَ اليوم مَصْرومُ؟ ويُؤكِّدُهُ قَولُهُ بَعْدَهُ :

أَمْ هَلْ كَبير بَكَى لَمْ يقضِ عَبرَتَهُ

إِثْرَ الأحِبَةِ يَومَ البَينِ مَشْكُومُ (٢)

أَلاَ تَرَى إلى ظهورِ حرفِ الاستفهامِ ، وهْو (هَلْ) فِي قولهِ : أمْ هَلْ كَبِيرٌ بَكَى حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : بَلْ هُو كَبيرٌ؟ تَرَك الكلامَ الأَولَ وأَخَذَ في استفهام مُسْتَأ نَف.

وقَدْ تَوالَتْ (أَمْ) هذه في هذا الموضع من هذه السورة : قال تعالى : (أَم يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ) (٣) ، أَي : بَلْ أيقولون ذلك؟ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُون) (٤) أَي : بَلْ أَهُمْ قومٌ طَاغُونَ؟ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الاستفهامِ ، وإنْ كَانُوا عِنْدَهُ تعالى قوماً طاغينَ ، تَلَعُّبَاً بِهِم وتَهَكُّمَاً عَلَيْهِم. وهَذَا كقولِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِه الَّذِي لاَ يَشكُّ في جَهْلِهِ : أَجَاهِلٌ أَنْتَ؟ تَوبِيخاً لَهُ ، وتَقبِيحاً عَلَيه. ومَعْنَاهُ إنّي قَدْ نَبَّهْتُك عَلَى حالِكَ فانتبه لَها ، واحْتَطْ لِنَفْسِكَ مِنْهَا.

قَالَ صخر الغيّ :

أرائحٌ أَنْتَ يَومَ اثنينِ أَمْ غَادِي

ولَمْ تُسَلِّم عَلَى رَيْحَانَةِ الوادِي (٥)

__________________

(١) الديوان : ٥٠ والكتاب : ١ / ٤٨٧ وأمالي الشجري : ٢ / ٣٣٤ ولسان العرب : ـ أمم ـ ١٤ / ٣٠٣ وشرح المفصل : ٨ / ١٥٣ ورصف المباني : ٩٤ والخزانة ـ بولاق ـ ٤ / ٥١٦.

(٢) الديوان : ٥٠ والكتاب : ١ / ٤٨٧ ولسان العرب : ١٤ / ٣٠٣.

(٣) سورة الطور : ٥٢ / ٣٠.

(٤) سورة الطور : ٥٢ / ٣٢.

(٥) اللسان : ١٨ / ١٢٨ ومعجم شواهد العربية : ١ / ١٢٠.

٤٤٨

لَيْسَ يستفهم نفسه عَمَّا هو أَعلم به. ولكنّه يقبح هذا الرأَي وينعاهُ عليها هكذا معتادُ كلامِ العَرَبِ ، فَاعْرِفْهُ وأْ نَسْ بهِ (١).

البدل

١ ـ بدل الاسم من الاسم

قَرَأَ عِكْرِمة : (جَدّا رَبُّنَا) (٢) ورُويَ عَنْهُ : (جَدٌّ رَبُّنَا) وَغَلِّط (٣) الَّذِي رَواهُ.

قَالَ أَبو الفتح : فأمَّا (جَدٌّ رَبُّنَا) فَإِنَّهُ عَلَى إنكارِ ابنِ مجاهد صحيحٌ وذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ : وأَ نَّهُ تَعَالَى جَدٌّ جَدٌّ رَبُّنَا عَلَى البَدَلِ (٤) ، ثُمَّ حَذَفَ الثانِي وأَقامَ المُضَاف إِليهِ مقامَهُ وهَذَا عَلَى قَولِهِ سُبْحَانَهُ : (إِنَّا زَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينة الكَوَاكِبِ) (٥) ، أَيْ : زينةِ الكواكبِ ، فَـ (الكَوَاكِب) إذاً بدلٌ مِن (زِينَة).

فَإِنْ قُلْتَ : فَإِنَّ الكَواكِبَ قَد تُسَمَّى زِينة ، والرَّبُّ تَعَالى لاَ يُسَمَّى جَدًّا.

قِيل : الكواكبُ في الحقيقةِ ليْسَتْ زينَةً لَكِنَّهَا ذَاتُ الزِّينةِ ، أَلاَ تَرىَ إِلى القَرِاءَةِ بالإِضافِة وهْيَ قَولُهُ : (بزينةِ الكواكبِ) (٦)؟ وأَنْتَ أَيْضاً تَقُولُ : تَعَالَى

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) من قوله تعالى من سورة الجنّ : ٧٢ / ٣ : (وَأَ نَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنـَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً).

(٣) يريد أَنَّ ابنَ مجاهدَ قَد غَلَّطَ الّذي روى هذا الحرف. كما يفهم من كلامِه الآتي.

(٤) وبَهَذا القولِ أَخَذَ أَبو حَيَّان في البحر المحيط : ٨ / ٣٤٧.

(٥) سورة الصافّات : ٣٧ / ٦.

(٦) قرأَ عاصم وحمزة (بزينة) بالتنوين وقَرأَ باقي السبعة بغيرِ تنوين وقرأَ عاصم (الكواكبَ) بالنصب وقرأ الباقونَ بالخفضِ. الكشف عن وجوه القراءات : ٢ / ٢٢١ ومجمع البيان : ٢٣ / ٤٥ والبحر المحيط : ١٧ / ٣٥٢ وإتحاف فضلاء البشر : ٢٢٦.

٤٤٩

رَبُنا كَمَا تَقَولُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا ، فالتعالي مستعمل مَعَهُمَا جَمِيعاً ، كَمَا يُقَالُ يَسُرُّنِي زَيْدٌ قِيامُهُ ، وأنت تقول : يَسُرُّنِي زَيدٌ ، ويَسُرُّنِي قِيَامُهُ. وهَذَا بيانُ مَا أَنْكَرَهُ ابنُ مُجَاهِد (١).

وقَرأَ الأَعرج وابنُ يَعْمَر والحَسن ـ بخلاف ـ وابنُ أبي إِسحاق وعمرو ونُعَيم بن مَيْسَرة : (أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبِ) (٢).

قَالَ أَبُو الفَتْحِ : أَمَّا (الكَذِب) بِالجَرِّ فَبَدَلٌ مِنْ (مَا) فِي قَولِهِ : (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُم) أَيْ : لاَ تَقُولُوا لِلْكَذِبِ الَّذِي تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ (٣).

٢ ـ بدل الفعل من الفعل

رَوى الأَعمش قَالَ : في قراءة ابنِ مسعود : (يُحَاسِبْكُمْ بهِ اللهُ يَغْفرْ لِمَنْ يَشَاءُ ويعذّبْ مَنْ يَشَاءُ) (٤) جزمٌ بغير فاء.

قَالَ أَبو الفتح : جَزْم هذا على البدل (٥) من (يُحَاسِبُكُم) عَلَى وجهِ التفصيلِ لجملةِ الحسابِ ، ولاَ محالةَ إنَّ التفصيلَ أوضحُ منَ الـمُـفَصَّل فَجَرى مجرى بَدلِ البعضِ أو الاشتمال. والبعضُ : كضربتُ زيداً رأسَهُ والاشتمالُ : كأُحِبُّ زيداً عَقْلَهُ.

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٢) من قوله تعالى من سورة النحل : ١٦ / ١١٦ : (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّـتَفْـتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

(٣) المحتسب : ٢ / ١٢.

(٤) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٢٨٤ : (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).

(٥) قال ابنُ الأَنباري : الجزم بالعطف على (يُحَاسِبْكم). انظر : البيان في غريب إعراب القرآن : ١ / ١٨٦.

٤٥٠

وهَذَا البَدَلُ ونَحُوهُ واقِعٌ فِي الأَفعالِ وقوعَهُ فِي الأَسماءِ لِحاجَةِ القَبيلَينِ إلَى البيانِ ، فَمِنْ ذَلِك قولُ اللهِ سُبْحَانَهُ : (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِك يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (١) لاَِنَّ مُضَاعَفَةَ العَذَابِ هُو لُقُيُّ الأَثَامِ.

وعَليهِ قَولُهُ :

رُويداً بَنِي شَيْبَانَ بَعَضَ وعَيدِكُمْ

تُلاَقُوا غداً خَيْلِي عَلَى سَفَوَانِ

تُلاَقُوا جِياداً لاَ تَحيدُ عَنِ الوَغى

إذَا مَا غَدَتْ فِي المَأزِقِ المُتَدَانِي

تُلاقُوهُمُ فَتَعْرِفُوا كَيْفَ صَبْرُهُمْ

عَلَى ما جَنَتْ فِيهم يَدَا الحَدَثَانِ (٢)

فَأَبْدَلَ تُلاقُوا جياداً مِنْ قَوْلِهِ : تُلاَقُوا غداً خَيْلِي ، وَجَازَ إِبْدَالُهُ مِنْهُ للبيان وإِنْ كَانَ مِنْ لفظه وعلى مثالهِ لما اتّصل بالثاني من قوله جياداً لا تحيدُ عن الوغَى ، وأبدلَ تُلاقُوهم من تلاقُوا جياداً لِمَا اتَّصَلَ بِهِ من المعطوفِ عليهِ وهو قولُهُ : (فَتَعْلَمُوا (٣) كَيفَ صَبْرُهُمُ) وإِذا حصلتْ فائدةُ البيانِ لم تُبلْ أَمِنْ نَفْسِ المُبْدَلِ كَانَتْ أُمْ مِمَّا اتَّصَلَ بهِ فضلةً عليهِ أُمْ مِنْ مَعْطُوف مَضْمُوم إِليهِ ، فَإِنَّ أكثر الفوائد إِنَّما تُجْتَنَى من الألحاقِ وَالفَضلات ، نَعَمْ وَمَا أَكثَر مَا تُصْلحُ الجُملَ وَتُتَمِّمُها ، وَلَوْلا مَكَانُها لَوَهنتْ فَلَمْ تستمسك.

أَلاَ تَرَاك لَوْ قُلْتَ : زيدٌ قامتْ هندٌ لَمْ تتمّ الجملة؟ فلو وصلت بِهَا فَضْلَة ما لَتَـمَّـتْ ، وَذَلِك كَأَنْ تَقُول : زيدٌ قَامتْ هندٌ فِي دارهِ أوْ مَعَهُ أو بسببهِ أَو لِتُكرِمَهُ أَوْ

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) الأبيات لِوَدَّاك بن ثُمَيل المازني ويروى (رويدَ بني شيبان) بالإضافةِ وَسَفَوان اسمُ ماء على أميال من البصرة هي اليوم المنطقة الحدودية بين العراق والكويت. ديوان الحماسة : ١ / ٣٢.

(٣) في البيت (فتعرفوا).

٤٥١

فَأكرَمْتهُ أو نحو ذلك ، فَصَحَّتِ المسألةُ لِعَودِ الضميرِ عَلَى المبتدأِ مِنَ الجُمْلَةِ.

وَعَلَيهِ قَوْلُ كُثيِّر فيما أَظُنُّ :

وَإِنْسَانُ عَيْني يَحْسُرُ الماءُ تارةً

فَيبدُو ، وَتَارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ (١)

فَبِالمَعَطُوفِ عَلَى يَحْسُر الماءُ ما (٢) تَمَّتِ الجملةُ. وفي هَذَا بيانٌ (٣) وقَرَأَ الجماعة : (خَسِرَ الدُّنيا وَالآخِرَةَ) (٤) قَالَ أَبو الفتح : تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَة بدلاً مِنْ قَولِهِ : (انقلبَ عَلَى وجْهِه) (٥) فَكَأَ نَّهُ قَالَ : وإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ خَسِرَ الدَّنيَا والآخِرَةَ ومِثْلُه ، من الجُمَلِ التِي تَقَعُ وهْيَ مِنْ فِعْل وفَاعل بَدَلاً مِنْ جَوابِ الشرطِ قَولُهُ تَعَالى : (ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِك يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ) (٦) ، وذَلِك لاَِنَّ مُضَاعَفَةَ العَذَابِ هِيَ لُقِيُّ الأَثَامِ. وعَليهِ قَولُ الآخر :

إِنْ يَجْبُنُـوا أَو يَغْـدُرُوا

أَو يَبْخَلُـوا لاَ يَحْفِـلُـوا

يَغْدُوا عَلَيـك مُرَجّـلـِـ

ــيـنَ كَأَ نَّهُـمْ لَمْ يَفْعَلُـوا (٧)

__________________

(١) البيت لذي الرِّمَّة وَلَمْ يَكُنْ أبو الفتح متأكِّداً من نسبته إلى كُثير لِذَلِكَ احترزَ بقولهِ : فيما أظنّ. انظر : ديوان ذي الرِّمَّة : ٣٩٥ والمقرب : ١ / ٨٣ والمغني : ٢ / ٥٠١ والهمع : ١ / ٨٩ والدرر اللوامع : ١ / ٧٤ وشرح الأشموني : ١ / ١٩٦ و ٣ / ٩٦.

(٢) ما : زائدة.

(٣) المحتسب : ١ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٤ ـ ٥) من قوله تعالى من سورة الحجّ : ٢٢ / ١١ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

(٦) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨ ، ٦٩.

(٧) يروى البيت الأوّل :

إن يغـدروا أو يكذبـوا

أو يختـروا لا يحفِلـوا

وختر : غدر وخدع. انظر : الكتاب : ١ / ٤٤٦ والحيوان : ٣ / ٤٧٧ والبيان والتبيين : ٣ / ٣٣٣ والانصاف : ٢ / ٣٠٩ وشرح المفصل : ١ / ٣٦ وخزانة الأدب ـ بولاق ـ ٣ / ٦٦٠.

٤٥٢

وقَولُهُ يَغْدُوا عَلَيك مُرَجّلِينَ بَدلٌ مِنْ قَولِهِ لاَ يَحفِلُوا (١).

وقَرَأَ الحَسَن : (ولاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ) (٢) جزماً.

قَالَ أَبو الفتح : أَمَّا الجزمُ فَيَحْتَمِلُ أَمرِينِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بدلاً مِنْ قَولِهِ : (تَمْنُنْ) حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : لا تستكثرْ فَإنْ قَالَ : فعبرةُ البدل أَنْ يَصْلُحَ لإقامةَ الثانِي مقام الأَوّل ، نَحو ضربتُ أَخَاكَ زَيْداً ، فَكَأ نَّك قُلْتَ : ضربتُ زيداً ، وأَنْتَ لَو قُلْتَ : لاَ تَسْتَكْثِرْ لَمْ يَدْلُلْكَ النَّهيُ عَنْ المَنِّ لِلاستكثار ، وإنَّمَا كَأَنْ يكونُ فيه النَّهيُ عن الاستكثارِ مُرسَلاً ، ولَيسَ هَذَا هُو المَعْنَى ، وإِنَّما المَعْنَى لاَ تمنُنْ مَنَّ مُسْتَكْثِر ، أيْ امنُنْ مَنَّ مَنْ لا يُريدُ عِوضاً ولاَ يطلبُ الكثيرَ عَنِ القليلِ.

قِيلَ : قَدْ يَكونُ البدلُ على حذفِ الأَوَّل وكَذَلِكَ أَيْضاً قَدْ يَكُونُ عَلَى نيةِ إثباتِهِ. وذَلِكَ كَقَولِكَ : زَيدٌ مَرَرْتُ بِهِ أَبي محمّد فتبدلُ أَبا محمّد مِنَ الهاءِ ، ولَو قُلْتَ زيدٌ مَرَرتُ بِأَبي محمّد ، عَلَى حذفِ الهاءِ كَانَ قبيحاً ، فقولُهُ تَعَالَى : (وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ) مِنْ هَذَا القَبِيلِ لاَ مِنْ الأوَّلِ.

وأَنْكَر أَبو حاتِم الجزمَ عَلَى البَدَلِ ، وقَالَ : لاَِنَّ المَنَّ لَيْسَ بالاسْتِكثَارِ ، فَيُبْدَلَ مِنهُ ، وبَيْنَهُمَا مِنَ النسبةِ مَا ذَكَرتُه لَكَ.

وأَما الوجه الآخر : فَأَنْ يَكُونَ أَرادَ : (تَسْتَكثُرُ) فَأَسكنَ الرَّاءَ لِثِقَل الضَّمَّةِ مَعَ كثرةِ الحَرَكاتِ (٣) كَمَا حَكَاهُ أَبو زَيد مِنْ قَولِهم : (بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِم

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) من قوله تعالى من سورة المدثّر : ٧٤ / ٦ : (وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ).

(٣) يذهب الأَخفش إلى جزم تستكثرْ عَلَى أَنَّها جواب النهي وهذا وجه ثالث.

انظر : معاني القرآن للأخفش : ١٧٧ / أ.

٤٥٣

يَكتُبُونَ) (١) بِإِسكانِ اللاَّم (٢).

٣ ـ بدل الظاهر من الضمير

قَرَأَ الحَسَن والثقفي : (تُخَيَّلُ) (٣) بِالتاءِ.

قَالَ أَبُو الفتح : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَولَهُ تَعَالَى : (أَنَّهَا تَسْعَى) بَدَلُ مِنَ الضَّمِير فِي (تُخَيَّل) وهو عَائِد عَلَى الحِبَالِ والعصي ، كقولكَ : إِخوتكَ يُعجبونَني أَحوالهم. فَأَحوالهم بَدَلٌ مِنَ الضَّميرِ العائدِ عَلَيْهِم بدل الاشتمال. ومنهُ قولُه تَعَالى : (جَنَّاتِ عَدْن مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الاَْبْوَابُ) (٤) فِيمَن جَعَلَ (الأَبُوابَ) بَدَلاً مِنْ الضَّميرِ فِي (مُفَتَّحَة) ، وهَذَا أَمْثَلُ مِنْ أَن يعتقد خلو (تُخَيَّلُ) مِنْ ضمير يَكُونُ مَا بَعْدَه بَدَلاً مِنْهُ ، لَكِنْ يُؤنَّثَ الفِعْل لِتَضَمُّنِ ما بَعَدَ أَنْ لفظ التأنيث ، كَقِرَاءةِ مَنْ قَرَأَ : (لاَ تَنْفَعُ نَفْسَا إيْمَانُها) (٥) ، لاَِ نَّهُ أَسهَلُ وأسرَعُ مِنْ إِتعابِ الإِعرابِ والتَّعَسّفِ بِهِ (٦) مِنْ باب ...

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٠ : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).

(٢) المحتسب : ٢ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

(٣) من قوله تعالى من سورة طه : ٢٠ / ٦٦ : (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).

(٤) سورة ص : ٣٨ / ٥٠.

(٥) من قوله تعالى من سورة الأَنعام : ٦ / ١٥٨ : (لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا) ، والقراءة المذكورة هي قراءة أَبي العالية. تنظر : ص : ٢١٣ والمحتسب : ١ / ٢٣٦.

(٦) قال الفرّاء : «ومن قرأ (تُخَيَّل) أو (تَخَيَّل) فإنّها في موضع نصب لاَِنَّ المعنى تتخيّل بالسعي لهم وتَخيّل كذلك ، فإذا ألقيتَ الباءَ نصبتَ ، كما تقولُ : أردتُ بأنْ أقومَ ومعناه أردتَ القيامَ ، فإذا ألقيتَ الباء نصبت. قال الله : (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب

٤٥٤

... إلىَ باب (١).

٤ ـ بدل كل من كل

قَرَأَ يعقوب : (كُلَّ أُمَّة تُدْعَى) (٢) بفتح اللاّمِ.

قالَ أَبو الفتحِ : (كُلَّ أَمَّة تُدْعَى) بدلٌ مِنْ قُولِهِ : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّة جَاثِيَةً) وجَازَ إبدَالُ الثَّانيةَ مِنَ الأُولَى لِمَا فِي الثَّانيةِ مِنَ الإيضَاحِ الَّذِي لَيْسَ فِي الأولَى لاَِنَّ جُثُوهَا لَيْسَ فِيهِ شَيءٌ مِنْ شَرْحِ حَالِ الجِثُوِ والثانيةُ فِيَها ذِكْرُ السّبَبِ الدَّاعِي إِلَى جِثُوِّهَا وهَو اسْتَدعَاؤهَا إِلَى مَا فِي كِتَابِهَا فَهْيَ أَشْرَحُ مِنَ الأُولَى ، فَلِذَلِكَ أَفادَ إبدَالُها مِنْهَا.

ونَحْو ذَلِكَ رَأَيتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ ، رَجُلاً مِن الكَلاَّءِ (٣).

فَإنْ قُلْتَ : فَلَو قَالَ : وتَرَى كُلَّ أُمَّة جاثية تُدْعَى إلى كِتَابِهَا لاََغْنَى عَنِ الإطَالَةِ.

قِيلَ : الغَرَضَ هُنَا هُو الإسهابُ لاَِ نَّهُ مَوضِعُ إِغْلاظ ووعيد ، فَإِذَا أُعيدَ لَفْظُ (كُلَّ أُمَّة) كَانَ أَفْخَم مِنَ الاقتصارِ عَلَى الذّكْرِ الأولِ (٤).

__________________

أَلِيم) سورة الحجّ : ٢٢ / ٢٥ ولو ألقيتَ الباء نصبتَ فقلتَ ومن يُريدْ فيه إلحاداً بظلم». معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ١٨٦.

(١) المحتسب : ٢ / ٥٥.

(٢) من قوله تعالى من سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٨ : (وَتَرَى كُلَّ أُمَّة جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّة تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

(٣) الكَلاّء : مرفأ السفن وإكلاء محلّة وسوق مشهور في البصرةِ. تاج العروس ، طبعة الكويت : ١ / ٤٠٦ (كلاء).

(٤) المحتسب : ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٤٥٥

٥ ـ بدل الاشتمال

قَوْلُهُ تَعَالَى : (إِذْ هُمَا فِي الغَارِ) (١) بَدَلٌ مِنْ قَولِهِ جَلَّ وعَزَّ : (إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢).

فَإنْ قُلْتَ : فَإنَّ وقْتَ إخراجِ الَّذِينَ كَفَروا لَهُ قَبْلَ حصولِهِ صلّى الله عليه وآله في الغَارِ فَكَيْفَ يُبْدَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ هُوَ هُوَ ، وَلاَ هُوَ أَيْضاً بَعْضُهُ ، وَلاَ هُوَ أَيضاً مِنْ بَدَلِ الاشتمالِ (٣) ، ومَعَاذَ اللهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَدَلِ الغَلَطِ؟ قِيلَ : إذَا تَقَارَبَ الزَّمَانَانِ وضع أَحَدُهُمَا مَوضِعَ صَاحِبِهِ ، أَلاَ تَرَاك تَقولُ : شَكَرتُك إذ أَحْسَنْتَ إلَيَّ ، وأَ نَّـمـا كَانَ الشُّكْرُ سَبَبَاً عَنِ الإِحْسَانِ ، فَزَمانُ الإِحْسَانِ قَبلَ زَمَانِ الشُّكْرِ ، فَأَعْمَلتَ شكرتُ في زمان لَمْ يَقَعْ الشكرُ فِيهِ.

ومِنْ شَرْطِ الظَّرْفِ العامِلِ فِيهِ الفِعْلُ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ الفِعْلُ وَاقِعَاً فِي ذَلِك الزَّمَانِ كَزُرْتُكَ فِي يومِ الجُمُعَةِ ، وجَلَستُ عِنْدَكَ يَومَ السَّبْتِ ولَكِنَّهُ لَمَّا تَجَاورَ الزَّمَانَانِ جازَ عَملُ الفعلِ فِي زمان لَمْ يَقَع فِيهِ لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ ، وقد مَرَّ بِنَا هَذَا الحُكْمُ فِي المواضِع أَيْضاً ، قَالَ زِياد بن منقذ :

وهُمْ إِذَا الخَيْلُ جَالُوا فِي كَواثِبِها

فَوارسُ الخَيلِ لاَ مِيلٌ ولاَ قَزَمُ (٤)

__________________

(١ ـ ٢) من قوله تعالى من سورة التوبة : ٩ / ٤٠ : (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ).

(٣) قال ابنُ الأنباري : إذْ هُمَا فِي الغَارِ ، منصوبٌ على البَدَلِ مِن قَولِهِ تَعَالى : (إذْ أخْرَجَهُ الَّذينَ كَفَرُوا) وهو بَدَلُ الاشتمالِ.

وقال العكبري : (إِذْ هُمَا) ظرف لِنَصَرَهُ لاَِ نَّهُ بَدَلُ مِنْ إذْ الأُولى.

البيان في غريب إعراب القرآن : ١ / ٤٠٠ وإملاء ما منَّ به الرَّحمن : ٢ / ١٥.

(٤) الكواثب : جمع كاثبة ، وهي من الفرس ما بين أَصل العُنُقِ والكتفين والمِيلُ : جمع الأَميل ، وهو الجبان. والقَزَمُ : أرذل الناس. لسان العرب : ١٥ / ٣٧٧.

٤٥٦

وإنَّمَا مَقْعَدُ الفارسِ في صَهْوةِ الفَرَسِ لاَ فِي كاثبَتِهِ لاَِنَّ المَكَانَينِ لَـمَّـا تَجَاورَا استعْمَل أَحَدَهُمَا مَوضِعِ الآخر.

أَلا تَرىَ إِلى قَولِ النّابِغَةِ :

 ......

إِذَا عَرَضُوا الخِطِّي فَوقَ الكَواثِبِ (١)

ومُحَال أَنْ يَجلسَ الفَارِسُ مَوضِعَ عرضِ الرمِح مِنْ أَدْنَى مَعْرِفَةِ الفَرَسِ فَافْهَم بِمَا ذَكَرنَا مَا مَضَى (٢).

المنادى

قَرَأَ أُبَي وابنُ عَبَّاس والحسَنُ ومُجَاهِدٌ والضَّحَّاك وابنُ يزيدَ المدني ويَعقُوبُ ورُويَ عَنْ سُلَيْـمَـانَ التَّيَميِّ : (لاَِبِيهِ آزَرُ) (٣).

قَالَ أبو الفتح : أَمَّا (آزرُ) فَنِدَاءٌ (٤).

ومِنْ تَرْكِ كَلاَم إِلَى كَلام آخَر بيتُ الكِتَابِ ، وهو قَولُهُ :

ألاَ يَا بيتُ فِي العَلْيَـاءِ بِيـتُ

 ...... (٥)

__________________

(١) صدره :

لَهُنَّ عَلَيْهِـم عَـادَةٌ قَدْ عَرفْنَـها

 ......

ويروى (عَرض) مكان (عرضوا). انظر : أساس البلاغة : ٢ / ٢٩٦ واللسان : ٢ / ١٩٨.

(٢) المحتسب : ١ / ٢٩١.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ٧٤ : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاك وَقَوْمَك فِي ضَلاَل مُّبِين).

(٤) المحتسب : ١ / ٢٢٣.

(٥) البيت لعَمرو بن قعناس وسمّاه الشنتمري عَمرو بن قنعاس. انظر : الكتاب ـ طبعة بولاق ـ : ٣١٢ وكتاب سيبويه ـ تحقيق عبد السلام هارون ـ ٢ / ٢٠٠ ولسان العرب : ٢ / ٣١٩.

٤٥٧

أَلاَ تَرَاهُ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَادَى البيتَ ثُمَّ تَرَك خِطَابَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ : بِالعَلْياءِ بَيْتُ ، ثُمَّ رجعَ إِلى خِطَابِ البيتِ فَقَالَ :

 ......

وَلَـوْلاَ حُبُّ أَهْلِـك مَـا أَتَيْـتُ (١)

وَسَأَلَنِي قَدِيماً بَعْضُ مَنْ كَانَ يَأخُذُ عَنِّي ، فَقَالَ : لِمَ لاَ يَكُونُ (بَيْتُ) الثانِي تَكْرِيراً عَلَى الأَوْلِ كَمَا كَانَ قَوْلُ النَابِغَةِ :

يَا دَارَ مَيَةَ بالعَليَاءِ ......

 ...... (٢)

قَولُه : (بالعلياءِ) فِي موضعِ الحَالِ ، أَيْ : يا دارَ ميةَ عَالِيةً مُرْتَفِعَةً ، فَيكُونُ كَقَولِهِ :

 ......

يَا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لاَِقْوامِ (٣)

هَذَا مَعْنَى ما أَورَدَهُ بَعْدَ أَنْ سَدَّدْتُ السُّؤالَ ومَكَّنْتُهُ فَقُلْتُ : لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ هُنَا ، وذَلِكَ أَنَّهُ لَو كَانَ البيتُ تَكْرِيراً عَلَى الأوَّلِ لَقَالَ : لَوْلاَ حُبُّ أَهْلِكَ مَا أتَيْتُ فيكونُ كَقَولِكَ : يَا زيدُ لَولاَ مكانُكَ ما فَعَلْتُ كَذَا ، وأَنْتَ لاَ تَقُولُ : يا زيد ولَوْلاَ مكانُكَ لَمْ أَفْعَلَ كَذَا (٤) ، فَإِذَا بَطلَ هَذَا ثَبتَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الكِتاب (٥) مِنْ

__________________

(١) البيت لعَمرو بن قعناس وسمّاه الشنتمري عَمرو بن قنعاس. انظر : الكتاب ـ طبعة بولاق ـ : ٣١٢ وكتاب سيبويه ـ تحقيق عبد السلام هارون ـ ٢ / ٢٠٠ ولسان العرب : ٢ / ٣١٩.

(٢) البيت بتمامِهِ :

يا دارَ مَيَّةَ بالعلياءِ فالسَّنَدِ

أقوتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَمَدِ

الكتاب : ١ / ٣٦٤ وشرح القصائد العشر : ٣٩٣ وأمالي الشجري : ١ / ٢٧٤ وشرح التصريح : ١ / ١٤٠ و ٢ / ٢٤٣ والأشموني : ١ / ٢١٠.

(٣) تنظر : ص : ٣١٠.

(٤) أي : وقد قال الشاعر : ولولا حُبُّ أهلِكَ مَا أتيتُ.

(٥) عبارة سيبويه : لم يجعل بالعلياء وصفاً ولكنَّهُ قال : بالعلياء لي بيتٌ ، وإِنَّمَا تَركتُهُ لك أيّها البيتُ لِحُبِّ أهلِهِ. الكتاب : ١ / ٣١٣.

٤٥٨

كَونِهِ كَلاَماً بَعْدَ كَلاَم وجُمْلَةً تتلو جملةً. وهَذَا واضح.

فَقَولُهُ عَلَى هَذَا : (لاَ خَوفٌ عَلَيْكُم) (١) جملةٌ لاَ موضع لها من الإعراب مِنْ حيثُ كَانت مُرتجلَةً ، وهي في القول الأَول منصوبة الموضعِ عَلَى الحالِ ، أَي : دَخلوا الجنّةَ ، أَو أُدْخِلوا الجنّة ، مقولاً لَهمْ هَذَا الكلام الذي هو لا خوفٌ عليكم ، وحُذِفَ القولُ ، وهو منصوبٌ على الحالِ ، وأقيمَ مقامَه قولُهُ : (لاَ خَوفٌ عَلَيْكُم) فانتصب انتصابه ، كما أَنَّ قَولَهُمْ : كلمتُهُ فاهُ إليَّ في منصوب على الحال لاَِنه نَابُ عَنْ جاعلاً فاهُ إِلى فيَّ ، أَوْ لاَِ نَّهُ وَقَعَ موقِعَ مُشَافَهةً التي هِيَ نَائِهةٌ عَنْ مُشافِهَاً لَهُ (٢).

وقَرَأَ أَبُو جَعْفَر : (قُل رَبُّ احْكُمْ) (٣) بِضَمِّ الباءِ والأَلِف ساقطة على أَنَّهُ نداءٌ مفردٌ.

قَالَ أَبو الفتح : هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا ضَعيفٌ ، أَعني حذفَ حرفِ النداءِ معَ الاسم الّذي يجوز أنْ يكونَ وصفاً لاِيّ (٤).

أَلاَ تَرَاك لاَ تَقُولُ : رَجُلٌ أَقْبِلْ لاَِ نَّهُ يمكنك أنْ تجعلَ الرَّجلَ وصفاً لاَِيّ فَتَقُولُ : يَا أيُّها الرَّجُلُ؟ ولِهَذَا ضَعُفَ عِنْدَنَا قَولُ مَنْ قَالَ فِي قَولِهِ تَعَالى :

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الأعراف : ٧ / ٤٩ : (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَخَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَأَنتُمْ تَحْزَنُونَ).

(٢) المحتسب : ١ / ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأنبياء : ٢١ / ١١٢ : (قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).

(٤) أَصحابه البصريّون لاَِنَّ هذا رأيّهم. انظر : مجمع البيان : ١٧ / ٦٥ وهمع الهوامع : ١ / ١٧٣ وضياء السالك إلى أوضح المسالك : ٣ / ٢٤٠ وما بعدها.

٤٥٩

(هؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (١) إنَّهُ أَرادَ يَا هؤلاءِ ، وحذَفَ حَرْفَ النداءِ مِنْ حيثُ كان (هؤلاءِ) مِنْ أسماءِ الإِشارةِ.

وهو جائز أَنْ يكونَ وصفاً لأيّ في نحو قولِهِ :

ألا أَيَّهذا المنزلُ الدارسُ الّذي

كَأَ نَّك لَمْ يَعْهَدْ بِكَ الحَيَّ عَاهِدُ (٢)

و (ربُّ) مِمَّا يَجُوز أَنْ يَكُونَ وصْفاً (لاَِيّ) أَلاَ تَرَاكَ تجيزُ يَا أَيُّهَا الربُّ؟ قال أَصحابُنا : فلم يكونوا ليَجمَعُوا عليه حذفَ موصوفِهِ وهو (أَي) وحَذْفَ حرف النداءِ جميعاً.

وعَلَى أَنَّ هَذَا قَدْ جَاءَ فِي المَثَلِ وهْو قَولُهُمْ : افْتَدِ مَخْنُوق (٣) ، وأَصْبِحْ لَيْل (٤) ، وأَطْرِقْ كَرَا (٥).

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٧٨. وقرأ بنصب أطهرَ سعيد بن جبير والحسن بخلاف ومحمّد بن مروان وعيسى الثقفي وابن أبي إسحاق وقد ذكر سيبويه هذه القراءة وضعَّفها ، وقال : احتبى ابن مروان في ذه في اللحن. تنظر : ص : ٥٤ و ١١٨ وكتاب سيبويه ـ تحقيق عبد السلام هارون ـ ٢ / ٣٩٧ والمحتسب : ١ / ٣٢٥.

(٢) البيت لذي الرِّمَّة ويروى صدره :

ألا أيُّها الرَّبْعُ الذي غَيَّرَ البِلَى

 ......

ديوان ذي الرِّمَّة : ١٢٢ والكتاب : ١ / ٣٠٨ والمقتضب : ٤ / ٢١٩ و ٢٥٩ وأمالي الشجري : ٢ / ١٥٢ وشرح المفصل : ٢ / ٧.

(٣) مثلْ يُضْرَبُ لِكُلِّ مَشْفُوق عَلَيْه مضطرّ. ويروى (افتدى مخنوق). انظر : مجَمع الأَمثال : ٢ / ٧٨.

(٤) أصل هذا المثل كما يروى ، أنَّ امرئَ القيسِ بن حُجْر الكِنْدِي كَانَ رَجُلاً مُفَرّكاً لا تُحبّه النساءِ ، ولا تكادُ امرأةٌ تصبر مَعَهُ ، فتزوّج امرأةً من طيء فأبغضتهُ ، وكرِهَتْ مَكَانَها معهُ فجعلت تقول : يا خيرَ الفتيانِ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ ، فيرفَعُ رأسَهُ فينظر فإذا الليل كما هو فتقول : أَصْبِحْ لَيْلُ. والمَثل يقال في الليلة الشديدة التي يطول فيها الشرّ.

انظر : مجمع الأمثال : ١ / ٤٠٣.

(٥) بقية هذا المثل : إنَّ النعامَةَ في القُرىَ. ويُضْرَبُ لِلَّذِي لا غِناء عِندَهُ ويتكلّمُ ، فيقالُ لَهُ :

٤٦٠