أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

قالَ أَبو الفتحِ : الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ قُطْرُب في هذا أَنَّ قِراءةَ مجاهد : (فَلا تَشْمَتْ بِيَ الأَعْدَاءُ) رفعٌ (١) ـ كما تَرَى ـ بِفِعْلِهِم ، فالظاهر أنَّ انصرافَهُ إِلى الأعداءِ ومحصوله : يا ربِّ لا تُشْمِتْ أَنْتَ بِي الأَعداءَ ، كقراءة الجماعة.

وأَمَّا مع النَّصْبِ فَإِ نَّهُ كأ نَّه قالَ : لا تشمَتْ بِي أَنْتَ يَا رب وجازَ هذا كما قال الله سبحانه : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢) وَنَحوهُ مِمَّا يَجْرِي هَذا الَمجرَى ، ثُمَّ عادَ إلى المُرادِ فَأَضْمَرَ فِعْلاً نصبَ بهِ الأَعداءَ (٣). فَكَأَ نَّه قَالَ : لا تُشْمِتْ بِيَ الأعداءَ كقراءَةِ الجماعة (٤).

وَقَرأَ الحسنُ : (وَلاَ تُعْدِ عَيْنَيْك) (٥).

قال أَبو الفتح : هذا منقول من عَدَتْ عيناك ، أَي جاوزتا. من قولهم : جاء القوم عدَا زيداً ، أَي : جاوز بَعْضُهم زيداً ، ثُمَّ نقل إلى أعديتُ عينِي عَنْ كَذا ، أَي : صرفتها عنه ، قال :

حَتَّى لَحِقْنَا بِهِم تُعْدِي فَوَارِسُنَا

كَأنَّنَا رَعْنُ قُفّ يَرْفَعُ الآ لاَ (٦)

__________________

(١) كذلك في (مختصر في شواذ القرآن) : ٤٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥.

(٣) قال أبو حيَّان : هذا خروج عن الظاهر وَتَكلُّفٌ في الإعراب وقد روى تعدى شَمَتَ لغة فلا يُتَكَلَّفُ أنَّها لازمةٌ مع نصب الأعداءِ ، وأَيضاً قولُهُ : (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) سورة البقرة : ٢ / ١٤. إنَّمَا ذلك على سبيل المقابلة لقولِهِم : (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) فقال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) سورة البقرة : ٢ / ١٥. انظر : البحر المحيط : ٤ / ٣٩٦.

(٤) المحتسب : ١ / ٢٥٩.

(٥) من قوله تعالى من سورة الكهف : ١٨ / ٢٨ : (وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَـا).

(٦) البيت للنابغة الجعدي. والرَّعْنُ أوَّلُ كُلِّ شيء ، والقفُّ : ما غَلُظَ من الأرض ولم يَبلُغْ أنْ

٢٤١

أَي : تُعْدِي فَوارِسنا خيلهم عن كذا ، فحذف المفعول بعد المفعول وَتُعْدِيَها مِنْ عَدَا الفرسُ كقولنا جرى ، وَعَلى أَنَّ أَصْلَها واحدٌ ، لأَنَّ الفرسَ إذَا عَدَا فَقَدْ جَاوَزَ مَكاناً إلى غيرهِ (١).

وَقَرَأَ الجماعةُ : (مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِك مِنْ أَوْلِيَاء) (٢) فَإنَّ قَوْلَهُ : (مِنْ أوْلِيَاء) في موضعِ المفعولِ بهِ ، أَي أولياء ، فهو كقولك ضربت رَجُلاً ، فَإنْ نفيتَ قُلْتَ مَا ضَرَبْتُ مِنْ رَجُل (٣).

المنصوب بفعل محذوف

قَرَأَ الحسن : (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاداً فِي الأَرْضِ) (٤) بنصبِ الفسادِ.

قالَ أَبو الفتح : يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ذَلِك على فعل محذوف يَدلُّ عليهِ أولُ الكلامِ ، وَذَلِك أَنَّ قَتْلَ النفسِ بغيرِ النفسِ مِنْ أَعْظَمِ الفَسادِ ، فَكَأَ نَّهُ قَالَ : أَوْ أَتى فَسَاداً ، أَوَ ركِبَ فَساداً ، أَو أَحْدَثَ فَسَاداً ، وَحَذْفَ الفِعْلِ النَّاصِبِ لِدلالةِ الكلام عليهِ ، وإبقاءِ عملِه ناطقاً بهِ وَدَلِيلاً عليهِ مِعَ ما يدلُّ مِنْ غيرِهِ عليهِ أَكْثَرُ مِنْ أنْ يُؤْتَى بشيء مِنْهُ مَعَ وُضُوحِ الحالِ بهِ ، إلاَّ أَنَّ مِنْهُ قولُ القطامي :

__________________

يكونَ جبلاً ، والآل : السَّرابُ. انظر : الخصائص : ١ / ١٣٤ والمحتسب : ٢ / ٢٧ والإنصافُ : ١ / ٩١ واللسان : ١٣ / ٧٨.

(١) المحتسب : ٢ / ٢٧.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٨.

(٣) المحتسب : ٢ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٤) من قوله تعالى من سورة المائدة : ٥ / ٣٢ : (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأَ نَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

٢٤٢

فَكَرَّتْ تَبتَغِيهِ فوافقته

على دمهِ وَمَصْرَعه السّبَاعا (١)

فنصَب السباعا لأَ نَّها داخلةٌ في الموافقة (٢).

ألا تَرَاهَا إِذَا وَافَقَتِ السباعَا على دمِهِ فقد دخلتِ السباعُ في الموافقةِ ، فيصيرُ كَأَ نَّهُ قَالَ : وافقتِ السباعَ؟ وهو عندنا بَعْدُ على حذفِ المضافِ ، أَي : آثَارَ السباع لأَ نَّهَا لو صَادَفَتِ السباعَ هُنَاك لأَكَلَتْهَا أَيضاً (٣). وَهُنَاك مضافٌ آخر محذوفٌ أَي : صَادَفَتِ السباعَ على أَشلائِه وبقاياهُ لأَ نَّها إذَا وافقتْ آثارَ السباعِ على دَمِهِ ومصرعِهِ فَإنَّمَا وافقتْ بَقَايَاهُ لا جَمِيعَهُ.

وسمعتُ سنةَ خمس وخمسينَ غلاماً حَدَثاً مِنْ عُقيل ومعَهُ سيفٌ في يدهِ فَقَالَ له بعضُ الحاضرين ـ وكنا مُصحِرينَ ـ : يا أَعرابي ، سيفك هذا يقطعُ البِطِّيخَ؟ فقالَ : أَي واللهِ وغواربَ الرِّجَالِ ، فنصبَ الغواربَ على ذَلِك أَي

__________________

(١) يروى البيت :

فَكرَّتْ عِنْدَ فيقتيها إليهِ

فَألفتْ عِنْدَ مربضهِ السّباعا

ويروى أِيضاً :

فَكَرَّتْ ذاتَ يوم تبتغيه

فَأَلْفَتْ فوقَ مصرعهِ السّبِاعا

ورواية أَبي الفتح موافقة لروايةِ سيبويه غير أَنَّ المبرِّدَ يُخطئُ هذِه الرواية. ديوان القطامي : ٤٥ والكتاب : ١ / ١٤٢ ونوادر أَبي زيد : ٢٠٤ والخصائص : ٢ / ٤٢٦ والمحتسب : ١ / ٢١٠.

(٢) هذا هو رأي سيبويه وَقَدْ خَطَّأَهُ المبرِّدُ والأَعلم الشِّنتمرْي لأنَّ الحملَ إنَّما يكونُ بعد تَمام الكلام كقولِك وافقتُ عمراً وَعِنْدَهُ زيدٌ وبِشْراً تَريدَ وَوَافَقْتُ بشْراً ، لأنَّ المَعْنَى قَدْ تَمَّ بقولِهِ (وعنده زيد) ولو قلْتَ : وافقتُ عمراً وعندَهُ زيداً لَمْ يجزْ عِندَ المُبَرِّدِ لأَنَّ المعنى لم يتمّ.

اُنظر : الكتاب : ١ / ١٣٤ والمقتضب : ٣ / ٢٨٥ والخصائص : ٢ / ٤٢٦.

(٣) هذا قول أبي علي الفارسي وقد نقله أبو الفتح عنه. انظر : الخصائص : ٢ / ٤٢٦.

٢٤٣

ويقطعُ غَوَارِبَ الرِّجَالِ (١).

وقرأ الأعرج والشعبي والحسنُ : (شَهادَةٌ بَيْنَكم) (٢) رفعٌ ، وعن الأَعرج بخلاف : (شَهَادَةً بَينَكم) نصبٌ.

قَال أَبو الفتح : أَمَّا الرفْعُ بالتَّنوين فعلى سمتِ قراءةِ العامّةِ (شهادةُ بَيْنِكُم) بالإضافةِ فحذفَ التنوين فانجرَّ الاسمُ.

وأمّا (شَهَادَةً بينَكم) بالنَّصْبِ والتنوينِ فنصبُها على فعل مضمر ، أَي : لِيُقِمْ شهادةً بَيْنَكم اثنانِ (٣) ذَوا عدل مِنْكُم ، كَما أنَّ مَنْ رَفَعَ فَنَوَّنَ أَوْ لَمْ يُنَوِّنْ فَهوَ عَلى نحو من هذا أَيّ : مقيمُ شهادةِ بَيْنِكُم أَوْ شَهَادَة بَيْنَكُم اثنان ذوا عَدْل مِنْكُم ، ثُمَّ حُذِفَ المضافُ ، وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَه ، وإِنْ شئتَ كانَ المضافُ محذوفاً مِنْ آخر الكَلامِ ، أَي : شهادةٌ بينَكُم شهادةُ اثنين ذَوَي عَدْل مِنْكُم ، أَي : ينبغي أن تَكونَ الشهادةُ المُعْتَمَدَةُ هكذا (٤) وقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَمْروُ بنُ

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٢١٠.

(٢) من قوله تعالى من سورة المائدة : ٥ / ١٠٦ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ).

(٣) قالَ أبو حَيَان : هَذا الَّذِي ذَكَرهُ ابنُ جِنِّي مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ أَصحابُنا ، قالوا : لا يجوزُ حذفُ الفعلِ وإبقاءَ فاعلِهِ إلاَّ إِنْ أشعر بالفعل ما قبله ... أو أُجيب به نفي ... أو أجيب به استفهامٌ ... وليس حذفُ الفعلِ الذي قدَّرَهُ ابنُ جِنِّي وتَبِعَهُ الزَّمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة. ثمّ خَرَّجَ أبو حيان القراءة الشاذَّة على أحد وجهين :

أ ـ أنْ يكونَ (شَهَادةً) منصوباً على المصدر الذي نابَ منابَ الفعل بمعنى الأَمر ، واثنان مرتفعٌ به ... فيكونُ من بَابِ قولِك : ضَرْباً زيداً ....

ب ـ أَنْ يكونَ أَيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبراً نابَ منابَ الفعل ... كقولِك : أَفعل وكرامةً ومسرةً ، أَي أكْرَمُك وأسُرك. البحر المحيط : ٤ / ٢٣٩.

(٤) المحتسب : ١ / ٢٢٠.

٢٤٤

فائد : (والأَرْضُ يَمرُّونَ عَلَيْهَا) (١) بالرفعِ ، وَقَرَأَ (وَالأَرْضَ) نصباً السُّدِّيُّ ، وقراءةُ الناسِ : (وَالأَرْضِ).

قالَ أَبو الفتح : الوقفُ فيمن رفع أَوْ نصبَ على السَّـمَـاواتِ ثُمَّ تَبْتَدِئُ فتقول : (وَالأَرَضُ ، وَالأَرضَ) ، فَأَمَّا الرفعُ فَعَلى الابتداءِ ، والجملة بَعْدَهَا خبرٌ عَنْهَا والعائدُ مِنْهَا عَلَى الأَرض (هَا) من (عَلَيْهَا) و (هَا) من (عَنْهَا) عائدٌ على الآية (٢).

وأَما من نصبَ فقالَ : (والأرضَ يمرونَ عَلَيْهَا) ، فَبِفِعْل مضمر ، أَي : يطئون الأَرضَ ، أَوْ يَدُسونَ الأَرضَ ونحو ذلك. وَعَلَيهِ قراءةُ ابنِ مسعود : (يَمْشُونَ عَلَيْهَا) فَلَمْا أضمر الفعلُ الناصبَ فَسَّرَهُ بقولهِ : يمرّونَ عَلَيْهَا ، والنصبُ هُنَا دليلُ جوازِ قولِنَا : زيدٌ عِنْدَك وعمراً مَرَرْتُ بِهِ ، فَهوَ كَقَولِك : زيداً مَرَرْتُ بهِ في الابتداءِ (٣).

وَقَرَأَ الحسَن : (وَتَقَلُّبَهُمْ) (٤) بفتحِ التاءِ والقافِ وَضَمّ اللاّمِ وفَتْحِ الباءِ.

قالَ أَبو الفتحِ : هَذَا منصوبٌ بفعل دَلَّ عليهِ مَا قَبْلَهُ مَنْ قولهِ تَعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عن كَهْفِهِمْ) (٥) وقوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ١٠٥ : (وَكَأَيِّن مِّن آيَة فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

(٢) قال أَبو حَيان : «الضميرُ فِي (عَلَيْهَا) و (عَنْهَا) في هاتين القراءتينِ ـ الرَّفع والنَّصب ـ يعودُ عَلى الأرضِ» وما ذَهَبَ إليهِ أَبو الفتحِ أَسَدُّ.

(٣) المحتسب : ١ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٤) من قوله تعالى من سورة الكهف : ١٨ / ١٨ : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).

(٥) سورة الكهف : ١٨ / ١٧.

٢٤٥

رُقُودٌ) (١) فَهَذِهِ أَحوالٌ مشاهدةٌ ، فكذلك (تَقَلُّبَهُم) دَاخلٌ في معناهُ فَكأَ نَّهُ قَالَ : وَتَرَى أَوْ تُشَاهد تَقَلُّبَهُمْ ذَاتَ اليمينِ وَذَاتُ الشمالِ. فَإِنْ قِيلَ : إنَّ التَّقَلُبَ حَرَكةٌ ، والحَرَكَةُ غيرُ مرئية قِيلَ : هذا غور آخر ليسَ مِنَ القراءةِ في شيء إلاَّ أَنَّك تَرَاهُمْ يتقلبون والمعنى مفهوم. وليسَ كُلَّ أَحد يَقُولُ : إنَّ الحَرَكةَ لا تُرى (٢).

وَقَرَأَ الحسن والجَحْدَري وَسَلاَّم وَيَعقوب : (وَلُؤْلُؤاً) (٣) بالنَّصب.

قال أَبو الفتح : هو محمولٌ على فِعْل يَدلُّ عليهِ قولُهُ : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ) ، أَي : وَيُؤتَوْنَ لُؤلُؤا ، ويلبسونَ لؤلؤاً.

ومثله قراءةُ أُبَيّ (وحوراً عيناً) (٤) ، أَي : وَيُؤْتَونَ حوَراً عيناً ، وَيُزَوَّجُونَ حُوراً عيناً ، ومِثلُهُ مِمَّا نُصِبَ عَلى إضمارِ فعل يَدلُّ عليهِ ما قبلَهُ قولُهُ :

جِئني بِمِثْلِ بَنِي بَدْر لِقَوْمِهِمُ

أَوْ مِثْلَ أُسْرَةَ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارِ (٥)

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٨.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٦.

(٣) من قوله تعالى من سورة الحج : ٢٢ / ٢٣ : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ). قرأ عاصم ونافع وأبو جعفر ويعقوب بالنصب عطفاً على محل : (مِنْ أَسَاوِرَ) أو بتقدير فعل ، أي : يؤتون لؤْلؤاً ، وباقي الأربعة عشر بالجرّ عطفاً على : (أَسَاوِرَ). إتحاف فضلاء البشر ـ طبعة دار الندوة بيروت المصورة على نشرة علي محمد الضباع : ٣١٤.

وبالحديث عن هذه القراءة يكون ابن جني قد خرج عن منهجه في كتاب المحتسب الذي وضعه في الأصل (في تبيين وجوه القراءات الشاذة والإيضاح عنها) ، وقال في مقدّمته : (وأنَا بإذن الله بادئٌ بكتاب أذكرُ فيهِ أحوالَ ما شذَّ عن السبع) المحتسب : ١ / ٣٤ ، وهذه القراءة سبعية وليست شاذّة.

(٤) من قوله تعالى من سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٢ : (وَحُوْرٌ عِيْنٌ).

(٥) البيت لجرير. ويروى (جيئوا) مكان (جئني).

٢٤٦

فَكَأ نَّهُ قَالَ : أَوْ هاتِ مِثْلَ أُسْرَة ، وعليه قول الآخر :

بَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أتانَا

مُعَلّقَ وَفْضَة وَزِنَادَ رَاعِ (١)

فَكَأَ نَّهُ قَالَ : وحاملاً زِنَادَ رَاع ومعلقاً زِنَادَ راع وهو كثير (٢).

وَقَرأتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ وَعيسى الثقفي وعيسى الهمداني ورويت هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز : (سُورَةً) (٣) بالنصب (٤).

قال أَبو الفتح : هي منصوبةٌ بفعلِ مضمر وَلَك في ذلك طريقان :

أَحدُهُما : أَنْ يَكُونَ ذِلِك المضمر من لفظِ هذا المُظهَر ، وَيَكُونَ المُظْهَرُ تفسيراً لَهُ ، وتقديرُهُ أَنْزَلْنَا سُوَرةً فَلَمَّا أَضْمَرَهُ فَسَّرَهُ بقولِهِ : (أَنْزَلْنَاهُ).

كما قالَ :

__________________

اُنظر : ديوانه : ٣١٢ والكتاب : ١ / ٤٨ و ٨٦ والمقتضب : ٤ / ١٥٣ وشرح المفصل : ٦ / ٦٩.

(١) يروى (فبينا) فلا خَرَمَ فيه ويروى (نطلبه) مكان (نرقبه) و (زناد) بالكسر بدل الفتح.

والبيت ينسب لنصيب كما ينسب لرجل من قيس غيلان. اُنظر : الكتاب : ١ / ٨٧ وشرح المفصل : ٤ / ٨٧ و ٦ / ١١ والهمع : ١ / ٢١١.

(٢) المحتسب : ٢ / ٧٨.

(٣) من قوله تعالى من أَوَلِ سورةِ النور : ٢٤ / ١ : (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَات بَيِّنَات لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

(٤) يقول الفرّاء : «ولو نصبت السورة على قولك : أنزلناها (سُوَرةً) وفرضناها كما تقول : مجرّداً ضربته كان وجهاً. وما رأيتُ أَحداً قرأَ بِهَا» فهو يذهب إلى نصب سورة على الحال وينفي عن نفسه رؤية قارئ قرأ بها.

وقد رأينا انه قرئ بها في الشواذِ كِما روى هذهِ القراءة ابن خالويه أيضاً.

فلم يعد نفي الفرّاء حجّة لاَِنَّ مَنْ سَمِعَ حجّةٌ على مَنْ لَمْ يسمَعْ. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٢٤٤ ومختصر في شواذ القرآن : ١٠٠.

٢٤٧

أَصبَحْتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ وَلاَ

أَمْلِك رِأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرَا

والذّئبَ أَخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بهِ

وَحْدِيَ وَأَخْشَى الرِّيَاحَ والْمَطَرَا (١)

أَي : وَأَخْشَى الذِّئْبَ ، فلمَّا أَضمَرَهُ فَسَّرَهُ بقولِه : (أَخْشَاهُ).

والآخر : أَنْ يَكُونَ الفعلُ الناصبُ (سُورَةً) مِنْ غِيرِ لَفْظِ الفعلِ بَعْدَهَا ، لَكِنَّهُ على معنى التخصيص ، أَي : اقرَؤوا (سُورَةً) أوْ تَأَمَّلوا وَتَدبَّرُوا (سُورَةً) أَنزلناهَا ، كما قَالَ تَعَالى : (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا) (٢) أَي : احفظوا ناقةَ اللهِ ويُؤنِس بإضمارِ ذلك ظهورُهُ في قولِهِ تَعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا) (٣) فَإذَا كانَ تقديرُهُ هَذَا فَقَولُهُ : (أنْزَلْنَاهَا وَفَرضْنَاهَا) إلى آخر ذَلِك منصوبٌ الموضع لِكَوْنِهِ صفةً لـِ (سُورَةً) وإذَا جعلت أنزلناها تفسيراً للفعل الناصب المضمر فلا موضع لَهُ مِنْ الإعْرابِ (٤) أَصْلاً ، كَمَا أَنَّهُ لاَ مَوضِعَ مِنَ الإعرابِ لِقَوْلِهِ : أَنْزَلْنَا (سُورَةً) لأَ نَّهُ لَمْ يقع مَوْقِعَ المفردِ وَهَذا واضحٌ (٥).

وَقَرَأَ عِيسى الثَّقَفِي : (الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ) (٦) بالنَّصْبِ.

قال أَبو الفتح : وَهَذا منصوبُ بفعل مُضمر أَيضاً أَي : اجلدوا الزَّانِيةَ

__________________

(١) للربيع بن ضَبُع الفُزاري وهو أحد المعمرين يقال إنَّه نَيَّفَ على مِئَتَي عام. الكتاب : ١ / ٤٦ والخزانة ـ بولاق : ٣ / ٣٠٨.

(٢) سورة الشمس : ٩١ / ١٣.

(٣) سورة محمد (صلى الله عليه وآله) : ٤٧ / ٢٤.

(٤) نقل ذَلِك العُكْبَري في إملاءِ ما منَّ بهِ الرحمن : ٢ / ١٥٣.

(٥) المحتسب : ٢ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٦) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٢ : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة).

٢٤٨

والزانَي (١) فَلَمّا أَضْمر الفعلَ الناصبَ فَسَّرَهُ بقولَهِ : (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُما مَائةَ جَلْدَة) (٢) وَقَرَأَ أُبي بنُ كعب وابن مسعود : (وَحُوراً عِيناً) (٣).

قال أبو الفتح : هذا على فعل مضمر أَي : وَيُؤتَونَ أو يَزوجُونَ حُوراً عِيناً كَمَا قالَ : (وَزَوَّجْنَاهُم بِحُور عِين) (٤) وهو كثير في القرآن والشعر (٥).

النصب على المدح

قَرَأَ الضَّحَّاك : (الحَمدُ لِلَّهِ فَطَرَ السَّماوات وَالأَرضَ) (٦).

قَالَ أَبو الفتح : هَذا على الثناءِ على اللهِ سُبحانه وذِكرِ النِّعْمَةِ التي استَحَقَّ بِهَا الحَمْدَ ، وأَفردَ ذلك في الجملةِ التي هي (جَعَلَ) بِمَا فيها من الضمير ، فكانَ أَذْهَبَ في معنى الثناءِ لأَ نَّهُ جملة بعد جملة. وكلّما زادَ الإسهابُ في الثناءِ أَوِ الذَّمِّ كانَ أبلغَ فيهما ، أَلاَ ترى إلى قولِ خِرْنِق :

لاَ يَبْعُدَنْ قَومِي الَّذينَ هُمُ

سُمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزْرِ

النَّازلِينَ بِكُلّ مُعْتَرَك

والطَّيَّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ (٧)

__________________

(١) قال سيبويه : وقد قرأ أُناسٌ : (والسّارقَ والسَّارقةَ) ، و (الزانيةَ والزانِيَ) وهو في العربيةِ على ما ذكرتُ لَك من القوّةِ. وَلَكِنْ أبَتِ العامّةُ إلاّ الرَّفعَ. وإنَّما كان الوجهُ في الأمرِ والنهي النصبَ لأَنَّ حدَّ الكلامِ تقديمُ الفعلِ وهو فيه أَوْجَبَ. الكتاب : ١ / ٧٢.

(٢) المحتسب : ٢ / ١٠٠.

(٣) من قوله تعالى من سورة الواقعة : ٥٦ / ٢٢ : (وَحُورٌ عِينٌ).

(٤) سورة الدخان : ٤٤ / ٥٤.

(٥) المحتسب : ٢ / ٣٠٩.

(٦) من قوله تعالى من سورة فاطر : ٣٥ / ١ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ).

(٧) انظر : الكتاب : ١ / ١٠٤ و ٢٤٦ و ٢٤٩ و ٢٨٨ والهمع : ٢ / ١١٩ وشرح الأشموني : ٣ / ٨٦ و ٢١٤ وشرح التصريح : ٢ / ١١٦ والخزانة : ٥ / ٤١.

٢٤٩

وَيَروى النازلونَ والطيبونَ ، والنازلينَ والطيبونَ ، والطيبينَ والنازلونَ ، والرفعُ على هُمْ والنَّصْب عَلَى أَعْنِي. فَكُلَّما اختلفتِ الجملُ كانَ الكلامُ أَفَانِينَ وَضُروباً ، فكانَ أَبلغَ مِنْهُ إذَا ألزمَ شَرْحاً واحِداً ، فقولُك : أُثِني على اللهِ ، أَعطانَا فَأَغْنَى أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِك : أُثْنِي على اللهِ المُعْطينا والمُغْنِينا ، لأَنَّ معك هُنا جملة واحدة وهناك ثلاثُ جمل. ويدلّك على صِحَّةِ هذا المعنى قراءة الحسَن : (جَاعِلُ الملائكةِ) (١) بالرفعِ. فهذا على قولِك : هُوَ جاعلُ المَلاَئكةِ ، وَيَشْهَدُ به أَيْضاً قراءةُ خُلَيْد بن نُشَيْط : (جَعَلَ الملائكةَ).

قالَ أَبو عُبيدةَ : إذا طالَ الكلامُ خَرَجُوا مِنَ الرَّفعِ إلى النَّصْبِ وَمِنَ النَّصْبِ إلى الرَّفعِ ، يُريدُ ما نحن عليه ، لتختلف ضروبه وتتباين تراكيبه (٢).

حذف فعل القول

رَوى ابنُ مجاهد عن ابنِ عباس في مُصحَفِ ابنِ مسعود : (وَإذْ يَرْفَعُ إبراهيمُ القَواعِدَ مِنَ البيتِ وَإسْمَاعيلُ وَيَقُولانِ (٣) رَبَّنَا) (٤) وَفيهِ : (والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونهِ أَولياءَ قَالوا (٥)

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة فاطر : ٣٥ / ١ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَة مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ).

(٢) المحتسب : ٢ / ١٩٨.

(٣) في تفسير القرطبي : ٢ / ١١٥ كما في المحتسب : (ويقولان) بالواو.

كتاب المصاحف لابن أبي داود : ٥٧ والكشاف : ١ / ٧٤ والبحر المحيط : ١ / ٣٨٨ : (يقولان) من غير واو.

(٤) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٢٧ : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّك أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من غير (يقولان).

(٥) ذكر هذه القراءة الفرّاء وأَبو حيَّان ، ولم يذكرها ابنُ أبي داود عندما ذكر اختلاف

٢٥٠

مَا نَعُبُدُهُمْ) (١) ، وفيهِ : (والملائِكَةُ بَاسِطوا أَيديِهِم يقولون أَخْرِجُوا) (٢).

قال أَبو الفتح : في هذا دليل على صحّة ما يذهب إِليه أَصحابُنا من أَنَّ القولَ مرادٌ مقدَّرٌ في نحو هذه الأَشياءِ وأَ نَّهُ لَيْسَ كما يَذْهَبُ إليهِ الكُوفِيون من أَنَّ الكلامَ محصولٌ على معناهُ دون أَنْ يكونَ القولُ مقدراً مَعَهُ ، وذلِك كقولَ الشاعر :

رَجْلانِ مِنْ ضُبَّةَ أَخْبَرَانَا

إنَّا رَأَيْنَا رَجُلاً عريانا (٣)

فهو عِندنا نَحنُ على قالا إِنَّا رأَيْنَا وعلى قولِهِم لا إضْمَارَ قول هناك (٤).

لكنَّهُ لَمَّا كانَ أَخبرَانا في معنى قالا لَنَا صارَ كأ نّهُ قَالا لَنا ، فأَمَّا على إِضمار قَالا في الحقيقةِ فَلاَ.

وقد رَأَيتَ إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر ما نقدره من القول فصار قاطعاً على أَنَّهُ مرادٌ فيما يجري مجراه. وكذلك قوله :

__________________

مُصحَفِ ابنِ مسعود. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٤١٤ والبحر المحيط : ٧ / ٤١٤ وكتاب المصاحف : ٦٩.

(١) من قوله تعالى من سورة الزمر : ٣٩ / ٣ : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُـقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) من غير (قالوا).

(٢) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ٩٣ : (وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) من غير (يقولون).

(٣) يروى (من مكَّة) مكان (من ضبَّة). ولم ينسب لأَحد. انظر : الخصائص : ٢ / ٣٣٨ والمحتسب : ١ / ١٠٩ و ٢٥٠ والخزانة ـ ط ـ بولاق : ٤ / ٢٣ والمغني : ٢ / ٤١٣.

(٤) هذه الجُمَل في محل نصب اتفاقاً ، ثمّ قال البصريونَ والفرّاءُ : النَّصبُ بقول مُقَدَّر ، وقال الكوفيون بالفعل المذكور. انظر : معاني القرآن للفرّاءِ : ٢ / ٦٢ و ٤١٤ والمغني : ٢ / ٤١٣ ، وفي هذا تأكيد على أنَّ أبا الفتح بن جِنِّي بصري المذهب النحوي.

٢٥١

يَدْعُونَ عَنْتَرُ والرماحُ كَأَ نَّهَا (١)

 ......

فيمن ضَمَّ الرَّاءَ مِنْ عنتُر ، أَي : يَقُولونَ : يَا عَنْتَرُ ، وَكَذَلِك مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَهوَ يُريدُ : يَا عَنتَرَةُ.

وكذلِك (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيْكُم) (٢) أَي : يقولونَ (٣).

وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ القولِ جداً (٤).

وَقَرأ عِكرِمَةُ : (لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ برحمة دَخَلُوا الجَنَّةَ) (٥) وقرأَ طلحة بن مصرف : (برَحْمَة أَدْخِلُوا الجَنَّةَ) أَي فُعِلَ ذَلِك بِهِم.

قال أَبو الفتح : الَّذي في هاتين القراءتين خطابهم بقوله سبحانه : لا خوفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ ، وطريقُ ذَلِك أَنَّ قَوْلَهُ : (أَهَؤلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ برحمة) (٦) الوقف هنا ، ثُمَّ يُسْتَأَ نَفُ فَيُقال دَخَلوا الجَنَّةَ أَوْ أَدْخِلُوا الجَنَّةَ ، أَي : فقد دَخَلُوا الجَنَّةَ فَقَال لَهُمْ : (لاَ خَوفٌ عَلَيكُمْ وَلاَ أَنْتُم تَحْزَنُونَ) (٧) وَقَدْ

__________________

(١) البيتُ لعنترة العبسي من قصيدته التي عرفت بالمعلقة وعجزهُ :

 ......

أَشطانُ بئر في لُبانِ الأدْهَمِ

انظر : الكتاب : ١ / ٣٣٢ وشرح أَبيات سيبويه : ١٨٧ وشرح المعلّقات السبع : ١٥٢ والمغني : ٢ / ٤١٤ وهمع الهوامع : ١ / ١٨٤ والدرر اللوامع : ١ / ١٦٠.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) قال الفرّاء : وقوله : (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيْكُم) يقولون : سلام عليكم ، القول مضمر كقوله : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) سورة السجدة : ٣٢ / ١٢ ، أَي : يقولون ربّنا. معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٦٢.

(٤) المحتسب : ١ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٥ ـ ٧) من قوله تعالى من سورة الأَعراف : ٧ / ٤٩ : (أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ).

٢٥٢

اتَّسعَ عَنْهُم حذفُ القولِ كقولهِ تَعالى : (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيْكُم) أَيّ : يَقُولُونَ لَهُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ.

وَقَالَ الشاعرُ :

رَجْلاَنِ مِنْ ضبَّةَ أَخبرانا

إنَّا رأَيْنَا رَجُلاً عريانا (١)

أَي : قالاَ : إنَّا رَأَيْنَا وَلِذَلِك كَسَر.

هَكَذا مَذْهَبُ أَصحابِنا فِي نَحوِ هَذَا مِنْ إضْمَارِ القولِ (٢) فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا : (لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) جملة منصوبة الموضع على الحالِ (٣) أَي : دَخَلوا الجنّة أَوْ أُدْخِلوا الجَنَّةَ مَقُولاً لَهُمْ هَذَا الكلام الذي هو لا خوفٌ عَلَيْكُمْ ، وَحُذِفَ القولُ وَهْوَ مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ ، وأُقِيمَ مقامه قَوْلُهُ : (لاَ خوفٌ عَلَيْكُمْ) فانتصب انتصابه ، كما أَنَّ قولهم : كَلَّمْتُهُ فاهُ إلى فِيَّ ، منصوبٌ على الحالِ ، لاَِ نَّهُ نَابَ عن جاعلاً فَاهُ إلى فِيَّ ، أَوْ لأَ نَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ مشافهةً التي هي نائبة عن مشافِهاً له (٤).

وَقَرأَ عبد الله بن مسلم بن يَسَار وَحَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ : (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ تَتَّقُونَ) (٥) بالتاءِ.

قالَ أَبو الفتحِ : هو عِنْدَنَا عَلى إضمَـار القولِ فيهِ ، وإِيْضَاحُهُ : (وَإِذْ نَادَى

__________________

(١) تقدّم الشاهد في : ص : ٢٥١.

(٢) تنظر : ص : ٢٥١.

(٣) قال العكبري : إذا قرئ (ادخُلُوا) على الأمر كانت الجملة حالاً أَي : ادخُلُوا آمنين ، وإذا قرئ على الخبر كان رجوعاً من الغيبَة إلى الخطاب. إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢٧٥.

(٤) المحتسب : ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٥) من قوله تعالى من سورة الشعراء : ٢٦ / ١٠ ـ ١١ : (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّـقُونَ).

٢٥٣

رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ) فقلْ لَهُمْ : (أَلاَ تَتَّقُونَ) (١)؟ وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ القولِ عَنْهُم ، مِنْ ذَلِك قولُ اللهِ تَعالى : (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيهِم مِنْ كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيكُم) (٢) ، أَي : يَقُولُونَ (٣) ، سلامٌ عَلَيْكُم (٤).

قَرَأَ ابنُ مسعود (٥) : (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا قَالَ هودٌ بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِـهِ) (٦).

قالَ أَبو الفتح : قد كَثر عنهم حذفُ القولِ ، لدلالةِ ما يله عليهِ ، كَقَولِ اللهِ تعالى : (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيهِم مِنْ كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيكُم) أَي يقولون (٧) : سَلاَمٌ عَلَيْكُم ، وَكَذَلِك هذهِ القراءَة مُفَسِّرةٌ لقراءة الجماعة : (بَلْ هُوَ مَا

__________________

(١) قال الفرّاء : فقوله : (أَلاَ يَتَّـقُونَ) لو كانَ مكانَهَا (ألا تَتَّقُونَ) كَانَ صَواباً لأَنَّ موسى أُمِرَ أَنْ يقولَ لَهُمْ : أَلا تَتَّقونَ؟ فكانت التاء تجوز لِخطَابِ موسى إيَّاهم ... وهو بمنزلة قوله : (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ) و (سيغلبون).

انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٢٧٨.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) تنظر : ص : ٢٥٢.

(٤) المحتسب : ٢ / ١٢٧.

(٥) في مختصر شواذّ القرآن : ١٣٩ «(قُلْ بَلْ ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هِيَ رِيحٌ) ابن مسعود» وقال الفرّاء : قال الله : قل لهم بلْ هو ما استعجلتم به من العذاب. وفي قراءة ابن مسعود : قل بل ما استعجلتم بِهِ هي ريح فيها عذاب أليم. وقال العكبري : أَي ليس كما ظننتهم بل هو ما استعجلتم به. وقال أبو حيّان : قال لهم : هو ذلك أَي : بل هو العذابُ الذي استعجلتم به.

انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٣ / ٥٥ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٣٥ والبحر المحيط : ٨ / ٦٤.

(٦) من قوله تعالى من سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٤ : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، من غير : (قال هود).

(٧) تنظر : ص : ٢٥٢.

٢٥٤

اسْتَعْجَلْتُمْ بهِ) (١) وَلَوْ لَمْ تأتِ قراءةُ عبدِ اللهِ هذهِ لَمَا كانَ المعنى إلاَّ عَلَيْهَا فكيفَ وَقَدْ جاءَتْ ناصرةً لتفسِيرِهَا (٢)؟

حذف المفعول به

قَرَأَ : (يُرْتِعْ وَيَلْعَبْ) (٣) أَبو رَجَاء.

قَال أَبو الفتح : أَمَّا (يُرْتِعْ وَيَلْعَبْ) فَهُوَ عَلى حذفِ المفْعُولِ ، أَي : يُرتْعِ مطيتَهُ فَحذَفَ المفعولَ.

وَعَلى ذكرِ حَذْفِ المفعول فَمَا أَعربَهُ وأعذَبَهُ في الكلام! ألاَ تَرى إلى قولِهِ تعالى : (وَوَجَدَ مِنْ دُوُنِهمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ) (٤) أَي : تذودانِ إبلهما.

وَلَوْ نُطِقَ بالمفعولِ لَمَا كانَ في عذوبة حذفهِ وَلاَ في علوهِ ، وَأَنْشَدَنَا أَبو علي للحطيئة :

مُنَعَّمَةٌ تَصُونُ إليك مِنْهَا

كَصَوْنِك مِنْ رِدَاء شَرْعَبيّ (٥)

أَي : تَصُونُ الحديثَ وَتخزنه ، فهو كقولِ الشَّنْفَري :

كَأَنَّ لَهَا فِي الأَرضِ نِسْياً تَقُصُّهُ

عَلى أَمِها وَإنْ تُخَاطِبْك تَبْلِتِ (٦)

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٤.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٦٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ١٢ : (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُـونَ).

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٢٣.

(٥) الشَّرعَبيُّ : ضربٌ مِنَ البُرودِ. انظر : ديوان الحطيئة : ٣٥ والخصائص : ٢ / ٧٢ ولسان العرب : ١ / ٤٧٦.

(٦) النِسي : الشيءُ المَنسِي الَّذي لا يُذْكَر ، وتقصُّهُ : تَتَّبِعُ أَثَرَهُ لِتَجِدَهُ. وَعَلى أمَّها : (بفتح الهمزة)

٢٥٥

أَي : تقطع حديثها حياءً وخفراً ، واعتدل في هذا الموضع ذُو الرُّمة ، قال :

لَهَا بَشَرٌ مِثْل الحرير ومنطقٌ

رَخِيمُ الحَوَاشِي لاَ هُراءٌ وَلاَ نَزْرُ (١)

وَمَا أَطْرَفَ قولِهِ : رخيم الحواشي ، أَي : لا تنتشر حواشيه فتهرأُ فِيهِ ، ولاَ يضِيقُ عَمَّا يُحتاجُ مِنْ مِثْلِها إلَيْهِ للسماعِ والفكاهة ، لَكِنَّهُ على اعتدال ، وكما يُستَحْسَن ويستعذَبُ من الثقال (٢) أَلاَ تَرى إلى قولِ الآخر :

وَلَمّا قَضَيْنَا مِنْ مِنى كُلَّ حَاجَة

وَمَسَّحَ بالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ (٣)

أَخَذْنَا بِأَطَرافِ الأحادِيثَ بِيْنَنَا

وَسَالَتْ بأعناقِ المَطيّ الأباطِحُ (٤)

وروى أَبو عبد الرحمن السُّلَمِي عن علي بنِ أَبي طالب عليه السلام :

__________________

أَي : على سَمْتها. وتبلِتْ ـ بكسر اللاّم ـ : تقطع الكلام من الحياء. وبفتح اللاّم تنقطع وتسكَت ، يُريدُ شدّة استحيائها فهي لا ترفع رأسَها كأ نَّها تطلب شيئاً في الأرض. ويروى : (تحَدّثْك) مكان (تخَاطِبْك).

المفضليات : ١٠٩ والخصائص : ١ / ٢٨.

(١) انظر : الديوان : ٢١٢ والخصائص : ١ / ٢٩.

(٢) في المحتسب : ١ / ٣٣٤ التقال. وما أثبتناه عن المحقّقين الذين ظهرَ لهم أَنَّ التَّقال تحريف عن الثَّقال كسحاب وهي المرأَة الرَّزانُ.

(٣) يُنْسَبُ البيتان إلى كُثَيرْ عَزَّة وإلى المُضَرَّب بنِ كعبِ بنِ زُهَير وإلى يزيدَ بنِ الطَّثرِيَةِ ويُروَى بينَهما البَيتِ التالي :

وَشُدَّتْ عَلى دُهْم المِهَارى رِحَالُنَا

وَلَمْ يَنْظُرِ الغادِيِ الَّذي هُوَ رائِحُ

انظر : الشعر والشعراء : ١ / ٦٦ والخصائص : ١ / ٢٨ والمحتسب : ١ / ٣٣٤ والوساطة : ٥٨ وأمالي المرتضى : ١ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨ ولسان العرب : ١١ / ١٢١ ومعجم شواهد العربية : ١ / ٨٤ ونقد النصِّ عند ابن جِنِّي بحث للدكتور حازم الحلي منشور في مجلة كلية الفقه العدد ٣ لسنة ١٩٨٦ م.

(٤) المحتسب : ١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٢٥٦

(والَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) (١) بفتح الياء.

قَالَ ابنُ مجاهد : وَلاَيقرأُ بِهَا (٢).

قالَ أَبو الفتحِ : هذا الَّذِي أَنكره ابنُ مجاهد عِندِي مُستَقيمٌ جائزٌ وذَلك أَنَّهُ على حذفِ المفعولِ ، أَي : والَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ أَيَّامَهُم أَوْ أَعْمَارَهُم أَوْ آجَالَهُمْ كَما قَالَ سبحانه : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ ...) (٣) و (الَّذِيَنَ تَتَوَفَّاهُمُ الملائِكةُ) (٤) وَحَذْفُ المفعولِ كَثيِرٌ في القرآنِ وَفَصِيحِ الكلامِ ، وَذَلِك إذا كانَ هُنَاك دَلِيلٌ عليهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى : (وَأُوُتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء) (٥).

أَي : شَيْئاً. وأَنْشَدَ أَبُو عليّ للحطيئة :

مُنَعَّمَةٌ تَصُونُ إليك مِنْهَا

كَصَوْنِك مِنْ رِدَاء شَرْعَبِيِّ (٦)

أَي : تَصونُ الكلامَ مِنْهَا ، وَهْوَ كَثيرٌ جداً (٧).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٢٣٤ : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً).

(٢) لم يُجَوِّزْ أحمدُ بن موسى بن مجاهد (ت / ٣٢٤ هـ) القراءةَ بها ; لأَ نَّها لا سند موثوقاً لها ، وابن جني (ت / ٣٩٢ هـ) بَحَثَ عن وجهِ تخريجها النَّحوي ، وما كان في صَدَدِ سندِها ، وقد خرّجها نحوياً ، وممن أشار إلى هذه القراءة التي لم تثبت نسبتها إلى الإمام علي عليه السلام ، أبو جعفر أحمد النَّحَّاس (ت / ٣٣٨ هـ) في كتابه معاني القرآن ١ : ٢٢٢ / ١٤٦.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١١٧.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٢٨ و ٣٢.

(٥) سورة النمل : ٢٧ / ٢٣.

(٦) تقدَّم الشاهد في : ص : ٢٥٥.

(٧) المحتسب : ١ / ١٢٥.

٢٥٧

وَقَرأَ عِكْرِمةَ : (المُزَمِّل) (١) و (المُدَثِّر) (٢) خفيفة الزَّاي والدَّال ، مُشَدَّدَة الميم والثَّاءِ.

قال أبو الفتح : هَذا على حذفِ المفعولِ ، يريدُ : يَا أَيُّها المُزَمِّلُ نَفْسَهُ ، والمُدَثِّرُ نَفْسَهُ ، فَحَذَفَهُ فِيهما جَميعاً ، وَحَذْفُ المَفْعُولِ كَثيرٌ ، وَفَصيحٌ ، وَعَذبٌ ، ولا يركبه إلاّ مَنْ قَوِيَ طبعُهُ وَعَذُبَ وَصْفُهُ ، قَالَ اللهُ سبحانه : (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء) (٣) أَي : أَوْتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيء شَيْئاً (٤).

وأَنْشَدَنَا أَبو علي لِلْحُطَيْئَة :

مُنَعَّمَةٌ تَصُونُ إليك مِنْهَا

كَصَوْنِك مِنْ رِدَاء شَرْعَبِيِّ (٥)

أَي : تَصُونُ حَدِيثَها وَتَخزُنُهُ كَقَوْلِ الشَّنْفَرَي (٦) :

كَأَنَّ لَهَا فِي الأرضِ نِسيا تَقُصُّهُ

عَلى أَمِّها وإن تُخَاطِبْك تَبْلِتِ (٧)

وَقَرَأَ ابن عبَّاس والحَسَن والضَّحَّاك وَمُحَمَّدُ بنُ عليّ وجعفرُ بنُ مُحَمَّد (عليهم السلام) وعمروُ بنُ فائد ويعقوب : (مِنْ كُلّ مَا سَأَ لْـتُمُوهُ) (٨) بالتنوين.

قَالَ أَبو الفتح : أَمَّا على هذه القراءةِ فالمفعولُ ملفوظٌ بِهِ ، أي : وآتاكُم مَا

__________________

(١) من قوله تعالى من أوّل سورة المزّمّل : ٧٣ / ١ : (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).

(٢) من قوله تعالى من أوّل سورة المدّثّر : ٧٤ / ١ : (يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ).

(٣) سورة النمل : ٢٧ / ٢٣.

(٤) تنظر : ص : ٢٥٧.

(٥) تقدَّم الشاهد في : ص : ٢٥٥.

(٦) تقدَّم الشاهد في : ص : ٢٥٥.

(٧) المحتسب : ٢ / ٣٣٥.

(٨) من قولِهِ تعالى من سورةِ إبراهيم : ١٤ / ٣٤ : (وَآتَاكُمْ مِّنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).

٢٥٨

سَأَ لتُمُوهُ أَن يُؤتِيَكُم مِنهُ وأَمَّا على قراءةِ الجَمَاعِةِ : (مِن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ) على الإضَافةِ فالمفعولُ محذوفٌ ، أي : وآتَاكُم سُؤلكُم مِن كُلّ شيء : أي وآتَاكُمْ مَا سَاغَ إيتاؤهُ إيَّاكُمْ إيَّاهُ مِنهُ. فَهُوَ كَقَولِهِ عَزَّوَجَلَّ : (وَأُوتِيَت مِن كُلّ شيء) (١) أي : أوتِيَتْ مِن كُلّ شَيء شَيئاً (٢) وَقَد سَبَقَ ذِكرُنَا حَذفُ المفعولِ بِهِ (٣) ، وَأَ نَّهُ مَعَ ذَلِك عَذْبٌ عَال فِي اللُّغَةِ (٤).

وَقَرأَ الحَسنُ : (أَن يُؤتِيَ أَحَدٌ مِثلَ مَا أُوتيِتُمْ) (٥).

قال أحمد بن صالح : كَذَا قالَ : قالَ ابنُ مجاهد : وَعَلى هَذَا يَنْبَغِي أن يَكُونَ أن يُوتِي أحداً.

قَالَ أَبو الفتح : لا وَجهَ لاِِنكَارِ ابنِ مجاهد رفعَ أَحد مع قولهِ (يُؤتيَ) مُسَمَّى الفاعل ، وذلك أَنَّ مَعنَاهُ أن يُؤتِيَ أَحدٌ أحداً (٦) مِثلَ ما أُوتِيتُم كَقَولِك : أَن يُحسِنَ أَحَدٌ مِثل مَا أُحسِنَ إِلَيكُم ، أي : أنْ يُحْسِنَ أَحَدٌ إلَى أحد مِثلَ مَا أُحسِنَ إلَيكُم فَتَحذِف المفعولَ وَيَكون معناهُ ومفادُهُ أَنَّ نِعمَةَ اللهِ سُبِحَانَهُ لا تُقَاسُ بِها نِعمَةٌ. وَهَذا مَعَ أَدنى تَأَمُّل واضحٌ (٧).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة النمل : ٢٧ / ٢٣ : (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ).

(٢) تنظر : ص : ٢٥٧.

(٣) تنظر : ص : ٢٥٥.

(٤) المحتسب : ١ / ٣٦٣.

(٥) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ٧٣ : (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآ جُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْ تِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

(٦) وكذلك قال في البحر المحيط : ٢ / ٤٩٧.

(٧) المحتسب : ١ / ١٦٣.

٢٥٩

قال أبو الفتح : مَن قَرَأَ (١) : (تُنبِتُ بالدُّهْنِ) (٢) قَد حَذَفَ مَفعُولَها أيّ : تُنبِتُ مَا تُنبِتُهُ وَدُهُنها فِيها (٣). وَذَهَبُوا إلى قولِ زُهير :

 ......

 ...... حتَى إذا أَنبَتَ البَقْلُ (٤)

إلى أَنَّهُ فِي مَعنَى تَنبَتَ وأَ نَّها لُغَةٌ (٥) : فَعَلْت وَأَفعلت ، وقد يجوز أَنْ يكونَ على هَذا أي : محذوف المفعول ، أي : حَتَّى إذا أَنبَتَ البَقلُ ثَمَرَهُ ، وَنَحنُ نَعلَمُ أَيضاً أَنَّ الدُّهْنَ لاَ يُنْبِتُ الشَّجَرةَ وإنَّما يُنبِتُها الماءُ ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِك أَيضاً قِرَاءَةُ عبد الله : (تَخرُجُ بالدُّهِنِ) أي : تَخرُجُ مِنَ الأرضِ وَدُهنُهَا فِيهَا.

فَأمَّا مَن ذَهَبَ إلى زِيَادَةِ الباءِ (٦) أي : تُنبِتُ الدُّهنَ فمضعوفُ المَذهَبِ ،

__________________

(١) هو الحسن البصري. اُنظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٢٣٢.

(٢) من قوله تعالى من سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٠ : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْـنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغ لِّلآكِلِينَ).

(٣) وكذلك وَرد في مُشكِل إعراب القرآن : ٢ / ٤٩٩ وإملاء ما منَّ به الرَّحمن : ١٤٨ والبحر المحيط : ٦ / ٤١٠.

(٤) البيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى المازني وهو بتمامه :

رَأيت ذَوي الحاجاتِ حَولَ بُيُوتِهِم

قَطِيناً لَهُم حَتَّى إذا أَنبَتَ البَقلُ

وَيُرْوَى نَبَتَ مَكانَ أَنبَتَ. يُريدُ أَنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ بَينَهُم زَمَنَ الجَدبِ حَتَّى يُخصِبوا.

الديوان : ١١١ والمحتسب : ٢ / ٨٩ والمغني : ١ / ١٠٢ ولسان العرب : ٢ / ٤٠١.

(٥) قال الفرّاء : «هما لغتان نَبَتَ وَأَنْبَتَ ... كَقَولِك مَطَرتِ السماءُ وَأمطَرِتْ» وفي اللسانَ : قيل : أنبَتَ لازِم كَنَبَتَ فَتَكُون الباءُ للحَالِ وَكَانَ الأَصمَعِيُّ يُنكِر ذَلِك وَيتَّهِم مَن رَوى في بيتِ زهير : (أَنبَتَ البقلُ). انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٢٣٢ ولسان العرب : ٢ / ٤٠١ والبحر المحيط : ٦ / ٤٠١.

(٦) مِمَّن قال بزيادة الباءِ ابنُ قتيبةَ ومكي بنُ أَبِي طالب والعُكبري وابنُ هشام وأَبو حيَّان.

انظر : تأويل مشكل القرآن : ٢٤٨ ومشكل إعراب القرآن : ٢ / ٤٩٩ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٤٨ والمغني : ١ / ١٠٢ والبحر المحيط : ٦ / ٤٠١.

٢٦٠