أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

وَزَائد حرفاً لاَ حاجة بهِ إلى اعتقادِ زِيَادَتِهِ (١) مَعَ مَا ذَكَرنَاهُ مِن صِحَّةِ القَولِ عليهِ ، وَكَذَلِك قَولُ عَنتَرَةَ :

شرِبَتْ بِمَاءِ الدَّحرُضينِ (٢) ......

 ......

لَيسَ عِندَنَا عَلى زِيَادَةِ الباءِ ، وإنَّمَا هُوَ عَلى شَرِبَت فِي هَذا الموضِعِ ماءً ، فَمحذُوفُ المفعولِ ، وما أكثَر وأَعذَبَ وَأَعرَبَ حذف المفعول! وأَدَلَّهُ على قُوَّةِ الناطِق بِهِ (٣).

وقرأَ ابن عباس وسعيد بن جُبَير ومجاهد : (آتَينَا طائِعِينَ) (٤).

قالَ أَبو الفتح : يَنبَغِي أَن يكونَ (آتَينَا) هُنا فَاعَلنَا ، كَقولِك : سَارَعْنَا وَسَابَقنَا ولا يكون أَفعَلنَا لأنَّ ذَلِك متعدّ إلى مَفعُولينِ وَفَاعَلْنَا متعدّ إلى مفعول

__________________

(١) وقيل إنَّ الباء دخلتْ لتدلَّ على لزوم الإنبات ومداومته كقوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ) سورة العلق : ٩٦ / ١ ، وقيل : إِنَّ الباءَ في (الدُّهنِ) إنَّمَا دَخَلَتْ على مفعول ثان هو في موضعِ الحالِ والأوّلُ محذوفٌ تقديرُهُ تنبتْ جناهَا بالدُّهنِ أي : وفيه الدُّهْنُ. مشكل إعراب القرآن : ٢ / ٤٩٩.

(٢) البيت بتمامه :

شَربَتْ بِمَاءِ الدَّحرُضَينِ فَأصبَحَت

زوراءَ تَنَفُرُ عَن حِياض الدَّيلَم

والدُّحرُضَان تثنية دُحرُضَ وهو ماءٌ بقربِهِ ماءٌ يِقِالَ لَهُ وُسَيع وقَد ثَنَاهُما الشاعر على سبيل التغليب كما تقول : القَمرانِ للشمس والقَمِر. وقال الجوهري : الدُّحرُضَانِ اسم موضع.

والزوراء : المائلة. والديلَم : الأعداء. وقيل الظلمة وقيل ماءٌ من مياه بني سعد.

انظر : المحتسب : ٢ / ٨٩ وشرح المفصل : ٢ / ١١٥ والصحاح ـ دحرض ـ ولسان العرب : ـ دحرض ـ ٩ / ٨.

(٣) المحتسب : ٢ / ٨٩.

(٤) من قوله تعالى من سورة فصلت : ٤١ / ١١ : (ثُمَّ اسْتَوَ ى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاَْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).

٢٦١

واحد.

وحذفُ الواحِدِ أَسهلُ من حذفِ الاثنين ، لأ نَّهُ كلَّمَا قَلَّ الحذفُ كَانَ أَمثَلَ مِن كَثَرتِهِ. نعم وَلِـمَـا في سَارَعنَا من معنى أَسرَعنَا.

ومثل (آتينا) في أَنَّهُ فَاعَلْنَا لا أَفعَلْنَا القراءةُ الأخرى : (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا) (١) أي : سَاَرعنَا بِهَا. وقد تقدّم ذِكره (٢).

وقرأ تمام بن عباس بن عبد المطلب : (إنَّما يُبَايِعُونَ لِلَّهِ) (٣).

قال أَبو الفتح : هو على حذفِ المفعولِ ، لدلالة ما قبله عليه ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : إنَّ الَّذِينَ يُبَايعونَك ، إنَّما يُبَايعونَك لِلَّهِ ، فَحَذَفَ المفعولَ الثاني لقربه مِنَ الأوّل وأَ نّه أَيضاً بلفظهِ وعلى وضعهِ وهَذَا المعنى هو راجعٌ إلى مَعنَى القراءةِ العامّةِ : (إنَّمَا يُبَايعُونَ اللهَ) أي : إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِك لِلَّهِ ، إلاَّ أَنَّها أَفخَم معنىً مِن قَولهِ (للَّهِ) أي : إنَّمَا المعاملةُ فِي ذَلِك منه فَهوَ أَعلى لها وأَرجح بِهَا (٤).

وَقَرأَ الضَّحَّاك وَيَعقُوب : (لاَ تَقَدِّموا بَينَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٥) قالَ أَبو الفتح : أي : لاَ تَفعَلوا مَا تُؤْثِرُونَهُ وتتركوا ما أَمركم اللهُ وَرَسُولُهُ بهِ.

وَهَذا هو معنى القراءةِ العامّة : (لاَ تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أيّ : لا تُقَدِّموا أَمراً على ما أَمَرَكُم اللهُ بهِ ، فالمَفعولُ هُنَا محذوفٌ كَمَا تَرَى (٦).

__________________

(١) سورة الأَنبياء : ٢١ / ٤٧.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٤٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة الفتح : ٤٨ / ١٠ : (إِنَّ الَّذِينَ يُبـَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبـَايِعُونَ اللهَ).

(٤) المحتسب : ٢ / ٢٧٥.

(٥) من قوله تعالى من سورة الحجرات : ٤٩ / ١ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(٦) المحتسب : ٢ / ٢٧٨.

٢٦٢

وَقَرأ ابنُ عَبَّاس : (لِتَعرفوا) (١).

قَال أبو الفتح : المفعول هنا محذوف ، أي : لِتَعرفوا ما أَنتُم محتاجون إلى معرفتِهِ مِن هَذا الوجهِ ، وهو كَقَولِهِ :

 ......

وَمَا عُلّمَ الإنَسانُ إلاَّ لِيَعلَمَا (٢)

أي : لِيَعلَمَ مَا عُلّمَهُ أَو لِيَعلَمَ ما يدعو إلى علمه ما عُلِّمَهُ وَحَذفُ المفعولِ كَثيرٌ جِداً وَمَا أَغرَبَهُ وأَعذَبَهُ! لِمَن يَعرِفُ مَذهَبَهم (٣).

وَقَرَأَ ابنُ مسعود وعلقمة ويحيى ومجاهد وطلحة : (أَيْنَمَا يُوَجِّه) (٤).

قال أَبو الفتح : أَمَّا (يُوجِّه) بكسرِ الجيم فَعَلَى حذفِ المفعولِ ، أي : أَينَما يُوجِّه وَجهَهُ ، فَحُذِفَ لِلعِلم بِه (٥).

وَقَرَأَ قَتَادَة : (هَل يُسمِعُوَنَكُم) (٦).

قالَ أَبو الفتح : المَفعُول هُنَا محذوف ، أي : هَل يُسمِعُونَكُم إذ تَدعُونَ جَواباً عَن دُعَائِكُم؟ يُقَالُ : دَعاني فأَسَمَعتُهُ ، أَيْ أَسْمَعْتُهُ جَوابَ دُعَائِهِ (٧).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

(٢) هو للمتلمس وصدره :

لِذي الحِلم قَبلَ اليومِ مَا تُقْرَعُ العَصَا

 ......

اُنظر : لِسانَ العَرب : ١٠ / ١٣٥.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٨٠.

(٤) من قوله تعالى من سورة النحل : ١٦ / ٧٦ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْر).

(٥) المحتسب : ٢ / ١١.

(٦) من قوله تعالى من سورة الشعراء : ٢٦ / ٧٢ : (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ).

(٧) المحتسب : ٢ / ١٢٩.

٢٦٣

وَقَرَأَ الأَعرج وشيبة ومجاهد وعاصم في رواية أَبان والحَجَّاج بن أُرطاة والحسَنُ وأَبو رَجَاء وسلاَم ويعقوبُ وَحَسنُ بن حيّ وَعَطية بن سعد وعبد الله بن يزيد : (لَخَسَفَ بِنَا) (١).

قالَ أَبو الفتح : الفاعِل اسمُ اللهِ والمفعولُ محذوفٌ ، أي : لَخَسَفَ اللهُ بِنَا الأَرضَ ، وَقَد كَرّرنَا (٢) ذِكرَ حُسنِ حَذفَ المفعُولِ بهِ (٣).

وَقَرَأَ عَليُّ بنُ أَبي طالب (عليه السلام) : (إلَى الإبِلِ كَيفَ خَلَقتُ وإلَى السَّماءِ كَيفَ رَفَعتُ وَإلَى الجِبَالِ كَيفَ نَصَبتُ وَإلَى الأرضِ كَيفَ سَطَحْتُ) (٤) بِفَتحِ أَوَائِلِ هذهِ الحُروفِ كُلِّهَا ، وَضمِّ التَّاءِ.

قَالَ أَبو الفتح : الَمفْعُولُ هُنَا محذوفٌ لِدَلالةِ المَعنَى عليه ، أي : كيفَ خلقتُها وَرَفَعْتُهَا ، ونَصَبتُهَا وَسَطَحتُهَا؟ وَقَد تَقَدَّمَ القَولُ عَلَى حُسنِ حَذفِ المفعول بِهِ (٥) ، وَأَن ذَلِك أَقوى دَليل عَلَى قوّةِ عَربيةِ النَّاطِقِ بِهِ (٦).

وَقَرأَ ابنُ عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَعَطاء : (يُخَوّفُكُم أَولِيَاءَهُ) (٧).

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨٢. قرأ حفص عن عاصم ويعقوب بفتح الخاء والسين مبنيّاً للفاعل ووافقهما الحسن ، وباقي الأربعةَ عشر بضمّ الخاء وكسر السين مبنيّاً للمفعول. إتحاف فضلاء البشر طبعة دار الندوة ـ بيروت المصورة على نشرة علي محمد الضباع : ٣٤٤.

(٢) تنظر : ص : ٢٥٤ ـ ٢٦٤.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٤) من قوله تعالى من سورة الغاشية : ٨٨ / ١٧ ـ ٢٠ : (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الاِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الاْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ).

(٥) ينظر ما تَقَدَّمَ في : ص : ٢٥٤ ـ ٢٦٤.

(٦) المحتسب : ٢ / ٣٥٦.

(٧) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ١٧٥ : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ).

٢٦٤

قَالَ أَبو الفتح : في هذهِ القراءة دلالةٌ على إرادَةَ المفعولِ في يخوّفُ وحذفِهِ في قراءةِ أَكثرِ الناسِ : (يُخَوِّفُ أَولياءَهُ). وَلَيسَ هذا كَقَولِنَا فلانٌ يُخَوّفُ غُلاَمَهُ ويُخَوّفُ جاريتَهُ من ضربهِ إيّاهُما وإساءَتِهِ إليْهِمَا ، فالمحذُوفُ هُنَا هُوَ المَفعُولُ الثاني وهو في الآية المَفْعُولُ الأوّلُ (١) على ما قدَّمْنا (٢).

حذف المفعولين

قَرَأَ الحَسَنُ : (يُورِثُ كَلاَلَةً) (٣). وَقَرَأَ عِيسى بن عُمَرَ الثقفي : (يُوَرِّثُ كَلاَلَةً).

قالَ أَبو الفتح : يُورِثُ وَيُورِّثُ كلاهما منقولٌ مِن وَرِثَ ، فَهَذَا (٤) مِن أَوْرَثَ وَهَذَا (٥) مِن وَرِثَ.

فَورَثَ وأَورَثَتُهُ كَوَغِرَ صَدرُهُ وَأَوْغَرْتُهُ ، وَوَرِثَ وَوَرَّثْتُهُ كَوَرِمَ وَوَرَّمتُهُ. قالَ الأعشَى :

مُورِّثَه مالاً وفيِ المَجْدِ رِفعة

لِمَا ضَاعَ فيِهَا مِن قُروءِ نَسِائِكَا (٦)

__________________

(١) وهكذا قال الزجَّاج : وقال أَبو البركات ابنُ الأنباري : يُخَوّفُكَم بِأَوليَائِهِ ، فَحَذَفَ المفعولَ الأوَّلَ والبَاءَ مِن المَفعُولِ الثاني كَقولِهِ تَعَالَى : (لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيْداً مِن لَّدُنْهُ) سورة الكهف : ١٨ / ٢ وَتَقَدِيرُهُ لِينذِرَكُم ببأس شَديد مِن لَّدُنْهُ.

اُنظر : معاني القرآن وإعرابه : ١ / ٥٠٦ ـ ٥٠٧ والبيان في غريب إعراب القرآن : ١ / ٢٣١.

(٢) المحتسب : ١ / ١٧٧.

(٣) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٢ : (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً).

(٤) يعني (يُورِّثُ).

(٥) يعنى (يُوْرِثُ). والتناظر يقتضي أن يَقُولَ : هَذَا من وَرِثَ وهذا من أَورَثَ.

(٦) من قصيدة يمدح بها هوذَة بن علي الحنفي. ويروى (الحَمْد) مكان (المَجد) كما يروى بنصب (مورثة) و (رفعة). أُنظر : الديوان : ٦٧ والمحتسب : ١ / ١٨٣ واللسان : ١ / ١٢٦ والهمع : ٢ / ١٤١ والدرر اللوامع : ٢ / ١٩٤.

٢٦٥

وَفي كِلَتا القِرَاءَتينِ هُنَاك المفعولانِ مَحذُوفَانِ كَأَ نَّهُ قَالَ : يُورِثُ وَارِثَه مَالَهُ أو يُوَرِّثُ وَارِثَهُ مالَهُ.

وَقَد جَاءِ حذفُ المَفْعُولَينِ جَمِيعاً ، قالَ الكُمَيت :

بأيِّ كَتِاب أم بأيّةِ سُنَّة

تَرَى حُبَّهُم عَاراً عَلَيَّ وَتَحسَبُ (١)

فَلم يُعَدِّ تحسَبَ (٢). و (كَلالَةً) عَلَى نَصبِهَا (٣) فِي جميعِ القراءاتِ (٤).

النصب على نزع الخافض

قَرَأَ أَبو طَالُوت عبدُ السلام بن شَدَّاد ، والجارودُ بنُ أَبِي سبرة : (وَمَا يُخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ) (٥) بِضَمّ الياءِ وَفَتح الدَّالِ.

قَالَ أبُو الفتح : هَذَا عَلَى قَولِك خدعتُ زَيداً نَفسَهُ ، وَمَعنَاهُ عَن نَفسِهِ ،

فَإن شِئتَ قُلتَ عَلَى هَذَا : حُذِفَ حَرفُ الجَرِّ فوصَلَ الفعلُ. كقولهِ

عزَّ اسمه (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (٦) أي : من قَومِهِ ، وَقولِه :

أَمرتُك الخَيرَ (٧) ......

 ......

__________________

(١) انظر : المقرب : ١ / ١١٦ والخزانة ـ بولاق ـ ٤ / ٥ والهمع : ١ / ١٥٢ وشرح التصريح : ١ / ٢٥٩ والدرر اللوامع : ١ / ١٣٤.

(٢) أيّ : حَذَفَ المفعولين ولو ذَكَرَهُمَا لَقَالَ : تحسب حُبَّهُم عَاراً عليَّ يعني حبّ أهل البيت (عليهم السلام).

(٣) أيّ : حال من الضمير في يورث. انظر : إملاء ما منَّ به الرَّحمن : ١ / ١٦٩.

(٤) المحتسب : ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٥) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٩ : (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) بالبناءِ لِلفَاعِلِ.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٥.

(٧) البيت بتمامه :

٢٦٦

أي : بالخَيرِ. وإنْ شِئتَ قُلتَ حَمَلَهُ عَلَى المعنى فَأَضمَرَ لَهُ مَا يَنصِبُهُ ، وَذَلِك أَنَّ قَولَك خدعتُ زَيداً نَفسَهُ يدخله معنى : انتقصتُه نَفسَهُ وَمَلَكْتُ عَلَيهِ نَفسَهُ (١).

وَقَرَأَ أَبو عبدُ الرَّحمن الأَعرج : (أَنْ تَكُونُوا تَأ لَمُونَ) (٢) بِفَتحِ الألِفِ.

قَالَ أَبو الفتح : (أَنْ) محمولةٌ على قولِهِ تعالى : (وَلاَ تَهِنُوا فِي ابتِغَاءِ الْقَومِ) (٣) أي : لاَ تَهِنُوا لأ نَّكُم تَأ لَمُونَ ، كقولِك لاَ تَجبُن عَن قَرنِك لخوفِك مِنهُ ، فَمَن اعتَقَدَ نصبَ أنْ بَعْدَ حذفِ الجرِّ عَنهَا ، فَـ (أَنْ) هُنَا منصوبَةُ الموضعِ (٤) ، وَهيَ عَلَى مَذهَبِ الخَلِيلِ مجرورةُ الموضعِ باللاّمِ (٥) المرادةِ وَصَارَتْ (أَنْ) لِكَونِهَا حَرفاً كَالعِوَضِ في اللَّفظِ من اللاّمِ (٦).

وَقَرَأَ الحَسنُ : (إنَّ رَبَّك هُوَ أَعلَمُ مَن يُضِلُّ عَن سَبِيلِهِ) (٧) بضمّ الياءِ.

__________________

أمرتُك الخَير فَافعَلْ مَا أُمِرْتَ بِـهِ

فَقَد تَرَكْتُـك ذَا مَـال وَذَا نَشَـبِ

ويروى (الرُّشدَ) مكانَ (الخيرَ) و (نَسَبِ) مكان (نَشَبِ) والبيتُ ورد في شِعرَينِ أَحدُهُمَا شعر أَعشى طَرُود والثاني شعرٌ اختُلِفَ في قائِلِهِ نُسِبَ إلى عمرو بن معديكرب وللعباس ابن مرداس ولزُرعَةَ بن سائب ولخُفَاف بن ندبة. الكتاب : ١ / ١٧ والمقتضب : ٢ / ٣٦ والأصول في النحو : ١ / ٢١٣ والمحتسب : ١ / ٥١ والهمع : ٢ / ٨٢ والخزانة : ١ / ٣٣٩.

(١) المحتسب : ١ / ٥١ ـ ٥٢.

(٢ و ٣) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٠٤ : (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُواْ تَأْ لَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْ لَمُونَ كَمَا تَأْ لَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ).

(٤) على المفعول من أجله. انظر : البحر المحيط : ٣ / ٣٤٣.

(٥) انظر : الكتاب : ١ / ٤٦٤.

(٦) المحتسب : ١ / ١٩٧.

(٧) من قوله تعالى من سورة الأَنعام : ٦ / ١١٧ : (إِنَّ رَبَّك هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

٢٦٧

قال أَبو الفتح : لاَ يَجُوزُ أَن تَكُونَ (مَن) فِي مَوضِعِ جرٍّ (١) بإِضافة (أَعلَمُ) إِليها ، لا فِيمَنْ ضَمَّ يَاءَ يُضِلُّ ، ولا فِيمَن فَتَحَها ، مِن حَيثُ كَانَتْ (أَعْلَم) أَفعَل ، وَأَفعَل هذه متى أُضِيفَتْ إلَى شيء فَهْوَ بَعْضُهُ (٢) ، كَقَوْلِهِم : زيد أفضَل عَشيِرَتِهِ ، لأَ نَّهُ واحدٌ منهم ، ولا نقولُ زيدٌ أفضلُ إِخوتِهِ لأ نّه ليس منهم (٣). ولا نقول أيضاً : النبي صلّى الله عليه وآله أفضلُ بني تميم على هذا لأَ نَّهُ ليسَ مِنهُم ، لكنْ نقولُ : محمّد صلّى الله عليه وآله أَفضل بني هاشم لأَ نَّهُ مِنهُم ، والله يتعالى علواً عظيماً أنْ يَكونَ بَعضَ المُضِلِّينَ أو بعضَ الضّالِينَ (٤). فَأمَّا قولُهُ تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم) (٥) فليس من هذا وإنَّمَا تَأويلُ ذلك ـ والله أَعلمُ ـ وجدته ضَالاًّ كقولهِ : (وَوَجَدَك ضَالاًّ فَهَدَى) (٦) ، وَذَلِك مشروح في مَوضِعِهِ فِقُولُهُ أَيضاً : (أعلَمُ مَن يُضِلُّ عَن سَبِيلِهِ) (٧) أي : يُجيرُهُ عَنِ الحقِّ وَيَصدّ عنه.

__________________

(١) قال العكبري : «يجوز أنَ يَكون (مَن) في موضع جرّ أَمَّا على معنى هو أَعلمُ المُضلِّينَ ، أي : من يجد الضَّلالَ ، وهو من أَضَلَلتُهُ ، أي : وَجَدتُهُ ضَالاًّ ، مِثل أَحمَدتُهُ ، وَجَدتُهُ مَحمُوداً ، أَو بَمِعنَى أَنَّه يضلّ عن الهدى». وهو قول لم أجده عند غيره فيما قرأت. إملاء ما منَّ به الرَّحمن : ١ / ٢٥٩.

(٢) اقتصر العكبري في منع جواز الجرّ على قراءة من فتح (يَضِلُ) وعلَّلَ تعليل أَبي الفتح نفسَهُ. وذهبَ ابنُ الأنباري إلى ذلك أَيضاً وَلَم يتعرّضْ لقراءةِ الضَّمِّ.

انظر : إملاء ما منَّ به الرَّحمن : ١ / ٢٥٩ والبيان في غريب إعراب القرآن : ١ / ٣٣٦.

(٣) لأ نَّهُ يستلزم اجتماع النقيضين بأنْ يكونَ داخلاً مع إخوتِهِ وخارجاً عنهم.

ينظر : الأُصول لابن السَّرَّاج : ١ / ٢٧٢ والبغداديات : ٥٨٧ والبسيط : ٢ / ٩٣٧.

(٤) انظر : البيان : ١ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٥) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٣.

(٦) سورة الضُّحَى : ٩٢ / ٧.

(٧) من قوله تعالى من سورة الأَنعام : ٦ / ١١٧ : (أعلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبيلِهِ).

٢٦٨

كما أَنَّ قراءةَ مَن قَرَأ (١) : (أعلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبيلِهِ) مَنّ يَجُوزُ عَنهُ ، أَلا ترى إلى قَولِهِ قبل ذَلِك : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوك عَن سَبِيلِ اللّهِ) (٢) فلا محالة أَنَّه سبحانَهُ أَرادَ بِمَن يُضلّ عَنّ سَبيلِهِ ، فَحَذَفَ الباءَ وأَوصلَ (أعلَمُ)

هذه بنفسها (٣) أَو أَضمر فعلاً واصِلاً تدلّ هذهِ الظاهرةُ عليهِ (٤) ، حَتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ يَعْلَمُ ، أَو عَلِمَ مَن (مَن يَضِلُّ عَن سَبيلِهِ). وَيُؤكِدُ ذَلِك ظُهورُ الباءِ بَعْدَهُ مَعَهُ في قولِهِ : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِيْنَ) (٥). وَقولِهِ بَعدَهُ : (إنَّ رَبَّك هُوَ أَعْلَمُ بِالمُعتَدِيْنَ) (٦) وَقَد يَجُوزُ أَن تَكُونَ (مَن) هذه مرفوعةً بالابتداءِ (٧) وَيُضِلُّ بَعْدَهُا خبرٌ عنها ، و (أعلَمُ) هذه معلقة عن الجملة ، حتّى كَأَ نَّهُ قَالَ : (إنَّ رَبَّك هُوَ أَعلَمُ) أَيُّهُم (يُضِلُّ عَن سَبِيلِهِ) ، كَقَولِهِ تَعَالَى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (٨).

فَأمَّا الجَرُّ فَمَدفوعٌ مِن حيثُ ذَكَرنَا ، وإذا كانَ ذَلِك كَذَلِك علمتَ أَنَّ (مَنْ) في قَولِ الطائِي (٩) :

__________________

(١) هي قراءة الجمهور.

(٢) سورة الأَنعام : ٦ / ١١٦.

(٣) قال في البحر المحيط : ٤ / ٢١٠ : قال أَبو الفتح : في موضع نصب بأَعلم بعد حذف حرف الجرّ وهذا ليسَ بجيد لأَنَّ أَفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به. والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به.

(٤) هذا قول أَبي علي الفارسي انظر : البحر المحيط : ٤ / ٢١٠.

(٥) سورة الأَنعام : ٦ / ١١٧.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ١١٩.

(٧) انظر : معاني القرآن وإعرابه للزَّجَّاج : ٢ / ٣١٤ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٥٩ والبيان في غريب إعراب القرآن : ١ / ٣٣٦ والبحر المحيط : ٤ / ٢١٠.

(٨) سورة الكهف : ١٨ / ١٢.

(٩) هو أَبو تمام حبيب بن أَوس الطائي.

٢٦٩

غَدَوتُ بِهِم أَمَدَّ ذَوِيَّ ظِلاًّ

وَأَكْثَرَ مَنْ وَرَائِي ماءَ وَادِي (١)

لا يجوز أَن تَكونَ (مَن) في موضِعِ جرّ بإضافةِ أَكثَر إليهِ ، إذ لَيْسَ واحِداً مِمَّنْ وراءَهُ فَهوَ إذاً منصوبُ الموضعِ لا مَحَالَة بأكثر أو بما دلّ عليه أكثر ، أي : كثرتُهم : كُنت أكَثَرَهُم ماءَ واد.

ولا يجوز فيه الرفع الذي جاز مع العِلْمِ لأنَّ كَثَرت ليسَ مِن الأَفعال التي يجوزُ تعليقها ، إِنَّمَا تِلك مَا كانَ من الأفعالِ داخلاً على المبتدأِ وخبره (٢).

وَقَرأ ابنُ مسعود وسعد بن أَبي وقّاص و [الأئمّة] : عليّ بن الحسين وأَبو جعفر محمّد بن علي وجعفر بن محمّد (عليهم السلام) ، وطلحة بن مُصرِّف : (يسألونك الأنفال) (٣).

قال أبو الفتح : هذهِ القراءة بالنصب مؤدّية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي : (عَنِ الأَنْفَالِ) (٤) وَذَلِك أَنَّهُم إنَّما سَأَ لَوهُ عَنهَا تَعَرُّضاً لِطَلَبِهَا ، واستعلاماً لِحَالِها : هل يسوغ طلبُها؟ وهذه القراءة بالنصب أَصرَحَ بالتماسِ الأَنفالِ وبيانٌ عن الغرض في السؤال عنها (٥) ، فَإن قُلتَ : فَهَل يَحَسُنُ أَنَ

__________________

(١) من قصيدة له في مدح أَحمد بن أبي دؤاد. ويروى (أجَلَّ الناسِ قدراً) مكان (أمدَّ ذويَّ ظِلاًّ). انظر : الديوان : ٧٢ والمحتسب : ١ / ٢٢٩.

(٢) المحتسب : ١ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٣ و ٤) من قوله تعالى من سورة الأنفال : ٨ / ١ : (يَسْأَ لُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ).

(٤) أكَّدَ نسبة هذه القراءة إلى أهل البيت (عليهم السلام) الشيخ المفيد في المسائل السروية : ٨٣ ، والشيخ الطوسي في التبيان ٥ : ٧٢ ، والشيخ الطبرسي في مجمع البيان : ٤ / ٤٣٤ لأنَّ الأنفال ليست الغنائم التي غنمها النبيُّ (صلى الله عليه وآله) في الحروب بل هي كلّ ما أخذ من غير المسلمين بغير قتال وكلّ أرض انجلى عنها أهلها سلماً ، وميراثُ مَنْ لا وارثَ لهُ وغير ذلك ممَّا هو مذكور في مواضعِهِ من كتبِ الفقهِ وهي للهِ وللرَّسُول (صلى الله عليه وآله) وبعدَهُ لمَنْ يقومُ

٢٧٠

تَحمِلَهَا على حذفِ حرف الجرّ حتى كَأَ نّه قَالَ : يَسأَ لُونَك عَنِ الأَنفال ، فَلَمَّا حَذَفَ (عَن) نَصَبَ المفعولَ ، كَقَولِهِ :

أَمَرتُك الخيَر فَافْعَل مَاأُمِرتَ بِهِ (١)

 ......

قِيلَ : هَذَا شاذٌّ إنّما يحمله الشعر ، فأَمَّا القرآنُ فَيُختَارُ لَهُ أَفصَحُ اللغاتِ وإن كان قَد جاءَ : (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (٢) (وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد) (٣) فإنَّ الأَظهر ما قدّمناه (٤).

وَقَرأَ أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد : (فذلك نُجزيهُ) (٥) برفع الهاء والنون.

قال ابن مجاهد : لا أدري ما ضَمُّ النُّونِ؟ لا يُقَالُ : جزيتُ كما قال : (ذَلِك جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) (٦).

قال أَبو الفتح : هُوَ لعمري غريبٌ عَنِ الاستعمالِ إلاَّ أَنَّ لَهُ وَجهاً أنا أَذكُرُهُ.

وَذَلِك أَنَّهُ يُقال : أَجزأَنِي الشيءُ : كَفَانِي وَهَذا يُجزئني مِن كَذَا ، أَي : يَكفِيني مِنهُ ، فَكَأَ نّهُ في الأصلِ نُجزِئُ به جهنَّم. أَيّ : نكفيها به ، وَمَعنَاهُ :

__________________

مقامَهُ يصرفها حيث يشاء من المصالح وليس لغيرهِ فيها شيءٌ ، وهذه القراءة تؤيد ذلك ، وقوله تعالى من سورة الأنفال : ٨ / ١ : (قُلِ الأنْفَالُ ِللَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ) بيّن لمن تكون الأنفال ، ولو كان لِمَنْ سأَلوا فيها حقٌّ لم يقل سبحانه : (فَاتَّقُوا اللَّهَ).

(١) تقدّم الشاهد في : ص : ٢٦٦.

(٢) سورة الأَعراف : ٧ / ١٥٥.

(٣) سورة التَّوبة : ٩ / ٥.

(٤) المحتسب : ١ / ٢٧٢.

(٥) من قَولِه تعالى مِن سورة الأَنبياء : ٢١ / ٢٩ : (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِك نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

(٦) سورة سَبَأ : ٣٤ / ١٧.

٢٧١

نُمَكِّـنُهَا منه ، فَتَأتِي عَلَيهِ كَأَ نَّها تطلب باستيفائِها إِيَّاهُ الاكتفاء بذلك. ثُمَّ حُذِفَ حرفُ الجرِّ.

فصارَ نُجزِئُهُ جهنَّمَ ، أَيّ : نُطعمُهُ جَهَنَّمَ ، كَمَا حُذِفَ الحرفُ في قولِهِ : (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (١).

أَيّ : مِن قَومِهِ. ثمّ أَبدلت الهمزة من نجزئه ياء على حد أَخطَيت فصارت ياء ساكنة ، وأُقرتِ الهاءُ على ضمّتها وهو الأصل كما قرأ أَهلَ الحجاز : (فَخَسَفنَا بهُو وَبِدَارِهُو (٢) الأرضَ) (٣).

وقرأت عائشة وابن عباس وابن يَعْمَر وعثمان الثقفي : (إذ تَلِقُونَهُ) (٤).

قال أبو الفتح : أمَّا (تَلِقُونَهُ) فتسرعون فيه ، وَتَخفُّونَ إِليهِ.

قالَ الراجزُ :

جاءَت بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ (٥)

أيّ : تَخِف وتُسْرِعُ. وَأَصلُهُ تَلِقُونَ فيهِ أَو إليهِ ، فَحَذَفَ حَرفَ الجرِّ وأَوْصَلَ الفِعْلَ إلى المَفْعُول (٦) كقولهِ تَعَالَى : (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ

__________________

(١) سورة الأَعراف : ٧ / ١٥٥.

(٢) من قوله تعالى من سورة القصص : ٢٨ / ٨١ : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاَْرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَة يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ).

(٣) المحتسب : ٢ / ٦١ ـ ٦٢.

(٤) من قوله تعالى من سورة النُّور : ٢٤ / ١٥ : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ).

(٥) يروى هذا الرجزُ للقلاخ بن حزَن المنقري يهجو جَلَيداً الكلابي ويُروى للشَّمَّاخِ. ويُروى (عيسٌ) مكان (عَنْسٌ). انظر : الخصائص : ١ / ٩ و ٣ / ٢٩١ والمخصّص : ٣ / ٥٤ و ٧ / ١٠٩ وشرح المفصل : ٩ / ١٤٥ ولسان العرب : ١١ / ٢٩٠ و ١٢ / ١١ و ٢٦٤.

(٦) ادَّعَى أبو حَيَّانَ هذا القولَ لنفسِهِ فقالَ : «وعندي أنَّهُ أرادَ يلقون فيه فحذفَ الحرفَ

٢٧٢

رَجُلاً) (١) أي : مِن قَومِهِ والهاءُ (٢) ضمير الإفك (٣) الذي تقدّم ذكره (٤).

وَقَرأَ بِلالُ بنُ أَبي بُردَةَ : (وَلاَ تَخْسَرُوا) (٥) بِفَتحِ التَّاءِ والسين.

قَالَ أَبو الفتح : ينبغي أَن يكونَ عَلى حذفِ الجرِّ ، أَي : تَخسَروا في الميزان ، فَلَمَّا حَذَفَ الجرَّ أَفضَى إليه الفِعل قبله ، فَنَصَبَهُ كقولِه تعالى : (واقعُدُوا لَهُم كُلَّ مُرصَد) (٦) ، أَيّ : في كُلِّ مَرصَد ، وَعَلَى كُلّ مرصَد وَكَقُولِه :

بِأَسرَعَ الشَّدِّ مِنِّي يَومَ لاَنِيَةٌ

لَمّا لَقِيتُهُمُ واهتِّزتِ اللِّمَمُ (٧)

أرادَ بِأسرَعَ فِي الشَّدِّ فَحَذَفَ الحرفَ وَأَوصْلَ (أسْرَعَ) (٨) ، أَو فِعلاً دَلَّ عَلَيهِ أَسرَعَ هَذِهِ (٩).

__________________

وَوَصَلَ الفِعلَ للضَّمِيرِ». انظر : البحر المحيط : ٦ / ٤٣٨.

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٥.

(٢) من قوله : (تلقونه).

(٣) من قوله تعالى من سورة النُّور : ٢٤ / ١١ : (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ).

(٤) المحتسب : ٢ / ١٠٤.

(٥) من قوله تعالى من سورة الرَّحمن : ٥٥ / ٩ : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيـزَانَ).

(٦) سورة التوبة : ٩ / ٥.

(٧) البيت لمالك بن خالد الخناعي. وفي المحتسب كما في لسان العرب برفع (لانيةٌ) على أنَّ النية الفترةُ والتعبُ والكلال مصدر من وني تقول فلان لا يني في أمره أي لا يفتر ولا يعجز. ووَرَدَ بالجَرِّ في مجالس ثعلب. انظر : مجالس ثعلب : ١ / ١٢٤ والمحتسب : ٢ / ٣٠٣ ولسان العرب : ٤ / ٢٢٠.

(٨) جاءَ في مجالس ثعلب : ١ / ١٢٤ : (يُريد عِندَ الشدِّ). وَفي لِسان العرب : ٤ / ٢٢٠ : (يريد بأسرَعَ شدًّا منّي فَزادَ اللاّمَ كزيادَتِها في بَناتِ الأوبر وقد يجوز أنْ يُريدَ بأسرَعَ في الشدِّ فحذف الجارَّ وأوصل الفعلَ).

(٩) المحتسب : ٢ / ٣٠٣.

٢٧٣

وَقَرَأَ : (مِن كُلِّ جَانِب دَحُوراً) (١) السُّلِمَي ، قَالَ أَبو الفتح : في فتح هذه الدَّال وَجهَانِ :

١ ـ إنْ شِئتَ كَانَ على مَا جاءَ مِنَ المصادِرِ عَلى فَعُول ـ بِفَتحِ الفاءِ ـ عَلى مَا فيه من خلافِ أَبي بكر فيهِ وَقَد بَينَاهُ فيما مَضَى من هذا الكتاب (٢) وغيره.

٢ ـ وَإنْ شِئتَ أَرادَ وَيَقذَفُونَ مِن كُلّ جَانِب بِدَاحر أَو بِمَا يَدحَرُ. وَهَذَا كَأَ نَّهُ الثاني من الوَجهَينِ ، لِمَا فيهِ مِن حَذْفِ حرفِ الجرّ وإِرادَتِهِ (٣).

وَأَكثر ما يأتِي في الشّعرِ ، كَمَا قَالَ :

نُغَالي اللَّحمَ لِلأَضيافِ نِيئاً

وَنُرخِصُهُ إذَا نَضِجَ القَدِيرُ (٤)

أي : باللَّحمِ ، وَمِثلُهُ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ) (٥) أَي : أَعلَم به فيمن قَدَّرَ ذَلك (٦).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الصافّات : ٣٧ / ٨ ـ ٩ : (وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ).

(٢) ذكر ذلك في المحتسب : ١ / ٦٣.

(٣) قال الفرّاء : «مَن فَتَحَها جعلها اسماً ، كما أَنّهُ قال : يقذفون بداحر وبِمَا يَدْحَرُ. وَلَستُ أشتهيها ، لأَ نَّها لو وُجّهَتْ على ذلك على صحّة لكانتْ فيها الباءُ ، كما تقول : يقذفون بالحجارة ولا تقولُ يقذفون الحجارةَ وهو جائزٌ. وقال العكبري : ويجوز أن يكون جمع داحر مثل قاعد وَقُعُود.

اُنظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٨٣ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٠٥.

(٤) يروى (القدور) مكان (القدير). يريد نشتري اللحم غالياً ونبذله للضِّيفانِ إذا ينضجُ سماحةً. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٨٣ والمحتسب : ٢ / ٢١٩ واللسان : ١٩ / ٣٦٨.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١١٧ ، وانظر ما ذكر عن هذه الآية في ص : ١٨٨ و ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٦) المحتسب : ٢ / ٢١٩.

٢٧٤

باب التنازع

قَالَ تَعالَى : (أَن جَاءَهُ الأَعْمَى) (١) قال أَبو الفتح : أَمَّا (أنْ) على القراءَةِ العامّةَ فَمنصوبةٌ بـ (تَوَلَّى) لأَ نَّهُ الفعل الأَقرب منهَ ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : تَوَلَّى لَِمجِيءِ الأعمى ، وَمَن أَعمَلَ الأوّلَ (٢) نصبَ (أنْ) بـ (عَبَس) ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : عَبَسَ أن جاءَهُ الأَعمَى وَتَوَلَّى لِذَلِك ، فَحَذَفَ مَفعُولَ (تَوَلَّى) كَمَا تَقُولُ ضَرَبتُ فأوجعتُهُ زيداً إذا أعملتَ الأوَلَ ، وإنْ شِئتَ لَم تَأتِ بمفعولِ أَوْجَعْتَ ، فَقُلتَ : ضربتُ فَأَوجَعتُ زيداً ، أي : وأنتَ تُريدُ أُوجَعتُهُ ، إلاَّ أَنَّك حَذَفتَهُ تَخفِيفاً ، وَلِلعِلْمِ بِهِ ، وَالوجهُ إعمَالُ الثانِي لِقُربِهِ ، فَأمَّا أَنْ تَنصِبَهُ بِمَجمُوعِ الفِعلَينِ فَلاَ ، وهذا واضحٌ (٣).

باب الاشتغال

قرأ أَبو السَّـمَّـال : (إنّا كُلُّ شيء خَلَقْنَاهُ) (٤) بالرفعِ.

قال أَبو الفتح : الرفع هَنَا أقوى من النَّصبِ وإنْ كَانَتِ الجماعةُ على النَّصبِ ، وَذَلِك أَنَّهُ مِنْ مَواضِعِ الابتداءِ ، فَهُوَ كَقولِك زيدٌ ضربتُهُ ، وهو مذهبُ صاحبِ الكتابِ (٥) والجماعة (٦) وَذَلِك لأَ نَّها جُملةٌ وقعتْ في الأَصل خبراً عَن مبتدأ في قَولِك : نَحْنُ كُلُّ شيء خلقناهُ بِقَدَر ، فهو كقولك : هندٌ زيدٌ

__________________

(١) سورة عبس : ٨٠ / ٢.

(٢) الأوّل : (عبس) والثاني : (توَلَّى).

(٣) المحتسب : ٢ / ٣٢٥.

(٤) من قوله تعالى من سورة القمر : ٥٤ / ٤٩ : (إِنَّا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر).

(٥) انظر : الكتاب : ١ / ٧٤.

(٦) أراد بالجماعة البصريين لأَنَّ هذا مذهبُهم. أُنظر : مشكل إعراب القرآن : ٢ / ٧٠٢.

٢٧٥

ضَرَبَها ، ثم تُدخِلُ إنَّ فَتَنصِبُ الاسمَ ، وَبقِيَ الخبرُ على تركيبهِ الّذي كان عليه من كونِهِ جملةً مِنْ مبتدأ وخبر. واختار محمّد بن يزيد هُنا النصب (١) وَقَالَ : لأَنَّ تقديرَهُ إنَّا فَعَلنَاهُ كذا. قَالَ : فالفِعلُ منتظرٌ بعد إنّا فَلَمَّا دَلَّ ما قبلهُ عليهِ حَسُنَ إضْمَارُهُ. وَلَيسَ هذا شيئاً لأن أَصلَ خبرِ المبتدأِ أَنْ يَكونَ اسماً لا فعلاً جُزءاً منفرداً فما معنى توقع الفعلِ هُنا وخبرُ إنَّ وأخواتِها كأخبارِ المبتدأ؟ وعليه قولُ اللهِ سبحانَهُ : (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) (٢) فَهَذِهِ الجملة التي هي (وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) في موضعِ المفعول الثاني لرأَيتَ وهو في الأصل خَبَرُ المبتدأِ ، وَقَد ذَكَرنَا هذا في غير موضِعِ من كتبنا والتعليق عَنَّا (٣).

الظــرف

قَرَأَ ابن يَعْمر والجارودُ بن أَبي سَبْرَة وابنُ أَبي إسحاق ونوح القاري ورُويَ عَن أَبي رَجاء : (مِن قُبُلُ) (٤) و (مِن دُبُرُ) (٥) بِثَلاَثِ ضـمّـات مِن غيرِ تنوين. قَال أَبو الفتح : يَنبَغي أَنْ يَكونَا غايتين ، كقولِ اللهِ سبحانَهُ : (لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) (٦) كَأَ نَّهُ يريد : وَقَدَّتْ قَميصهُ مِن دُبُرِهِ وَإن كَانَ قَميصُهُ قُدّ

__________________

(١) انظر : رأي محمد بن يزيد المُبَرَّدِ في زاد المسير : ٦ / ٤.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٠.

(٣) المحتسب : ٢ / ٣٠٠.

(٤) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ٢٦ : (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ).

(٥) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ٢٧ : (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُر فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ).

(٦) سورة الروم : ٣٠ / ٤.

٢٧٦

مِن قُبُلِهِ. فَلَمّا حَذَفَ المضافَ إليه ـ أعني الهاءَ وهي مرادَه ـ صار المضاف غاية نفسه بعد ما كان المضاف إليه غاية له ، وهذا حديثٌ مَفْهُومٌ في قولِ اللهِ سبحانَهُ : (مِن قَبلُ وَمِن بَعْدُ) فَبُنِيَ هُنا كَمَا بُنِي هُنَاك عَلَى الضَّمِّ. وَوكَّدَ البِنَاءَ أَنَّ قُبُلَ وَدُبُرَ يَكُونَانِ ظَرفَينِ ، أَلا تَرى إلى قول الفرَزدَق :

يُطاعِنُ قُبْلَ الخَيلِ وَهوَ أَمَامَهَا

وَيَطعَنُ عَن أَدبَارِهَا إنْ تَوَلَّتِ (١)

وَقَال اللهُ سبحَانَهُ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (٢) فَنَصَبَهُ عَلَى الظَرفِ وَهوَ جَمْعُ دُبُر (٣).

ظرف الزمان

قَرَأَ الحسن والأعمش والثقفي وروي عن أبي عمرو : (يَومَ الزِّينَةِ) (٤) بالنَّصبِ.

قالَ أبو الفتح : أمَّا نصبُ (يومَ الزِّينَة) فَعَلَى الظرفِ (٥) ، كَقَولِنَا : قيامُك يَومَ الجمعةِ فالموعدُ إذاً ههنا مصدرٌ ، والظرفُ بَعدَهُ خبرٌ عَنهُ. وَهوَ عِندِي عَلَى حذف المُضافِ ، أَي : إنجازُ مَوعِدِنَا إيَّاكُم في ذَلِك اليومِ.

__________________

(١) نسبه الأخفش في كتاب القوافي : ٤ إلى الفرزدق والبيتُ ليس في ديوانه.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٤٩ ، وفتح همزة وإدبار مروي عن الأَعمش والمطوعي.

اُنظر : مختصر في شواذ القرآن : ١٤٦ وإتحاف فضلاء البشر : ٢٤٨.

(٣) المحتسب : ١ / ٣٣٨.

(٤) من قوله تعالى من سورة طه : ٢٠ / ٥٩ : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحـىً).

(٥) وتابعه في ذلك مكّي بن أَبي طالب والعكبري وقال ابنُ الأنباري : لا يجوزُ أنْ يكونَ (يوم) ظرفاً. انظر : مشكل إعراب القرآن : ٢ / ٤٦٥ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٢٣ والبيان : ٢ / ١٤٤.

٢٧٧

أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لا يُرادُ أَنَّهُ في ذَلِك اليومِ نَعِدُكُم؟ كَيف ذا والوعدُ قَد وَقَعَ الآنَ ، إنَّما يُتوقّع إِنجازُهُ فِي ذَلِك اليومِ ، لَكن فِي قَولِهِ : (وَأَن يُحْشَرَ الناسُ ضُحَىً) النَّظَر ، فَظَاهِرُ حالِهِ أَنْ يَكُونَ مَجرورَ المَوضِعِ ، كَأَ نَّهُ قَالَ : مَوعِدُكُم يَومَ الزينَةِ وَحَشرِ الناسِ ضُحىً. أَي يومَ هذا وهذا ، فَيَكُونُ (أَنْ يُحشَرَ) مَعطُوفاً عَلَى الزِّينَةِ.

وَقَدْ يَجوزُ أَن يَكُونَ مَرفوعَ الموضِعِ (١) عَطَفاً عَلَى المَوعِدِ ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : إنجَازُ مَوعِدِكُم وَحَشرُ الناسِ ضحىً فِي يومِ الزّينَةِ (٢).

وَأَمّا مَن رَفَعَ فَقَالَ : (يَومُ الزِّينَةِ) فَإنَّ المَوعِدَ عَندَهُ ينبَغي أَن يَكُونَ زماناً ، فَكَأ نَّهُ قَالَ : وَقتُ وَعَدِي يَومُ الزّينَةِ كَقَولِنَا مَبعَثُ الجيوشِ شَهرُ كذَا ، أي : وَقتُ بَعثِها حَينَئذ وَالعَطفُ عَلَيهِ بِقولِه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحَىً) يُؤكِّدُ الرفعَ ، لأِنَّ (أَنْ) لاَ تَكُونُ ظَرفاً ، أَلاَ تَرى أَنَّ مَنْ قَالَ : زيارَتُك إيَّايَ مَقدِمَ الحاج ، لا يقولُ : زِيارَتُك إيَّايَ أنْ يَقْدِمَ الحاجُّ؟ وَذَلِك أَنَّ لَفظَ المصدرِ الصريحِ أشبه بالظرف من (أَنْ) وَصِلَتِهَا التي بِمَعْنَى المَصدَرِ إذا كانَ اسماً لحدث والظرف اسم للوقتِ ، والوقتُ يِكادُ يكونُ حَدَثاً ، وعَلَى كُلّ حال فَلَستَ تَحصَلُ مِن ظرفِ الزمانِ عَلَى أَكثرِ مِن الحَدَثِ الّذي هو حركاتُ الفَلَك ، فَلمَّا تَدَانيا هذا التّدَانِي ساغَ وُقُوعُ أحدِهِمَا مَوقِعَ صَاحِبِهِ.

__________________

(١) وقد ذهب الفرَّاء إلى جواز هذين الوجهين وتابعه مكي بن أَبي طالب ثمّ أضاف إليهما جواز الرَّفع على تقدير موعدكم وقت حشر الناس. وقد جوَّزَ العُكبري وجهي الجرّ والرفع فقط بينما اقتصر ابن الأَنباري على الرفع دون غيره. معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ١٨٣ ومشكل إعراب القرآن : ٢ / ٤٦٤ وإملاء ما منَّ به الرَّحمن : ٢ / ١٢٣ والبيان : ٢ / ١٤٤.

(٢) نرجئ الحديث عن ذلك إلى باب العطف.

٢٧٨

وَأَمَّا (أَنْ) فَحَرفٌ مَوْصُول جُعل بَدَلَ لَفظِهِ في مَعْنَى المصدر وَمَا أبعَد هذا عَنِ الظَّرفيةِ ، وَقَدْ استقصينا القولَ عَلَى ذَلِك فِي كتابِنَا الخصائص (١) ، وغيرِهِ من مصنّفاتِنَا ، وينبغي أيضاً أنْ يكونَ على حذفِ المضافِ ، أَي : وَقت وعدِكُم يومُ الزِّينَةِ (٢) وَوَقتُ حَشرِ الناسِ لاَِنَّ الحَشْرَ في الحقيقةِ لَيْسَ وَقْتَاً ، كَمَا أَنَّ قَولَك : ورودك مَقدِمَ الحاجِّ إنّمَا هو على حذفِ المضافِ ، أي : وقتَ مَقَدمِ الحاجِّ ، وَكَذَلِك خُفوقَ النَجمِ وَخِلاَفةَ فلان ، فاعرفْ ذَلِك (٣).

وَقَرَأ : (بَل مَكرٌ الليلَ والنهارَ) (٤) قتادة.

قال أَبو حاتِم : وَقَرَأَ راشد الَّذي كانَ نَظَرَ في مصاحفِ الحَجَّاجِ : (بَلْ مَكَرَّ) بالنصبَ.

قال أبو الفتح : الظرفُ هُنَا صفةٌ للحدثِ ، أَي : مَكرٌ كائِن فِي الليلِ والنهارِ ، وإنْ شِئتَ عَلَّقْتَهَا بنفسِ (مَكرٌ) كقولِك عجبتُ لك مِن ضرب زيداً ، وكقولِ اللهِ : (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة) (٥) وأَمَّا (مَكَرَّ) بالنصبِ فَعَلى الظرفِ (٦) ، كَقَولِك : زرتُك خُفوقَ النَّجمِ ، وصِيَاحَ الدَّجَاجِ ، وَهوَ مُعَلَّقٌ بفعل محذوف ، أَي : صَدَّدتُمونَا فِي هذهِ الأوقاتِ على هذهِ

__________________

(١) انظر : الخصائص : ٣ / ٩٨.

(٢) على هذا التقدير جعل موعداً مصدراً. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٢٣ بينما قدَّرَهُ ابنُ الأنباري في البيان : ٢ / ١٤٤. موعدُكُم وقت يوم الزينة ، موعدكم وقت حشر الناس.

(٣) المحتسب : ٢ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) من قوله تعالى في سورة سبأ : ٣٤ / ٣٣ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).

(٥) سورة البلد : ٩٠ / ١٤ ـ ١٥.

(٦) على تقدير مدّة كرورهما.

اُنظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٩٩.

٢٧٩

الأحوالِ (١).

إيَّانَ لُغَةٌ فِي أيَّانَ

قَرَأَ السُّلَمَي : (إِيَّانَ يَومَ القِيَامَةِ) (٢).

قَالَ أَبو الفتح : هذه لُغَةٌ فِي (أَيَّانَ) وَيَنبَغِي أَنْ يَكُونَ (أَيَّانَ) من لفظ أَي ، لاَ مِن لَفظِ أَينَ ، لاَِمرَيْنِ :

أَحَدُهُما : أَنَّ أَينَ مكان ، و (أَيَّانَ) زَمان.

والآخر : أَن يَكونَ قِلَّةُ فَعَّال في الأسماءِ مع كثيرةِ فَعلان. فلو سَمَّيْتَ رَجُلاً بِأَ يَّان لَم تَصرِفهُ كَحَمدَان ، وَلَسْنَا نَدّعِي أَنَّ أينَ مِمَّا يَحسُنُ اشتقاقُها ، والاشتقاق منها ، لأَ نَّها مبنيَّةٌ كالحرفِ ، إلاَّ أَنَّهَا مَعَ هَذَا اسمٌ وهيَ أُختُ أَنَّى وَقَد جَاءَتْ فِيها الإِمَالة التي لا حظّ للإِمالة فيها ، وإنَّما الإِمَالةُ لِلأَفعال والأَسماء إذْ كانتْ ضرباً منَ التصرُّفِ والحروفُ لا تصرُّفَ فِيهَا. وَمَعَنَى أَي : أَنَّها بعضُ من كل فهي تصلح للأزمنة ، صلاحَهَا لغيرهَا ، إذ كانَ البعض (٣) شاملاً لِذَلِك كُلّهِ.

قَالَ أُمية :

والناسُ راثَ عليهِم أَمْرُ يَومِهِمُ

فَكُلُّهُم قَائِلٌ أَيَّانَ أَيَّانَا (٤)

فَإن سَمَّيتَ بـ (أَيَّان) سقط الكلام في حُسنِ تَصرِيفهما للحاقِها

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة القيامة : ٧٥ / ٦ : (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ).

(٣) تنظر : ص : ٢١٦ الحاشية رقم (١).

(٤) انظر : ديوان أُميّة بن أبي الصلت : ٦٢ ، ومعنى راث : أبطأ وتأخّرَ.

٢٨٠