أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

ـ بالتسميةِ بِهَا ـ ببقية الأسماءِ المنصرفة (١).

ظرف المكان

قَرَأَ ابنُ عَبّاس ومحمّد بن علي بن الحنفية وابنُ يَعْمَر بخلاف والكلبي وعمرو بن فائد : (رَبُّنَا) ـ رَفْعٌ ـ (بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) (٢) رَفَعَ الباءَ على الخبر وَفَتَحَ الباءَ مِن (بَعَّدَ) والعينَ وَنَصَبَ النَّونَ مِن (بَينَ).

وَقَرَأَ : (رَبَّنَا بَعُدَ) بِفَتحِ الباءِ والدَّالِ ، وَضَمّ العَينِ (بَيْنُ أَسفَارِنَا) ـ ابنُ يَعمَر وَسَعيدُ بنُ أَبي الحَسَنْ وَمُحمّد بن السُّمَيْفَع وَسُفيان بن حُسَين ـ بخلاف ـ والكلبي ـ بخلاف ـ.

وَقَرَأَ : (رَبُنَا بَاعَدَ بَينَ أَسْفَارِنَا) ابنُ عباس وابنُ يَعمَر ومحمّد بن علي (عليه السلام) وأَبو رَجاء والحسن ـ بخلاف ـ وأَبو صالح وسلاَّم ويَعقوب وابنُ أَبي لَيْلَى والكلبي.

قَالَ أَبو الفتح : أَمّا (بَعَّدَ) و (بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) فَإنَّ (بَيْنَ) فيهِ منصوبٌ نَصْبَ المفعولِ بِهِ ، كَقَوْلِك : بَعَّدَ وَباعَدَ مسافة أَسفارِنَا ، وَلَيْسَ نصبهُ على الظرفِ.

يَدُلُّك على ذَلِك قراءَةُ مَنْ قَرَأَ : (بَعُدَ بَين أَسفَارِنَا) ، كَقَولِك : بَعُدَ مَدَى أسفَارِنَا فَرَفْعُهُ دليلُ كونِهِ اسماً وعليه قَولُهُ :

كَأَنَّ رِمَاحَهُم أَشطَانُ بِئر

بَعِيد بينَ جَاليها حَرورِ (٣)

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٨٨.

(٢) من قوله تعالى من سورة سبأ : ٣٤ / ١٩ : (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا).

(٣) البيت لمهلهل بن ربيعة ، ويُروى (رماحَنا) مكان (رماحَهم) وفي اللسان (بَينُ) بالضَّم

٢٨١

أَي : بعيد مدى جالِيها ، أو مَسَافة جاليها وَيُؤَكِّدُ كَونَ (بَيْنَ) هُنَا اسماً لا ظرفاً أنَّ بَعَّدَ وباعدَ فعلانِ متعدّيانِ فمفعولهما معهما ، وليسَ (بينَ) هاهنا مثلها في قَولِك : جلست بينَ القومِ لاِنَّ معناهُ جلستُ في ذَلِك الموضِعِ ، وَلَيْسَ يريدُ هُنَا بَعَّدَ أو بَاعِد فيما بينَ أَسفَارنَا شيئاً.

قالَ أَبو حاتم : وَزَعَمُوا أَنَّ العِمَارةَ اتصلت ببلادِهِم : فَأَرادوا أَنْ يسيروا على رواحِلِهِم في الفيافي ، فدعوا على أَنفُسِهِم ، فهو قوله سبحانَهُ : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم) (١) وَكَانَ شيخُنَا أَبو علي يَذْهَبُ إلى أَنَّ أصل (بَينَ) أَنَّها مصدرُ بانَ يبينُ بَينَا ثُمَّ استعملتْ ظَرفاً اتساعاً وَتَجَوُّزاً كَمقْدَم الحاج وخِلافة فُلان. قَالَ : ثُمَّ استعمِلَتْ واصلةً بينَ الشَيئَينِ وإنْ كَانَتْ في الأصلِ فَاصِلةً.

وَذَلِك لاَِنَّ جهتيها وَصَلَتَا ما يجاورهما بِهَا ، فَصَارتْ واصلةً بينَ الشَّيئَينِ ، هذا معنى قَولِهِ وجِمَاعُ مرادِهِ فيهِ ، وَعَلَيْهِ قراءةُ مَنْ قَرَأَ : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) (٢) بالرفع (٣) أي : وصلكم (٤).

وأَجَازَ أَبو الحسن في قولِهِ تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّع بِيْنَكُم) بالفتحِ (٥) أنْ يَكونَ في موضعِ رَفع إلاَّ أَنَّ فتحَةَ الظرفِ لزمتْهُ والمُرَادُ الرَّفْعُ (٦). وَيُمكن عِندِي أنْ

__________________

وهو الصحيح. والأَشطان : الحِبَالُ ، والجَالُ : الجانبُ ، والبئرُ الحرورُ : البعيدةُ. انظر : مجالس العلماء للزجّاجي : ١٤٣ ولسان العرب : ١٦ / ٢٠٩ ومعجم شواهد العربية : ١ / ١٨٥.

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٩ وقد ذكرنا الآية في الصفحة السابقة : ص : ٢٨١.

(٢) من سورة الأنعام : ٦ / ٩٤ : (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ).

(٣) قرأَ بِها السبعة باستثناءِ نافع والكِسائي. انظر : الكشف عن وجوه القراءات السبع : ١ / ٤٤٠.

(٤) نقل ذلك أَبو حيَّان عن أَبي الفتح : انظر : البحر المحيط : ٤ / ١٨٢.

(٥) قراءة نافع والكسائي وحفص. انظر : الكشف عن علل القراءات السبع : ١ / ٤٤٠.

(٦) انظر : مشكل إعراب القرآن : ١ / ٢٦٢ والكشف عن علل القراءات : ١ / ٤٤١ والجامع لأحكام القرآن : ٧ / ٤٣ وزاد المسير : ٣ / ٨٩.

٢٨٢

يَكُونَ قَولُهُ :

وَإنَي وَقَفتُ اليومَ والأَمْسِ قَبْلَهُ

بِبَابِك حَتَّى كَادَتِ الشَّمسُ تَغْرُبُ (١)

والمراد فيه وأمسِ ، إلاَّ أَنَّهُ أدْخَلَ اللاَّمَ عليه فَعَرّفَهُ بِهَا وتَرَكَهُ على مَا كَانَ عَلَيهِ مِن كَسرِهِ المعتادِ فيهِ (٢) وَإنْ كَانَ قَد أَعَرَبَهُ في المعنى بإبراز لام التعريفِ ، إلى لَفظِهِ الّذي كانَ إنَّما يُبْنى لتضمنها. وإنْ حملته على زيادة لام التعريفِ مثلها في الآية فمذهب آخر. ونظر بعضُ المُوَلَدينَ إلى حديث (بَين) فَقَالَ :

انتَصَرَ البَيْنُ مِنَ البَينِ

واشتفت العَينُ مِنَ العَينِ

والبَينُ الأَولُ الوصلُ ، والثاني القَطِيعةُ والهجرُ ، والعينُ الأولى هذا الناظر ، والثانية الرقيب ، أي : رأت فيهِ ما أَحَبَتْ (٣).

مــــع

قَرَأَ يَحيى بن يَعمَر وَطَلحَة بنُ مُصَرِّف : (هَذَا ذِكْرٌ مِن مَّعِيَ وَذِكْرٌ مِن قَبْلِي) (٤) بالتنوين فِي (ذِكر) ، وكسر الميم من (مِن).

قال أَبو الفتح : هذا أَحَدُ مَا يدُلُّ على أَنَّ (مَعَ) اسم وَهو دخولُ مِن عَليهَا.

__________________

(١) البيت لنصيب : انظر : الخصائص : ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٥٧ وشرح المفصل : ٢ / ٢٦٠ والهمع : ١ / ٢٠٩ والدرر اللوامع : ١ / ١٧٥ واللسان : ٧ / ٣٠٤.

(٢) قال ابن الأعرابي : روى الأَمسِ والأَمسَ جرّاً ونصباً. الخصائص : ١ / ٣٩٤ واللسان : ٧ / ٣٠٤.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٨٩ ـ ١٩١.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٤ : (هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ).

٢٨٣

حَكى صاحبُ الكتابِ (١) وأبو زَيد ذَلِك عَنهُم : جِئتُ مِنْ مَعِهِم ، أَي : مِنْ عِنْدِهِم ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : هَذا ذِكرٌ مِن عِندِي وَمِن قَبْلِي ، أي : جِئتُ أَنَا بِهِ ، كَمَا جاءَ بِهِ الأنبياءُ من قَبْلِي ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) (٢). (٣)

تجريد الظرف من معنى الظرفية

قَرَأَ طلحة : (لَيْسَ لَهَا مِمَّا يَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ وَهْيَ عَلَى الظالمينَ ساءَتِ الغَاشِية) (٦).

قَالَ أَبو الفتح : هَذِه القراءة على تقديرِ : (دُونِ اللهِ) اسماً هُنا لاَ ظرفاً لأَنَّ الإِضَافة تسلبُهُ معنى الظرفيَّة التي فيه ، كقولهم :

يَا سَـارقَ الليلـةِ أَهـلَ الـدارِ (٥)

وَتِلك عَادَةُ سيبويه (٦) إذا أَرادَ تجريدَ الظرفِ مِنْ مَعْنَى الظرفيةِ فَإنَّهُ يُمَثّلُه

__________________

(١) قال سيبويه في الكتاب : ١ / ٢٠٩ : ذَهَبَ مِن مَعَهُ.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٣) المحتسب : ٢ / ٦١.

(٤) من قوله تعالى من سورة النجم : ٥٣ / ٥٨ : (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ).

(٥) انظر : الكتاب : ١ / ٨٩ والأمالي لابن الشجري : ٢ / ٢٥٠ وشرح المفصل : ٢ / ٤٦ وهمع الهوامع : ١ / ٢٠٣ والخزانة : ٣ / ١٠٨ و ٤ / ٢٣٣ والدرر اللوامع : ١ / ٧٢.

قَالَ الفرّاء : أَضَافَ سَارِقاً إلى الليلةِ وَنَصَبَ (أَهلَ الدارِ) وكانَ بَعضُ النحويينَ ينصب الليلةَ ويخفض (أهلَ) فيقول :

يا سـارق الليلـةَ أَهـلِ الــدارِ

وكناحتِ يوماً صخرة ، وَلَيْسَ ذَلِك حَسَناً في الفِعلِ ، وَلَوْ كَانَ اسماً لَكَانَ الّذي قالوا أَجوز.

انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٨٠.

(٦) انظر : الكتاب : ١ / ٨٩.

٢٨٤

بالإضَافَةِ إلَيْهِ. وذلك مِمّا يُنافي تقديرَ حرفِ الجرِّ معهُ ، لأَنَّ حرفَ الجرِّ يَسقُطُ. فلا يعترضُ بَيْنَ المضافِ وَالمُضَافِ إليهِ (١).

الاستثناء

الاستثناء المنقطع

قَرَأَ ابنُ عباس وسعيد بن جُبَير والضَّحَّاك بنُ مُزاحِم وَزَيدُ بنُ أَسْلَم وعبدُ الأَعلَى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ، وَعَطاء بن السائب وابن يَسار : (إلاَّ من ظَلَمَ) (٢) بفتح الظاء واللاّم.

قال أبو الفتح : ظَلَمَ وَظُلِمَ جَمِيعاً عَلَى الاستثناءِ المُنْقَطِع ، أي : لكن مَنْ ظلم فَإنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عليهِ أَمرُهُ ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِك قَوْلُهُ : (وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (٣).

ومن ذَلِك القراءَةُ الفاشية : (إلاَّ مَنْ ظَلَمَ) (٤) و (مَنْ) هنا منصوبة على الاستثناء وهو منقطع ، بمعنى لكن ، فقوله تعالى : (إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ مَن ظَلَمَ) (٥) مَعْنَاهُ : لَكِن مَنْ ظَلَمَ كَانَ كَذَا. وَلَعَمْرِي إنَّ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٩٥.

(٢) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٤٨ : (لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيْماً).

(٣) المحتسب : ١ / ٢٠٣.

(٤) من قوله تعالى من سورة النمل : ٢٧ / ١١ : (إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

(٥) سورة النمل : ٢٧ / ١٠ ـ ١١.

٢٨٥

الاستثناءَ المُنقطع فاش في القرآنِ وغيره ، إلاَّ أَنَّهُ ـ مَعَ ذَلِك ـ محوج إلى التأويل وإعمَالِ القياسِ والَتمَحُّلِ (١).

إِلاَّ

إنَّ إلاَّ إذَا بَاشَرَتْ شَيئاً بَعْدَها فَإِنَّمَا جِيءَ بهِ لِتَثبِيتِهِ وَتَوكِيد معنَاهُ وَذَلِك كَقُولِك : مَا كَانَ زيدٌ إلاَّ قائماً ، فزيد غير محتاج إلى تَثبِيتهِ ، وإنَّما يُثبَّتْ لَهُ القيامُ دُونَ غَيرِهِ.

فَإذَا قُلْتَ ما كانَ قَائِماً إلاَّ زَيْدٌ ، فَهُنَاك قيام لاَ محالةَ ، وَإنَّمَا أَنْتَ ناف أَنْ يَكُونَ صَاحبه غير زيد ، فَعَلى هذا جاءَ قَولُهُ :

 ...... ما كان داءَهَا

بِثَهلانَ إلاّ الخِزْيُ ...... (٢)

بِرَفْعِ الخزي ، وَذَلِك أَنَّهُ قَدْ شَاعَ وَتُعُولِمَ أَنَّ هناك داءٌ ، وإنَّمَا أَرادَ أَنْ يُثبِّتَ أَنَّ هَذَا الداءَ الَّذِي لاَ شَكَّ فِي كَونِهِ وَوُقُوعِهِ لَم يَكُنْ جَانِيهُ وَمُسَبِّبُهُ إلاَّ الخزيُ مِمَّنْ يقودُها ، فهذا أَمرُ الإعرابِ فيهِ تَابعٌ لِمَعْنَاهُ ، وَمَحْذُوٌ عَلَى الغَرَضِ المُرادِ فِيهِ (٣).

الحـــــال

قَرَأَ ابنُ عباس ، وعِكرمة والضَّحَّاك : (الْفُرْقَانَ ضِيَاءً) (٤) بغيرِ وَاو.

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٣٦.

(٢) مرّ الشاهد في : ص : ١٦٤.

(٣) ذكرنا هذا سابقاً في ص : ١٦٤ وينظر : المحتسب : ٢ / ١١٦.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأَنبياء : ٢١ / ٤٨ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ).

٢٨٦

قَالَ أَبوُ الفتحِ : ينبغي أَنْ يَكونَ (ضِيَاءً) ، هُنَا حَالاً (١) ، كَقَولِك : دَفَعتُ إلَيك زيداً مُجَمِّلاً لَك وَمسدِّداً مِن أَمرِك ، وَأَصحَبتُك القُرآنَ دَافِعاً عَنْكَ مُؤنِساً لَك.

فَأَمَّا فِي قراءَةَ الجماعةِ : (وَضِياءً) بالواو ، فإِنَّهُ عَطْفٌ عَلى (الْفُرْقَانَ) فهو مفعول بهِ على ذَلِك (٢) وأَمَا (مَدَداً) (٣) فَمنصوب على الحالِ (٤) ، كَقَولِك : جئتُك بزيد عوناً لَك ويداً مَعَك ، وإنْ شِئتَ نَصَبْتَهُ على المصدرِ بِفِعْل مُضْمَر يَدُلُّ عَلَيْهِقَوْلُهُ : (جِئنَا بِمِثْلهِ) كَأَ نَّهُ قَالَ : وَلَو أَمدَدْنَاهُ إمداداً ثمَّ وضع مدداً موضِعَ إمدَاداً ، ولهذا نظائرُ كَثِيرِةٌ (٥).

وَقَرأ عيسى الثقفي : (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سلاماً قَولاً) (٦) نَصْباً جَمْيعاً.

قال أبو الفتح : أمَّا سَلاماً بالنَّصبِ فحالٌ مِمَّا قبلَهُ (٧) ، أي : ذلك لَهُمْ مُسَلَّماً أو مُسَالِماً ، أي : ذا سلام وسلامة. ونصب قولاً على المصدر (٨).

__________________

(١) قال الفرّاء : ومعَناهُ : آتينا موسى وهارون الفرقان ضياءً وذكراً. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٢٠٥ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٣٤.

(٢) المحتسب : ٢ / ٦٤.

(٣) من قوله تعالى من سورة الكهف : ١٨ / ١٠٩ : (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

(٤) هو عند العكبري وأَبي حيان منصوبٌ على التمييز. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٠٩ والبحر المحيط : ٦ / ١٦٩.

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٥.

(٦) سورة يس : ٣٦ / ٥٧ ـ ٥٨ : (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبّ رَّحِيـم).

(٧) يجوز أنْ يَكونَ حالاً من (ما) أَوْ مِن الهاءِ المحذوفةِ. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٠٤.

(٨) المحتسب : ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥.

٢٨٧

الحال من الضمير

قَرَأَ أَبُو المَهلَّب مُحارِب بن دِثار : (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (١) مَضمُومَةَ الشَّين مفتوحَةَ الهاءِ ممدودةً على فُعَلاء.

قالَ أَبو الفتح : هُو منْصُوبٌ على الحالِ مِن الضَّميرِ في المُستَغْفِرِينَ (٢) ، أَيْ : يَستَغْفِرُونَهُ شُهَدَاءَ لِلَّهِ أَنَّهُ لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ (٣).

وقرأ أَبُو السَّـمَّـال : (أَبشرٌ مِنَّا) ـ بالرفع ـ (واحداً نَتَّبِعُهُ) (٤) بالنَّصب ، قال أبو الفتح : أَمَّا انتصابُ (واحداً) فإنْ شِئْتَ جعلتَهُ حالاً من الضَّمِيرِ في (مِنَّا) (٥) ، أي أيُنَبَّأُ بشرٌ كائن مِنَّا؟ والنَّاصبُ لهذا الحال الظرفُ (٦) كقولك : زيدٌ في الدار جالساً.

وإنْ شِئْتَ جعلتَهُ حالاً من الضَّمير في قولِهِ : (نتَّبِعُهُ) ، أي : نتَّبِعُهُ واحداً منفرداً لا ناصرَ له ، ويؤكِّدُهُ قولُهُ : (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٧) وَنَظَائِرُهُ في

__________________

(١) من قوله تعالى مِن سورة آل عمران : ٣ / ١٨ : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآ ئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(٢) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ١٧ : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاَْسْحَارِ).

(٣) المحتسب : ١ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٤) من قوله تعالى من سورة القمر : ٥٤ / ٢٤ : (فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّـتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَل وَسُعُر).

(٥) أي الضمير المستقرّ في متعلّقه.

(٦) يطلق أبو الفتح : الظرفَ على الجارِّ والمجرورِ وهو بذلك يقلِّدُ سيبويه الذي يرى أنّ الجار والمجرور بمنزلة الظرف. انظر : الكتاب : ١ / ٢٠٣.

(٧) سورة القمر : ٥٤ / ٩.

٢٨٨

القرآن كَثِيرةٌ ، وَنَحوه قَوْلُهُ تَعَالَى : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الاَْرْذَلُونَ) (١) وَقَوْلُهُ : (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّك فِينَا وَلِيداً) (٢) ونحو ذلك (٣).

وَقَرأ أبو عِياض : (لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً) (٤) ، بلا واو.

قالَ أَبو الفتح : لَك فِي نَصْبِ (زِينة) وجهانِ :

١ ـ إنْ شَئْتَ كَانَ مُعَلَّقاً بِمَا قَبْلَهُ ، أي : خَلَقَهَا زِينَةً لِتَرْكَبُوهَا.

٢ ـ وإنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى قَولِك : تَرْكَبُوهَا زِينةً فزينة هنا حال من (هَا) في (لِتَرْكَبُوهَا) وَمَعْناهُ : كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ) (٥). (٦)

وَقَرأ الحَسَنُ : (أَيْـمَـانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةَ) (٧) بالنَّصْبِ.

قَالَ أَبو الفتحِ : يجوزُ أَنْ يَكُونَ (بالغةً) حالاً (٨) من الضمير في (لَكُمْ) لأَ نَّهُ خبرٌ عَن (أَيْمَان) فَفِيهِ ضميرٌ مِنْهُ.

وَإنْ شِئْتَ جَعلته حالاً من الضَّمير في (علينا) إذا جعلتَ (علينا) وصفاً

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١١١.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٤) من قوله تعالى من سورة النحل : ١٦ / ٨ : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

(٥) من قوله تعالى من سورة النحل : ١٦ / ٦ : (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ).

(٦) المحتسب : ٢ / ٨.

(٧) من قوله تعالى من سورة القلم : ٦٨ / ٣٩ : (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).

(٨) وَذَهَبَ الفرّاء إلى أنّ الحَسَنَ نَصَبَها علَى مذَهبِ المَصْدَر. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٣ / ١٧٦.

٢٨٩

لأَيمان لا متعلقاً بنفس الأيمان لأَنَّ فيه ضميراً كما يكونُ فيه ضميرٌ منه إذا كانَ خبراً عنه.

ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من نفس (أَيمان) وإنْ كانت نكرةً ، كما أَجاز أَبو عمرو في قوله سبحانَه : (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١) أَنْ يَكُونَ (حَقَّاً) حالاً (٢) مِنْ مَتاع (٣).

وَقَرَأَ الحسَن : (أشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَينَهُمْ) (٤).

قال أَبو الفتح : نصبَهُ على الحال ، أَيْ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فـ (مَعَهُ) خَبَرٌ عَن الَّذين آمنوا (٥) ، كَقولِك : محمّدٌ رسولُ اللهِ عليٌّ مَعَهُ ، ثمَ نَصَبَ

(أَشدَّاءَ) و (رَحمَاءَ) عَلَى الحالِ ، أيْ : هُمْ مَعَهُ عَلَى هذِه الحالِ ، كقولِك : زَيْدٌ مَعَ هند جالساً فَتَجعَلَهُ حالاً من الضميرِ في مَعَهُ لأَمرَين :

أَحدُهما : قربُهُ مِنْهُ وَبعدُه عن زَيد.

والآخر : لِيكُونَ العامل في الحال ـ أعني الضميرَ ـ هو العامل في صاحبِ الحالِ أَعنِي الظَّرفَ.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤١.

(٢) وعند سائر النحاة (حقّاً) نصب على المصدر. انظر : معاني القرآن للأخفش : ٧٧ / أوإملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٩٩ والبيان : ١ / ١٦٢ والبحر المحيط : ٢ / ٢٣٤ و ٢٤٦.

(٣) المحتسب : ٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٤) من قوله تعالى من سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩ : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، ولم يختص الحسن بهذه القراءة ، بل هي قراءة الجمهور.

(٥) أراد أَبو الفَتح تخصيص الأشداء على الكفّار ، والرحماء بينهم الذين هم مع النبي (صلى الله عليه وآله) بالمؤمنين ، وهذا هو الرأي الحقّ ، إذ ليس كلّ من كان مع النبي يستحقّ تلك الأوصاف.

٢٩٠

وَلَوْ جَعَلْتَهُ حَالاً مِنَ الّذينَ كانَ العامل في الحال غير العامِل فِي صاحَبِها وإنْ كَانَ ذَلِك جائزاً ، كَقولِهِ تَعَالَى : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) (١) ، إلاَّ أَنَّ الأَوّلَأوجَهُ.

وإن شِئْتَ نَصَبْتَ (أَشِدَّاءَ) و (رُحَمَاءَ) عَلَى المدحِ ، وَأَصِفُ وَأَزَكّي أَشِدَّاء وَرُحَمَاءَ (٢).

وقوع المصدر حالاً

قَرَأَ ابنُ السَّمَيْفَع : (الرّيَاحَ بُشْرَى) (٣) مِثل حُبلَى.

قَالَ أَبو الفتح : (بُشْرَى) ، مصدرْ وَقَعَ مَوقعَ الحالِ ، أيْ : مُبَشّرَةً ، فَهْوَ كَقَوْلِهِمْ : جاءَ زيْد ركضاً ، أَيْ : رَاكِضاً وَهَلُمَّ جَرّاً ، أَيْ : جَاراً أَو مُنجَرَّاً ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَك سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤) أَيْ : سَاعِيات. وَمثِلهُ قَولُهُ :

فَأَقْبَلْتُ زَحْفاً عَلَى الرُّكْبَتَينِ

فَثَوْباً نَسِيتُ وَثَوباً أَجُرُّ (٥)

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٩١ : (قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ).

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٧٦.

(٣) من قوله تعالى من سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٨ : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَـتِهِ).

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.

(٥) البِيت لاِمرِئ القيس : ويروى الصدر هكذا :

فَلَمَّا دَنَـوتُ تَسدَّيْتـهَا

 ......

ويروى (فثوب علي) مكان (فثوباً نسيت) و (لبست) مكان (نسِيت).

٢٩١

أي : أَقبلتُ زاحِفاً ، ومَا أَكْثَرَ نظائِرَهُ (١)!

تَعَدُّدُ الحال

قَرَأَ الحسنُ واليزيديُّ والثَّقفيُّ وأَبو حيوةَ : (خافضةً رافعةً) (٢) بالنصب.

قال أَبو الفتح : هذا منصوب على الحال (٣) ، وقوله : (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كاذِبة) (٤) حينئذ حال أخْرى قَبْلَهَا ، أَي : إذا وَقَعتِ الواقعةُ ، صَادِقَةُ الواقعةِ خافضةً ، رافعةً فهذهِ ثلاثةُ أحوال ، أُولاهنَّ الجملةُ التي هي قولُهُ : (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كاذِبَة) وَمِثْلُهُ :

مررتُ بزيد ، جالساً ، متكئاً ، ضَاحِكاً ، وإنْ شِئتَ أنْ تَأتِيَ بعشرِ أحوال إلى أضْعَافِ ذَلك لَجَازَ (٥) وَحَسُنَ ، كَمَا لَك أنْ تَأتِي للمبتدأ مِنَ الأخبَارِ بِمَا شِئتَ كَقْولِك : زيدٌ عَالِمٌ جميلٌ ، جوادٌ ، فارسٌ ، بصريٌّ ، بَزَّازٌ ، وَنَحْوَ ذَلِك.

أَلا ترى أَنَّ الحالَ زِيادَةْ في الخبرِ وَضَرْبٌ مِنْهُ؟ وَعَلى ذَلِك امتنَعَ أَبو الحسن أَن يَقول : لولا هندٌ جَالِسةً لَقمتُ وَنَحو ذَلِك (٦) ، قَالَ : لأَنَّ هَذَا

__________________

اُنظر : الديوان : ١٥٩ وكتاب سيبويه : ١ / ٤٤ وأَمالي ابن الشجري : ١ / ٩٣ والمحتسب : ٢ / ١٢٤.

(١) المحتسب : ٢ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة الواقعة : ٥٦ / ٣ : (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ).

(٣) هما حال من الضمير في كاذبة أو في الواقعة. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٥٣.

(٤) سورة الواقعة : ٥٦ / ٢.

(٥) اقتران جواب (إنْ) باللاّم غير عربي لأَنَّ لام الجواب تقترن بجواب الشرط وجواب لو واجب لولا حسب. انظر : معاني الحروف للرماني : ٥٥ وكتاب اللاّمات للزجّاجي : ١٣٦ ـ ١٤٠ وشرح المفصل : ٩ / ٢٢ ـ ٢٤ والجنى الداني : ١٦٩ ـ ١٧٠ والمغني : ١ / ٢٣٤.

(٦) انظر : الجنى الداني : ٥٤٣.

٢٩٢

موضعَ قَدْ امتَنَعَتِ العربُ أَنْ تَسْتَعْمِلَ فيهِ الخَبَرَ ، والحالُ ضَربٌ مِنَ الخَبر فلا يجوز استعمالُها فِيهِ لِذَلِك (١).

رَوى عُبَيد عَنْ شِبْل عَنْ ابنِ كَثير : (عاملةً نَاصِبَةً تَصْلَى) (٢) قَالَ أَبو الفتح : يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ النصب على الشَّتَم ، أَي : أَذْكرهَا عاملةً (٣) ناصبةً في الدُّنيا على حَالِها هُنَاك ، فَهَذَا كَقَولِهِ تَعَالَى : (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَات) (٤) وَذَلِك أَنَّهَمُ لَمْ يخلصوها لوجهه ، بل أَشركوا به معبودات غَيرُه ، وَلَهُ نظائِر في القرآن وَمأْثُورِ الأَخبار (٥).

تقديم الحال على صاحبها

قَرَأَ ابن عباس بخلاف والأَعرج وقتادة وسُفيان بن حُسين : (خالصةً) (٦) وقَرَأَ :

(خالصاً) سَعيد بن جُبير.

قال أَبو الفتح : الكلام في نصب (خالصاً) و (خالصةً) ، وفيه جوابان :

أَحدُهما : أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في الظرف (٧) الجاري صلة على (مَا) كقولِنَا : الذي في الدار قائماً زيدٌ.

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٣٠٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة الغاشية : ٨٨ / ٣ ـ ٤ : (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً).

(٣) هي على هذا التقدير حال لا مفعول.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٦٧.

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٥٦.

(٦) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ١٣٩ : (وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا).

(٧) يريد بالظرف الجار والمجرور من قوله تعالى : (فِي بُطَونِ هذِهِ الأَنْعَامِ).

٢٩٣

والآخر : أَنْ يكونَ حالاً من (مَا) على مذهب أَبي الحسن في إِجازَتِهِ تقديم الحالِ على العامل فيها (١) إذا كانَ معنى بعد أَنْ يتقدّم صاحبُ الحالِ عليها كقولِنا : زيدٌ قائماً في الدَارِ. واحتجَّ في ذلك بقولِه تَعالى : (وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (٢) ، فيجوزُ على هَذَا في العربيةِ لا في القراءَة لأَ نَّهَا سُنَّةٌ لا تُـخَالَفُ ، (والسَّماوات مَطويات بيمينِهِ) (٣).

فَإنْ قُلتَ : فَهَلْ يجوزُ أنْ يَكونَ (خالصاً) و (خالصةً) حالاً مِنْ الضميرِ في لنا (٤)؟ قِيلَ : هَذا غير جائز وَذَلِك أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلى العاملِ فيهِ وَهْوَ مَعنَى وَعَلى صاحبِ الحالِ ، وَهَذا ليسَ على ما بيَّنا. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكونَ (خالصةً) حالاً من الأنعامِ لأَنَّ المَعْنَى لَيْسَ عَلَيهِ ، ولعزَّةِ الحال من المضاف إلَيْهِ (٥).

مجيء الحال شبه جملة وجملة

قَرَأَ عثمانُ وزيدُ بنُ ثابت وابنُ عباس وسعيدُ بنُ العاص وابنُ يَعمَر وسعيدُ بنُ جُبَير و [الإمامان] عليُّ بنُ الحُسَين ومحمّد بن علي (عليهما السلام) ، وشُبَيل بن عَزْرَة : (خَفَّتِ المَوَالي) (٦) بِفَتْح الخاءِ والتاء مكسورة.

__________________

(١) انظر : منهج الأخفش الأوسط : ٤٤٠.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٧.

(٣) من قوله تعالى من سورة الزمر : ٣٩ / ٦٧ : (وَالاَْرْضُ جَمِيْعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(٤) الآية (لِذُكُورِنَا).

(٥) المحتسب : ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٦) من قوله تعالى من سورة مريم : ١٩ / ٥ ـ ٦ : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنك وَلِيـًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً).

٢٩٤

قال أَبو الفتح : أيْ : قَلَّ بنو عَمّي وَأَهْلي ، وَمَعْنَى قولهِ ـ واللهُ أَعلم ـ (مِنْ وَرائي) ، أَيْ : مَنْ أُخلِّفه بَعْدِي.

قَوْلُهُ (مِنْ وَرَائِي) حالٌ متوقعة محكية ، أَيْ : خَفُّوا مُتَوَقَّعَا مُتَصَوَّراً كَوْنُهُمْ بَعْدي. ومثله مسألةُ الكتابِ : مررتُ برجل مَعَه صَقْرٌ صائداً (١) ، أيْ : مُتَصَوَّراً صَيْدُهُ بِه غداً ، وَمْثِلُهُ قولُ اللهِ تعالى : (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) (٢) أَيْ : مُتَصَوَّراً خلودُهم فيها مدّة دوام السَّماواتِ والأرضِ. فَإذَا أشفقت من ذلك فارزقني وَلَداً يَخلُفني (٣).

وَقَرأَ الزُّهْرِي والحَسن والأعرج : (تُنْبِتُ) (٤) ، بِرَفْعِ التاءِ ونصبِ الباءِ.

قَالَ أَبو الفتح : الباء هُنا في مَعْنَى الحالِ ، أيْ : تُنْبِتُ وَفَيهَا دُهْنُهَا ، فَهو كقولِك : خَرَجَ بثيابِه ، أَيْ : وثيابُهُ عليهِ ، وسار الأمير في غلمانِهِ أيْ وغلمانُهُ مَعَهُ ، وكأَ نَّهُ قَالَ : خَرَجَ لابساً ثيابَهُ وسَارَ مُسْتَصْحِباً غلمانَهُ وَكَذَلِك قَوْلُ الهُذَليّ :

يَعْثُرْنَ فِي حَدّ الظُّباتِ كَأَ نَّما

كُسِيَتْ برودَ بِنَي تَزيدَ الأذْرُعُ (٥)

أيْ : يَعْثُرْنَ كَابِيَات فِي حَدّ الظُّبَاتِ ، أوْ مَجْرُرات فِي حَدِّ الظُّبَاتِ.

__________________

(١) عبارة سيبويه في الكتاب : ١ / ٢٤١ (مررت برجل معه صقر صائداً به).

(٢) سورة هود : ١١ / ١٠٧ و ١٠٨.

(٣) المحتسب : ٢ / ٨٧.

(٤) من قوله تعالى من سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٠ : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغ لِّلآكِلِينَ).

(٥) البيتُ لأبي ذؤيب الهُذَلي. ويروى (علق النجيع) مكان (حد الظبات) و (أبي يزيد) مكان (بَني تزيد). انظر : ديوان الهذليين : ١ / ١٠ والخصائص : ٢ / ٣١٤ والمنصف : ١ / ٢٧٩ والمحتسب : ٢ / ٨٨.

٢٩٥

وَمِثْلُهُ ما أَنشَدَهُ الأصمَعيُّ مِنْ قَوْله :

وَمُسْتَّنة كَاسْتِنَانِ الخَرُو

فِ قَد قَطَعَ الحَبْلَ بالْمِرْوَدِ (١)

أيْ : قَطَعَ الحَبْلَ وَمِرْوَدُ فِيهِ ، أيْ : مُتَّصِلاً بِهِ مَرْوَدُهُ ، فكذلِك قَولُهُ : (تُنبِتُ بِالدُّهْنِ) أيْ : تُنْبِتُ وَدُهْنُهَا فِيهَا ، وَكَذَلِك مَنْ قَرَأَ (٢) : (تنْبُتُ) أيْ : تَنْبُتُ عَلَى هَذِهِ الحالِ (٣).

وَقَرَأَ زيدُ بنُ ثابت وأبو الدرداء وأَبو جعفر ومجاهد ـ بخلاف ـ ونصر بن علقمة ومكحول وزيد بن علي وأَبو رجاء والحسن ـ واخْتُلِفَ عَنْهُمَا ـ وحفص بن حميد وأبو عبد الله محمّد بن علي : (نُتَّخَذَ) (٤) بِضَمّ النونِ.

قَالَ أَبو الفَتْحِ : أَمَّا إذَا ضُمَّتِ النُّونُ ، فَإنَّ قَوْلَهُ : (مِنْ أَولِيَاءَ) فِي مَوْضِعِ الحالِ ، أيْ : مَا كَانَ يَنْبَغي لَنَا أنْ نتّخذ مِنْ دُونِك أوْلِياءً (٥).

وَقَرأ الجَحْدَرِي وابنُ السُّمَيّفَع وأبو حَيوَة : (أثَر رحمةِ اللهِ) (٦) (كَيْفَ تُحْيي).

__________________

(١) البيت لرجل من بني الحارث. والخروف : ولد الفرس إذا بلغ ستّة أشهر أو سبعة. والمرود : الوتد. انظر : المحتسب : ٢ / ٨٨ والمخصّص : ٦ / ١٣٧ و ٩ / ١٤٢ ولسان العرب : ١٠ / ٤١٣.

(٢) هي قراءة الجمهور. البحر المحيط : ٦ / ٤٠١.

(٣) المحتسب : ٢ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٤) مِن قوله تعالى من سورة الفرقان : ٢٥ / ١٨ : (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ).

(٥) المحتسب : ٢ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٦) من قوله تعالى من سورة الرُّوم : ٣٠ / ٥٠ : (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا).

٢٩٦

قَالَ أَبو الفتح : قوله : (كَيْفَ تُحيي) جُمْلَةٌ مَنْصُوبةُ المُوضِعِ عَلى الحالِ ، حَملاً على المَعْنَى لاَ عَلَى اللفظ ، وَذَلِك أنَّ اللفْظَ استفَهامٌ والحالُ ضَرْبٌ مِنَ الخَبَرِ ، والاستفهام والخبر معنيانِ متدافعانِ ، وتلخيص كونَهمَا حالاً أَنَّهُ كَأَ نّهُ قَالَ : فانظر إلى أَثَرِ رحمة اللهِ محييةً الأرضَ بعدَ مَوْتَهَا ، كَمَا قَالَ :

مَا زِلْتُ أَسْعَى مَعَهُمْ وَأَخْتَبِطْ

حَتَّى إذَا جَاءَ الظَّلامُ المُخْتلَط

جاؤوا بضيح هَل رأيْتَ الذِّئبَ قَطْ؟ (١)

فَقَوْلُهُ : هَلْ رَأَيْتَ الذئبَ قَط؟ جُمْلَةٌ استفهاميِّةُ ، إلاَّ أنَّها فِي مَوْضِعِ وصف (الضيح) حَمْلاً عَلى مَعْنَاهَا دُونَ لَفْظِهَا ، لأَنَّ الصِّفَةَ ضربٌ مِنَ الخبر فَكَأَ نَّهُ قَالَ : جاءُوا بضيح يُشبه لونُهُ لونَ الذئبِ. والضيح : هو اللَّبنَ الَمخْلُوط بالماءِ ، فَهْوَ يَضْرِبُ إلى الخُضرَةِ والطُلْسَةِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الآخر :

إلَى اللهِ أَشكُو بالمدينةِ حَاجَةً

وبالشَّامِ أُخرَى كَيْفَ تَلْتَقِيانَ (٢)

فَقَوْلُهُ : كَيْفَ تَلْتَقِيانِ جملةٌ فِي موضعِ نَصب بَدَلاً مِنْ (حاجةً) وَحَاجَةً فَكَأ نَّهُ قَالَ إلى اللهِ أشْكُو هَاتَينِ الحالتين تعذر التقائِهِمَا هَذا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ تقتطع قوله : كيف تلتقيان مستأنفاً لأنَّ هذا ضربٌ من هُجنةِ الأعرابِ لأَ نّهُ إنَّمَا يَشكُو تَعذُّرَ التقائِهمَا وَلاَ يُريدُ استقبالَ الاستفهامِ عَنْهُمَا (٣).

__________________

(١) من رجز للعجاج. ويروى (بينهم) مكان (معهم) و (التبط) مكان (اختبط) و (كاد) مكان (جاء) و (يختلط) مكان (المختلط) ، و (مذق) مكان (ضيح). ملحقات الديوان : ٨١ والمحتسب : ٢ / ١٦٥ وشرح المفصل : ٣ / ٥٣ والخزانة : ٢ / ١٠٩ وشرح التصريح : ٢ / ١١٢ والدرر اللوامع : ٢ / ١٤٨.

(٢) البيت ينسب للفرزدق وليسَ فِي ديوانه. انظر : المحتسب : ٢ / ١٦٥ والدرر اللوامع : ٢ / ١٦٦.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

٢٩٧

حذف الضمير العائد

قَرَأَ حُمَيدُ : (يَغْشَى) (١) بفتح الياءِ والشّينِ وَنَصبِ (الليلِ) وَرَفعِ (النهار).

قَالَ أَبو الفتح : اتصال قولهِ تَعَالى : (يَغْشَى الليلَ النهارُ) (٢) بقولهِ : (ثُمَّ استوى عَلَى العَرشِ) (٣) اتصال الحالِ بِمَا قَبْلَهَا ويكونُ هُنَاك عائدٌ مِنْهَا إلى صَاحِبِهَا وَهوَ اللهُ تَعالَى ، أيْ : يَغشَى الليلَ النهارُ بِأَمرِهِ ، أوْ بِإذنِهِ ، وَحُذِفَ العائِدُ كَما يُحذَفُ مِن خَبَر المبتدأ في نَحْوِ قَوْلِهِمْ : السَّمَنُ مَنَوانِ بِدِرْهَم ، أيْ : مَنَوانِ مِنْهُ بِدِرْهَم.

وَدَعَانَا إلى إضمار هَذَا العائِدِ أنْ تَتَّفِقَ القراءَتانِ عَلى مَعْنَى وَاحد أَلا تَرَى إلى قراءةِ الجماعِة (يُغشِي الليلَ النهارَ) وأَنَّ هذِهِ الجملة في موضعِ الحالِ ، أي : استوى عَلَى العرشِ مَغْشِياً الليلَ النهارَ ، أيْ : استَوَى عليهِ فِي هذهِ الحالِ.

فَقَوْلُهُ إذاً (يَطْلُبُهُ حَثِيِثاً) بدل مِنْ قَولِهِ (يَغْشَى الليلَ النهارُ) للتوكيد ، وهو على قراءةِ الجماعة (يُغشِي) أَوْ (يُغشِّي) حالٌ مِنَ الليلِ (٤) أيْ : يُغَشِّي الليلَ النهارَ طالباً لَهُ حَثِيثاً ، وَحَثِيثَاً بَدَلٌ من طالب أَو صفة لَهُ (٥) ، لأن طالباً لَو كَانَ منطوقاً بِهِ ، حالَ هناك والحالُ عِنْدَنَا فوصفٌ (٦) مِن حيثُ كَانَتْ في المعنى

__________________

(١ ـ ٣) من قوله تعالى من سورة الأَعراف : ٧ / ٥٤ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً).

(٤) ويجوز أن يكون حالاً من النهارِ فيكونُ التقديرُ : يطلبُ الليلُ النهارَ محثوثاً. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢٧٦.

(٥) وَرَجَّحَ العكْبَرِي أَنْ يكونَ صفةً. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢٧٦.

(٦) يجيز الأخفش زيادةَ الفاءِ في خبر المبتدأِ. انظر : المحتسب : ١ / ٢٣٥ وشرح الكافية : ١ / ١٠٢.

٢٩٨

خبرا والأخبار توصف لَكنَّ الصّفَاتُ عِنَدنَا لاَ توصف.

وإن شِئتَ يَكُونَ (حثيثاً) حالاً من الضميرِ في يَطْلِبُهُ وفيهِ مِنْ بَعْدِ هذا ما أذكُرُهُ. وذلك أَنَّ الفاعلَ في المعنى من أَحَدِ المَفعُولَينِ في قراءِةِ الجماعة هو الليلُ ، لاَِ نَّهُ المفعول الأوّل ، كَقَوْلِك : أَعطيتُ زَيْداً عمراً ، فزيدٌ هو الآخذُ وعمرو هو المأخوذ ، وأَغشيتُ جعفراً خالداً ، فالغاشي جعفر والمَغشيُّ هو خَالِدٌ ، والفاعِل في قراءة حُميد هو النهار لاِ نَّهُ مَرفُوعٌ (يَغشَى الليلَ النهارُ) فالفاعِلانِ والمَفْعُولانِ جميعاً مختلفانِ عَلى مَا تَرى ووجه صحةِ القراءتينِ جميعاً والتقاءُ معنييهما أنَّ الليلَ والنهارَ يتعاقبانِ وَكُلَّ واحد مِنْهُما وإنْ أزالَ صاحِبَه فَإنَّ صاحِبَهُ أيضاً مُزيلْ لَهُ ، فكلُّ واحد مِنهُمَا عَلَى هذا فاعلٌ ، وإنْ كانَ مَفعولاً ومفعولٌ وإنْ كَان فَاعلاً. على أنَّ الظاهر في الاستحثاثِ هنا إنَّما هو النَّهارُ ، لأَ نّهُ بسفورهِ وشروقِهِ قَد أَظهَرَ أَثراً في الاستحثاثِ من الليلِ.

وَبَعْدُ ، فَلَيْسَ النهارُ إلاّ ضوءَ الشمسِ والشمسُ كائِنَةٌ محدثه ولا ضوءَ قَبْلَ أنْ يَخلِقَهَا اللهُ جَلَّ وَعَزَّ فالضوءُ إذاً هو الهاجِمُ عَلَى الظُّلمَةِ ، وَيَطلبِهُ حَثيثاً عَلَى هذا الحالِ مِنَ النَّهارِ لأَ نَّهُ هُوَ الحالُ مِنهُمَا.

ويجوزُ في قراءةِ الجماعةِ أَنْ يَكونَ يطلبهُ حالاً مِنَ النهارِ ، وإنْ كَانَ مفْعُولاً ، كَقَوْلِك : ضَرَبتْ هِنْدٌ زيداً مؤلمةً لَهُ ، فقد يكونُ مؤلمةً حالاً لزيد ، كَمَا قَدْ يجوزُ أنَ يَكُونَ حالاً مِنْ هِنْد ، وَذَلك أنَّ لِكُلّ واحد مِنهُمَا في الحالِ ضميراً ، وَمِثْلُهُ قولُ اللهِ تَعالَى : (فَأَتَتْ بهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) (١) فَقَد يجوزُ أَنْ يَكُونَ (تَحْمِلُهُ) حالاً مِنْهَا وَيَجَوزُ أَنْ يَكُونَ حالاً مِنْهُ ، وَقَدْ يَجُوزُ أيضاً أَنْ يَكُونَ

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢٧.

٢٩٩

مِنْهُمَا جَميِعاً عَلَى قولهِ :

فَلَئِنْ لَقِيتُك خَالِيينِ لَتَعْلَما

أَيِّ وَأيُّك فارِسَا الأَحزابِ؟ (١)

وَيَجُوزُ أيِّ وأَ يُّك فارسُ الأَحزابِ ، أيْ. أَيُّنَا فارسُ الأَحزابِ ، فكذلِك يَكُونُ قَوْلُهُ يَطلُبُهُ حَثِيثاً حالاً مِنهُما جَميعاً عَلَى مَا مَضى لأَنَّ لَهُمَا جَميعاً فيهِ ضميراً. وَلَوْ كَانَتْ الآية (فأتتْ بهِ قَوْمَهَا تَحمِلهُ إليهِم) ، لَجَاز أَنْ يَكُونَ ذَلِك حالاً مِنْهَا ، وَمِنْهُ وَمِنْهُمْ جَميعاً ، لِحصولِ ضميرِ كُلِّ واحد مِنهُم في الجملةِ التي هي حال فاعرفْ ذلك.

وَلَعَمرِي إنَّك إذا قلتَ : غشيتُ زَيداً عمراً فَإنَّ العُرْفَ أَنْ يَكُونَ زيدٌ هُوَ الغاشي وعمروٌ هو المَغْشِي ، إلاَّ أنَّهُ قَد يجوزُ فيه قَلْبُ ذَلك ، لَكِنْ معَ قِيامِ الدلالةِ عليهِ ، أَلاَ تَرَى إلى قولهِ :

فَدَعْ ذَا وَلَكِنْ مَن يَنَالُك خَيْرُهُ

وَمَنْ كَانَ يُعْطِي حَقَّهُنَّ القَصَائِدا

أرادَ يُعطِي القصائِدَ حَقَّهُنَّ ، ثُمَّ قَدَّمَ المفعولَ الثانِي فَجَعَلَهُ قَبْلَ الأوّلِ ، مِنْ حيثُ كَانَتْ القصائدُ هُنَا هِيَ الآخِذَةُ فِي المَعْنَى وَنَحْوَهُ : كَسَوْتُ ثوباً زيداً ساغَ تَقْدِيمُهُ لارْتِفَاعِ الشك فِيهِ ، وَلَيْسَ كَذلِك يُغشي الليلَ النهارَ ، مِنْ حيثُ كَانَا متساويي الحالَينِ في الغشيانِ وعلى كُلِّ حال فَكُلُّ وَاحِد مِنهمَا غاشِ لصاحِبِهِ (٢).

__________________

(١) ويُروَى (فارس) مكان (فارسَا).

انظر : همع الهوامع : ٢ / ٥١ وشرح شواهد العيني : ٢ / ٢٦١ وشرح التصريح : ٢ / ١٣٨ والدرر اللوامع : ٢ / ٦٣.

(٢) المحتسب : ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٥.

٣٠٠