أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

فَقَالَ قِياسُهُ مَذْهَبُ أَبي بكر فيِ الوَضُوءِ أَن يَكُونَ هَذَا عَلَى أَنَّه أَرادَ رَجُلٌ ساكوتٌ بَيّنُ السكتِةِ الساكوتةِ (١).

وَعَليهِ قَوْلُهْم فِيَما حَكَاهُ الأَصْمَعِي : رَجُلٌ بَيّنُ الضَّارُورةِ ، أَيْ : بَيّنُ الضَّرَّةِ أَوْ المَضَرَّةِ الضّارُورة (٢).

وَأَمّا قَوْلُهُمْ : لُصٌّ بَيّنُ اللُّصُوصيَّةِ ، وَحَرٌّ بَيّنُ الحَروريِّةِ ، وخصَصْتُه ، بالشيءِ خُصُوصِيَّة فَإنْ شِئتَ قُلتَ : هُوَ عَلَى مَذهَبِ أَبي بَكْر لَصٌ بَيّنُ اللصَّةِ اللصُوصِيَّةِ ، والخَصة الخُصوصيِّة والحَرِّية الحَروُرِيِّة.

وَإن شِئْتَ قُلتَ غَيرَ هَذَا وَذَلَك أَنَّ مَا لاَ يجيءُ مِنْ الأَمثِلَة بِنَفسِهِ قَدْ يجيءُ إذا اتّصَلَتْ ياءُ الإضَافةِ بهِ وَذَلِكَ كَقَولِ الأعْشَى :

وَمَا أيْبُليُّ عَلَى هَيّكَل

بَنَاهُ وَصَلَّبَ فِيهِ وَصَارَا (٣)

فأَيُبِليّ ـ كَمَا تَرَى ـ فَيْعُلِيّ ، وَلَولاَ يَاءُ الإضَافَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِك ألاَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يأتِ عَنْهُم فيعل؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُم فِي الإضَافةِ إلى تَحِيَّة تَحَوَي ، وَمِثَالُهُ : تَفَلِيّ.

وليس في كلامهم اسمٌ على تفل فَكَذَلِك جَازَ خصوصيَّة واختاها هَذَا مَعَ مَا حُكِي عَنْهم من القَبولِ والوَضُوءِ والوَلُوعِ والوَقُودِ (٤) فإذا جَاءَ هَذَا

__________________

(١) تنظر : ص : ٣٥٩.

(٢) تنظر : ص : ٣٦٠.

(٣) أيبلي : صاحب أيبل وهي العَصَا التي يُدَقُّ بِهَا النَّاقُوسُ. صَلَّبَ : صَوَّرَ الصليبَ. صَارَ : سكن.

ديوان الأعشى : ٤٠ والمنصف : ١ / ١٦٣.

(٤) تنظر : ص : ٣٥٨.

٣٦١

المِثَالُ فِي المَصْدَر من غير أَن تصحبه ياء الإضافة فهو بان يأتي معها أجدر (١).

وَقَرَأَ أَبو عبِد الرَّحْمنِ السُّلَمي وَطْلَحة : (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لَغُوب) (٢) بفتح اللاّمِ.

قال أَبو الفتح : قَدْ تَقَدَّمَ القولُ عَلَى ذَلِكَ (٣) ، وَذَكَرْنَا رأيَ أبي بكر ونحوه من المصادر التي جاءت على فَعُول بِفَتْحِ الفاءِ كالوَضُوء والوَلُوعِ والطَّهُورِ (٤) والوَزوعِ (٥) والقَبُولِ ، وأَ نَّها صِفَاتُ مصادر محذوفة أَيْ : تَوَضَأتُ وُضُوءا وَضُوءا أيْ : وُضُوءا حَسَنا. وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ : مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب ، فَيَصِفُ اللُّغُوبَ بِأَ نَّهُ لَغُوبٌ أَيْ : لَغَبَ مُلْغِبٌ (٦).

وَقَرَأَ : (مِنْ كُلّ جانب دَحُورا) (٧) السَّلَمِي.

قَالَ أَبو الفتحِ : في فتح هذه الدَّالِ وَجْهَانِ :

١ ـ إنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى مَا جَاءَ مَنْ المَصَادِرِ عَلَى فَعُول ـ بِفَتح الفاءِ ـ

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٦٣ و ٢ / ٣٢٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة ق : ٥٠ / ٣٨ (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب).

(٣) انظر : ص : ٣٥٨ وما بعدها والمحتسب : ٢ / ٢٠١.

(٤) قال في مختار الصّحِاحِ : الطَّهُورُ بفتحِ الطاءِ مَا يُتَطهَّرُ بِهِ كالفَطُورِ والسَّحُورِ والوَقُودِ ، وَنَقَلِ المُطرِزِي في المُغرب أنَّ الطّهُورَ مَصدرٌ بمعنى التَّطَهّرَ واسم لما يُتَطَهَّر به. انظر : مختار الصحاح : ٣٩٩.

(٥) قال ابن السّكُيتِ : أزِعتُ بهِ مِثلُ ألِعْتُ بِهِ. وفي مُختار الصَّحَاحِ أوْزَرعَهُ بالشيءِ أَغراهُ بهِ. انظر : اصلاح المنطق : ٣٣٣ ومختار الصحاح : ٧١٩.

(٦) المحتسب : ٢ / ٢٨٥.

(٧) من قوله تعالى من سورة الصافّات : ٣٧ / ٨ ـ ٩ : (وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ).

٣٦٢

عَلَى مَا فيهِ مِنْ خلافِ أَبي بكر فيهِ وَقَدْ بِيّنّاهُ فِيَما مَضَى مِنْ هَذَا الكتابِ (١) وغيره.

٢ ـ وإنْ شِئتَ (٢) أرادَ ويُقذفَونَ مِنْ كلِّ جَانِب بِداحر (٣).

مَفْعَـل

قَرَأَ الأعْمَش : (إِلاَّ مَسْكَـنُهُمْ) (٤) وَكَذِلَك يُرْوَى عَنِ الثَّقَفَي وَنَصْرِ بنِ عاصم.

قَالَ أبو الفتح : أَمَّا (مَسْكَـنُهُمْ) فَإنْ شِئْتَ قُلْتَ : واحد كفى عن جماعته ، وَإنْ شِئْتَ جعلتَهُ مَصْدَراً وَقَدَّرْتَ حذفَ المضافِ ، أيْ لا تُرَى إلاّ آثار مَسْكَنِهِم. فَلَّمَا كَانَ مَصْدَراً لَمْ يَلِقْ لَفْظُ الجَمْعِيِّةِ بهِ كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَةِ :

تَقَولُ عَجُوزٌ مَدْرَجِي مُتَرَوِّحاً

عَلَى بَابِهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِي وَمَالِيَا (٥)

فَالمَدْرَجُ هُنا مَصْدَرٌ ، أَلا تَرَاهُ قَدْ نَصَبَ الحالَ؟ وَلَوْ كَانَ مَكَاناً لَـمـَا عمِلَ كما أَنَّ المُغَارَ من قولهِ :

وَمَا هِيَ إلاّ فِي إزار وَعِلْقَة

مُغَارَ ابنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا (٦)

__________________

(١) تنظر : ص : ٢٧٤ ، والمحتسب : ١ / ٦٣.

(٢) مرَّ ذلك في باب النصب بنزع الخافض.

تنظر : ص : ٢٧٤.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢١٩.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٥ : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِك نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

(٥) روى (بيت) مكان (عند) و (غاديَا) مَكان (ماليا).

انظر : الديوان : ٦٥٣ وأمالي الزّجَّاجي : ٨٩ والمحتسب : ٢ / ٢٦٦.

(٦) نسبه سيبويه إلى حُمَيد بن ثور وليسَ في ديوانِهِ وينسب إلى الطماح بن عامر بن الأعلم

٣٦٣

مَصْدَرٌ أَيضاً.

أَلاَ تَرَاهُ قَدْ عَلَّقَ بِهِ حَرْفَ الجَرِّ؟ وَهَذَا واضِحٌ.

وَحَسَنٌ أَيْضاً أَنْ يُريدَ بـ (مَسْكَنهم) هُنَا الجَمَاعة ، وإنْ كَانَ قَد جَاءَ بِلَفْظِ الواحدِ ، لِقِلَّتِهِ عَنْ الجماعةِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : (ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفلاً) (١) ، أيْ : أطفَالاً.

وَحَسنٌ لَفْظُ الواحدِ هُنا لاِ نَّهُ مَوضِعُ تَصغير لِشَأَنِ الإِنْسَانِ وَتَحْقير لاَِمرِهِ فَلاقَ بِهِ ذَكْرُ الواحدِ لِذَلِك لِقلُّتِهِ عَنِ الجَمَاعةِ (٢) ، وَلأَنَّ مَعْنَاهُ أَيضاً نُخْرِجُ كُلَّ وَاحِد مِنْكُم طفْلاً.

وَقَدْ ذَكَرنَا نَحْوَ هَذَا (٣). وَهَذَا مِمَّا إذا سُئِلَ الناسُ عَنْهُ قَالُوا : وضع الواحد موضع الجماعة اتساعا في اللُّغَةِ ، وَأُنْسُوا حِفْظَ المَعْنَى وَمُقَابَلَةَ اللفظِ بِهِ ، لتقوى دلالته عليه وتنظم بالشَّبَه إليْهِ (٤).

فُعْلَى

قَرَأَ : (بِطُغْوَاهَا) (٥) الحسَن.

__________________

ابن خُويلد العقيلي ، والعِلْقَةُ : ثوبٌ قَصِيرٌ بِلا كُمَين تَلْبَسُهُ الجاريةُ ، وَقيلَ أول ثوب يلبسْهُ المولودُ ، ينعت امرأةً بِأَ نَّها كانَت صَغيرةً إلى وقتِ إغارةِ ابنِ هَمَّام على هذا الحيِّ من اليمنِ.

الكتاب : ١ / ١٢٠ والمقتضَب : ٢ / ١٢١ والخصائص : ٢ / ٢٠٨.

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٥.

(٢) انظر : بحث أُستاذنا علي النجدي ناصر في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ج ٢ م ٤٩ لسنة ١٣٩٤ هـ ـ ١٩٧٤ م بعنوان من أسرار القرآن.

(٣) انظر : المحتسب : ٢ / ٨٧.

(٤) المحتسب : ٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٥) من قوله تعالى من سورة الشمس : ٩١ / ١١ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا).

٣٦٤

قالَ أَبُو الفتح : هذا مصدر على فُعْلَى ، كَأَخَوَاتِهِ مِنَ الرُّجْعَى ، والحُسْنَى والبُؤسَى والنُّعْمَى وَعَلَيهِ مَا حَكَاهُ أَبو الحَسَنِ (١) من قراءَةِ بَعْضِهِم (٢) : (وَقُولُوا للناسِ حُسْنَى) (٣). كقولك عُرْفَا (٤).

فاعلـة

قَرَأ ابنُ مسعود : (وَإنْ خِفْتُم عَائِلَةً) (٥) قَالَ أَبو الفتح : هَذَا مِن المصادِرِ التي جاءت على فاعلة ، كالعَاقِبَة ، والعَافِيَة ، وَذَهَب الخليلُ في قولِهِم (٦) : مَا بَالَيتُ بَالةً أَنَّهَا فِي الأصلِ بالية ، فَحُذِفَتْ لاَمُها تخفيفاً ، ومِنْهُ قَولُهُ سبحانَه : (لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً) (٧) ، أيْ : لَغْوَا.

ومِنْهُ قَوْلهُمْ : مَرَرْتُ بِهِ خاصَّةً ، أيْ : خُصوصاً ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَة مِّنْهُمْ) (٨) فيجوز فِيهِ أَنْ يكونَ مصدراً ، أَيْ : خيانَةً مِنْهُم ، ويجوزُ أنْ يكون على أَنَّ معناهُ على نِيَّة خائِنَة ، أَو عقيدة خائنة ، وكذلك أَيضاً يجوزُ أَنْ يَكُونَ لاَ تَسْمَعُ فِيها كلمةً لاَغِيَةً ، وَكَذَلِك الآخر على

__________________

(١) انظر : معاني القرآن للأخفش : ٥٧ / أ.

(٢) هو الحَسن كما في إتحاف فضلاء البشر : ٨٦ وقال الأخفش : الحَسن لا يتكلَّمُ بِهَا إلاَّ بالألفِ واللاّم كما لا يتكلّم بتذكيرها إلاَّ بالألِف واللاّم. لو قلت جاءني أَحسنُ وأطولُ لَمْ يَحْسُنْ حَتَّى تقولَ جاءني الأَحسنُ والأطولُ ، وكذلِك هَذَا ، تقولُ جَاءني الحُسْنَى والطُولَى. معاني القرآن للأخفش : ٥٧ / أ.

(٣) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٨٣ : (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً).

(٤) المحتسب : ٢ / ٣٦٣.

(٥) من قوله تعالى من سورة التَّوبة : ٩ / ٢٨ : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيْكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

(٦) الكتاب : ٢ / ٣٩٢.

(٧) سورة الغاشية : ٨٨ / ١١.

(٨) سورة المائدة : ٥ / ١٣.

٣٦٥

أَنَّ خِفْتُم حالاً عائلةً.

فالمصدرُ هُنَا أعذبُ وأَعلى (١).

جمع المصدر

قَرَأَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وأبو هُرَيرَة وأَبو الدَّردَاء وابنُ مسعود وعونُ العُقَيلي : (قُرَّاتِ أَعْيُن) (٢).

قَالَ أَبو الفتح : القُرَّةُ المصدر ، وكانَ قياسُهُ أَلاَّ يُجمع ، لأَنَّ المصدَر اسمُ

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٢٨٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة السجدة : ٣٢ / ١٧ : (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِّن قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقراءة : (قُرَّاتِ أَعْيُن) لم تثبت عن النَّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) بطريق صحيح ، وأصلُها ، ما رواه أبو أُسامةَ ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرةَ ، عن النَّبيَّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قرأ (قرّات أعين) وأخرجه النَّحَّاس في معاني القرآن : ٥ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦. وقد اختُلِفَ عن الأعمش في روايته. إذ أخرجها ابنُ أبي شيبة في المصنف : ١٢ / ٦٦ / ٣٤٩٧٠ و ٧٢ / ٣٤٩٩١ ، وليس في الموضعين أنَّ النَّبي (صلى الله عليه وآله) قرأ (قرَّات أعين) بل روى عنه أبو هريرة أنَّه قرأَ : (مِن قُرَّةِ أَعْيُن) ولكنَّ أبا هريرة هو مَنْ قرأَ (قرَّات أعين) وأخرجها ابنُ ماجة في سننه ٢ : ١٤٤٧ / ٤٣٢٨ عن أبي معاويةَ ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة موقوفة. وأخرجها الطَّبري في جامع البيان : ٢١ / ١٢٧ في ذيل الحديث : ٢١٥٢٤ عن أبي معاوية وابنِ نمير كلاهما ; عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة موقوفة. وقد صرَّح الدَّارقُطني في عِلَلِهِ : ١٠ / ١٢٣ بأنَّ أصحابَ الأعمش رووها عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة موقوفة عليه. على أنَّ أبا صالح ضعيفٌ لاشتراكه بين مجاهيل من تلامذة أبي هريرة. وقد أغرب القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ١٠٣ ـ ١٠٤ في الدِّفاع عن قراءة أبي هريرة قائلاً : ولا يُستَنْكرُ سقوطُ الألفِ من (قرّات) في الخطِّ وهو موجود في اللفظ ، كما لم يُستَنكَرْ سقوطُ الألفِ من (السَّموات) وهي ثابتة في اللسان والخطِّ!!

٣٦٦

جنس ، والأجناسُ أَبعدُ شيء عَنِ الجمعيَّةِ لاستحالةِ المَعْنَى فِي ذَلِك ، لَكِنْ جُعِلتِ القُرَّةُ هُنا نوعاً ، فجَازَ جمعُها ، كَما تَقولُ : نحنُ في أَشغال ، وبيننا حروب ، وهناك أَحزانٌ وأمراضٌ ، وَحَسَّنَ لَفْظَ الجَمْعِ هُنَا أيْضاً إضافةُ (القُرَّاتِ) إلى لَفْظِ الجماعةِ ، أعْنِي (الأعين). فقولنا إذاً : أشغالُ القومِ أشبهُ لَفظاً مِنْ أشغالِ زيد ، وَكِلاَهُما صحيحٌ غيرَ أنَّ فيهِ مَا ذَكْرتُهُ.

وَلَيسَ ينبغي أَنّ يُحتَقَرَ في هذهِ اللغةِ الشريفةِ تَجَانُسُ الألفاظِ ، فإنَّ أَكْثَرَهَا دائرٌ عليهِ في أَكثَرِ الوقتِ (١).

إضافة المصدر

قَرَأَ الأعرجُ وَرُويَ عَن أَبي قِلابة وعن مجاهد أيضاً : (وَقيِلُهُ) (٢) رَفْعاً ، وَقَرَأ يَعْقُوبُ القارئ : (وَقِيلَهُ) نصباً (٣).

قَالَ أَبو الفتح : إنَّ المَصْدرَ الذي هو (قِيل) مضاف إلى الهاءِ وهي مفعولةٌ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٧٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٨ : (وَقِيْلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ).

(٣) قراءة النَّصب قراءة سبعية كما في : البحر المحيط : ٨ / ٣٠ ، وفي إتحاف فضلاء البشر طبعة دار الندوة الجديدة : ٣٨٧ : قرأ عاصم وحمزة بخفض اللاّم وكسر الهاء مع الصلة بياء عطفاً على الساعة ، أي وعنده علم قِيلِهِ أَي قول محمد صلّى الله عليه وآله أو عيسى عليه السلام والقِيلُ والقَالُ اسما مصدر ، والقَولُ مصدَرٌ وهي بمعنى واحد ، ووافقهما الأعمش والباقونَ بفتح اللاّم وضمِّ الهاءِ وصلتها بواو عطفاً على محلِّ السَّاعَةِ ، أي : وعندَهُ أنْ يعلمَ السَّاعَةَ ويعلمَ قيلَهُ كذا أو عطفاً على سرّهم ونجواهم أو على مفعول يكتبون أي يكتبون ذلك ويكتبون قيلَهُ كذا أيضاً أو على مفعول يعلمون المحذوف أي : يعلمون ذلك وقيلَهُ ، أو على أنَّهُ مصدرٌ أي : قال قيلَهُ ، أو بإِضمارِ فعل أي : اللهُ يعلم قيلَ رسولِهِ محمد صلّى الله عليه وآله.

٣٦٧

في المعنى لاَ فَاعلة ، وَذَلِك أَنَّ (وَعِنْدَهُ) (١) عطفاً على أنْ يُقَالَ لَهُ : (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ) ، فالمصدر هُنا مضافٌ إلى المَفعولِ لا إلى الفاعلِ ، وإنَّما هُوَ مِنْ بابِ قَولِ اللهِ سبحانَهُ : (لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إِلَى نِعَاجِهِ) (٢) أيْ : بِسُؤالِهِ إيَّاك نعجتك.

ومثله قوله تعالى : (لاَ يَسْأَمُ الاِْنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ) (٣) ، أيْ : مِنْ دُعَائِهِ الخير ، لا بدَّ من هذا التقدير.

أَلا تَرَى أَنَّهُ لاَ يَجوز أَنْ تُقَدِّرَهُ عَلَى أَنَّهُ : (وَعِندَهُ عِلْمُ) أَنْ يَقُولَ اللهُ : (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ)؟ لأَنَّ هَذَا إنَّما يُقَالُ للهِ تعالى دُونَ أنْ يَكُونَ سبحانَه يقول : يا ربِّ إِنَّ هؤلاءِ كَذا (٤).

إضمار المصدر

قَرَأَ : (فَوَسَّطْنَ بِهِ) (٥) مُشَدَّدَة علي بن أَبي طالب (عليه السلام) وابن أَبي لَيْلَى وَقَتَادَة.

قَالَ أَبو الفتح : أَيْ (أَثَّرْنَ) (٦) باليد نقعاً ، وَوَسَّطْنَ بالعَدو جَمْعاً. وأَضمرَ المصدرَ لِدلالةِ اسم الفاعلِ عليهِ ، كما أضمر لدلالة الفعل عليه في قوله : منْ

__________________

(٤) من قوله تعالى من سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٥ : (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٤٩.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٤) من قوله تعالى من سورةِ العاديات : ١٠٠ / ٥ : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً).

(٥) مَن قوله تعالى من سورةِ العاديات : ١٠٠ / ٤ : (فَأَ ثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) وقراءة : (أَثَّرْنَ) بالتشديد قَرَأَ بِهَا أَبو حَيْوَة. انظر : المحتسب : ٢ / ٣٧٠.

٣٦٨

كَذِبَ كَانَ شرّاً لَهُ ، أَيْ : كَانَ الكَذِبُ شَرّاً لَهُ (١) ، وَقَول الآخر :

إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ

وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلَى خِلاَفِ (٢)

أَيْ : جَرَى إلى السَّفَهِ ، وَأَضمَرَهُ لدلالة السَّفِيهِ عَلَيهِ. فَأَمَّا (وَسَّطْنَ) بالتَشْدِيدِ فَعَلَى مَعْنَى مَيَّزْنَ بهِ جَمعاً ، أَيْ : جَعَلْنَهُ شَطْرينِ : قِسمَينِ : أيْ : شِقَّينِ ومعنى وَسَطنَهُ : صِرْنَ فِي وسطه ، وإنْ كَانَ المعنيانِ مُتلاقِيَينِ ، فَإنَّ الطريقينِ مُخْتَلَفِانِ : وَمَعْنَى (وَسَطْنَ) خَفيفة كمعنى تَوَسَّطْنَ ، أَلاَ تَرَى إلى قَوْلِهِ :

فَتَوَسَطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا

مَسْجُورَةً مُتَجَاوِراً قُلاَّمُهَا (٣)

وَوَسَّطْنَهُ ـ مُشَدَّدَةً ـ أَقوى مَعْنَىً مِنْ وَسَطْنَهُ مُخَفَّفَا لِمَا مَعَ التَّشْدِيدِ مِنْ معنى التكثيِرِ وَالتَّكْرِيرِ (٤).

بين المصدر واسم الفاعل

قَرَأَ : (سَالَ سَيْلٌ) (٥) ابنُ عباس.

قَالَ أَبو الفتح : السَّيلُ هُنَا : الماءُ السَّائِل ، وَأَصْلُهُ المَصْدَر مِنْ قَوْلِك : سَالَ

__________________

(١) انظر : الكتاب : ١ / ٣٩٥ والتمام : ٦٩.

(٢) تقدّم الشاهد في : ص : ٢٠٥.

(٣) البيت للبيد بن ربيعة من قصيدته المطولة التي أَسموها المعلّقة ، وروى (فرمى بها) مكان (فتوسَّطا) وضمير توسَّطا يعود على العَيرِ والأتان ، والعَرْضُ : الناحية ، والسّري : النهر الصغير ، والتَصْدِّيعُ : التشقِّيق ، وَالسَّجر : المَلْئُ ، أي : عيناً مسجورةً ، حذف الموصوف لَمَّا دلّتْ عليه الصِّفَةُ. القُلام : ضربٌ من النبتِ. أي : إنَّهُمَا قد وردا عيناً ممتلئةً ماءً فَدَخَلا فيها من عرض نهرِهَا وقد تجاور نبتها. انظر : ديوان لبيد : ٣٠٧ وشرح المعلّقات للزوزني : ١٠٢ ومعجم شواهد العربية : ١ / ٣٥٧.

(٤) المحتسب : ٢ / ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٥) من قوله تعالى من سورة المعارج : ٧٠ / ١ : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع).

٣٦٩

الماءُ سَيْلاً ، إلاَّ أَنَّهُ أُوقِعَ عَلَى الفاعل كَقَوْلِهِ : (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً) (١) ، أَيْ : غَائِراً. يُؤكِّدُ ذَلِك عِنْدَك مَا أَنْشَدَنَاهُ أَبو عَلِيّ مِنْ قَوْلِهِ :

فَلَيْتَكَ حَالَ البَحْرُ دُونَك كُلَّهُ

فَكُنْتَ لَقىً تجرْي عَلَيْك السَّوَائِلُ (٢)

قال أَبو عليّ : فَتَكسيِرهُ سيلاً على ما يكسر عليه سائل ، وهو قَوْلُكَ ، السوائِل ، يشهد بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَمِثْلُ ذَلِك مِمَّا كُسِّرَ من المصادر تكسيرَ اسم الفاعل لكونِهِ في معناهُ ما أَنشدنَاهُ أيضاً من قَوْلِهِ :

وَإنَّك يَا عَامِ بنَ فارِسِ قُرزُل

مُعِيدٌ عَلَى قِيلِ الخَنَا والهَوَاجِرِ (٣)

فَكَسَّرَ الهُجر وَهْوَ الفُحْشُ على الهَوَاجِرِ حَتَّى كَأَ نَّهُ إنَّما كَسَّرَ هَاجِراً لا هُجْرَا.

فَاعرفْ ذَلِك إلى غيره مِمَّا يَدلُّ على مُشَابَهَةِ المصدرِ لاسمِ الفاعلِ (٤).

والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الَّذي هو صفة ، وَيَدُلَّكَ عَلَى قوّةِ شَبَهِ المصدرِ بالصفةِ وقوعُ كُلِّ واحد مِنْهُمَا موقع صاحبه ، وَذَلِك نَحوَ قولِ اللهِ تَعالَى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً) أَيْ : غائراً ، وَقَوْلُهُم : قُمْ قَائِماً ، أيْ :

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ٣٠.

(٢) البيت لِلأعشى. واللّقَى بالفتحِ : الشيءُ المَلقي المطروح.

انظر : ديوان الأعشى : ١٢٨ والخصائص : ٢ / ٤٨٩.

(٣) البيت لِسَلَمَةَ بنِ الخُرْشُب يُخَاطِبُ عامر بن الطُّفيل. قُرزُل بالضَّمِّ : اسمُ فرس ويُقالُ إِنَّهَا فرسُ عامر بنِ الطفيل. المفضليات : ٣٨ ولسان العرب : ٧ / ١١٤ و ١٤ / ٧٣ وتاج العروس ـ خرش ـ ٢ / ٣٥٠.

(٤) المحتسب : ٢ / ٣٣٠.

٣٧٠

قياماً ، وَعَلَيهِ قَولُ الفرزدق :

أَلَمْ تَرَني عاهَدْتُ رَبِّي وإنَّنِي

لَبَيْنَ رتاج قَائِماً ومَقام

عَلَى حَلْفَة لاَ أَشْتُمُ الدَّهْرَ مُسلِماً

وَلاَ خَارجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ (١)

أَيْ : وَلاَ يَخْرُجُ خُرُوجاً. وَعَلَيهِ أَيْضاً كسّروا المَصْدَر ، وَهوَ فَعْلٌ عَلَى مَا يُكَسَّر عليهِ فاعل في الوصف وهو فواعل. أنشدنا أَبو عليّ :

وَإنَّك يا عام بنَ فارسِ قُرْزُل

معيدٌ عَلَى قيلِ الخَنَا والهواجِرِ (٢)

وَأَنْشَدَنَا أَيضاً :

فَلَيْتَك حَالَ البَحْرُ دُونَك كُلُّهُ

وَكُنْتَ لَقىً تَجْرِي عليه السَّوائِلُ (٣)

يُريدُ السيول جمع سيل ، وهو كثير جدّاً (٤).

النَّصب على المصدر

رَوَى قَتَادَة عَنِ الحسَن : (وَقُولُوا حِطَّةً) (٥) بالنصب.

قَالَ أَبو الفتح : هَذَا منصوبٌ عِنْدَنَا عَلَى المصدرِ بفعل مُقَدَّر ، أيْ : احطُطْ عَنَّا ذنوبنا حِطَّةً. قَالَ :

__________________

(١) روى (واقفاً) مكان (قائماً) والرَّتاج : الباب. انظر : الديوان : ٧٦٩ والكتاب : ١ / ١٧٣ والمقتضب : ٣ / ٢٦٩ و ٤ / ٣١٣ وشرح المفصل : ٢ / ٥٩ وخزانة الأدب : ١ / ٢٢٣.

(٢) تقدّم الشاهد في : ص : ٣٧٠.

(٣) تقدّم الشاهد في : ص : ٣٧٠.

(٤) المحتسب : ١ / ٥٧.

(٥) من قوله تعالى من سورة الأعراف : ٧ / ١٦١ : (وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ) وقرأَ إبراهيمُ ابنُ أَبي عَبْلةَ (حِطَّةً) بالنصبِ في سورة البقرة : ٢ / ٥٨. انظر : البحر المحيط : ١ / ٢٢٢.

٣٧١

 ......

واحطُطْ إلَهي بِفَضْل مِنْك أوْزَارِي

وَلاَ يكونُ (حِطَّةً) منصوباً بنفسِ قُولُوا (١) لأَنَّ قلت وبابَها لا ينصب المفردَ ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ تَرْجَـمَةَ الجملةِ ، وَذَلِك كَأَنْ يقول إنسانْ : لا إلهَ إلاَّ الله فتقول أَنْتَ قُلْتَ : حقّا ، لأَنَّ قَوْلَهُ : لا إِلهَ إِلاَّ الله حقٌ ، ولا تقول : قُلْتَ زيداً ولاَ عمراً ، ولاَ قلتَ قياماً وَلاَ قعوداً عَلَى أنْ تَنْصِبَ هَذَينِ المَصَدَرِينِ بِنَفْسِ قُلتَ لَمَا ذَكَرْتُهُ (٢).

وَقَرَأ أَبُو نَهِيك : (كَلاًّ سَيَكْفُروْنَ) (٣) بالتنوينِ (٤).

قَالَ أَبو الفتح : ينبغي أنْ تكونَ (كَلاًّ) هَذِهِ مَصْدَراً ، كَقَوْلِك : كَلَّ السيفُ كَلاً ، فَهوَ إذاً منصوبٌ بفعل مُضْمَر ، فَكَأَ نَّهُ لَمَّا قَالَ سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً) (٥) ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ رَادا عَلَيْهِم : (كَلاًّ) أَيْ : كَلَّ هَذَا الرَّأيُ (٦) والاعتقادُ كَلاًّ وَرأَوا مِنْهُ رَأَياً كَلاًّ ، كَمَا يُقَالُ ضعفاً لِهَذَا الرأي

__________________

(٥) قال الزمخشري : فإنْ قلتَ هل يجوزُ أنْ يُنصبَ (حِطَّةً) في قراءة من نصبَها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلتُ : لا يبعد. وما جوّزه الزَّمخشري ليس بجائز لأنَّ القولَ لا يعمل في المفرداتِ إنّمَا يدخلُ على الجُمَلِ. الكشاف : ـ ط ـ بيروت : ١ / ١٤٣ والبحر المحيط : ١ / ٢٢٢.

(١) المحتسب : ١ / ٢٦٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة مريم : ١٩ / ٨٢ : (كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ

ضِدّاً).

(٣) حرّك ابن خالويه الكافَ بالضَّمِّ فقال : (كُلاً) بالتنوين أبو نهيك. مختصر في شواذ القرآن : ٨٦.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٨١.

(٥) وقدره أبو حيَّان : كَلَّوا عَنْ عِبَادَةِ اللهِ كَلاًّ. انظر : البحر المحيط ٦ / ٢١٣.

٣٧٢

وفيالةً (١). فتمّ الكلام ثمّ قال (تعالى) مستأنفاً القول : (سَيَكْفُرُونَ بِعَبادَتِهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضِدّاً) (٢) والوقفُ إذا على عزّا ثُمَّ استأ نَفَ فَقَالَ : كَلَّ رَأَيُهُم كَلاً ، وَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ مِن بَعْدُ (سَيَكْفُرُونَ) فَهُنَاك إذاً وَقْفَانِ : أحدهما (عِزّاً) ، الآخر (كلاً) مِنْ حيثُ كَانَ منصوباً بِفِعل مُضْمَر ، لا مِنْ حيثُ كَانَ زجراً وَرَدّاً وردعاً (٣).

وَرَوى عبد الوَهاب عَنْ أَبي عمرو : (وَنُزِلَ الملائكةُ) (٤) خَفِيفَةً.

قَالَ أَبو الفتح : هَذا غيرُ معروف ، لأنَّ (نَزَلَ) لاَ يَتَعَدَّى إلى مفعول بِهِ فيبنى هُنَا لِلْمَلاَئِكة ، لأَنَّ هَذَا إنَّما يجيءُ على نَزَلْتُ الملائكَة ، وَنُزِلَ الملائِكَةُ وَنَزَلْت غَير متعدّ كَمَا تَرَى.

فَإنْ قُلْتَ : فَقَدْ جَاَء فُعِلَ مِمَّا لاَ يَتَعَدَّى فَعَلَ مِنْهُ ، نَحوَ زُكِمَ وَلاَ يُقَالُ زَكَمَهُ اللهُ. وَجُنَّ ، وَلاَ يُقَالُ جَنَّهُ اللهُ. وَإنَّمَا يُقَالَ أَزْكَمُهُ اللهُ ، وأَجَنَّهُ اللهُ فَإنَّ هَذَا شَاذٌّ ومحفوظٌ ، والقياسُ عليهِ مردودٌ وَمَرْذُولٌ. فَإمَّا أنْ يكونَ ذَلَك لغَةً طارقةً إليْنَا ، وإما أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ المُضَافِ ، يُريدُ : وَنُزِلَ نزولُ الملائكة ثُمَّ حُذِفَ المضافُ وَأُقِيمَ المضافُ إليهِ مقامَهُ على ما مضى ، فأقَامَ (الملائكةَ)

__________________

(١) فال الرجل فيل فِيَالةً فَهو فِيل الرأي ، أي : ضعيف الرأي. قال الكميت :

بَنِي رَبِّ الجَوادِ فَلا تَفِيلُـوا

فَمَا أَنْتُمْ فَنَعذِرَكُـم لفِـيــل

لسان العرب ـ فيل ـ ١٤ / ٢٥١.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٨٢.

(٣) المحتسب : ٢ / ٤٥.

(٤) من قوله تعالى من سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٥ : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالَغمامِ وَنُزِّلَ المَلائكةُ تَنْزيِلاً).

٣٧٣

مقام المصدر الذي كانَ مُضافاً إليْهَا كَمَا فَعَل ذَلِكَ الأعشْى فِي قَوْلِهِ :

أَلَم تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ أَرْمَدَا (١)

 ......

إنَّمَا يُرِيد اغتماض ليلة أَرْمدَ ، فَنَصْبُ لَيلَة إذا إنّما هُوَ عَلَى المَصْدَرِ لاَ عَلَى الظرفِ ، لأَ نَّهُ لَمْ يُردْ : أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك فِي لَيْلَةِ أَرْمَد ، وإنَّمَا أرادَ أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك مِنَ الشوقِ والأسَفِ اغتماضَ ليلة رَمِدِ العينِ (٢). وَمِثْلُهُ قَوْلُ العَجاجِ :

حَتَّى إذَا صَفُّـوا لَـهُ جِـــدَارَا (٣)

(فجدارا) الآن منصُوبَ نصبَ المصدرِ ، وَلَيْسَ منصوباً على أَنّه مفعولٌ بِهِ ، كَقَولِك : صففتَ قَدمَك إنَّمَا يريدُ : اصطفوا لَهُ اصطفافَ جِدار ، فحذفَ الاصطفاف ، وأَقامَ (الجدار) مقامه فنصبه عَلَى المَصْدرِ ، كُمَا ينصب الاصطفاف لو ظهر ، وَكَذَلِك ما رويناهُ عن محمّد بن الحسن عن ابن الأعرابي مِنْ قوله :

وَطَعْنَةِ مُسْتَبْسِـل ثَائِرِ

يَرُدُّ الكَتِيبَةَ نِصْفَ النَّهَارِ (٤)

أيْ : رَدَّ نصفِ النهارِ. ألاَ تَرَى. أنَّ ابنَ الأعرابي فَسَّرَهُ فَقَالَ : يردُّ الكتيبة مقدارَ نصفِ يوم ، فَهذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَراَدَ يَردُّ الكتيبةَ ردّ نصفِ النهارِ ، أَيْ :

__________________

(٣) تقدّم الشاهد : ص : ٢٣٢.

(١) تنظر : ص : ٢٣٣.

(٢) من أرجوزة له يمدح فيها الحجَّاج ويذكر إيقاعه بالخوارج. ويروى (اصطفوا) مكان (صفوا). انظر : ديوانه : ٢٤ والخصائص : ٣ / ٣٢٢ ومعجم شواهد العربية : ٢ / ٤٧٥.

(٣) لسبرة بن عمرو الفقعسي. وروى (حاسر) مكان (ثائر) و (ترد) مكان (يرد).

النوادر : ١٥٥ والخصائص : ٣ / ٣٢٢ وسر صناعة الإعراب : ٢٤٩.

٣٧٤

الردَّ الذي يمتدّ وقته بقياس ما بين أَوَّلِ النَّهَار إلى نصفِهِ ، وذلكَ نصفُ يوَمِ. وَلَيسَ يريدُ أنَّهُ يردُّها في هَذَا الوقتِ البتةَ. وإنَّما يُريدُ أَنَّه يردُّها مقدارَ نصفِ النَّهَارِ كَانَ ابتداءُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أوْ غيرِهِ مِن نهار أو ليل ، وَكَأَ نَّهُ قالَ : يردُّ الكتيبَةَ سِتَّ ساعات فَهَذَا لا يخصُّ نَهَاراً من ليل في هذا يُعْلَمُ أَنَّهُ لا يُريدُ : يَرُدُّهَا فِي وَقتِ انتصافِ النهار دون ما سواهُ مِنْ الأوَقاتِ.

وَكَذلِكَ : (وَنُزِلَ المَلائِكةُ) أَيْ : نُزِلَ نزولُ الملائكة ولو سُمِّيَ الفاعلُ على هذا التقدير : لقيلَ : نَزَلَ النَّازِلُ الملائكةَ ، فَنَصبَ الملائكةَ انتصابَ المصدرِ ، كما نصبَ الجدارَ انتصابَ المصدرِ لأَنَّ كُلَّ مضاف إليه يُحْذَفُ مِن قَبْله مَا كَانَ مضافاً إليه ، فَإنَّهُ يُعرَبُ إعرابَه لا زيادَةَ عليهِ وَلاَ نقص مِنْهُ (١).

فَإنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى نُزِل نُزولَ الملائكة حتَّى يصحَّ لك تَقْدِيرُهُ مُثبَتاً ثُمَّ تَحْذفه؟ فَإنَّهُ عَلَى قَوْلِكَ : هَذَا نُزولٌ مَنْزُولٌ ، وَهَذَا صعودٌ مَصْعُودٌ ، وَهَذَا ضَرْبٌ مَضرُوبٌ ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَولُهُمْ : قدْ قِيلِ فيهِ قولٌ وقد خِيفَ منه خوفٌ ، فاعرفْ ذلك فَإنَّهُ أَمْثَلُ ما يحتجُّ بِهِ لِقَرَاءَةِ مَن قَرَأ : (وَنُزِلَ الملائكةُ) بتخفيف الزاي فاعرفه (٢).

وَقَرأَ محمّد بن السُّمَيفَع : (فَتَبَسَّمَ ضَحِكاً مِن قَوْلِهَا) (٣) بفتح الضَّاد بغيرِ أَلف.

__________________

(١) مرَّ ذلك في : ص : ٢٣٣.

(٢) المحتسب : ٢ / ١٢٠ ـ ١٢٢.

(٣) من قوله تعالى من سورة النمل : ٢٧ / ١٩ (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ).

٣٧٥

قَالَ أَبو الفتح : (ضَحِكاً) مَنصوبٌ على المصدر بفعل محذوف يَدلُّ عليهِ تَبَسَّم كَأَ نَّهُ قَالَ : ضَحِك ضَحِكاً. هذا مذهبُ صَاحبِ الكتابِ وقياسُ قولِ أَبي عثمانَ في قَوْلِهِم : تَبَسّمتُ وَمِيضَ البرقِ ، أَنَّهُ منصوبٌ بنفسِ (تبَسَّمْتُ) لأَ نَّهُ فِي مَعْنَى أَومَضْتُ وَيَكُونُ (ضَحِكاً) مَنْصُوباً بنفسِ تَبَسَّمَ لأ نَّهُ فِي مَعنَى ضَحِكَ.

وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ صاحب الكتابِ أَنَّهُ قَدْ ثَبتَ أَنَّ المَاضِي والمُضَارِعِ واسمَ الفاعِلِ والمصدرَ يجري كُلَّ واحد مِنْهَا مجرى صاحبهِ. حَتَّى كَأ نَّهُ هو.

ويجب أن تَكُونَ كُلّها من لفظ وَاحد ، كَضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبَا وَهُوَ ضَاربُ ، فَكَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : قَعَدَ يجلسُ وإنْ كانَا في معنى واحِد دونَ أَنْ يكونَا مِنْ لَفْظ وَاحد وَهُوَ قَعَدَ يَقْعُدُ ولا يجوزُ تَبَسَّمَ يُومِضُ لاختلافِ لَفظِيهِمَا وَإنْ كانَ مَعْنَيَاهُمَا وَاحِداً ، فَكَذلِك لاَ يَجُوزُ تَبَسَّمْتُ وَمَيضَ البرقِ لاختلافِ لَفْظِيهِمَا كَمَا لاَ يجوُزُ تَبَسَّمتُ أُومِض لَكنْ دلَّ تَبَسَّمْتُ على أومضتُ ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : أَومَضْتُ وَمِيضَ البرقِ فاعرف ذَلِكَ وَقِسْهُ بإذنِ اللهِ (١).

وَقَرَأَ محمّد بن كَعْب القُرظَيّ : (وَلَهُم مَا يَدَّعُونَ سِلْمٌ قَوْلاً) (٢).

وَقَرَأَ عيسى الثقفي : (سَلاَماً قولاً) نَصْباً جَميعاً.

قَالَ أَبو الفتح : نَصبَ (قولاً) عَلَى المصدرِ ، أيْ : قالَ اللهُ ذَلِكَ قولاً أَوْ يُقَالُ ذَلِكَ قَوْلاً وَدَلَّ عَلَى الفعلِ المحذوفِ لَفْظُ مصدرِهِ وإنَّمَا القُرآنُ هُوَ أَقوالٌ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٣٩.

(٢) من قوله تعالى من سورة يس : ٣٦ / ٥٧ ـ ٥٨ : (وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَـوْلاً مِن رَّبّ رَّحِيم).

٣٧٦

متابَعةٌ (١).

وَقَرَأَ الحسَن وأَبو رجاء وطلحة ، بخلاف : (يوم نُبْطِشُ) (٢) مَضْمُومَةَ النونِ ، مكسورةَ الطَّاءِ.

قال أَبو الفتح : مَعْنَى نُبْطِشْ أَيْ : نُسَلِّط عَلَيْهِمْ مَنْ يَبطِشُ بِهِم فَهَذَا مِنْ بطش هو ، وَأَبْطشْتُهُ أَنَا ، كَقَوْلِكَ : قَدَرَ وَأَقدَرْتُهُ ، وَخَرَجَ وَأَخْرَجْتُهُ. وإلى هذا ذهب أَبو حاتِم فِي هَذِهِ الآية فِيما رَوَيْنَاهُ عَنْهَ.

وَأَمَّا انْتِصَابُ (البطْشَة) بِفِعْل آخر غَير هَذَا الظاهر ، إلاَّ أَنَّ هَذَا دَلَّ عَلَيْهِ فَكَأَ نَّهُ قَالَ : يومَ نَبْطُشُ مَنْ نَبْطِشُهُ فَيَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى فيجري نحواً مِنْ قَوْلِهِم : أعْلَمْتُ زيداً عمراً العِلْمَ اليقينَ إعلاماً ، فاعلاماً منصوبٌ باعلمتُ.

وأمَّا العلم اليقين فمنصوبٌ بِمَا دَلَّ عليهِ أَعلمْتُ وهو عَلِمَ العلمَ اليقينَ ، وعليهِ قَوْلُهُ :

 ......

وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أَيَّ إذلالِ (٣)

فأيَّ إذَّلاَلِ منصوبٌ بِمَا دَلَّ عليهِ قَوْلُهُ (رُضْتُ) ، لأَنَّ رُضْتُها وأذلَلْـتُها بمعنىً واحد.

ولك أنْ تَنْصِبَ البَطْشَةَ لاَ عَلَى المصدر وَلَكِنْ عَلَى أَنَّهَا مفعولٌ بهِ فكأ نَّهُ قالَ : يَوْمَ نُقَوّي البَطْشَةَ الكُبْرَى عَلَيْهِم ، وَنُمَكِّـنُها مِنْهُم ، كَقَوْلِكَ يَومَ نُسَلّطُ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٢) من قوله تعالى من سورة الدخان : ٤٤ / ١٦ (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ).

(٣) لامرئ القيس وصدره :

وَصِرْنا إلى الحُسَنى وَرقَّ كَلاَمُنَا

 ......

انظر : الديوان : ٣٢ والمقتضب : ١ / ٧٤ والخزانة ـ بولاق ـ ٤ / ٢٤.

٣٧٧

القَتْلَ عَلَيْهِمْ وَنُوَسّعُ الأخذَ مِنْهم (١).

وَقَرأَ ابنُ عباس وعبدُ الله بن عمرو والجَحدَري وعبد الله بنُ عبيد بن عُمَير : (جَمِيعاً مِنَّةً) (٢) مَنْصُوبة مُنَوَّنَة.

قَالَ أَبو الفتح : أمَّا (مِنَّة) فَمَنْصوبٌ عَلَى المصدرِ بِمَا دَلَّ عليهِ قَوُلُهُ تَعَالى : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ جَمِيعاً) لأَنَّ ذَلِك مِنْهُ عزَّ اسمهُ مِنَّةٌ مَنَّهَا عَلَيْهِمْ ، فَكأَ نَّهُ قَالَ : مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنَّةً. وَمَنْ نَصَبَ وَمِيضَ البَرْقِ مِنْ قَوْلِهِم : تَبَسّمْتُ وَمِيضَ البَرْقِ بِنَفْسِ تَبَسَّمْتُ ، لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى أَومَضْتُ نَصبَ أَيضاً (مِنَّةً) بِنَفْسِ سَخَّرَ لَكُمْ عَلَى مَا مَضَى (٣).

وَقَرأ الحَسَنُ وَعِيْسَى الثَقَفِي : (مِنْ نَهَار بلاغاً) (٤).

قَالَ أبو الفتح : هُوَ عَلَى فِعْل مُضْمَر ، أَيْ بَلَغُوا أوْ بُلِّغُوا (٥) بَلاَغاً كَمَا أَنَّ مَنْ رَفَع فَقَالَ : (بلاغٌ) فَإنَّمَا رَفَعَ عَلَى إضْـمَـارِ المُبْتَدأِ ، أَيْ : ذَلِك بَلاَغٌ أَوْ هَذَا بَلاَغٌ (٦).

وَقَرَأَ الحَسَن والجَحْدَرِي وابنُ أبي بَكْرةَ ، بخلاف (٧) : (أنْ لَنْ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) من قوله تعالى من سورة الجاثية : ٤٥ / ١٣ (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لَّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ).

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٦٢.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٥ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَ نَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَار بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ).

(٥) وعلى تقدير العكبري : بلغ بلاغاً. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٣٦.

(٦) المحتسب : ٢ / ٢٦٨.

(٧) وبها قرأَ يعقوب كما في مجمع البيان : ٢٩ / ٧٧.

٣٧٨

تَقَوَّلَ) (١).

قَالَ أَبو الفتح : (كَذِباً) في هذه القراءة منصوب على المصدر من غير حذف موصوف معه ، وذلك أَنَّ (تَقَوَّلَ) في معنى تَكَذَّبَ فجرى مجرى تَبَسَّمْتُ وميضَ البرقِ ، أَيْ : أَنَّهُ منصوب بِفعل مضمر ودَلَّتْ عليهِ تبسمتُ ، أَيْ : أَومضتُ (٢).

فَعَلَى هَذَا كَأَ نَّهُ قَالَ : أَنْ لَنْ يَكْذِبَ الإنسُ والجنُّ عَلَى الله كَذِباً.

ومن (٣) رأي أنْ يَنْصِبَ (وميضَ البرقِ) بنفس تَبسمتُ (٤) لأ نّه بمعنى أومضتُ نَصَبَ أيضاً (كَذِبا) بنفس تَقَوَّلَ لأَ نَّهُ بمعنى كَذِبَ.

وأَمَّا مَنْ قَرَأَ : (أنْ لَنْ تَقُولَ) بِوزْنِ تَقُوم فَإنَّهُ وصْفُ مصدر محذوف أيْ : أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ والجِنُّ على اللهِ قولاً كَذِباً ، فَكَذِباً هُنَا وصفٌ لا مصدرٌ ، كقولِهِ تعالى : (وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِـهِ بِـدَم كَذِب) (٥).

أيْ : كَاذب فَإنْ جعلتَهُ هُنَا مَصْدَراً نصبتَهُ نَصْبَ المَفعولِ بِهِ (٦) ، أيْ : لَنْ تقولَ كَذِباً كَقَولِك قُلتَ حَقاً ، وقلتَ باطلاً ، وقلتَ شعراً ، وقلتَ سَجْعاً

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الجن : ٧٢ / ٥ : (وَأَ نَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الاِْنسُ وَالْجِـنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).

(٢) تنظر : ص : ٣٧٦.

(٣) من هنا إلى آخر القراءة التالية ، نقله الطبرسي عن ابن جِنِّي في مجمع البيان : ٢٩ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٤) وهذا قولُ أبي عثمان المازني ، وقد تقدّم في : ص : ٣٧٦.

(٥) سورة يوسف : ١٢ / ١٨.

(٦) وفي البحر المحيط : ٨ / ٣٤٨ : «وانتصبَ كذباً في قراءة الجمهور بِتَقُول لأنّ الكَذِبَ نوعٌ منَ القَولِ أو على أنَّهُ صِفَةٌ لمصدر مَحْذُوف ، أي : قولاً كَذِباً ، أي : مَكْذُوباً فيه».

٣٧٩

ولا يَحْسُنُ أن تجعَلَهُ معَ (تَقَوَّلَ) وصفاً (١) ، أيْ : تَقَوُّلاً كَذِباً ، لأَنَّ التقُّولَ لا يكون إِلاَّ كَذِباً ، فَلاَ فائدةَ إذاً فيهِ (٢).

جريان المصدر مجرى الفعل

روى ابنُ مجاهد عن روح عن أَبي السَّـمَّـال : أَنَّهُ قَرَأَ : (أو كُلَّمَا عَهِدُوا عَهدَا) (٣).

قَالَ أَبو الفتح : كَأَ نَّهُ أَشْبَهَ بِجَرِيَانِ المَصْدَرِ على فعلِه لأنَّ عهدتُ عهداً في العادة من عاهدتُ عَهْداً ومِنْ ذَلِك الحديثُ المأثور : «مَنْ وعَدَ وعْداً فَكَأ نَّمَا عَهِدَ عَهْدَا» (٤) وقراءة الكافّة : (عَاهَدُواْ عَهْداً) عَلَى معنى أعْطَوا عَهْداً عَلَى مَذْهَبِ الجماعةِ كَأَ نَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ.

وعَلى قراءة أبي السّـمَـالِ هُو منصوب نصبَ المصدرِ ، وقَدْ يجوزُ أنْ ينتصبَ على قراءةِ الكافَّةِ على المصدر إِلاَّ أَنَّهُ مصدرٌ محذوفُ الزيادة أَيْ :

__________________

(١) ذهب العُكبَري إلى جواز أنْ يكونَ (كَذِباً) مفعولاً ونعتاً. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٧٠.

(٢) المحتسب : ٢ / ٣٣٣.

(٣) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٠٠ : (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).

(٤) الحديث ذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ١٩ / ٢٤٨ في شرح الحكم رقم (٣٤١) قال : «وفي الحديث المرفوع : مَنْ وَعَدَ وَعْدَاً فَكَأَ نَّمَا عَهَدَ عَهْدَاً». وذكره المناوي (ت / ١٠٣١ هـ) في فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي : ٤ / ٤٩٧ في شرح الحديث (٥٦٨٤) ، قال : «وفي الحديث : مَنْ وَعَدَ وَعْدَاً فَقَدْ عَهَدَ عَهْداً. كذا في شرح الشهاب للعامري».

والحديث ضعيف لأ نّه مرسل لا سند له ، ولم تذكره سائر كتب الحديث».

٣٨٠