أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

التمييـز

قَرَأَ ابنُ عباس وابنُ مسعود والأَعمش ـ بخلاف ـ ومجاهد وسليمان التيمي : (وَلَوْ جِئنَا بِمِثْلِهِ مِدَاداً) (١).

قَالَ أَبو الفتحِ : (مِدَاداً) منصوبٌ على التمييز ، أيْ : بِمِثْلِهِ مِنَ المِدَادِ فَهوَ كَقَوْلِك : لِي مثله عبداً ، أَيْ : مِنَ العبيد ، وعلى الَتمْرَةِ مِثلُهَا زُبْداً ، أي : من الزُبدِ (٢).

وقَرَأَ عِكرِمَة : (جَدَّا رَبُّنَا) (٣).

قال أبو الفتح : أَمَّا انتصابُ (جَدَّا) فَعَلَى التمييزِ ، أيْ : تَعالَى رَبُّنَا جَدا ، ثُمَّ قُدِّمَ المُمَيز عَلى قَولِك : حَسُنَ وَجْهَا زَيْدٌ (٤).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الكهف : ١٨ / ١٠٩ : (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

(٢) المحتسب : ٢ / ٣٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة الجن : ٧٢ / ٣ : (وَأَ نَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنـَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً).

(٤) المحتسب : ٢ / ٣٣٢.

٣٠١
٣٠٢

الباب السادس

المجرورات

٣٠٣
٣٠٤

ينقسم الجرّ على المجرور بالحروف والمجرور بالإضافة.

أ ـ حروف الجـرّ

البـاء

قَرَأ أبو بكر عند خروج نفسه : (وَجَاءَت سَكْرَةُ الحَقِّ بِاْلمَوتِ) (١) وقَرَأَ بِهَا سَعيد بن جُبَير وطلحة.

قَالَ أبو الفَتحِ : لَك فِي هَذِهِ الباء ضَرْبانِ مِنَ التقديرِ :

أوّلاً : إنْ شِئْتَ عَلَّقْتَها بِنفس (جَاءَتْ) كَقَوْلِك : جِئتُ بزيد ، أيْ : أحضرتُهُ وَأجَأَتُهُ.

ثانياً : وإِنْ شِئْتَ عَلَّقتَها بمحذوف وَجَعَلْتَها حالاً ، أيْ : وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الحقِّ وَمَعَهَا الموتُ ، كَقَوْلِنَا : خَرَجَ بثيابهِ ، أيْ : وَثَيِابُهُ عَلَيْهِ ، وَمِثْلُهُ قولُ اللهِ تَعالى : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) (٢) ، أيْ : وَزِينتُهُ عليهِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الهُذَلِي :

يَعْثُرْنَ فِي حَدِّ الظُبَاتِ كَأَ نَّهَا

كُسِيَتْ بُرَوَدَ بَني يَزِيدَ الأَذْرُعُ (٣)

أَيْ : يَعْثُرْنَ وَهُنَّ فِي حَدّ الظُّبَاتِ ، وَكَقَولِهِ ـ أنْشَدَهُ الأصْمَعِي ـ :

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة ق : ٥٠ / ١٩ : (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ).

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٧٩.

(٣) تقدّم الشاهد في : ص : ٢٩٥ ، والبيت في : ٢ / ٢٨٤ من المحتسب على هذه الصورة ، وفي : ٢ / ٨٨ منه : (كأنما) مكان (كأنها) ، و (تزيد) مكان (يزيد).

٣٠٥

وَمسْتَنَّة كَاستِنَانِ الخَرُو

فُ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ (١)

أيْ : قَطَعَهُ وَفيِهِ مِرْوَدُهُ وَكَذَلِك الِقَراءَةُ العامةُ : (وَجَاءَتْ سَكَرةُ المَوْتِ بالحَقِّ) إنْ شِئْتَ عَلَّقْتَ البَاءَ بِنَفْسِ (جَاءَتْ) عَلَى مَا مَضى.

وَإنْ شِئتَ عَلَّقتَها بِمَحْذُف وَجَعَلْتَهَا حالاً ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : وَجَاءَتْ سَكْرةُ المَوْتِ وَمَعَها الحَقُّ.

فَإنْ قُلْتَ : فَكَيفَ يجوُز أنْ تَقُولَ : جَاءتْ سَكْرَةُ الحقِّ بالموتِ وأَنتَ تُريدُ بِهِ وجاءَتْ سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ ، فَيَا لَيْتَ شِعرِي أَيَّتُهُما الجائيةُ بِصَاحِبَتِهَا؟ قِيلَ : لاِشتراكهما في الحالِ ، وَقُربِ إحدَاهُمَا من صَاحِبَتهَا صَارَ كَأَنَّ كُلَّ واحدة مِنُهمَا جائيةٌ بالأُخرى ، لأَ نَّهُما ازدحمتا في الحالِ ، واشتبكتا حَتَّى صارَتْ كُلَّ واحدة مِنهُمَا جائيةً بِصَاحِبَتِها ، كَمَا يَقُولُ الرجلانِ المتوافيانِ فِي الوقت الواحدِ إلى المَكَانِ ـ كُلُّ واحد مِنهُمَا لصاحِبِهِ ـ لا أَدري (٢) أَأَنا سَبَقْتُك ، أَم أَنْتَ سبقتني (٣).

وَقَرَأَ ابنُ الزَّبير وابنُ عباس والفضل بن عباس وعبد الله بن يزيد وقتادة : (وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ) (٤).

قَالَ أَبو الفتح : إذَا أَنْزَلَ مِنْهَا فَقَدْ أَنْزَلَ بِهَا ، كَقَوْلِهِمْ : أَعْطَيْتُهُ مِنْ يدي دِرْهَمَا ، وَبيَدي دِرْهَماً (٥). المعنى واحدٌ وليستْ (مِنْ) ها هنا مثلها في قولهم

__________________

(١) تقدّم الشاهد في : ص : ٢٩٥.

(٢) الّذي في المحتسب : ٢ / ٢٨٤ (لا أرى) وما أثبتناه يقتضيه سياق الجملة.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٨٤.

(٤) من قوله تعالى من سورة النبأ : ٧٨ / ١٤ : (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً).

(٥) نسب أَبو حيَّان في البحر المحيط : ٨ / ٤١٣ هذا التَّخريج للزَّمخشري وفاتَه أَن أَبا الفتحِ سَبَقَ إليهِ.

٣٠٦

أعطيتُهُ مِنْ الدِّرْهَمِ ، لأنَّ هذَا مَعْنَاهُ بَعْضُهَا ، وَلَيْسَ يريدُ أنَّ الدرْهَمَ بعضُ اليد ، لكن معنى (مِنْ) هنا ابتداء الغاية ، أيْ : كَانَ ابتداءُ العطية مِن يَدِهِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ : أَعْطَاهُ بَعضَ يَدِهِ (١).

الباء الزائدة

قَرَأ يحيى وإِبراهيمُ : (مِمَنْ كَذَبَ بآيَاتِ الله) (٢) خفيفة الذَّالِ قَالَ أَبو الفتح : يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ دُخُولُ الباءِ هُنَا حَمْلاً عَلَى الَمَعْنى (٣) وَذَلِك لأَ نَّهُ فِي معنى مَكَرَ بِهَا ، وَمَا أَكْثَرَ هَذَا النَحُو في هَذهِ اللغة! وَقَدْ ذَكْرنَاهُ فِيَما مَضَى (٤) وَمِنْهُ قَوْلُهُ :

أَلَمْ يَأَتِيك والأنباءُ تَنمِي

بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ (٥)

زَادَ الباءَ فِي (بِمَا لاقَتْ) لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ أَلَمْ تَسْمَعْ بِمَا لاَقَتْ لَبُونُهُمْ ، وَفيِهِ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٢) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ١٥٧ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآ ياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا).

(٣) فيكون (بِآيَاتِ) مفعولاً ويجوز أنْ يكونَ حالاً ، أي : كَذَبَ وَمَعَهُ (بِآيَاتِ اللهِ).

انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢٦٦.

(٤) تنظر : ص : ١٨٩.

(٥) البيت لقيس بن زهير العبسي ، ويروى (يبلغك) مكان (يأتيك). انظر : الكتاب ٢ / ٥٩ ونوادر أبي زيد : ٢٠٣ والخصائص : ١ / ٣٣٣ و ٣٣٧ والمنصف : ٢ / ٨١ والمحتسب : ١ / ٦٧ وشرح المفصل : ٨ / ٢٤ و ١٠ / ١٠٤ وشواهد التوضيح والتصحيح : ٢١ والمقرب : ١ / ٥٠ و ٢٠٣ ورصف المباني : ١٤٩ والجنى الداني : ١١٢ والمغني : ١ / ١٠٨ و ٢ / ٣٨٧ والهمع : ١ / ٥٢ والخزانة : ـ بولاق ـ ٣ / ٥٣٤ وشرح التصريح : ١ / ٨٧ وشرح الأشموني : ١ / ١٠٣ و ٢ / ٤٤ والدرر اللوامع : ١ / ١٢٨.

٣٠٧

مَا أَنْشَدَنَا أَبو علي :

أم كَيْفَ يَنْفَعُ مَا تُعْطِي العَلُوقُ بِهِ

رِئْمانَ أَنف إذَا ما ضُنّ بِاللَّبَنِ (١)

أَلْحَقَ البَاءَ فِي بهِ لَمَّا كَانَ تُعُطِي فِي مَعْنَى تَسمَّحَ بهِ ، أَلاَ تَرَاهُ قَالَ فِي آخِرِ البَيْتِ : إذا مَا ضُنَّ بِاللَّبَنِ؟ فالضَّنُ نَقيضُ السَّماحَة والبَذل (٢) وَقَرَأَ الحسَن وأَبو الحُويِرِثِ الحَنَفِي : (مَا هَذَا بِشِرىً) (٣) بِكَسرِ الباءِ والشّين.

قَالَ أَبو الفتح : تَحْتَمِلُ هَذِهِ الِقَراءَةُ وَجْهَينِ :

أَحَدُهُمَا : أنْ يَكُونَ أَرادَ مَا هَذا بَشْرِيّ ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس) (٤) ، أَيْ : بَاعُوهُ ، أيْ : مَا يَنبَغِي لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُباعَ فَوَضَعَ المَصدَرَ مَوْضِعَ اسمِ المَفْعُولِ ، كَقَولِ اللهِ سُبْحَانَهُ : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) (٥) ، أيْ : مَصِيدُهُ ، وَكَقْوْلِهِ تَعَالَى : (وَهْوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلقَ ثُّم يعِيدُهُ) (٦) ، أيْ : الَمخْلَوقُ ، وَكَقُولِ النبيُّ صلّى الله عليه وآله : (الرَّاجِعُ فِي هِبَتِهِ) ، أيْ : فِي مَوْهِبَتِهِ ، وَهَذَا الثوبُ نَسِيجُالَيمَنْ ، أيْ : مَنْسُوجُهُ ، وَذَلك أَنَّ الأَفْعَالَ لا يُمْكنُنَا إعادَتُهَا. ومِنهُ قَوْلُهُمْ : غَفَرَ اللهُ لَك عَلْمَهُ فِيك ، أيْ : مَعْلُومَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : هَذَا الدّرْهَمُ ضَرْبُ الأَميرِ ،

__________________

(١) البيت لأفنون التغلبي ويروى (تأتي) مكان (تعطي). انظر : شرح المفصل : ٤ / ١٨ واللسان : ١٢ / ١٤٠ و ١٥ / ١١٤ والمغني : ١ / ٤٥ والهمع : ٢ / ٣٣ وخزانة الأدب ـ بولاق ـ ٤ / ٤٥٥ و ٥١٩ والدرر اللوامع : ٢ / ١٧٩.

(٢) المحتسب : ١ / ٢٣٥.

(٣) مِنْ قَولِهِ تَعَالَى مِنْ سورة يوسف : ١٢ / ٣١ : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيْمٌ).

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ٢٠ وَبَعْدَهَا : (دَرَاهِمَ مَعدُوَدَة وَكَانُوا فِيْهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ).

(٥) سورة المائدة : ٥ / ٩٦.

(٦) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.

٣٠٨

أيْ : مَضرُوبُهُ.

والآخر : أنْ تَكونَ الباءُ غَيرَ زائدة للتوكيدِ عَلَى الوجهِ الأوَّلِ لَكنّهَا كَالَّتِي فِي قَولِك : هَذا الثوبُ بمائِة دِرْهَم ، وَهَذَا العَبْدُ بِأَ لْفِ دِرهَم ، أَيْ : هَذَا بِهَذَا ، فيكونُ مَعْنَاهُ : مَا هَذَا بِثَمَن ، أَيْ : مِثْلُهُ لاَ يُقَوَّمُ وَلاَ يُثَمَّنُ فَيَكُونُ (الشرِيُّ) هُنَا يُرادُ بِهِ المفْعُولُ بِهِ ، أَيْ : الَّثمَنُ المُشْتَرَى بِهِ ، كَقَوْلِك : مَا هَذَا بِأَ لْف ، وَهْوَ نَفْيُ قَوْلِك هَذَا بأَلفْ ، فَالباءُ إذاً مُتَعَلِّقُةٌ بِمَحْذُف هُوَ الخبرُ ، مَثَلُهَا كَقَوْلِك : كُرُّ (١) البُرّ بِسِتّينَ ، وَمَنَوا السَّمْنِ بِدِرْهَم (٢).

وَقَرَأَ أَبو جعفر يزيد : (يُذْهِبُ) (٣) بِضَمّ الياء.

قَالَ أَبو الفتح : الباءُ زَائدةٌ ، أَيْ : يُذْهِبُ الأَبْصَارَ وَمِثْلُهُ فِي زِيادَةِ الباءِ فِي نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ : (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيِكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ) (٤). وَقَولُ الهُذَلِي :

شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثم تَرَفَّعَتْ

مَتَى لُجَج خُضْر لَهُنَّ نَئيِـجُ (٥)

أيْ : شَرِبْنَ مَاءَ البَحْرِ ، وَإنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : إنَّ الباءَ هُنا بِمَعْنَى في ، أَيْ : في لجج البحر ، وَالمَفْعُول مَحْذُوف ، مَعْنَاهُ شَرِبْنَ الماءَ في جملةِ ماءِ البحرِ ، وفي هَذَا التأويلِ ضربٌ من الإِطَالة والبُعْدِ ، وأَعْلَمُ مِنْ بَعدُ أَنَّ هَذَهِ الباء إِنَّما تُزادُ

__________________

(١) الكُرُّ : مِكيال لأهلِ العِراق. تنظر : ص : ١٥٩ الحاشية الأولى.

(٢) المحتسب : ١ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٣) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٤٣ : (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَْبْصَارِ).

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٩٥.

(٥) البيت لأبي كبير الهذلي ، ويروى (ترَوَّتْ) مكان (شَرِبْنَ) و (تنصَّبَتْ) مكان (ترَفَّعَتْ) و (على حبشيات) مكان (متى لجج). والبيت في وصف السحاب ، ومتى حرف جرّ بلغة هذيل. انظر : ديوان الهذليين : ١ / ٥١ وتهذيب اللغة : ١٤ / ٣٤٥ والخصائص : ٢ / ٨٥ وسر صناعة الإعراب : ١ / ١٥٢ والجنى الداني : ١٠٧ وشرح ابن عقيل : ٢ / ٦ والبحر : ٨ / ٣٩٥.

٣٠٩

فِي هَذَا النَّحو كَقَولهِ : (يَذْهَبُ بِالأَبصارِ) (١) ، (وَلاَ تُلْقُوا بَأَيدِيكُم إلى التَّهْلَكَةِ) لِتَوكِيدِ مَعنى التعدّي ، كَمَا زِيدَتِ اللاّم لِتَوكِيد مَعْنى الإضافِة في قَولِهِمْ :

 ......

يَا بُؤسَ لِلْجَهلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ (٢)

وَكَما زِيدَتِ الياءات لِتوكيد معنى الصفةِ في أَشقريّ ودواريّ وكلاّبيّ (٣) وكما زيدتِ التاء لتوكيدِ مَعنى التأَنيثِ في فرسة وعجوزة (٤) ، فاعرفْ ذَلِك ، ولا تُرَيَنَّ الباءِ في : (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) مَزِيدة زيادة ساذجة.

وإن شِئْتَ حملتَهُ على المعنى (٥) حَتَّى كَأَ نَّه قالَ يُكادُ سنابرقه يلوي بالأبصارِ أوْ يستأثر بالأبصار على ما مضى من قوله تعالى : (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (٦).

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٣.

(٢) صدره :

قالتْ بنو عامر خالوا بني أسد

 ......

والبيت للنابغة الذبياني. انظر : الديوان : ٧١ والكتاب : ١ / ٣٤٦ والمقتضب : ٤ / ٢٥٣ والخصائص : ٣ / ١٠٦ والهمع : ١ / ٧٣ والخزانة : ٢ / ١٣٠.

(٣) من قول العَجَّاج :

الدهـر بالإنسـان دواريّ

وقوله :

غُضْـفٌ طَـواهَا الأمـسِ كـلابيُّ

انظر : الخصائص : ٣ / ١٠٤ والمحتسب : ١ / ٣١٠ و ٣١١ وشرح الكافية : ٢ / ١٦٣.

(٤) قال الرضي الأسترآباذي : وتجيء التاء لتوكيد الصفة فهذه تفيد مبالغة في الوصف كما يفيدها ما هو كياء النسب نحو أحمريّ ودواريّ. انظر : شرح الكافية : ٢ / ١٦٣.

(٥) تنظر : ص : ١٨٩ وما بعدها.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

٣١٠

اللاّم

قَرَأَ ابنُ عباس وَسعيد بن جُبَير : (مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحيْمٌ) (١).

قَال أبو الفتح : اللاّمُ في (لَهُنَّ) مُتَعَلِّقَة بـ (غَفُورٌ) لأَ نّها أدنى إِليها وَلأنَّ فَعُولاً أقعدُ في التَّعدِّي مِنْ فَعِيل ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : فإِنَّ اللهَ من بَعْدِ إكْراهِهِنَّ غَفُورٌ لَهُنَّ ـ ويجوزُ أنْ تَكُونَ أيضاً مُتَعَلِّقَةً بـ (رَحيْمٌ) ، وَذَلِك أَنَّ ما لا يتعدّى قد يتعدّى بحرف الجرّ ، ألا تراك تقول : هذا مارٌّ بزيد أَمسِ فَتُعْمِل اسمَ الفاعلِ وهوَ لِمَا مضى ، لأَنَّ هُنَاك حرفُ الجرِّ وإنْ كُنْتَ لا تُعدِّيهِ فَتَنصِب بهِ وَهْوَ لِمَا مَضَى؟ فَكَذَلِك يَجوزُ تَعَلَّقُ اللاَّمِ في (لَهُنَّ) بنفسِ (رَحيْمٌ) وَإنْ كُنْتَ لا تُجيز : هَذَا رحيم زيداً على مذهب الجماعة (٢) غير سيبويه وَلأَجْلِ اللاّمِ فِي (لَهُنَّ).

فَإنْ قُلْتَ : فَإِذَا كَانَتِ اللاّمُ في (لَهُنَّ) متعلّقةً بـ (رَحيْمٌ) وإنَّما يجوزُ أَنْ يَقَعَ المَعْمُولُ بحيثُ يجوزُ وقوعُ العامِلِ أفَتُقَدّم رحيماً على غفور وهو تابعٌ لَهُ؟ قِيلَ : اتِّبَاعُهُ إيَّاهُ لفظاً لا يمنعُ مِن جوازِ تقديمِ (رَحيْمٌ) على غفور وذلك أَنّهما جميعاً خبران ، لـ (إِنَّ) ، وجاز تَقديم أَحدِ الخبرينِ على صاحبهِ فتقولُ : هَذا حلوٌ حامضٌ ويجوز : هَذَا حامضٌ حلوٌ ، فَلَك إذاً أَنْ تَقُولَ : فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعدِ إكراهِهِنَّ غفُورٌ رحيمٌ وإنْ شئتَ رحيمٌ غفورٌ.

وَيُحسِّنُ ذَلِك هُنَا أَيضاً شيءٌ آخرُ وهْوَ أَنَّ الرَّحْـمَـةَ كأَ نَّها أَسبَقُ رُتبَةً مِنَ

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة النُّور : ٢٤ / ٣٣ : (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

(٢) قال المبرد : «فأَما ما كانَ على (فَعِيل) نَحو رحيم وعليم فقد أجاز سيبويه النصب فيه ولا أراهُ جائزاً». انظر : المقتضب : ٢ / ١١٤.

٣١١

المَغفرةِ ، وذلك أَنَّهُ سبحانَه إنَّما يرحمُ فيغفرُ ، فَكَأَنَّ رتبَة الرحمةِ أَسْبَقُ في النفسِ مِنْ رُتبَةِ المغفرةِ ، فَلِذَلِك جازَ بَلْ حَسُنَ تَعْلِيقُ اللاَّمِ في (لَهُنَّ) بنفسِ (رَحيْمٌ) وإنْ كانَ بعيداً عنْها لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَونِ الرَّحْـمَـة سَبَباً للمَغفرةِ ، فَإذَا كانَتْ في الرَّتبَةِ قَبلَهَا معنىً حَسُنَ أَنْ تَكونَ قَبْلَهَا لَفْظاً أَيضاً. فَإنْ جَعَلْتَ (رَحيْمٌ) صِفَةً لـ (غَفُورٌ) لَمْ يجزْ أَنْ تُعَلِّقَ في (١) لهن بنفس (رَحيْمٌ) لاِمتناعِ تَقديمِ الصِّفةِ عَلَى مَوصُوفِهَا.

وإذَا لَمْ يجْز أَنْ يُنْوَى تقديمُها عليه لم يجزْ أَنْ تضع ما تعلَّقَ بِهَا قبلَهُ لأَ نَّهُ إنَّما يجوزُ أَنْ يقعَ المعمولُ بحيثُ يجوزُ أَنْ يَقَعَ العاملُ فيهِ ، وأَنْتَ إذا جعلتَ رحيماً صِفَةً لـ (غَفُورٌ) لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَدِّمَهُ عليهِ لامتناعِ جوازِ تَقْدِيمِ الصفةِ على مَوصُوفِهَا ، وَإذا كانَتْ حَالَّةً مِنهُ مَحَلَّ آخرِ أجزاءِ الكلمةِ مِنْ أوَّلِهَا فاعرفْ ذلك (٢).

مِـن

قَرَأَ علي بن أَبي طالب (عليه السلام) : (مِنْ بَعْثِنَا) (٣).

قال أَبو الفتح : أيْ يَا وَيْلَنَا مِنْ بَعْثِنَا مِن مَّرْقَدِنَا ، كَقَولِك : يَا ويلي مِنْ أَخْذك مِنّي مَالِي فـ (مِنْ) الأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بالوَيلِ ، كَقَوْلِك : يَا تَأَ لُّمِي مِنْك.

وإنْ شِئْتَ كَانَتْ حَالاً مِنْ (وَيْلِنَا) فَتَعَلَّقَتْ بمحذوف حَتَّى كأَ نّهُ قَالَ :

يا ويلنا كائناً مِنْ بَعْثِنَا ، وجازَ أَنْ يكونَ حالاً مِنْهُ كَما يجوزُ أَنْ يَكُونَ

__________________

(١) لا محل لـ (في) هنا.

(٢) المحتسب : ٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٣) من قوله تعالى من سورة يس : ٣٦ / ٥٢ : (قَالُوا يَا وَيْلَـنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).

٣١٢

خبراً عَنْهُ.

كَقَولِ الأَعشى :

 ......

وَيِلِي عَلَيْك وَوَيْلي مِنْك يَارَجُلُ (١)

وَذَلِك أَنَّ الحَالَ ضَرْبٌ مِنَ الخَبَرِ.

وَأَمَّا (مِنْ) فِي قولِهِ تَعَالَى : (مِنْ مَرْقَدِنَا) فَإِنَّهَا مُتَعَلّقَةٌ بِنَفسْ البعثِ ، كَقَوْلِك : سَرَّنِي بَعْثُك مِنْ بَلَدِك إلَيَّ (٢).

مِن الزَّائدة

قَرَأَ زيد بن ثابت وأَبو الدَّرداء وأَبو جعفر ومجاهد ـ بخلاف ـ ونصرُ بنُ علقمةَ ومكحولٌ وزيدُ بن علي وأبو رجاء والحسنُ ـ واختلف عنهما ـ وحفصُ بنُ حميد وأبو عبد الله محمّد بن عليّ : (نُتَّخَذَ) (٣) بِضَمِّ النون.

قالَ أَبو الفتح : أَمّا إذَا ضُمَّتِ النونُ فَإِنَّ قَوْلَهُ : (مِنْ أَوْلِياءَ) فِي موضعِ الحالِ (٤) وَدَخَلَتْ (مِنْ) زائدةً لِمَكَانِ النَّفِي ، كقولِك : اتّخذت زيداً وكيلاً فإن نفيت قلت : ما اتّخذت زيداً من وكيل ، وكذلك أعطيتُهُ دِرْهَماً ، وَمَا أَعطيتُهُ مِنْ دِرْهَم وَهَذا في المفعول (٥).

__________________

(١) صدره :

قَالَتْ هُرَيرَةُ لَمَّا جئتُ زَائِرَهَا

 ......

انظر : الديوان : ٤٣.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢١٣.

(٣) من قوله تعالى من سورة الفرقان : ٢٥ / ١٨ : (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ).

(٤) أَخذنا مسألةَ الحال في ص : ٢٩٦.

(٥) المحتسب : ٢ / ١١٩ ـ ١٢٠.

٣١٣

إلى

قَرَأَ طَلْحَة : (وهو يَدَّعِي إلى الإسلامِ) (١).

قالَ أَبو الفتح : ظاهرُ هذا أَنْ يُقَالَ : يَدَّعِي الإسلام ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَدَّعِي الإسلام يَنْتَسبُ إِليهِ قالَ : يَدَّعي إِلى الإِسلام حَمَلاً على معناهُ ، كَقولِ الله تَعَالى : (هَلْ لَك إلَى أَنْ تَزَّكّى) (٢) وعادة الاستعمال هل لَك في كَذَا لَكِنّهُ لَمَّا كَانَ معناهُ أدعوك إلى أَنْ تَزَّكَّى استعملَ (إلَى) هُنَا تَطَاولاً نحو المَعْنَى (٣) وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا (٤) وَهْوَ غورٌ عظيمٌ (٥).

حاشا

قَرَأ (حاشا اللَّهِ) (٦) : ابنُ مسعود وأُبَيُّ بنُ كعب ، وَقَرأَ (حاشَ الإلَه) : الحَسنُ ، وَقَرأَ : (حَاشْ للَّهِ) جَزْمٌ الحسَنْ بخِلاف.

قَالَ أَبو الفتح : أمَّا (حَاشَا الله) فَعَلَى أَصْلِ اللفظة وهي حرفُ جرّ (٧) ، قال :

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الصفّ : ٦١ / ٧ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الاِْسْلاَمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ١٨ : وتشديد الزاي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ـ بخلاف عنه ـ وأبي جعفر ويعقوب. انظر : البحر المحيط : ٨ / ٤٢١ والإتحاف : ٢٦٧.

(٣) قال أَبو حَيَّان : تقولُ العربُ : هل لك في كذا وهل لك إلى كذا ، فيحذفون القيدَ الَّذي تَتَعَلَّقُ بهِ (إلى) ، أي : هل لك رغبةٌ أو حاجَةٌ إلى كذا أو سبيلٌ إلى كذا. انظر : البحر المحيط : ٨ / ٤٢١.

(٤) انظر : ص : ١٩٠ وما بعدها.

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٢١.

(٦) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ٥١ : (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء).

(٧) وهذا مذهبُ سيبويه حيثُ يَرى أَنَّها حرفٌ خَافِضٌ دَالٌّ عَلَى الاستثناءِ ولا يجيزُ النصبَ

٣١٤

حاشَا أبي ثَوْبَانَ إنَّ بِهِ

ضِنّا عَلَى المَلْحَاةِ والشَّتْمِ (٧)

وَأَمَّا (حاشَ الإله) فَمحذوف من حاشَا تخفيفاً ، وهو كَقوْلِك : حاشَا الربّ وحاشَا المَعْبود ، وَلَيس (الإلَه) هَكَذا بالهَمْزِ هُوَ الاسمُ العلَم ، إنَّما ذَلِك اللهُ ـ كَمَا تَرى ـ المحذوف الهمزة على هذا استعملوه لَما وإنْ كانَ لَعمْرِي أَصْلُهُ لإلَهُ مكان الله فَإنّهُ كاستعمالِهِمْ فِي مَكَانَه المعبود والرّبّ. وَمِنْهُ قَولُهُ :

لَعَنَ الإلهُ وَزَوْجَها مَعَـهَـا

هِندَ الهُنُودِ طَويلة الفَعْـلِ (١)

وأَما (حاشْ لله) بسكون الشِّين فضعيفٌ من موضعين :

أَحدُهُمَا : التقاء الساكنين : الألف والشِّين ، وَلَيْسَتْ الشينُ مُدْغَمَةً.

والآخَر : إِسكانُ الشين بعد حذفِ الألفِ ولا مُوجِبَ لِذَلِك.

لَكنَّ السؤالَ من هذا عَنْ إِدخَالِ لامِ الجرِّ عَلى (لله) وَقَبْلَهَا (حاشْ)

__________________

بِهَا. قالَ أَبو علي الفارسي إنَّ حاشَ حرفُ استثناء وقد أَجازَ النَّصبَ والجرَّ بها الجرمي والزَّجَّاجُ والمُبَرِّدُ وقالَ الكوفيونَ إنّها فعلٌ. انظر : الكتاب : ١ / ٣٧٧ و ٣٩٥ والمقتضب : ٤ / ٣٩١ وأصول النحو : ١ / ٢٥٢ والبيان : ٢ / ٣٩ والإنصاف : ١ / ١٦١ المسألة : ٣٧ والجنى الداني : ٥١٣ والبحر المحيط : ٥ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(١) البيت للجميح وهو منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف الأسدي وينسب إلى سبرة بن عمرو الأسدي. ويروى (أبا) مكان (أبي) والبيتَ ملفّق من بيتين هما :

حاشَ أبي ثوبان إن أبا

ثوبانَ لَيسَ بِبُكمَة فَدَمِ

عمرو بن عبد الله إِن به

ضِناً عَن الملَحاةِ والشَّتْمِ

انظر : المفضليات : ٣٦٧ والمحتسب : ١ / ٢٤١ والمفصل : ١٣٤ والكشاف : ٢ / ٤٦٥ والإنصاف : ١ / ١٦٢ والبيان : ٢ / ٤٠ وشرح المفصل : ٨ / ٤٧ واللسان : ١٤ / ١٨٢ والجنى الداني : ٣ / ٥ والمغني : ١ / ١٢٢ والبحر المحيط : ٥ / ٣٠٠.

(٢) البيت لحسان بن ثابت. وروايته (البَظْرِ) مَكَانَ (الفَعْلِ) وَيُكَنَّى بالفَعلِ عن حياء الأُنثى.

انظر : الديوان : ٢٢٩ والمحتسب : ١ / ٣٤١ والمقرب : ١ / ٢٣٤ وهمع الهوامع : ٢ / ١٤١ والدرر اللوامع : ٢ / ١٩٤ ومعجم شواهد العربية : ١ / ١٨٦.

٣١٥

و (حاشَى) (١) وهو حرف جرّ ، كيف جَاز التقاء حرفي الجرّ (٢)؟ فالقول أَنَّ (حاشْ) و (حاشى) فِعلان فَلِذَلِك وَقَعَ حرفُ الجرِّ بعدَهَا.

حَكى أَبو عثمان المازِنِي عَنْ أَبي زيد قَالَ : سَمِعْتَ أَعرابيّاً يَقُولُ : اللَّهمَّ اغفر لي وَلِمَن سَمِعَ حاشَى الشَّيطانَ وأَبا الأَصبع (٣) ، فنصبَ بِحَاشَى.

وَهَذَا دليلُ الفعليةِ. فعليهِ وَقَعتْ بَعْدَهُ لامُ الجرّ (٤).

حذف الجارِّ والمجرور

قَرَأَ عِكْرِمة : (حيناً تُمسونَ) (٥) قال أبو الفتحِ : أَرادَ حيناً تمسون فيهِ ، فحذَفَ (فيه) تخفيفاً.

هَذا مذهبُ صاحبِ الكتاب (٦) في نحوه ، وهو قولُهُ سبحانَهُ : (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْس شَيْئاً) (٧) ، أَيْ : لاَ تَجزي (فيه) ثُمَّ حَذَفَ (فيه) مُعْتَبِطاً لِحَرْفِ الجرِّ والضَّميرِ لدلالةِ الفعلِ عَلَيْهِمَا.

__________________

(١) لم يذكر (حاشى لله) فيما ذَكَرَ من قراءات الآية.

(٢) لأَنَّ حرفَ الجرّ لا يدخلُ على حرفِ الجرِّ ـ كما يقول أَبو حيان ـ انظر : البحر المحيط : ٥ / ٣٠٣.

(٣) اُنظر : أُصول النحو : ١ / ٣٥١ وشرح المفصل : ٢ / ٨٥ وشرح الكافية : ١ / ٢٤٤ والجَنَى الدَّاني : ٥١٣ والمغني : ١ / ١٢٢ وشرح ابن عقيل : ١ / ٦٢١. وقد رويت أَيضاً عن أَبي عمرو وإسحاق ابن مَرَّار الكوفي المتوفّى (سنة / ٢٠٥ هـ).

(٤) المحتسب : ١ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٥) من قوله تعالى من سورة الروم : ٣٠ / ١٧ : (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ).

(٦) انظر : الكتاب : ١ / ١٩٣.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ٤٨ و ١٢٣.

٣١٦

وَقَالَ أَبو الحسن حذف (في) فبقى (تجزيه) (١) ، لأَ نَّهُ أَوْصَلَ إِليْهِ الفِعْلُ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرَ مِنْ بَعدُ فَفَيهِ حَذْفَانِ مُتَتَالِيانِ شيئاً عَلَى شيء وَهَذا أَرفْقُ والنَّفْسُ بهِ أَبْسَأُ (٢) مِنْ أَنْ يُعْتَبَطَ الحَرْفَانِ مَعاً في وقت وَاحد. وَقَرَأَ أَيضاً : (وَحِيناً تُصبِحُونَ) والطريق واحد (٣).

شبه الجار والمجرور بالفعل

قَرَأَ أَبو جعفر يزيد : (لَعِبرَةً تَسْقِيكُمْ) (٤) قَالَ أَبو الفتح : لَيْسَ قَوْلُهُ : (تَسْقِيكُمْ) صفةً لِعبِرة كَقَوْلِك : لَعِبرَةٌ سَاقِيةٌ.

أَلا تَرَى أنّهُ لَيْسَتِ العِبْرَةُ الساقية ، وإِنَّمَا هُنَاك حَضُّ وَبَعْثٌ عَلَى الاعتبارِ بِسُقْيَاهَا لَنا أَوْ بِسُقْيَا اللهِ سُبْحَانَهُ إِيَّانَا مِنْهَا؟ فَالَوقْفُ إذاً على قولهِ : (لَعِبْرَةً) ثُمَّ استَأنَفَ تَعالَى تَفْسِيرَ العِبْرَة ، فَقَالَ : (تَسقِيكُم) هي ، أوْ (نُسْقِيكُمْ) نَحْنُ (مِمَّا فِي بطونِها) وَقَوْلُهُ (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كثيرةٌ) أَحَدُ ما يدلّ على قوّة شَبَهِ الظرفِ بالفعلِ.

ألاَ تَراهُ معطوفاً عَلَى قولِه : (نُسْقِيكُمْ)؟ والعطفُ نظيرُ التثنية ، والتثنية تَقْتَضِي تساوي حال الاسمين وتشابههما وَمِثْلُهُ في ذَلِك قولُ الآخر أَخبَرَنا بهِ أَبو بَكر محمّد بن الحسن عن أَبي العبَّاس أَحمد بن يحيى ثَعْلَب :

__________________

(١) انظر : معاني القرآن للأخفش : ٣٩ / أ.

(٢) أبسأ : آنس. انظر : مختار الصحاح ـ بسأ ـ : ٥١.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٤) من قوله تعالى من سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢١ : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقيِكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ).

٣١٧

زَمَانَ عَليَّ غُرابٌ غُدافٌ

فَطَيـَّرَهُ الشيبُ عَنِّي فَطَارَا (١)

فَعَطَفَ (طَيَّرَه) على (عليّ) وهو ظرفٌ (٢).

وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالى : (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللهِ) (٣) فوجود معنى الشرط في الظرفِ أقوى دَلِيل عَلَى قوّةِ شَبَهِهِ بالفِعْلِ ، لأَنَّ الشَّرطَ لاَ يَصحّ إِلاَّ بِهِ ، وَسَوَّغَ ذَلِك أَيْضاً أَنَّ قَوْلَهُ : (نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهَا) (٤) فِي مَعنَى قَولِهِ : لَكُمْ فِي بُطونِها سُقْيَا ، وَلَكُمْ فِيَها مَنَافِعُ (٥).

إِنَّ أبا الحسَن : يَرفَعُ زيداً مِنْ قولِك : في الدارِ زَيْدٌ بالظرفِ (٦) ، أَيْ : يَرْفَعهُ بالفعل (٧) ، وَمِن غَريب شبه الظرف بالفعل أَنهم يجيزونَ في قَولِهِمْ : فِيْك يُرغَبُ ، أَنْ يكُونَ فِيك مرفوعاً في الابتداءِ ، وَفي (يُرْغَبُ) ضميرُهُ كَقَولِك : زَيْدٌ يُضْرَبُ مِنْ مَوْضِعَينِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الفِعْلَ لا يَرْتَفعُ بالابتداءِ فَكَذَلِك الظرف.

والآخر : أنَّ الظَّرفَ لاَ ضَمِيرَ لَهُ ، كَمَا أَنَّ الفِعْلَ لاَ ضَمِيرَ لَهُ.

__________________

(١) لأَبي حيَةَ النميري. والغدَافُ : الأَسود. أوْ بالأحرى الشعرُ الأسود.

انظر : الخصائص : ١ / ١٠٧ و ٣ / ٣٢٠ والمحتسب : ٢ / ٩٠ واللسان : ٢ / ١٣٨.

(٢) أبو الفتح : يُسَمّي الجار والمجرور ظرفاً.

تنظر : ص : ٢٨٨.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٥٣.

(٤) من قوله تعالى من سورة : المؤمنون ٢٣ / ٢١ : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الاَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ).

(٥) المحتسب : ٢ / ٩٠.

(٦) تنظر : ص : ٢٨٨.

(٧) انظر : تفصيل ذلك في كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب : ٩٠.

٣١٨

ومن ذلك أيضاً قوله :

زَمانَ عَليَّ غُرابٌ غُدَافٌ

فَطَيَّرهُ الشَّيبُ عنّي فَطَارا

فَعَطْفُهُ عَلى الظِّرفِ من أقوى دليل على شَبَهِهِ بهِ (١).

الجرّ بالمجاورة

قَرَأَ يَحْيَى والأَعْمَش : (ذُو القُوَّةِ المَتينِ) (٢).

قَالَ أَبو الفتح : يَحْتَمِلُ أمرين :

أَحدُهُمَا : أَنْ يكونَ وصفاً للقوّةِ كرَّه عَلَى مَعْنَى الحَبْلِ ، يُريدُ قَوي الحَبلِ ، لِقَولِهِ : (فَقَدِ اسْتَمْسَك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا) (٣).

والآخر : أَنْ يَكُونَ أَرادَ الرفعَ وصفاً للرَّزَّاقِ. إِلاَّ أَنَّهُ جاءَ عَلَى لفظِ القوّةِ لجوارِها إِيّاه. عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا جحرُ ضَبّ خَرِب (٤) ، وَعَلَى أنَّ هَذَا في النكرة ـ على ما فيه ـ أَسْهَل مِنْهُ في المعرفةِ وذَلك أَنَّ النَّكِرَةَ أشدُّ حَاجَة إلى الصِّفَةِ ، فبقدرِ قوّةِ حَاجَتِهَا إليها تتشبّثُ بالأَقرَبِ إلَيهَا فَيَجَوزُ : هَذَا جُحْرُ ضَبّ خَرِب لِقُوّةِ حاجةِ النَّكِرَةِ إلَى الصِّفَةِ.

فَأمَّا المَعرِفَةُ فَتَقِلُّ حاجتُها إلى الصفةِ ، فَبِقَدرِ ذَلِك لا يَسوغُ التَّشَبُّثُ بِمَا يقربُ مِنْهَا لاستغنائِها فِي غَالِبِ الأَمرِ عَنْهَا.

أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجِبُ ألاَّ تُوَصَفَ المَعْرِفَةُ لَكِنَّها لَـمـَّا كَثُرتِ المعرفةُ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٤٤.

(٢) من قولهِ تعالى من سورة الذاريات : ٥١ / ٥٨ : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٦.

(٤) الكتاب : ١ / ٣٤ و ٢١٧.

٣١٩

تَداخَلَتْ فِيَما بعدُ ، فجازَ وصْفُهَا وَلَيْسَ كَذَلِك النَّكِرَةُ ، لأ نَّهَا فِي أَوَّلِ وَصْفِهَا مُحْتَاجِةٌ ـ لإبهَامِهَا ـ إلى وَصْفِهَا.

فَإِنْ قلْتَ إِنَّ القوّةَ مؤنَّثَةٌ والَمتينُ مُذَكَّرٌ فَكَيفَ جازَ أَنْ يُجرِيها عَلَيْهَا عَلَى الخِلافِ بَيْنَهُمَا؟ ألاَ تَرىَ أنَّ مَنْ قَالَ : هذا جُحر ضَبّ خَرِب لاَ يقولُ هذانِ جُحرا ضَبّ خَرِبينِ لُِمخَالَفَةِ الاثنينِ الواحدَ (١)؟ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ القوّةَ هُنا إنَّما المَفهُومُ مِنْهَا الحَبْلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَكَأَ نَّهُ قَالَ : إنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاق ذُو الحَبْلِ المَتينِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ.

وأَيضاً فَإنَّ المتين فَعِيل ، وَقَد كَثُرَ مجيء فَعيل مذكراً وَصْفاً للمؤنّث (٢) ، كَقَوْلِهم حلّة خَصِيف (٣) ، ومِلْحَفَةٌ جَديد (٤) ، وناقُة حَسير وسديس ، وريح خريق (٥).

__________________

(١) قال الخليل : لا يقولون : إِلاّ هذان جحرا ضبّ خربان ، من قِبَلِ أَنَّ الضَّبَّ واحدٌ والجحرُ جُحران. وقَال سيبويه : لا نرى هذا الأوَّلَ إلاّ سواء ، لأَ نَّهُ إذا قالَ : هذا جحرُ ضَبّ منهدم ففيه من البيان أنَّهُ لَيسَ بالضبِّ مثل ما في التثنية من البيان إِنَّه ليس بالضَّبِّ. انظر : الكتاب : ١ / ٢١٧.

(٢) إذا كان فعيل بمعنى فاعل مثل كريم لحقته التاء في التأنيث فتقول : امرأة كريمة وقد حذفت منه قليلاً. وإنْ كانَ بِمعنى مفعول ولم يتبع موصوفه لحقته التاء نحو هذه ذبيحة ونطيحة. وإنْ تبع موصوفه حُذِفَتْ منه التَّاءُ غَالباً نحو مَرَرْتُ بامرأة جريح. انظر : قال ابن مالك :

وَمِنْ فَعِيل كَقَتِيل إِنْ تَبِعْ

مَوْصُوفَهُ غَالِباً التَّا تَمْتَنِعْ

شرح ابن عقيل : ٢ / ٤٣٢.

(٣) وَيُقَالُ أَيْضاً كتيبةٌ خصيفةٌ لِمَا فيها مِنْ صدإ الحَديد وبياضِهِ. انظر : اللسان : ١٠ / ٤٢٠.

(٤) انظر : مختار الصحاح : ٩٥.

(٥) المحتسب : ٢ / ٢٨٩.

٣٢٠