أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

أعْلَم (١).

وقَرأَ جعفر بنُ مُحمّد عليهما السلام : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْف وَيَزِيدُونَ) (٢) هكذا هي ، لَيْسَ فيها (أو). (٣)

قَالَ أَبُو الفتح : فَإنْ قُلتَ : فَقَدْ تَقُولُ : لقيتُ مِن زيد رَجلاً كالأَسَدِ وأَشْجَع منْهُ ، فَهَلْ يجوزُ عَلَى هَذَا أنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ : وأَرْسَلْنَاهُ إلى مَئة أَلْف ويَزِيدُون ، فيعطف يزيدون على مئة؟ قيل : يَفْسدُ هَذَا ، لاَِنَّ (إِلَى) لا تعمل في (يَزِيدُونَ) فَلاَ يجوزُ أَنْ يُعطف على ما تَعْمَلَ فِيهِ (إِلَى) فَكَمَا لاَ تَقُولُ : مَرَرْتُ بيزيدون عَلَى المئةِ فَكَذَلِكَ لاَ تَقُولُ ذَلِكَ.

فَإِنْ قُلْتَ : فَقَدْ يجوزُ فِي المَعْطُوفِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي المعطوفِ عَلَيهِ ، كَقَولِنَا : رُبَّ رَجُل وأَخيهِ وكلُّ شاة وسَخْلَتِها (٤) ومَرَرْتُ بِرَجُل صَالح أَبواه لا طالحينِ ، ومررتُ بزيد القائمِ أبواه لا القاعدين ، ونَحو ذلك.

قِيلَ : قَدْرُ المُتَجَوّزِ في هذا ونحوهِ لاَ يَبْلُغُ ما رُمْتَهُ مِنْ تَقْدِيرِ حرفِ الجَرِّ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٩٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة الصافّات : ٣٧ / ١٤٧ : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ).

(٣) تقدّمت هذه القراءة في ص : ١٤٥ وهي قراءة موضوعة ، لا سند لها عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، نسبها ابن جني إليه (عليه السلام) وعنه أخذ أبو حيان في البحر المحيط : ٧ / ٣٧٦ وغيره ، بل الصحيح أَنَّه (عليه السلام) قرأ الآية كما في المصحف : (أَوَ يَزِيدُونَ) كما في : أصول الكافي : ١ / ١٧٤ ـ ١٧٥ / ١ باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) من كتاب الحجّة ، ونسب الصفار القمي في بصائر الدرجات : ٣٩٣ ـ ٣٩٤ / ٢٠ باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمّة (عليهم السلام) ، قراءة (أَوَ يَزِيدُونَ) بسند صحيح إلى الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) ، وكذلك نسبها القطب الراوندي في الخرائج والجرائح : ٢ / ٨٤٦ ـ ٨٤٧ إلى الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) ، وسيأتي الكلام عن هذه القراءة تفصيلاً في الحاشية الثانية من الصفحة اللاحقة.

(٤) قال سيبويه : إنَّمَا جُرَّ لأ نّه أراد وكلُّ سخلتِها. انظر : الكتاب : ١ / ٣٠٥.

٤٢١

مُبَاشِراً لِلفِعلِ. أَلاَ تَرَاك لا تُجيزُ مَرَرْتُ بقائم ويقعدُ وأنت تُريدُ مَرَرْتُ بقائم وبقاعد؟ فَإن قِيلَ : فَقَدِّر هُنَاكَ موصوفاً مَحْذُوفاً مجروراً لِيكونَ تَقْدِيرُهُ وأرْسَلْنَاهُ إِلى مِئةِ ألف وجمع يزيدونَ ، عَلَى قولِ الراجز :

جادت بكفي كانَ مِنْ أرْمَى البَشَرْ (١)

أيْ : بِكَفَي إنْسَان كَانَ مِن أرْمَى البَشَرِ.

قَيل : تَقديرُ مباشرةِ حرف الجرِّ للفعلِ أشَدُّ مِنْ تَقْدِيرِ الإضافةِ إليهِ.

أَلاَ تَرَى أَنَّهُ عَلَى كُلّ حال قَدْ يُضَافُ إلى الفَعْلِ ظروفُ الزمانِ وغيره على كثرة ذلك في أسماءِ الزمان؟ وينضاف إلى ذَلِكَ إفسادُ المعنى وذَلِكَ أَنَّهُ يصير كأ نَّهُ قال : وأرسلناهُ إِلى جَمْعَينِ : أَحَدُهُمَا مِئةُ أَلْف ، والآخر زائدٌ علَى مِئةِ ألْف.

ولَيْسَ الغرضُ والمُرادُ هُنَا هَذَا ، وإنّما الغَرَضُ ـ واللهُ أعْلَمُ ـ وأَرْسَلْنَاهُ إلى جمع لَو رأيتُموهُمْ لقلتُمْ أَنتُم : هؤلاءِ مئةُ أَلْفِ وهم أَيضاً يَزِيدونَ. فَالْجَمْعُ إذاً واحدٌ لا جمعان اثنان. وكَذَلِك قراءةُ الجماعةِ : (أَوْ يَزِيدُونَ) وتَقدِيرُهْ : أو هُمْ يَزِيدونَ فَحَذَفَ المُبتدَأُ لدلالةِ الموضعِ عليهِ كَما مَضَى مَعَ الواو (٢).

__________________

(١) هو من مشطور الرَّجز لأ نَّهُ قائمٌ على ثلاث تفعيلات ويُعَدُّ شطراً منَ التَّامِّ.

ويروى (ترمي) مكان (جادت). والشاهدُ فيه حذفُ الموصوفِ والتقديرُ : بكفي رجل أو إنسان. وقال في الخِزَانة : الأَوْلَى تقدير رام للقرينة. انظر : المقتضب : ٢ / ١٣٩ والخصائص : ٢ / ٣٦٧ وشرح المفصل : ٣ / ٥٩ ، ٦٢ والمقرب : ٢ / ٢٢٧ والهمع : ٢ / ١٢٠ والدُّرر اللوامع : ٢ / ١٥٢ والأشموني : ٣ / ٧ والخزانة : ٥ / ٦٥ وموسيقى الشعر العربي : ١٢٢.

(٢) في : (أَوْ) الوَارِدَةِ في الآيةِ المباركةِ (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) أقوال وهي :

٤٢٢

__________________

الأوّل منها : انَّها للشكِّ مصروفاً إلى الناظر لهم فهو لا يدري أَهم مئة ألف أمْ يزيدونَ؟ فيقول : هم مئةُ أَلف أَو يزيدون ، أَو أنَّ أصدقَ الحادسين لا يدري أهم مئةُ أَلف أم يزيدون كقولِهِ تعالى : (أَوْ كَصَيِّب مِّنَ السَّمَاءِ) [سورة البقرة : ٢ / ١٩].

والثاني : أنَّها للتخيير. أَي إذا رآهم الرائي تخير بينَ أنْ يقولَ : هم مئة ألف أو يقولَ : هم أَكثَرُ ، ولا يصحُّ التخيير في شيئين الواقع أحدهما.

والثالث : قيل هي للإبهام ، أَي بعضُ الناس يحسبهم مئةَ أَلف وبعضهم يحسبهم أكثر.

الرابع : قيل إنَّها للإباحة. أي لك أن تعدَهم مئة ألف ولك أنْ تعدهم أكثر. ينظر في : أمالي المرتضى : ٢ / ٥٤ ـ ٥٥ ، والتبيان في إعراب القرآن للعكبري : ٣٤ و ١٩٣ ، وإعراب القرآن للدكتور محيي الدين الدرويش : ٦ / ٤٢٣.

الخامس : وتأتي (أَوْ) بمعنى (الواو) ، وبمعنى (بل) وهي للعطف فقط لا للإضراب عن الأوّل. ينظر : مجمع البيان : ٨ / ٣٣٣. وقال أَحمد أبو العباس ثعلب (ت / ٢٩١ هـ) : (أَوْ) تكونُ تخييراً ، وتكونُ شَكَّا ، وتكونُ بمعنى (بل) ، وتكون بمعنى (متى) ، وتكون بمعنى (الواو) وقال الكسائي وحدَهُ : وتكونُ شَرْطاً. تهذيب اللغة : ١٥ / ٦٥٧. والقول بأنَّ (أَوْ) لا تُحمَلُ على (الواو) جنوحٌ إلى قول أكثر البصريين. التبيان في إعراب القرآن : ٣٤. وقول البصريين هذا هو الذي أخذ به ابن جني ، ليس موضع إجماع عندهم ، بل هناك من خالفه منهم. هذا شيخ المدرستين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ، وإمامُهُمَا الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيدي (ت / ١٧٥ هـ) يخالف هذا القول ، فيقول : «يقال (أَوْ) تكون بمعنى (الواو) ، وتكون بمعنى (بل) ، وتفسير هذه الآية : (إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) ، أي : بل يَزِيدُونَ ، ومعناه : ويزيدون ، والألف زائدة ، وتقول للرجلِ : احذرِ البِئرَ لا تقع فيها. فيقول : أو يُعَافِي اللهُ ، أي : بَلْ يُعافي الله» كما في العين (أو) ٨ / ٤٣٨ والعين ترتيب الدكتور هنداوي : ١ / ١٠٣ ، ونقل الشيخ الطوسي (ت / ٤٦٠ هـ) في التبيان : ٩ / ٧٠ عن ابن خالويه (ت / ٣٧٠ هـ) قوله : «إذا كانت (أو) إباحة كانتِ الواوُ بمعناها ، لأنَّ قولَكَ جالسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين بمنزلةِ الإباحة ، وكذلك قوله تعالى : (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٧٦ / ٢٤] لأنَّ معناه : ولا كَفُوراً». وخالف هذا الرأيَ أيضاً أَبو زيد سعيد بن أوس

٤٢٣

__________________

الأنصاري (ت / ٢١٥ هـ) ، على ما سيرد ، وهو من أعلام مدرسة البصرة.

قال الأزهري (ت / ٣٧٠ هـ) : و (أَو) : تكون للشَّكِّ والتَّخيير. قال الجوهري في الصحاح : ٦ / ٢٢٧٥ ونقله عنه ابن منظور في لسان العرب (أَوى) ١٤ / ٥٤ : (أَو) حرف إِذا دخل الخبر دلَّ على الشك والإِبهام ، وإِذا دخل الأَمر والنّهي دلَّ على التّخيير والإباحة ، فأَمَّا الشَّكُّ فقولُكَ : رأَيتُ زيداً أو عمراً ، والإِبهام كقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين) [سورة سبأ : ٣٤ / ٢٤] ; والتخيير كقولك : كُلِ السَّمَكَ أَو اشربِ اللبنَ أَي لا تجمعْ بينهما ، والإِباحة كقولك : جالسِ الحسنَ أَو ابنَ سيرين ، وقد تكون بمعنى (إِلى أَن) ، تقول : لأَضربنَّهُ أَو يتوبَ ، وتكونُ بمعنى (بل) في تَوَسُّعِ الكلامِ.

قَالَ ذُو الرُّمَّة :

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى

وَصُورَتِها ، أَو أَنتِ فِي العَينِ أَمْلَحُ

كما في ديوانه ـ الملحق ـ تحقيق الدكتور عبد القدوس صالح : ٣ / ١٨٥٧ ، ومعاني القرآن للفراء : ١ / ٧٢ ، والخصائص : ٢ / ٤٥٧ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٥٦. قال الفراء (ت / ٢٠٧ هـ) : يريد : بل أَنت. وقولُهُ تعالى : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) ; قال أبو العباس ثعلب (ت / ٢٩١ هـ) : قال الفَرَّاءُ : (أَوْ) هاهنا في معنى (بل). معاني القرآن للفراء : ٢ / ٣٩٣ ، ومجالس ثعلب : ١٣٥ ، قال الفراء : كذلك جاء في التفسير مع صحته في العربية مشيراً إلى تفسير ابنِ عباس للآيةِ كما نَقَلَهُ عنهُ الطبري في : جامع البيان : ٢٣ / ١٢٤ / ٢٢٧٤٣ ، وقال ابن عباس : (أَوْ) بمعنى (بل) وقيل بمعنى (الواو). البحر المحيط : ٧ / ٣٧٦. وقيل : معناه إِلى مئةِ أَلف عند النَّاس أَو يزيدونَ عندَهم ، وقيل : أَو يزيدون عندكم فيجعل معناها للمخاطبين أَي هم أَصحاب شارَة وزِيّ وجمال رائع ، فإِذا رآهم النَّاسُ قَالوا هؤلاءِ مئتا أَلف. وقال أَبو العباس المبرد (ت / ٢٨٥ هـ) : إِلى مئة أَلف فهم فَرْضُهُ الذي عليه أَن يؤَدّيه ; وقولُهُ : (أَوْ يَزِيدُونَ) ، يقول : فإِن زادوا بالأَولاد قبل أَنْ يُسْلموا فادْعُ الأَولادَ أَيضاً فيكونُ دعاْؤكَ لِلأَولادِ نافلةً لكَ لا يكونُ فرضاً ; وقد عالجها المبرد في المقتضب ، آخذاً برأي أكثر البصريين في المسألة. ينظر في : المقتضب : ٣ / ٣٠٤ ، والكافية شرح الرضي : ٢ / ٣٤٣ والبحر المحيط : ٧ / ٣٧٦ ، والمغني : ١ / ٦٣ ، وخزانة

٤٢٤

__________________

الأدب : ١١ / ٦٩. قال ابنُ بِرِّي : (أَوْ) في قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) للإِبهام ، على حدّ قولِ الشَّاعِر :

تَمَنَّى ابنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا

وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ؟

البيتُ للبيد بن ربيعة وهو في ديوانه : ٢١٣ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٥٥ والأُزهية : ١١٧ ، والأغاني : ٢ / ٥٥ ، و ١٥ / ٣٠٥ ، وخِزانةِ الأدب : ٤ / ٣٤٠. وقيل : معناه وأَرسلناه إِلى جمع لو رأَيتُمُوهُم لقلتم هم مئة أَلف أَو يزيدون ، وإِنَّما الكلامُ على حكايةِ قولِ المخلوقين لأنَّ الخالقَ جلَّ جلالُهُ لايَعتَرِضُهُ الشَّكُّ في شَيء مِن خبرِهِ ، وهذا أَلطفُ مِمَّا يُقَدَّرُ فيه. وقال أَبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت / ٢١٥ هـ) : في قوله تعالى : (أَوْ يَزِيدُونَ) : إِنَّمَا هي ويزيدون ، وكذلك قال في قوله تعالى : (أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء) [سورة هود : ١١ / ٨٧] ; قال : تقديره : وأَنْ نَفْعَلَ. وعقب أَبو منصور الأزهري على قوله فقال : وأَمَّا قول الله تعالى في آية الطهارة : (وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآ ئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) [سورة النساء : ٤ / ٤٣]. فإِنَّ (أَوْ) فيها بمعنى (الواو) التي تعرف بواو الحال ; المعنى : (وجَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ) أَي في هذه الحال ، ولا يجوز أَنْ يكونِ تخييراً ، وأَمَّا قولُهُ : (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) ، فهي معطوفة على ما قبلها بمعناها ; وأَما قول الله عزّوجلّ : (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٧٦ / ٢٤] ; فهي معطوفة على ما قبلها فإِن الزَّجَّاجَ (ت / ٣١١ هـ) قال : (أَوْ) ههنا أَوكد من (الواو) ، لأَن (الواو) ، إِذا قلتَ لا تطع زيداً وعمراً فأَطاع أَحَدَهُمَا كان غيرَ عاص ، لأَ نَّهُ أَمرهُ أَن لا يطيعَ الاثنينِ ، فإِذا قالَ : (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، فأَوْ قد دلّتْ على أَنّ كلَّ واحد منهما أَهلٌ أَنْ يُعْصَى. ينظر في : تهذيب اللغة : ١٥ / ٦٥٨ ، وعنه ما في لسان العرب : ١٤ / ٥٤ مادة (أَوى) ، أَمَّا الأَولُ في قوله : (أَوْ عَلَى سَفَر) ، فهو تخيير ، وأَمَّا قوله : (أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآ ئِطِ) ، فـ : (أَوَ) هنا بمعنى (واو) الحال. وقال الجصَّاصُ في أحكام القرآن : ١ / ٥١٨ : «ومعناه : ويزيدون ، فهذا موجود في اللغة ، وهي للنفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو ، منه ما قدمناه من قوله تعالى : (وَلاَتُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) معناه : ولا كفوراً ، لدخولها على النفي».

٤٢٥

__________________

وقال الشريف المرتضى (ت / ٤٣٦ هـ) في أماليه : ٢ / ٥٦ : «تكون (أَوْ) بمعنى (بل) ، كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) معناه : بل يزيدون. وأنشد الفراء :

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى

وَصُورتِهَا أَوْ أَنْتِ فِي العَينِ أَمْلَحُ

أي : بل أنت في العين أملح. وقال الرضي في : الكافية شرح الرضي : ٢ / ٣٤٣ : «و (أوْ) بمعنى (بل) كما يجيء في حروف العطف كما في قوله تعالى : (إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) ، أي : بل هم يزيدون». وقال يحيى بن الحسين بن القاسم (ت / ٢٩٨ هـ) في الأحكام في الحلال والحرام : ١ / ٢٣٤ عن الآية المذكورة : «فقال : (إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) فخرج لفظُها لفظَ شَكّ وإِنَّمَا معناها معنى إيجاب وخبر ، أرادَ : وأَرْسَلْنَاهُ إلى مئة ألف ويزيدون فقال : (أَوْ يَزِيدُونَ) فأثبتها وهو لا يريدها ، فعلى ذلك يخرج معنى قول الله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين) [سورة البقرة : ٢ / ١٨٤] يريد : وعلى الذين لا يطيقون الصيام مِمَّنْ كانِ ذا ضَعْف وهلاك مِنَ الأنام فديةٌ طعامُ مساكين». وفي المجموع للنووي : ١٣ / ٢٠٥ : «وقد جاءت (أَوْ) بمعنى (الواو) ، قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) ، و (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٧٦ / ٢٤]».

والشعر الذي هو ديوان العرب فيه شواهدُ وردتْ فيها (أَو) والمرادُ بها الواوُ منها قولُ جرير :

جَاءَ الخِلافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً

كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

كما في : ديوانه ، تحقيق نعمان أمين طه : ٤١٦ ، وشرح الديوان للصاوي : ٢٧٥ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٥٧ ، والأُزْهِيَة : ١١٤ ، وخِزَانة الأدب : ١١ / ٦٩ ، وشرح التصريح : ١ / ٢٨٣ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٩٦ ، والجنى الداني : ٢٣٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٧٨ ، وشرح ابن عقيل : ٢ / ٤٩٩ ، وشرح عمدة الحافظ : ٦٢٧ ، وشرح قطر الندى : ١٨٤. ومِثلُهُما أنشده أبو زيد الأنصاري لِتَويَهَ بنِ الحُمَيِّر شاهداً على مجيء (أَوْ) بمعنى (الواو) :

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلَى بَأَ نِّي فَاجِرٌ

لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا

معناهُ وعليها. ديوانه : ٣٧ ، واستُشْهِدَ بالبيتِ على أَنَّ (أَوْ) بمعنى (الواو) في : تهذيب

٤٢٦

حذف الاسم وحرف العطف

وأَمَّا قَولُ الآخر :

ألا فَالْبِثَا شَهْرَينِ أو نَصِفَ ثَالِث

إلى ذَاكُمَا مَا غَيَّبَتْنِي غَيابيا (١)

فَقَالُوا : مَعْنَاهُ أو شَهرين ونِصفَ ثَالث ، وذَلِك أَنَّ قَولَهُ : أو نِصْفَ ثالث لاَ يَكُونَ ثالثاً حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ شَهرانِ (٢) ، إِلاَّ أَنَّهُ هُنَا حَذَف المعطوفَ عليهِ مَعَ حَرْفِ العطفِ جَمِيعاً.

__________________

اللغة : ١٥ / ٦٥٧ ، وأمالي القالي : ١ / ١٣١ ، والأزهية : ١١٤ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٥٧ ، وخِزانةِ الأدب : ١١ / ٦٨ ، ولسان العرب : ١٤ / ٥٥ مادة (أَوى) ، وغيرها. كما جاء ذلك في القرآن الكريم أيضاً منه ما قدَّمناه ، وكقوله تعالى : (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ) [سورة النور : ٢٤ / ٣١] ، راجع : التبيان للشيخ الطوسي : ١ / ٣٠٧. وقال الشيخ الطوسي في التبيان : ١ / ٣٠٧ في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) «أي : بل يزيدون ، ولا تكونُ (بل) للإضراب عن الأوّل بل مجرّد العطف». وذكر الآية في مكان آخر من التبيان : ٩ / ٧٠ وقال : «أي : ويزيدون ، أو بل يزيدون». وسَيَأتِي في هذا البابِ من هذا الكتاب ، ص : ٤٤٥ عنوان : «(أو) بمعنى : (بل)».

ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ١٥ / ١٣٢ عن المبرد أنه قال : «المعنى : وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم : هم مئةُ ألف أو أكثر ، وإنَّمَا خُوطِبَ العِبَادُ على ما يعرفون.

وقال الأخفش الأوسط (ت / ٢١٥ هـ) والزجاج (ت / ٣١١ هـ) : أي : أو يزيدون في تقديركم.

قال ابنُ عباس : زادوا على مئة ألف عشرين ألفاً ، ورواه أبي بن كعب مرفوعاً».

(١) تقدَّمَ الشاهدُ في : ص : ٣٤٣.

(٢) في كتاب الأزهية : ١٢١ : يريد : البثا شهرين ونصفَ ثالث ، لأَنَّ لبْثَ نصفِ الثالثِ لا يكونُ إلاّ بعدَ لَبْثِ الشهرينِ.

٤٢٧

وفي قولِهِ سبحانَهُ : (أوْ يَزِيدُونَ) وعَلى قراءَةِ جعفر بن محمّد عليهما السلام : (ويَزِيدُونَ) إنَّما حُذِفَ اسمٌ مفردٌ وهو هُمْ. وعلى أَنَّهُ قد جاءَ عنهم حذفُ الاسم ومَعَهُ حرفُ العطفِ وذلك قَولُهُم فيما رويَناهُ عَنْ أَبِي بكر محمّد ابن الحسن ، عن أَحمد بن يحيى : راكبُ الناقةِ طليحانِ ، أيْ : راكبُ الناقةِ والناقةُ طليحانِ (١) ، فحَذفَ الناقةَ وحرف العطف معها (٢).

العطف على الموضع

قَرَأ أَبو نَهِيك وأبو مِجلِز : (وبِرّا) (٣) بكسر الباءِ.

قال أَبو الفتح : هو معطوف على موضع الجارّ والمجرور من قوله : (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ) (٤) كَأ نَّهُ قَالَ : وأ لْزَمَنِي بِرّا ، وأشعرني بِرّا بِوالِدَتِي لاَِ نَّهُ إذا أوصاهُ بهِ فَقَدْ ألْزَمَهُ إيَّاهُ وعَلَيهِ بيتُ الكتابِ :

يَذْهَبْـنَ في نَجْـد وغَـوراً غَائِـرا (٥)

أَيْ : ويَسْلُكْنَ غوراً ، وبيتُه أَيضاً :

فَإِن لَمْ تَجِدْ مِنْ دونِ عدنانَ والِداً

حو ودونِ مَعَدّ فَلْتَزَعْكَ العَواذِلُ (٦)

__________________

(١) الطليح الذي أجهده السفر وأصابه الهُزَالُ. ينظر في : ص : ٣٤٣ والمحتسب : ٢ / ٢٢٧ والخصائص : ١ / ٢٨٩ ولسان العرب ـ طلح ـ والتصريح : ٢ / ١٥٤ والأشموني : ٣ / ١١٦.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٢٦ ـ ٢٢٨.

(٣) من قوله تعالى من سورة مريم : ١٩ / ٣٢ : (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً).

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٣١.

(٥) يُروَى هذا الرَّجَزُ للعجَّاج كما يُروَى لرؤبة. يصف ضعائن يأتين مرّة نجداً ومرّة الغورَ.

انظر : الكتاب : ١ / ٢٤٩ والخصائص : ٢ / ٤٣٢.

(٦) البيت للبيد بن ربيعة من قصيدة في رثاء النُّعمان بنِ المُنذرِ. ورُوِيَ (باقياً) مكان (والداً).

٤٢٨

عطفَ دونَ الثانية عَلَى موضِعِ (من دون) الأَولَى ، ونظائره ، كثيرةٌ جدّاً (١) ، وإنْ شِئْتَ حَمَلْتَهُ عَلَى حذفِ المضافِ ، أيْ : وجَعَلَنِي ذَا بِرّ ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ إيَّاهُ على المُبَالَغَةِ كَقَولِهَا :

 ......

فَأ نَّـمَـا هِيَ إِقْبَـالٌ وإِدْبَـــارُ (٢)

عَلَى غَير حذفِ المُضافِ (٣).

ويُروى عَنْ أَبان بن تَغْلِب : (وَنَحْشُرْهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعْمَى) (٤) بالجَزْمِ.

قَالَ أَبُو الفتحِ : هُو مَعْطُوفٌ عَلَى مَوضِعِ قولِهِ عَزَّوجَلَّ : (فَإنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً) ومَوضِعُ ذَلِك جزمٌ لِكَونِهِ جوابَ الشرطِ الذي هُو قَولُهُ : (ومَنْ أَعْرَضَ عنْ ذِكْرِي) فَكَأَ نّهُ قَالَ : ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكري يعشْ عِيشةً ضَنْكاً ونَحْشُرْهُ ، كَمَا تَقُولُ : مَنْ يَزرْنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ وأزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ ، أَيْ : مَنْ يَزُرنِي يجُبُ لَهُ دِرْهَمٌ عليَّ وأَزدْهُ عَلَيهِ.

وعَلَيهِ قِراءَةُ أبِي عَمرو بنِ العَلاءِ : (فَأَصَّدَّقُ وأَكُونَ مِنَ

__________________

تزعْك : تكفك والوَزْعُ : كفّ النفس عن هواها وهو من وَزَعَ بمعنى كفَّ وهو غير أوزع الذي بمعنى أغْرَى ، وفي التنزيل : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) سورة النمل : ٢٧ / ١٩ أي : ألهمْني. انظر : الديوان : ٢٥٥ والكتاب : ١ / ٣٤ والمقتضب : ٤ / ١٥٢ ولسان العرب ـ وزع ـ والخزانة : ٢ / ٢٥٣.

(١) قال ابن هشام في المغني : شرط العطف على المحلّ : إمكان ظهوره في الفصيح. انظر : المغني : ٢ / ٤٧٣.

(٢) البيت للخنساء وقد تقدّم الشاهد في : ص : ٣٣٥.

(٣) المحتسب : ٢ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٤) من قوله تعالى من سورة طه : ٢٠ / ١٢٤ : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).

٤٢٩

الصَّالِحينَ) (١) (٢).

وقَرَأَ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّد عليهما السلام : (والبَحْرُ مِدَادُهُ) (٣).

قَالَ أَبو الفتحِ : أَمَّا رَفَعُ (البَحْرُ) فَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَعْطوفاً عَلَى مَوضِعِ (أَنَّ) واسمها وإِنْ كَانَتْ مَفْتُوحةً ، كَمَا عُطِفَ عَلَى مَوضِعِهَا فِي قَولِهِ سُبحَانَهُ : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (٤) وقَدْ ذَكَرْنَا ما فِي ذَلِكَ وكَيفَ يَسْقُطُ

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة المنافقون : ٦٣ / ١٠ : (لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) على قراءة الجماعة ، قرأ عاصم ، ومعه خمسة من القراء السبعة ، وغيرهم من غير السبعة ، وعلى قراءته ما في المصحف : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) بالجزم ، عَطَفاً على موضع (فَأصّدَّقَ) لاَِنَّ مَوضِعَهُ قَبلَ دخولِ الفاءَ عليه جزمٌ. لكونِهِ جوابَ التَّمَنِّي ، أو كأ نَّهُ قيلَ : إِنْ أَخَّرْتَنِي أَصَّدَّقْ ، وقرأ أبو عمر بن العلاء ، وعلى رواية ، وعاصم من السبعة (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، بالواو بعد الكاف ونصب النون عطفاً على (فَأَصَّدَّقَ) المنصوبِ بأنْ بعدَ جواب التمنّي وهو (لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي) ، ووافقه الحسن ، واليزيدي يحيى بن المبارك ، ومحمد بن عبد الرحمن بن مُحَيْصِن ، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي ، وسليمان بن مهران الأعمش ، من القراء الأربعة عشر ، وهي قراءة قرأ بها عبد الله بن عباس ، وابن جبير ، ومالك بن دينار ، وأبو رجاء وعبد الله بن سلمة ، وعبد الله ابن الحسن العنبري ، وكذا هي في مصحف عبد الله بن مسعود ، وأُبيّ بن كعب. معاني القرآن للفراء : ١٦٠ / ٣ ، وجامع البيان : ٢٨ / ١٥٠ ، والكشف عن وجوه القراءات السبع : ٢٠ / ٣٢٣ ، والبيان في غريب إعرابِ القرآن : ٢ / ٤٤١ ، ومجمع البيان : ١٨ / ٨٤ ، والجامع لاَِحكام القرآن : ١٨ / ١٣١ ، والنشر : ٢ / ٢٩٠ ، والبحر المحيط : ٨ / ٢٧٥ ، والدر المنثور تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي : ١٤ / ٥٠٩ ، وإتحاف فضلاء البشر ، نشرة دار الندوة : ٤١٧.

(٢) المحتسب : ٢ / ٦٠.

(٣) من قوله تعالى من سورة لقمان : ٣١ / ٢٧ : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(٤) سورة التَّوبة : ٩ / ٣.

٤٣٠

اعتراضُ مَنْ تَعَقَّبَ فِيهِ فِيما مَضَى. ويَدُلُّ عَلَى صحّةِ العَطْفِ هُنَا ، وأَنَّ الواو لَيْسَتْ بواو حال قراءةُ أَبِي عَمْرو وغَيرِهِ (والبَحْرَ يَمُدُّهُ) بالنَّصْبِ فَهذَا عَطْفٌ عَلَى (مَا) لاَ محالةَ ، ويَشْهَدُ بجوازِ كَونِ الواو حَالاً هُنَا قراءةُ طلحة بن مُصَرِّف : (وبَحْرٌ يَمُدُّهُ) أيْ : وهُنَاكَ بحرٌ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر ، فَهَذِه واو حال لاَ محالة (١).

عَطْفُ الجُمَلِ

قَرَأَ الحسنُ ويزيدُ النَّحوي : (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزُ فَوزاً عَظِيْماً) (٢) بِالرَّفْعِ.

قَالَ رَوح : لَمْ يَجْعَلْ لِلمَيْت جَواباً.

قَال أَبو الفتح : مَحْصُولُ ذَلِك أَنَّهُ يتمنّى الفوزَ فَكَأَ نّهُ قَالَ : يَا لَيْتَنِي أَفُوزُ فَوزاً عَظيماً ، ولَو جَعَلَهُ جواباً لَنَصَبَهُ ، أَيْ : إِنْ أَكُنْ مَعَهُمْ أَفُزْ ، هَذَا إذَا أَصْرَحْتَ بالشرطِ ، إلاَّ أَنَّ الفاءَ إنْ دَخَلْتْ جَواباً للتمنّي نُصبَ الفعل بَعْدَهَا بِإِضمار أَنْ ، وعُطِفَ أَفوز على كنتُ مَعَهُمْ لاَِ نَّهَما جَمِيعاً مُتَمَنَّيَانِ ، إِلاَّ أَنَّهُ عطف جملة عَلَى جملة لا الفعل على انفرادِهِ عَلَى الفِعْلِ إذْ كَانَ الأَوَّلُ ماضِياً والثاني مستقبلاً.

وذَهَبَ أَبُو الحَسَن في قولهِ عَزَّوجَلَّ : (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ولاَ نُكَذِّبَ بآياتِ رَبِّنَا ونَكُونَ مِنَ المُؤمِنينَ) (٣) بِرَفْعِ (نَكُونُ) إلَى أَنَّهُ عطف على اللفظ ، ومعناهُ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٦٩.

(٢) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ٧٣ : (يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) بالنَّصب عَلَى قِرَاءَةِ الجماعة.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٢٧ قرأ ابن عامر وحمزة بن حبيب الزيّات وحفص عن عاصم بن

٤٣١

مَعَنَى الجوابِ (١).

قَالَ : لاَِ نَّهُمْ لَمْ يَتَمَنّوا إلاّ يكذبوا ، وإنَّمَا تمنَّوا الردَّ وضمِنُوا أنَّهُم إنْ رُدُّوا لِمْ يَكْذِبُوا (٢) ، وعَليهِ جَاءَ قَولُه تعالى : (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) (٣). وعَلَيهِ قَولُ الآخر :

__________________

أبي النجود (ولا نُكَذِّبَ ونكُونَ) بنصب الفعلين على إِضمار (أَنْ) بعد (واو) المعية في جواب التمنّي ، عند جمهور البصريين ، والمصدرُ المُنْسَبِكُ من (أنْ) والفعل بعدها مرفوعٌ معطوفٌ بالواو على مصدر مُتَوَهَّم من الجملة السابقة ، التقدير (يا ليتَ يكون لنا رَدٌّ ، وانتفاءُ تكذيب وكونٌ مِنَ المؤمنين) ، أَي يا ليت لنا ردٌّ مع هذين الأمرين ، ووافقهم على هذه القراءة سليمان بن مهران الأعمشُ ، وقرأ (وَلا نُكَذِّبُ ونكُونُ) ، برفعهما ، عبدُ اللهِ بنِ كثير وأبو عمرو بنِ العَلاء ونافع بن أبي نُعَيم المدني وعلي بن حمزة الكسائي من السبعة ، وتابعهم من القراء الأربعةَ عَشَرَ أبو جعفر يزيد بن القعقاع ويعقوب بن إسحاق الحضرمي وخلف بن هشام البزار ومحمد بن عبد الرحمن بن محيصن ويحيى بن المبارك البزي والحسن البصري ، والرفع عطفٌ على (نُرَدُّ) أي يا ليتنا نُرَدُّ ونوفَّقُ للتصديقِ والإيمانِ ، أو (الواو) للحالِ والفعلُ المضارعُ وفاعِلُهُ خبرٌ لمحذوف والجملةُ حالٌ من مرفوعِ (نُرَدُّ) ، أَي نُرَدُّ غيرَ مُكذِّبِين وكائنين مِنَ المؤمنين ، فيكونُ تمنّي الرَّدِّ مُقيَّداً بهذين الحالين ، بينما أبو الحسن الأخفش يرى لاَِ نَّهُمْ لَمْ يَتَمَنوا إلاّ يكذبوا ، وإنَّمَا تمنَّوا الردَّ ولو رُدّوا لم يكذِّبُوا. الكشف عن وجوه القراءات السبع : ١ / ٤٢٧ ، ومجمع البيان : ٣٨ / ٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ٢٠٦ ، نشر دار الندوة.

انظر : الكشف عن وجوه القراءات السبع : ١ / ٤٢٧ ومجمع البيان : ٧ / ٣٨.

(١) قال في التنبيه : ٤٥٧ هو في اللفظ معطوف ، وفي المعنى جواب.

(٢) عبارة أبي الحسن الأَخفش : (إنْ شئتَ رفعتَ وجَعَلْتَهُ على مثل اليمين كَأَ نَّهُمْ قالوا لا نُكَذَّبُ والله بآياتِ رَبِّنا ونكون والله من المؤمنين هذا إذا كان ذا الوجه منقطعاً من الأَوّلِ والرَّفعِ وجهُ الكلام وبه نقرأ الآية ، إذا نصبَ جَعَلَها واوَ عطف فَكأ نَّهم قد تَمَنَّوا ألاَّ يكذِّبُوا وأَنْ يكونُوا وهذا ـ والله أعلم ـ لا يكونُ لاَِ نّهُم لم يتمنَّوا الإيمانَ إنّمَا تمنَّوا الردَّ وأخبروا أنَّهُم لا يُكَذِّبُون ويكونون من المؤمنين). معاني القرآن للأخفش : ١٠٧ / ب.

(٣) سورة الأَنعام : ٦ / ٢٨.

٤٣٢

فلقد تركتِ صبِيَّةً مَرحُومَةً

لَمْ تَدرِ مَا جَزَعٌ عليكِ فَتَجزَعُ (١)

والقوافي مرفوعة. أي : هِيَ تَجْزَعُ (٢). ولَو كَانَ جَواباً لَقَالَ : فَتَجْزَعَا (٣).

وقَرأَ ابنُ عَبَّاس وابنُ مَسْعود : (والسَّلاسِلَ يَسحَبُونَ) (٤) بفتح اللاّم.

قال أبو الفتح : التقدير فيه إذِ الأغلالُ في أعناقهم ، ويَسحَبُون السَّلاسِلَ ، فعطفَ الجملةَ من الفعل والفاعل على التي من المبتدأِ والخبر ، كما عُودِلَتْ إحَدَاهُمَا بالأَخرَى فِي نحو قَولِهِ :

أَقيسَ بنَ مَسعودِ بنِ قيسِ بنِ خالدِ

أَمُوف بِأَذْرَاعِ ابنِ ظَبْيَةَ أَمْ تُذَمْ (٥)

أَيْ : أأنتَ مُوف بِهَا أَمْ تُذم؟ فَقَابَل بالمبتدأِ والخبرِ التي مِنَ الفِعْلِ الـمَفعُول الجارِي مجرى الفَاعِل ، وقَالَ تَعَالى : (سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ) (٦) ، أَيْ أَصَمَتُمْ؟ وعَلَى أَنّه لَو كان إذْ فِي أعناقهم الأغلال والسَّلاسِلَ يَسْحَبُونَ لَكانَ أمْثَلَ قَليلاً ، مِنْ قِبَل أَنَّ قَولهُ : فِي أَعناقهم الأغلال يُشبِهُ في اللفظِ تركيبَ الجُمْلَةِ من الفعل والفاعل لتقدُّمِ الظَّرفِ على المُبتدَأِ كَتَقَدُّمِ الفعل على الفاعل ، مع قوّةِ شبهِ الظَّرفِ بالفعلِ (٧).

__________________

(١) لمويلك المزموم من أَبيات يرثي بها امرأتَهُ أُم العلاء ويروى (صغيرة) مكان (صَبِيَّة). انظر : ديوان الحماسة : ١ / ٣٧٤ والتنبيه : ٤٥٨ والخزانة ـ بولاق ـ ٣ / ٦٠٤.

(٢) انظر : التنبيه : ٤٥٨.

(٣) المحتسب : ١ / ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٤) من قوله تعالى من سورة غافر : ٤٠ / ٧١ : (إِذِ الاْغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ).

(٥) البيتُ لراشِد بن شِهاب اليشكري. انظر : المفضليّات : ٣٠٩.

(٦) سورة الأَعراف : ٧ / ١٩٣.

(٧) المحتسب : ٢ / ٢٤٤.

٤٣٣

وقَرأَ عبدُ الله بنُ الزُّبَير وأَبانُ بنُ عُثَمانَ : (والظَّالِمُونَ أَعَدَّ) (١) بالواو.

قَالَ أَبو الفتحِ : هَذَا عَلَى ارتِجَالِ جملة مستأنَفَة ، كَأَ نَّهُ قَالَ : الظَّالِمُونَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، ثُمَّ إنَّهُ عَطَفَ الجُمْلَةَ عَلَى مَا قَبْلَها. وقَد سَبَقَ الرفْعُ إلى مبتدئها غير أَنَّ الّذي عليه الجماعة أَسبق وهو النصبُ ، ألاَ تَرَى أَنَّ مَعْنَاهُ يَدخِل مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ويُعَذَّبُ الظَّالِمينَ؟ فَلَمَّا أَضْمَرَ هَذَا الفعل فَسَّرَهُ بِقَولِهِ : (أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) وهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُؤتى له بشاهد (٢).

وقَرَأَ الحَسن وعَمرو بنُ عبيد : (والجِبَالُ أَرْسَاها) (٣) بالرَّفِع.

قَالَ أَبو الفتح : هَذَا كَقِراءةِ عبدِ الله بن الزبير وأبان بن عثمان : (والظَّالِمُونَ أَعدَّ لَهُم عَذَاباً أَلِيماً) (٤) وقد ذكرناه (٥) هناك (٦).

وقَرَأَ طلحة بنُ سليمانَ : (ثُمَّ يُدْرِكُهُ المَوتُ) (٧) برفعِ الكاف.

قال أَبو الفتح : ظاهِرُ هذا الأمر أَنَّ (يُدْرِكُهُ) رُفِعَ على أَنَّهُ خَبرُ ابتداء محذوف ، أَيْ : ثُمَّ هو يُدْرِكُهُ الموتُ فَعَطَفَ الجُمْلَةَ التي هي من المبتدأِ والخبر على الفعلِ المجزومِ بفاعلهِ فهما إذاً جملة ، فكأَ نَّهُ عَطَف جملةٌ عَلَى

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الإنسان : ٧٦ / ٣١ : (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).

(٢) المحتسب : ٢ / ٣٤٤.

(٣) سورة النَّازعات : ٧٩ / ٣٢ : (والجِبَالَ أَرْسَاهَا) بالنصب.

(٤) من قوله تعالى من سورة الإنسان : ٧٦ / ٣١ : (وَالظَّالِمِينَ أَعدَّ لَهُم عَذَاباً أَلِيماً).

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٤٤.

(٦) المحتسب : ٢ / ٣٥٠.

(٧) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٠٠ : (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً).

٤٣٤

جملة.

وجَازَ العطفُ هَاهُنا أَيضاً لِمَا بينَ الشرطِ والابتداءِ مِنَ المشابهات ، فمنها أَنَّ حرفَ الشرطِ يجزمُ الفعلَ ، ثُمَّ يعتورُ الفِعْلُ المجزومُ معَ الحرفِ الجَازِمِ على جزمِ الجوابِ ، كما أَنَّ الابتداءَ يرفعُ الاسمَ المبتدأَ ، ثُمَّ يعتورُ الابتداءُ والمبتدأُ جَمِيعاً عَلَى رَفْعِ الخبرِ (١) ، ولِذَلِك قال يُونُس في قولِ الأعشَى :

إنْ تَرْكَبُوا فَركُوبُ الخيلِ عَادَتَنا

أو تَنْزِلُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ (٢)

إنَّما أرادَ أَو أَنْتَمْ تَنزلونَ (٣) ، أفلا تَرَاهُ كَيْفَ عَطَفَ المبتدأ والخَبَرَ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ الَّذي هو تَرْكَبُوا وعَليِهِ قَولُ الآخر :

إن تَذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِينِي بَقِيَّتُكُم

فَمَا عَلَيَّ بذنب مِنْكُمُ فَوتُ (٤)

فَكَأَ نَّهُ قَالَ : إِنْ تَذْنِبُوا ثُمّ أنْتُمْ تَأْتِيني بَقَيتُكُم. هَذَا أَوجَهُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ سكونَ الياءِ فِي تَأتِيني عَلَمَ الجزمِ عَلَى إجراءِ المعتلِّ مَجرَى الصحيحِ نَحْو قَولِهِ :

__________________

(١) هذا رأي البصريين ، وذهب الكوفيون إلى أنَّ المبتدأَ رفعَ الخبرَ والخبرُ رفعَ المبتدأَ. انظر : المقتضب : ٢ / ٤٩ و ٤ / ١٢ و ١٢٦ والأصول في النحو : ١ / ٦٣ والإنصاف : ١ / ٣٠ والهمع : ١ / ٩٤.

(٢) يروى :

قالوا الرُّكُوبُ فقلنا تلك عادتُنَا

 ......

ونُزُل جمعُ نازل. وكانوا ينزلونَ عن الخيلِ عندَ ضيقِ المعركةِ فيقاتلون على أقدامِهِم.

انظر : الديوان : ٤٨ والكتاب : ١ / ٤٢٩ والخزانة ـ بولاق ـ ٣ / ٦١٢.

(٣) رأي الخليل أنّ الكلام على قولك يكون كذا أو يكون كذا ...... وأما يُونُس فقال أرفعه على الابتداء كأنّه قال : أو أنتم نازلون. الكتاب : ١ / ٩.

(٤) يروى (نَعَيّكُمُ) مكان (بقيّتكم) و (يأتيني) مكان (تأتيني).

اُنظر : لسان العرب : ١٨ / ٨٧ والبحر المحيط : ٣ / ٣٣٦.

٤٣٥

أَلَمْ يَأتِيكَ والأَنَباءُ تَنمِي

 ...... (١)

فَهَذَا جوابُ كَمَا تَراهُ.

وإن شِئْتَ ذَهَبْتَ فِيهِ مَذْهَباً آخرَ غَيْرَهُ ، إِلاَّ أنَّ فيهِ فَنّاً وصنعةً ، وهو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ثُمَّ يُدرِكْهُ الموتُ جَزْماً غَيرَ أَنَّهُ نَوى الوقفَ عَلَى الكلمةِ فَنَقَلَ الحَرَكَةَ مِنَ الهَاءِ إلى الكافِ فَصَارَ يُدرِكُه ، عَلَى قولهِ :

 ......

مِنْ عَنَزيِّ سَبَّنيِ لَمْ أَضْرِبُهْ (٢)

أرادَ لَمْ أَضْرِبْهُ ثُمَّ نَقَلَ الضَّمَّةَ إلى الباءِ لِمَا ذَكَرنَاهُ ، كَقَولِهِ :

أَلهى خَلِيلِي عَنْ فِراشِي مَسجِدُه

يَا أيها القاضِي الرَّشيِدُ أَرْشِدُهْ

أيْ أَرْشِدْهُ ثُمَّ نَقَلَ الضمّةَ فَلَمَّا (٣) صَارَ يدركْه إلى يدركُهْ حَرَّك الهاءَ بالضمّ عَلَى أَوَّلِ حَالِها ثُمَّ لَمْ يُعِدْ إليْهَا الضَّمَّةُ الَّتي كَانَ نَقَلَهَا إلى الكافِ عَنْهَا بَلْ أَقَرَّ الكافَ عَلَى ضَمِّهَا ، فَقَالَ : (ثُمَّ يُدْرِكُهُ المَوتُ) وقَدْ جَاءَ ذَلِك عَنْهُمْ.

أَخْبَرَنَا أَبو بكر محمّد بنُ الحسن بقول الشاعر :

إِنّ ابن أحوصَ معروفاً فَبلِّغُهُ

فِي سَاعِدَيْه إذَا رَامَ العُلا قِصَرُ

أَرادَ فَبَلَّغْهُ ثُمَّ نَقَلَ الضَّمَّةَ مِنَ الهَاءِ إلى الغينِ ثُمَّ حَرَّك الهَاءَ بالضَّمِّ وأَقَرَّ ضَمَّةَ الغَينِ عَلَيْهَا بِحالِهَا ، فَقَالَ : فَبَلّغُهُ ، وذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ النَّقْلُ عَنْهم لِهذِهِ الضَّمَّةِ عن هذهِ الهاءِ ، فَإِذا نُقِلَتْ إلى موضِع قَرَّتْ عَلَيْهِ وثَبَتَ ثباتَ الوَاجِبِ

__________________

(١) تقدّم الشاهد في : ص : ٣٠٧.

(٢) الرجز لزياد الأعجم ، وقبله :

عَجِبْتُ والدَّهْرُ كثيرٌ عَجَبُهْ

 ......

انظر : الكتاب : ٢ / ٢٨٧ واللسان : ـ لمم ـ : ١٦ / ٢٨ والبحر المحيط : ٣ / ٣٣٧ والهمع : ٢ / ٢٠٨ والأشموني : ٤ / ٢١٠.

(٣) أشار أبو حيَّان إلى هذين الرأَيين في البحر المحيط : ٣ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

٤٣٦

فيهِ.

وفي إقرارِ الحركةِ بحالِهَا مَعَ تَحْرِيكِ مَا بَعْدَهَا دلالةٌ عَلَى صِحَّةِ قولِ سيبويه بِإقرارِ الحركةِ التي يحرَّك بِهَا السُّاكِنُ عِنْدَ الحَذفِ إذَا رُدَّ إلى الكلمةِ مَا كانَ حُذِفَ مِنْهَا فِي نحو قَولِهِ فِي النسبِ إلى شَيه : شَويّ وهَذَا مشروح هُنَاكَ فِي مَوضِعِهِ. فَهَذَا وجهٌ ثان كَمَا تَراهُ فِي قولِهِ : (ثُمَّ يُدْرِكُهُ الموتُ) بِضَمّ الكافِ (١) ، فَاعِرفْهُ (٢).

وقَرأَ أبُو السَّـمّـالِ : (وَالسَّـمَـاءُ رَفَعَهَا) (٣) رفع.

قَالَ أبو الفتحِ : الرَّفْعُ هُنَا أَظهر (٤) من قراءةِ الجماعةِ ، وذَلِكَ أَنَّهُ صَرَفَهُ إلى الابتداءِ لاَِ نَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الجملةِ الكَبِيرَةِ الَّتي هِيَ قولُهُ تَعَالَى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (٥) فَكَمَا أَنَّ هذهِ الجملة مُرَكَّبَةٌ من مبتدأ وخبر فكذلك قوله تعالى : (وَالسَّـمَـاءُ رَفَعَهَا) جملةٌ مِنْ مبتدأ وخَبَر معطوفةٌ على قوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ).

وأَمَّا قَراءَةُ العامّة بالنصبِ : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا) فَإِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى

__________________

(١) في هذا التخريجِ تَمَحُّلٌ والشَّوَاهِدُ الَّتي استشهدَ بها أبو الفتح لتعزيز الرأي الذي ذهبَ إليهِ واحدٌ منها لِزِياد الأعجم والآخران مجهولا القائل وكلُّهَا من الشِّعْر وللشِّعر ضَرُورَاتُهُ المعروفةُ وبعضُها لم يستشهدْ بها أحدٌ من النحاةِ غيرِهِ.

(٢) المحتسب : ١ / ١٩٥ ـ ١٩٧.

(٣) من قوله تعالى من سورة الرَّحمن : ٥٥ / ٧ : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ).

(٤) قال العكبري : (النَّصبُ أَولَى مِنَ الرَّفعِ لاَِ نَّهُ معطوفٌ على اسم قَدْ عَمِلَ فيهِ الفعلُ وهو الضَّميرُ في يسجدانِ وهو معطوف على الاِنسانِ).

وقول أَبي الفتح أسَدْ لاَِنَّ العطفَ هُنَا عطفُ جُمَل ولَيْسَ عطفَ مفردات.

والعطفُ يَقتضِي التماثل في تركيبِ الجُمَلِ. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٥٠.

(٥) سورة الرحمن : ٥٥ / ٦.

٤٣٧

(يَسْجُدَانِ) وهي جملةٌ مِنْ فعل وفَاعِل ، والعطفُ يَقتِضي الَتمَاثُلَ فِي تَركِيبِ الجُمَلِ ، فيصيرُ تقديرُهُ : يسجدان ورفع السماءَ ، فَلَمَّا أضْمَرَ (رَفَعَ) وفَسَّرَهُ بِقْولِهِ : (رَفَعَهَا) كَقَولِكَ قَامَ زيدٌ وعَمراً ضربْتُهُ ، أي وضَرَبْتُ عمراً ، لِتَعْطِف جملةً مِنْ فِعْلِ وفَاعِل عَلَى أُخْرَى مِثلها (١).

وفي نصبِ (السَّماء) عَلَى قراءَةِ الجماعةِ ردٌّ عَلَى أَبِي الحَسَن فِي امتناعِهِ أنْ يَقُولَ زيدٌ ضَرَبْتُهُ وعمراً كَلَّمْتَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وكَلَّمْتُ عَمراً عَطْفاً عَلَى ضَرَبْتُهُ. قَالَ : لاَِنَّ قَولَكَ : ضَرَبْتُهُ جملة ذات موضعِ مِنَ الإعراب ، لِكَونِها خبر مبتدأ ، وقَولُك وكَلَّمْتُ عَمْراً لاَ مَوضِعَ لَهَا مِنَ الإعراب ، لاَِ نَّها لَيْسَتْ خبراً عَنْ زيد لِخلوها مِنْ ضميرهِ ، قَالَ : فلا يُعطَفُ جملة غير ذات موضع على جملة ذاتِ موضع ، إِذْ العطفُ نظيرُ التثنيةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَناسَبَ المَعْطوفُ والمَعْطُوفُ عَلَيهِ (٢).

وهَذَا سَاقِطٌ عِنْدَ سيبويه (٣) وذَلَك أَنَّ ذَلِكَ المَوضِع مِن الإعراب لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ إِلى اللفظِ سَقَطَ حُكُمه وجَرَتْ الجمْلَةُ ذاتُ الموضِعِ كَغَيرِهَا مِنَ الجملة غير ذاتِ الموضِعِ (٤) ، كما أَنَّ الضَّميرَ في اسمِ الفاعلِ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ إلى

__________________

(١) نقل الطبرَسِي كلامَ ابن جِني هَذا فِي مَجمَع البيان : ٢٧ / ٨٣.

(٢) عبارة الأخفش كَما رَواهَا الرضِي : (لا يجوز عطَفُ جملة لا محلّ لها على جملة لَهَا مَحلٌّ).

اُنظر : شرح الرضي على الكافية : ١ / ١٧٦.

(٣) مثال سيبويه : عمروٌ لقيته وزيدٌ كلّمتُهُ إنْ حَمَلْتَ الكلام على الأَوَّلِ ـ إنْ حملته على الاسم الَّذي بني عليه الفعل ـ وعمروٌ لقيتُه وزيداً كلّمتُه إنْ حَمَلْتَهَ عَلَى الآخر ـ على الاسم الذي بُني على الفعل ـ. انظر : الكتاب : ١ / ٤٧.

(٤) هذه إجابَة أَبي علي الفارسي أَخَذَهَا أَبو الفتح عِن شِيخِهِ وصُورتُها كَمَا في شرح الرَّضِي

٤٣٨

اللفْظِ جَرَى مَجْرَى مَا لاَ ضَمِيرَ فِيهِ فَقِيلَ فِي تَثْنِيَتهِ : قَائمانِ كَمَا قِيلَ فَرَسَانِ ورَجُلانِ ، بَلْ إِذا كَان اسمٌ قَدْ يَظْهَرُ ضميرُهُ إذا جرى عَلَى غَيرِ مَنْ هُو لَهُ ثُمَّ أجرِيَ مع ذلك مجرى مَا لاَ ضميرَ فيهِ لَمْ يَظْهَرْ في بعضِ المواضع كانَ مَا لاَ يَظْهرُ فيهِ الإعرابُ أَصلاً أَحرَى أَنْ يَسقُطَ الاعتداد (١) بهِ ، والكلام هنا فيه طول (٢) ...

وقَرَأَ ابنُ عَبَّاس ومُجاهدٌ وابنُ مُحيْصِن : (واسْتَفْتِحُوا) (٣).

قَالَ أَبو الفتح : هُو مَعطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَولِهِ تَعَالى : (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) (٤) ، أَيْ : قَالَ لَهُمْ : اسْتَفتِحُوا ، ومَعْنَاهُ : استنْصِروا اللهَ عَلَيْهِم ، واستَحْكِمُوهُ بينَكُم وبِينَهُم ، والقاضِي اسمُهُ الفَتَّاحُ (٥).

عطف شبه الجملة

قَرَأَ : (بَيْنَ أَيْدِيهِم وبِإِيمَانِهِم) (٦) ، بِكَسرِ الهمزةِ ، سهل بن شُعَيب النَّهمِي.

__________________

على الكافية : ١ / ١٧٦ : «إنَّ الإعرابَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ في المعطوفِ عليهِ جازَ أنْ يُعطَفَ عليه جملة لا إعرابَ لَها».

(١) وقد ظنَّ السيرافي أنّ سيبويه إنَّما يعني بالجواز إذا اشتملتِ الجملةُ على الضَّميرِ بأنْ قيلَ زيدٌ لقيتُهُ وعمروٌ كلَّمْتُهُ عِنْدَه وإنّما سَكتَ سيبويه عن هذا اعتماداً على علمِ السامِعِ أنّهُ لا بُدَّ للخبر إذا كان جملةً من ضمير فيصحّح المثال إذا أراد.

انظر : الكتاب : ١ / ٤٧ وشرح الرضي على الكافية : ١ / ١٧٦.

(٢) المحتسب : ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٣) من قوله تعالى من سورة إِبراهيم : ١٤ / ١٥ : (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّار عَنِيد).

(٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٣.

(٥) المحتسب : ١ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٦) من قوله تعالى من سورة الحديد : ٥٧ / ١٢ : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم).

٤٣٩

قَالَ أَبَو الفتح : قولُهُ : (بِإِيمانِهِم) معطوف على قوله : (بَيْنَ أَيْدِيِهم).

فَإنْ قُلْتَ : فَإنَّ قَولِهِ : (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ظَرفٌ ، وقَوله : (بِإِيْمَانِهِم) لَيْسَ ظَرْفاً.

أَلاّ تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ معَناهُ يَسْعَى فِي أَيمَانِهِم (١)؟ فَكَيفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ

عَلَى الظرفِ مَا ليسَ ظرفاً وقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ العَطْفَ بالواو نَظِيرُ التثنيةِ والتثنيةُ تُوجِبُ تَمَاثُلَ الشَّيءِ؟ قِيلَ : الظَّرْفُ الَّذِي هُو (بَيْنَ أَيْديِهم) مَعْنَاهُ الحالُ وهْو مَتَعَلّقٌ بِمَحْذُوف ، أَيْ : يَسْعَى كَائِنَاً بينَ أَيْدِيِهم ، ولَيسَ (بَيْنَ أَيْدِيِهم) متعلّقاً بِنَفْسِ يَسْعَى ، كَقَولِكَ : سَعَيْتُ بينَ القومِ وسَعَيْتُ فِي حاجَتِي.

وإذَا كَانَ الظَّرْفُ هُنَا فِي موضعِ الحالِ جَازَ أَنْ يُعطفَ عَلَيْهِ الباءُ ومَا جَرَّته حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : يَسْعَى كَائِنَاً بَيْنَ أَيْدِيِهم ، وكَائِناً بِإِيمانِهِم ، أَيْ : إِنَّمَا حَدَثَ السَّعْيُّ كَائِناً بِإِيْمَانِهِم ، كَقَولِ اللهِ تَعَالى : (ذَلِك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) (٢) ، أَيْ : ذَلِك كَائِنٌ بِذَلِكَ.

فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَولُهُ : (وبِإِيمَانِهِم) فَأَمَّا أَنْ يُعَلَّقَ (بَيْنَ) بِنَفسِ (يَسْعَى) ويُعْطَفَ عَلَيهِ (بِإِيمَانِهِم) فَلا ، لِمَا تَقَدَّمَ (٣).

ومِنْ ذَلِك قرِاءةُ سَهْلِ بنِ شُعَيب : (بِإِيمَانِهم) (٤) مَكْسُورة الهمزة.

قَالَ أَبو الفتح : قَدْ تَقَدَّمَ القولُ عَلَى ذَلِكَ وأَ نّه مَعْطُوفٌ عَلَى الظرفِ عَلَى أَنَّ الظَّرْفَ حَالٌ (٥).

__________________

(١) قَالَ الأَخْفَش : (يُريدُ عَنْ أَيمانهم) ، وقَال الفرَّاءُ : الباء في (بِأيمانِهم في معني في).

معاني القرآن للأخفش : ١٧٣ / آ ومعاني القرآن للفرّاء : ٣ / ١٣٢.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ١٠.

(٣) المحتسب : ٢ / ٣١١.

(٤) من قوله تعالى من سورة التحريم : ٦٦ / ٨ : (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ).

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٢٤.

٤٤٠