أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

ونحو القراءة قول الآخر :

أَلا إنَّ جِيرَانِي العَشِيَّةَ رَائِحٌ (١)

 ......

فَأَ خْبَرَ عَنْهُ بلفظِ الواحدِ لأَ نَّهُ أَجْرَاهُ مجراه (٢).

٤ ـ الفاعل مؤنَّث وفعله مذكَّر

قَرَأَ ابنُ عَبَّاس : (وَلَوْ لَمْ يَمْسَسْهُ نَارٌ) (٣) بالياء.

قال أَبو الفتح : هَذا حَسَنٌ مُسْتَقيِمٌ ، وذلك لأَنَّ هُناك شَيْئَينِ حَسَّنَا التَّذْكِير هُنَا :

أَحدُهُمَا : الفَصْلُ بالهاءِ.

والآخر : أَنَّ التأَنِيثَ لَيْسَ بَحَقِيقيِّ ، فَهْوَ نظيرُ قولِ اللهِ سبحانَهُ : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ) (٤) بَل إذَا جازَ تذكير فعلِ (الصَّيْحَةِ) مَعَ أَنَّ فِيهَا علامة تأنيث فَهْوَ مع النارِ التيِ لاَ علامةَ تأنيث فِيها أَمْثَل.

وأما مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قولِ جِرَانِ العَوْد :

أَلا لاَ يَغُرَّنَّ امْرَأً نَوْفَلِيَّةٌ

عَلَى الرَّأس بَعْدِي أوْ تَرَائِبُ وُضَّحُ (٥)

__________________

(١) عجز البيت :

 ......

دَعَتْهُـمْ دَواع مِنْ هَـوىً وَمَنَـادِحُ

والأَصْلُ مناديح لأَ نَّهُ جمعُ مَنْدُوحَة. وقد نَسَبَهُ أَبو زيد إلى لِحيانَ بنِ حلبة المحاربي أحد شعراء الجاهلية. انظر : النوادر : ١٥٧ والتكملة : ٢ / ٢٤٦ والمحتسب : ٢ / ١٥٤ والهمع : ٢ / ١٨٢ والدرر اللوامع : ٢ / ٢٢٨.

(٢) المحتسب : ١ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٣) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٣٥ : (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ).

(٤) سورة هود : ١١ / ٦٧.

(٥) يروى (لا تغرَنَّ) مكان (لا يغرنَّ) وعلى ذلك لا شاهدَ في البيت ، كما يروى (والترائب) مكان (أو ترائب) وفي اللسان أَنَّ النوفلية شيءٌ تتَّخِذه نساء الأعراب من صوف يكونُ في

٢٢١

فَإِنَّ النَّوفَلِيَّة هُنَا لَيْسَتْ امرأة ، وَإِنَّما هِيَ مِشْطة تعرف بالنوفليّة.

وأَمَّا قولُهُ :

 ......

وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَـهَا (١)

ففيه شيئانِ يؤنسانِ وواحدٌ يُوحَشُ مِنْهُ : أَما المؤنسان :

فَأَحَدَهُمَا : أنّه تأنيثٌ لَفظِيُّ لا حقيقي.

والآخر : أَنَّهُ لا علامة تأنيث في لفظهِ.

وأَمَّا المُوحِش ، فَهْوَ أَنَّ الفاعِلَ مُضمَرٌ ، وإذا أُضْمِرُ الفاعِلُ في فِعْلِهِ وَكَانَ الفَاعِلُ مُؤنَّثاً لَمْ يَحْسُنْ تَذْكِيرُ فِعْلِهِ حُسْنَهُ إذَا كانَ مُظهراً ، وذلك أَنَّ قَوْلَك : قامَ هندٌ أَعذَرُ مِنْ قولِك هندٌ قامَ ، مِن قِبَل أَنَّ الفِعْلَ مُنصَبِغٌ بالفاعِلِ المُضمَرِ فيهِ أَشدُّ من انصباغِهِ بِهِ إذا كانَ مُظْهَراً بَعْدَهُ.

فَقَامَ هندٌ ـ على صبغة ـ أقْرَبُ مَأخَذاً مِنْ هندٌ قامَ لِمَا ذكرنَاهُ وَذَلِك أَنَّك إذا قُلْتَ : قامَ ، فإلى أَنْ تَقُولَ : هندٌ ، فاللفظُ الأَوَّلُ مقبولٌ غير محجوج لأَنَّ الفعلَ أصلُ وضعِهِ على التذكير ، فإذا قلت : هندٌ قام ، فالتذكير الآتي من بعدِهِ مُخالفٌ للتأنيثِ السابِق فيما قبلُ ، فالنَّفسُ تَعَافُهُ لأَوَّلِ استماعِهِ. وَقَوْلك : قامَ هِندٌ ، النفس يتَقْبَّلُ تَذْكِيرَ الفِعْلَ أَوَّلَ استماعِهِ إلى أَنْ يَأتي التَّأنيثُ فيما بعد.

وقد سبقَ تذكيرُ الفعل على لفظ غير مَأبيّ ولا مَرْذُول ، وَرَدُّ الغائب ليسَ

__________________

غلظ أقل من الساعد ثم يُحشَى ويُعطفُ فَتَضَعُهُ المرأةُ على رأسِها ثم تختمر عليه.

انظر : الخصائص : ٢ / ٤١٤ والمحتسب : ٢ / ١١٢ واللسان : ١٤ / ١٩٧.

(١) صدره :

فلا مُزنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَـهَــا

 ......

والبيت لعامر بن جُوَين الطائي. والمُزنَة : السَّحَابةُ. وَدَقَتْ : أمطرتْ.

أبقلت الأرضُ : نَبَتَ بَقلُهَا. انظر : الكتاب : ١ / ٢٤٠ والخصائص : ٢ / ٤١١ والمحتسب : ٢ / ١١٢ والكافية : ١ / ١٤ والخزانة : ١ / ٤٦.

٢٢٢

كاستئنأفِ الحاضر ، فذلك فرق (١).

وَروَى هَارونُ ، عَنْ طُلَيْقِ المُعلّمِ ، قَالَ : سَمِعتُ أَشْيَاخُنَا يَقْرَؤون : (لَيَأتِيَنَّكم) (٢) بالياء.

قَالَ أَبو الفتح : جَازَ التذكيرُ هنا بَعْدَ قولهِ تعالى : (لاَ تَأْتِيْنَا السَّاعَةُ) لأَنَّ الَمخُوفَ منها إنَّما هو عِقَابُها ، والمأمُولُ ثوابُها ، فقلبَ معنى التذكير الذي هو مَرْجوٌّ أَو مَخُوفٌ ، فذكَّرَ على ذلك وإِذا جَازَ تأنيثُ المُذكَّر على ضرب من التأويلِ كانَ تذكيرُ المؤنَّثِ ـ لغلبة التذكير ـ أَحْرَى وأَجدرَ (٣).

ألا تَرى إلى قولِ اللهِ سبحانَه : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) (٤) ، لأَنَّ بعضَها سَيَّارة أيضاً؟ وعليهِ قولُهُم : ذَهَبتْ بعضُ أصَابِعِهِ (٥) ، لأَنَّ بعضَهَا إصبَعٌ في المعنى.

وحكى الأَصمعيُّ عَنْ أَبي عَمرْو قال : سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ اليمنِ يقولُ فُلان لَغُوب ، جاءَتْهُ كِتابي فاحتقرَهَا.

فقلتُ لَهُ : أتقولُ : جاءتُهُ كِتَابي؟ فقالَ : نعم ، أَلَيْسَ بصحيفة؟ (٦) وَهَذا من أَعرَابِيِّ جَاف ، هو الَّذِي نَبَّهَ أصحابَنَا إلى انتزاع العِلَلِ (٧).

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١١١ و ١١٢.

(٢) من قوله تعالى من سورة سبأ : ٣٤ / ٣ : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

(٣) قال في الخصائص : وتذكير المؤنّث واسعٌ جداً ، لأ نّه فرعٌ إلى أصل ، لكنَّ تأنيثَ المُذكَّرِ أذهبُ في التَّنَاكُرِ والإِغرابِ. الخصائص : ٢ / ٤١٥.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ١٠.

(٥) الكتاب : ١ / ١٥.

(٦) انظر : ص : ٢١٦ والمحتسب : ١ / ٢٣٨.

(٧) المحتسب : ٢ / ١٨٦.

٢٢٣

رُويَ عَنْ مُجاهد : (إِنْ تُعْفَ عَنْ طَائِفَة مِنْكُم) بالتاءِ المضمومة (تُعَذَّبْ طَائِفةٌ) (١).

قَال أَبو الفتح : الوَجْهُ يُعْفَ بالياءِ لِتَذْكِيرِ الظروف ، كقولك : سِيرَتِ الدابّةُ ، وَسِيرَ بالدابّةِ ، وَقُصِدَتْ هندٌ ، وقصد إلى هند ، لَكِنَّهُ حمله على المعنى فَأَ نَّثَ (تُعْفَ) حتَّى كَأَ نَّهُ قَالَ : إنْ تُسَامَحْ طَائِفةٌ أوْ إِنْ تُرْحَمْ طائِفَةٌ وَزادَ في الأُنْسِ بِذَلك مَجَيءُ التأنيثِ يليهِ ، وهو قولُهُ : (تُعذَّبْ طائِفَةٌ) والحَمْلُ على المعنى أَوسَعُ وأَفشى ، مِنْهُ مَا مضى وَمِنْهُ ما ستَرَى (٢).

٥ ـ الجمل لا تقوم مقام الفاعل

قَرَأ الزُّهرِي : (إِلاَّ لِيُعْلَم مَنْ يَتَّبِعُ الرسولَ) (٣) بياء مضمومة وفتح اللاّمِ.

قَالَ أبو الفتح : يَنبغي أَنْ يَكون (يُعلم) هُنَا بِمعنى يُعرف ، كقولهِ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ) (٤) أَي : عرفتم ، وَتَكون (مَنْ) بمعنى الَّذِي ، أَي : لِيُعرفَ الَّذِي يِتَّبِعُ الرَّسُولَ. ولا تكون (مَنْ) هاهنا استفهاماً ، لئلاّ يكون الكلامُ جملةً ، والجُمَلُ لا تقوم مقامَ الفاعل ، ولذلك لم يُجِيزُوا أَنْ يكونَ قولُهُ (٥) : (هذا بابُ عِلْمُ ما الكلم) أَيْ : أَيُّ شيء الكلمُ ، وعِلْمُ في معنى :

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة التوبة : ٩ / ٦٦ : (إِن نَّعْفُ عَن طَآ ئِفَة مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَ نَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ).

(٢) المحتسب : ١ / ٢٩٨.

(٣) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٤٣ : (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٦٥.

(٥) يريد سيبويه في الكتاب : ١ / ٢.

٢٢٤

أنْ يُعْلَمَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذاك هُنَاك (١).

نائبُ الفاعلِ

١ ـ مِنْ أَسباب استعمالِ نائبِ الفاعِل العنايةُ بالمفعول

قَرَأَ يزيدُ البَرْبَرِي (٢) : (وَعُلِّمَ آدَمُ الأسماءَ كُلَّهَا) (٣).

قالَ أَبو الفتح : ينبغي أنْ يُعْلَمَ ما أَذْكُرُهُ هُنَا ، وذَلِك أَنْ أَصْلَ وضعِ المفعولِ أنْ يَكُون فضلةً وَبَعْدَ الفاعلِ ، كَضربَ زيدٌ عمراً ، فَإذَا عَنَاهُمْ ذِكرُ المفعولِ قَدَّمُوهُ عَلى الفاعلِ ، فَقَالوا : ضَرَبَ عمراً زيدٌ. فَإنْ ازدادتْ عنايتُهُمْ بهِ قدَّمُوهُ على الفعلِ النَّاصِبِهِ ، فقالوا : عمراً ضَرَبَ زيدٌ (٤). فإن تظاهرتِ العنايُة بهِ يعقَدُوهُ على أَنَّهُ ربُّ الجملةِ ، وَتَجَاوَزُوا بهِ حَدَّ كَونِهِ فضلة فقالوا : عمروٌ ضربَهُ زيدٌ فجاؤوا بهِ مجيئاً يُنافِي كونِهِ فضلةً ، ثُمَّ زادوهُ على هذه الرّتبَةِ فقالوا : عَمْروٌ ضَرَبَ زَيدٌ (٥) فَحَذَفُوا ضَمِيرَهُ وَنَوَوْهُ ، وَلَمْ يَنْصِبُوهُ على ظاهرِ

__________________

(١) المحتسب : ١ / ١١١ ـ ١١٢.

(٢) سمَّاهُ ابنُ خالويه وأبو حيَّان : يزيد اليزيدي.

انظر : مختصر في شواذ القرآن : ٤ والبحر المحيط : ١ / ١٤٥.

(٣) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٣١ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ).

(٤) لاَِنَّ الغرضَ هُنا ليسَ بذكرِ الفاعلِ وإنَّمَا هو بذكرِ المفعولِ.

انظر : المحتسب : ١ / ٣٦٢.

(٥) قال الصَّفَّار : أجازَ سيبويه في الشِّعر زيدٌ ضَرَبتُ بحذف العائدِ ورفع زيد وَمَنَعَ ذلك الكسائِي والفرّاءُ وأصحاب سيبويه. حكي عن أبي العَباس أنَّهُ قَالَ لا يُضطرُّ شاعرٌ إلى

٢٢٥

أَمِرهِ رَغْبَةً بهِ عِنْ صورة الفَضْلَةِ وتحامياً لِنَصْبِهِ الدِّالَ عَلِى كونِ غيره صاحبَ الجملة ثم إنَّهُمْ لَمْ يِرضوا لَهُ بهذهِ المنزِلةِ حَتَّى صاغُوا الفِعْلَ لَهُ وَبَنَوه على أنَّهُ مَخصوصٌ بهِ وأَ لْغَوا ذِكُرَ الفاعلِ مُظهراً أَوْ مُضمَراً فَقَالوا : ضُرِبَ عمروٌ ، فَاطُّرِحَ ذِكُر الفاعِل البتة. نَعَمْ ، وأَسْنَدوا بعضَ الأَفعالِ إلى المفعولِ دونَ الفاعلِ البتةَ وَهْوَ قَولُهم : أُولِعتُ بالشيءِ وَلاَ يَقُولُونَ أَولعني بهِ كذا. وَقَالوا : ثُلِجَ فُؤادُ الرَّجلِ وَلَمْ يَقولُوا : ثَلَجَهُ كَذَا ، وامتُقِعَ لونُهُ وَلَمْ يَقُولُوا : امتقعه كذا.

ولهذا نظائر ، فرفضُ الفاعِل هُنَا البتة ، واعتمادُ المفعولِ به البتة دليلٌ على ما قُلنَاهُ فَاعرِفْهُ.

وأَظُنَّنِي سَمِعتُ : أَوْلَعنِي بهِ كذَا ، فإنْ كانَ كذلِك فَما أقلَّهُ أَيضاً! وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على شِدّةِ عِنَايَتِهم بالفضلةِ وإنَّما كانَتْ كذلِك لأَ نَّها تجلو الجملة ، وتجعلها تابعة المعنى لها.

أَلا تَرى أَنَّك إذَا قُلْتَ : رغبتُ في زيد أُفيدَ مِنْهُ إيثَارُك لَهُ ، وَعِنَايَتُك بهِ ، وَإِذَا قُلتْ : رَغبتُ عَنْ زيد ، أَفيْدُ منه إِطِّرَاحُك لَهُ وإعراضُك عَنْهُ ، وَرَغِبتُ فِي المَوْضِعينِ بلفظِ واحد ، والمَعْنَى مَا تَراهُ مِنْ استحالةِ مَعْنَى رغبتُ إلى مَعْنَى زَهدت ، وهذا الذي دعاهم إِلى تقديم الفضلاتِ في نحو قولِ اللهِ سبحانَهُ : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١) وإنَّما موضع اللاّمِ التَأخِير ، وَلِذَلِك قَالَ سِيبوبه : إنَّ

__________________

هذا لأَنَّ وزنَ المرفوعِ والمنصوبِ واحدٌ ، ونُقِلَ عن هشام أَنَّهُ أَجاز زيدٌ ضربتُ في الاختيار.

هكذا نقل أَبو حيَّان ، ونقل ابنُ مالك عن البصريين الجوازَ في الاختيار وعن الكوفيين المنع إلاَّ في الشعر. همع الهوامع : ١ / ١٦٧.

(١) سورة الإخلاص : ١١٢ / ٤.

٢٢٦

الجفاةَ مِمَّنْ لاَ يعلمُ كيفَ هِيَ في المُصحفِ يَقْرَؤُهَا : (وَلَمْ يَكْنْ كُفُواً لَهُ أَحَد) (١).

فَإنْ قُلْتَ : فَقَدْ قَالُوا : زيداً ضربتُهُ فَنَصَبُوهُ وإِنْ كَانُوا قَدْ أَعادُوا عليهِ ضميراً يشغل الفعلَ بَعْدَهُ عَنْهُ حَتَّى أَضْمَرُوا لَهُ فِعْلاً يَنْصِبُهُ ، وَمَعَ هَذَا فالرفُعُ فيه أَقْوى وأَعرب ، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إِيَّاهُ رَبَّ الجملة ومبتدأها في قَوْلِهِم : زيدٌ ضربته.

قِيلَ : هذا وإن كَانَ عَلى مَا ذَكَرتَهُ فإنَّ فيهِ غَرَضاً مِن موضع آخر ، وَذَلِك أنَّهُ إِذَا نُصِبَ على ما ذكرتَ فَإنَّهُ لاَ يُعدَمُ دليلَ العنايةِ بهِ ، وهو تقديمُهُ في اللفظ منصوباً ، وهذه صورةُ انتصابِ الفضلةِ مقدمةً لِتَدُلَّ على قوّة العناية به ، لا سيّما والفعل الناصب له لا يظهر أَبداً مع تفسيرهِ فصارَ كَأَنَّ هذا الفعلَ الظاهرَ هو الذي نصبَهُ ، وكذلك يقولَ الكوفيون أيضاً.

فِإذا ثَبَتَ بِهَذا كلِّهِ قوّةُ عنايتِهِم بالفضلةِ حَتَّى أَلغوا حديثَ الفاعِلِ معها ، وَبنَوا الفعلَ لِمفعولهِ ، فَقَالُوا : ضُرِبَ زَيْدٌ حَسُنَ قَولَهُ تعالى : (وَعُلِّمَ آدِمُ الأسمَاءَ كُلَّهَا) (٢) لَمَّا كَانَ الغرضُ فيهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَها وَعَلِمَها ، وآنَسَ أيضاً علمُ المُخاطَبينَ بأَنَّ الله سُبَحانه هو الذي عَلَّمَهُ إيَّاهَا بقراءة من قرأ (٣) (وَعَلَّمَ آدمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (٤) وَنَحْوَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (إِنَّ الاِْنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (٥) ، وقوله

__________________

(١) انظر : الكتاب : ١ / ٢٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٣١ : (وَعَلَّمَ آدمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا).

(٣) هي قراءة الجمهور المثبتة في المصحف الإمام.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٣١.

(٥) سورة المعارج : ٧٠ / ١٩.

٢٢٧

تعالى : (وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعيفاً) (١). هذا مع قَولِهِ : (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَق) (٢) ، وَقَالَ سبحانه : (خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ) (٣) ، وَقَالَ تباركَ اسمه : (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَال كَالفَخَّار) (٤).

فقد عُلِم أَنّ الغرض بِذَلِك في جَمِيعهِ أَنَّ الإنْسَانَ مخلوقٌ وَمَضْعُوفٌ ، وَكَذَلِك قَوْلُهمْ : ضُرِبَ زيدٌ ، إنَّما الغرضُ مِنْهُ أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ مُنْضَرِبٌ وَلَيْسَ الغَرضُ أَنْ يُعْلَمَ مَنْ الَّذَي ضَرَبَهُ ، فَإنْ أُريِدَ ذلك وَلَمْ يدلّ دليل عليه فلابدَّ أَنْ يُذْكَرَ الفاعلُ فَيُقَال ضَرَبَ فلانٌ زيداً فِإنْ لَمْ يُفْعَلْ ذلِك كَلَفَ عِلْمَ الغيبِ (٥).

٢ ـ قَدْ لاَ يُترَك ذِكْرُ الفاعلِ للجَهْلِ بِهِ

قَرَأَ ابنُ مسعود والحسنُ والأعمشُ : (يَوْمَ يُقَالُ لِجَهَنَّم) (٦).

قَالَ أَبو الفتح : هذا يدلُّ على أنَّ قَولَنَا : ضُرِبَ زيدٌ ونحوه لم يُترك ذكرُ الفاعِل للجهلِ بهِ ، بَلْ لأَنَّ العنايةَ انصرفتْ إِلى ذِكرِ وقوعِ الفعلِ بزيد ، عُرِفَ الفاعلُ بهِ ، أَوْ جُهِلَ لقراءَةِ الجماعةِ : (يَوْمَ نَقُولُ) (٧) ، وهذا يُؤَكِّدُ عِنْدَك قوّةَ العنايِة بالمفعولِ بِهِ.

وَفِيهِ شَاهدٌ وَتفْسيرٌ لِقَوْلِ سيبويه في الفاعلِ والمفعولِ : وإنْ كانَا جميعاً

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٨.

(٢) سورة العلق : ٩٦ / ٢.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣ و ٤.

(٤) سورة الرحمن : ٥٥ / ١٤.

(٥) المحتسب : ١ / ٦٤ ـ ٦٦.

(٦ و ٧) من قوله تعالى من سورة ق : ٥٠ / ٣٠ : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد).

٢٢٨

يُهِمَانِهم وَيَعْنِيانِهِم (١) ، وَمِنْ شِدَّة قوّةِ العنايةِ بالمفعولِ أَنْ جاؤوا بأفعال مُسْنَدَة إلى المفعولِ ، وَلَمْ يَذْكُروا الفاعِلَ مَعَها أَصْلاً ، وهي نحو قولهِمِ : امْتُقِعَ لَوْنُ الرَّجُلِ ، وانْقُطِعَ بِهِ ، وَجُنَّ زيدٌ ، وَلَم يَقُولُوا : امْتُقِعَه ولا انقطعه ، ولا جَنَّهُ ، ولهذا نظائر فهذا كإسنادهم الفعلَ إلى الفاعل البتة فيما لا يَتَعَدّى ، نحو قامَ زيدٌ وَقَعَدَ جعفرٌ (٢).

وقرأ ابنُ مسعود : (فَإِذَا نُزِلَ بِسَاحَتِهِم) (٣).

قالَ أَبو الفتح : لَفظُ هذا الموضع على الاستفهام (٤) ، ومعناه الوضوح والاختصاص ، وذلك أن الغرض فيه إنّما هو : فإذا نَزَلَ العذابُ بساحَتِهم.

يَدُلُّ عليهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ مَعَهُ : (أفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) (٥)؟ فإذا قال : (فَإذَا نُزِلَ بِسَاحَتِهِمْ) (٦) فَلاَ محالة أَنَّ معناهُ : فَإذا نَزَل عَذَابُنَا بِسَاحَتِهِم فَأبْهَمَ الفاعِلَ واعتمدَ ذِكْرَ المكانِ المنزل فيهِ.

وَمِثْلُهُ في المعنى قولُ اللهِ سبحانه : (وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً) (٧) وَنَحْنُ نَعْلمُ أنَّ اللهَ تعالى خالقه. وَكَذَلِك : (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَل) (٨) ، ألاَ تَرَى إلى

__________________

(١) انظر : الكتاب : ١ / ١٥.

(٢) انظر : ص : ٢٢٥ ـ ٢٢٦ والمحتسب : ٢ / ٢٨٤.

(٣) من قوله تعالى من سورة الصافّات : ٣٧ / ١٧٧ : (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ).

(٤) لأنّ الآية مكمّلة لآية الاستفهام السابقة ، سورة الصافّات : ٣٧ / ١٧٦ : (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ)؟

(٥) سورة الصافّات : ٣٧ / ١٧٦.

(٦) سورة الصافّات : ٣٧ / ١٧٧.

(٧) سورة النساء : ٤ / ٢٨.

(٨) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٧.

٢٢٩

قَوْلِهِ تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ مِنْ عَلَق) (١) ، وقوله عزّ اسمه : (خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ) (٢) ، وَقَوْلَهُ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (٣) ونظائرهُ كَثيِرةٌ.

فكذلك قوله : (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ) (٤) على ما شرحناهُ مِن حالهِ ، وهذا أحَدُ ما يدلُّك على أنَّ إسنَادِ الفعلِ إِلى المفعولِ نحو ضُرِبَ زيدٌ لَمْ يَكُنْ لِجَهْلِ المتكلّم بِالفاعلِ مَنْ هُوَ؟ البتة ، لكن قَدْ يُسنَدُ إِلى المفعولِ ، ويطرح ذكر الفاعل لاَِنَّ الغرضَ إنَّما هُوَ الإعلامُ بوقوعِ الضربِ بزيد ، وَلا غرض معه في إبَانَةِ الفاعلِ مَنْ هُوَ؟ فاعرفه (٥).

٣ ـ يُترك ذكُر الفاعلِ لتجنّبِ التكرار

قَرَأَ الحسن (٦) : (لاَ يُقْضَى عَلَيْهِم فَيَمُوتُونَ) (٧) وَكَذَلِك الثقفيّ.

قالَ أبو الفتح : (يَمُوتُونَ) عَطفٌ على (يُقْضَى) أَي :

لا يُقْضَى عَلَيْهِم وَلاَ يَمُوتُونَ ، والمفعول محذوفٌ (٨) ، أَي :

__________________

(١) سورة العلق : ٩٦ / ١ ـ ٢.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣ ـ ٤.

(٣) سورة ق : ٥٠ / ١٦.

(٤) سورة الصافّات : ٣٧ / ١٧٧.

(٥) المحتسب : ٢ / ٢٢٩.

(٦) قال ابن عطية : وهي قراءة رديئة. انظر : البحر المحيط : ٧ / ٣١٦.

(٧) من قوله تعالى من سورة فاطر : ٣٥ / ٣٦ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا).

(٨) لا أجد هنا حذف مفعول ، والأولى أنْ يقولَ : والفاعل لم يذكر. لأن (يُقْضَى) ـ كما ترى ـ مبني للمفعول.

٢٣٠

لا [يَقْضِي] (١) عَلَيْهِم الموتُ ، وَحَسُنَ حذفُهُ هُنَا لأَ نّهُ لَوْ قِيلَ : لاَ يقضي عليهم الموتُ فيموتون كان تكريراً يغني عن جميعه بعضهُ ، ولا توكيدَ أَيضاً فيه فيحتمل لفظه. وعلى كلِّ حال فقد بَيَّنَا في كتابنا هذا (٢) وفي غيره حُسْنَ حذفِ المفعولِ لدلالةِ الكلامِ عليه ، وأ نّه لا يصدر إلاَّ عن فصاحة عذبة (٣).

٤ ـ لا يحسن الانصراف عن اللفظ والعود إليه

قَرَأَ قَتَادَة : (وَكأَيّ مِنْ نَبِي قُتِّلَ مَعَهُ رِبِّيونَ كَثِير) (٤) مُشَدَّدَةً.

قَالَ أَبو الفتح : فِي هذه القراءةِ دَلالةٌ على أَنَّ مَن قَرَأَ مِنَ السبعةِ قُتِلَ أو قَاتَل (٥) مَعَهُ رِبِّيُونَ فَإنَّ رِبِّيُونَ مَرْفُوعٌ في قراءتهِ بِقُتِلَ أَوْ قَاتَلَ وَلَيْسَ مرفوعاً بالابتداءِ وَلاَ بالظرفِ الَّذِي هُوَ مَعَهُ (٦) كَقَولِك : مَرَرْتُ برجل يقرأُ عليهِ سلاحٌ.

أَلا تَرَى أَنَّهُ لا يجوزُ كَمْ نبي قُتِّلَ بِتِشديدِ التاءِ ، على فُعِّل؟ فلا بُدَّ إذاً أَنْ يَكونَ رِبِّيونَ مرفوعاً بِقُتِّلَ وَهَذَا وَاضِحٌ.

__________________

(١) في المحتسب : ٢ / ٢٠٢ (يُقْضَى) بضمّ أوّله وفتح ما قبل الآخر ، لكن استقامة معنى الجملة تقتضي أنْ يكونَ (يَقضِي) بفتح أوّله وكسر ما قبل الآخر ـ بالبناء للفاعل ـ كما أثبتناه في المتن.

(٢) انظر : المحتسب : ١ / ٣٣٣ و ٣٦٣ و ٢ / ١١ و ٨٩ و ١٢٩ و ٣٥٦.

وسيرد ذلك في الصفحات التالية.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٤) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ١٤٦ : (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِ بِّيُّونَ كَثِيرٌ).

(٥) قرأ الحرميان وأَبو عمرو قُتِلَ مبنيّاً للمفعول ، وقتادة كذلك إِلاَّ أَنَّهُ شَدَّدَ التاء وباقي السبعة قاتل بألف فعلاً ماضياً. انظر : البحر المحيط : ٣ / ٧٢.

(٦) انظر : كُلَّ هذه الاحتمالاتِ في البحر المحيط : ٣ / ٧٢.

٢٣١

فَإنْ قُلْتَ : فَهَلا جازَ فُعِّلَ حَملاً على معنى كَمْ؟ قِيَل : لو انصُرِفَ عَنِ اللفظِ إلى المعنى لم يَحسُنْ العَودُ مِنْ بعدُ إلى اللفظِ ، وَقَدْ قَالَ تعالى كما تراه : (مَعَهُ) ولم يقلْ مَعَهُمْ (١).

٥ ـ البناء للمفعول بين تعدّي الفعل ولزومه

روى عبد الوهاب عن أَبي عمرو : (وَنُزِلَ المَلاَئِكَةُ) (٢) خَفِيفَةً.

قال أَبو الفتح : هذا غير معروف ، لأَنَّ (نَزَلَ) لا يتعدى إلى مفعول به فيبنى هنا للملائِكة. لأَنَّ هذا إنّما يجيء نَزَلتْ الملائكةَ ونُزِل الملائِكة. ونزلت غير متعدّ كما ترى.

فَإنْ قلت فَقَدْ جاءَ فُعِلَ مِمَّا لاَ يَتَعَدَّى فَعَل مِنهُ ، نحو زُكِمُ ، ولا يُقَالُ زَكَمَهُ الله. وَجُنَّ ولا يُقالُ جَنَّهُ اللهُ. وإنَّمَا يُقالُ أَزَكَمَهُ اللهُ وأَجَنَّه اللهُ ، فَإنَّ هَذَا شَاذٌّ ومحفوظٌ والقياسُ عليهِ مرذول.

فإمَّا أَنْ يكونَ ذَلِك لغةً طارقةً لَمْ تقعْ إلينا ، وإمَّا أنْ يَكونَ على حذفِ المضافِ ، يريد : وَنُزِلَ نُزولُ الملائكةِ ، ثمّ حُذِفَ المضافُ وأُقيمَ المُضَافُ إليهِ على ما مضى ، فَأَقامَ (المَلاَئِكَةُ) مَقامَ المصدرِ الذي كان مضافاً إليها كما فعل ذلك الأَعشى في قولهِ :

أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ أَرْمَدَا (٣)

 ......

__________________

(١) المحتسب : ١ / ١٧٣.

(٢) من قوله تعالى من سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٥ : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً).

(٣) عجزه :

 ......

وبِـتَّ كـمَا بـاتَ السـليـمُ مُـسَـهَّدا

٢٣٢

إِنَّما يُريدُ إِغماض ليلةَ أرمد ، فَنَصْبُ (ليلةَ) إذاً إِنَّما هو على المصدرِ لا على الظرفِ (١) لأَ نَّهُ لَمْ يُردْ ، أَلَمْ تَغْتمِضْ عيناك في ليلةِ أَرمد ، وإِنَّمَا أَرادَ أَلَمْ تَغْتَمِضْ عيناك مِنَ الشوقِ والأَسَفِ اغتماضاً مثل اغتماض ليلة رَمِد العين (٢).

وَكَذَلِك : (وَنُزِلَ الملائِكةُ) أَي : نُزِلَ نُزولُ الملائكةَ وَلَو سُمِيَ الفاعلُ على هذا التقديرِ لَقيلَ : نَزَلَ النازلُ الملائكةَ نَصَبَ الملائكةَ انتصابَ المصدرِ ، لأنَّ كُلَّ مضاف إليه يحْذَفُ مِن قبله ما كان مضافاً إِليه ، فَإنَّهُ يعرُب إعرابَه لازيادِة عليه ولا نقص منه (٣).

وَقَرَأَ يَحْيَى والنَّخَعِي : (ثُمَّ عُمُوا وَصُمّوا) (٤) بِضَمّ العينِ والصَّادِ.

قال أَبو الفتحِ : يَجبُ أَنْ يَكونَ هذا على تقدير فُعِلَ كقولِهم : زُكِمَ وَأَزْكَمَهُ اللهُ ، وَحُمَّ وَأَحَمَّهُ اللهُ ، فكذلك هذا أَيضاً جاءَ على عُمِيَ وَصُمَّ وأَعمَاهُ اللهُ

__________________

وهو مطلع قصيدة الأعشى ميمون في مدح الرسول (صلى الله عليه وآله). ويروى عجز البيت :

 ......

وَعـادَك مَـا عَـادَ السَّلِيمَ المُسَهَّـدا

انظر : سيرة ابن هشام : ١ / ٢٥٦ والأغاني ـ تحقيق المهنا ـ : ٩ / ١٤٧ والخصائص : ٣ / ٣٢٢ والمنصف : ٣ / ٨ وشرح المفصل : ١٠ / ١٠٢ والمغني : ٢ / ٦٢٤ وهمع الهوامع : ١ / ١٨٨ والدرر اللوامع : ١ / ١٦١ والروض الأنف : ٢ / ١٣٢ ـ ١٣٣ والنبي وآله في الشعر العربي : ٢٠.

(١) نقل أَبو الفتح هذا الرأي عن شيخه الفارسي. انظر : الخصائص : ٣ / ٣٢٢.

(٢) قال ابن هشام : حذف المضاف والمضاف إِليه وأَقام صفته مقامه. أَي : اغتماض ليلة رجل أرمد. انظر : المغني : ٢ / ٦٢٤.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٢٠ ـ ١٢٢.

(٤) من قوله تعالى من سورة المائدة : ٥ / ٧١ : (وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ).

٢٣٣

وأَصَمَّهُ اللهُ ، ولاَ يقال عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ (١) ، كما لاَ يُقَالُ : زَكَمَهُ اللهُ ، وَلاَحَمَّهُ ، فاعرفْ ذلك (٢).

وَقَرَأَ ابن عباس بخلاف ، وَقَتَادَة ، وَرُويَ عَنِ الحَسَنِ : (دُرِسَتْ) (٣) قالَ أَبو الفتح : أَمَّا (دُرِسَتْ) فَفَيهِ ضميرُ الآياتِ معناهُ : وَلْيَقُولُوا : دَرَسْتَهُا أَنتَ يا محمّد كالقراءةِ العامّةِ : (دَارَسْتَ) (٤) ويجوز أنْ يكونَ (دُرِسَتْ) أَي : عَفَتْ وَتِنُوسيِتْ (٥) لِقِراءَةِ ابنِ مسعود : (دَرَسْنَ) أَي : عَفَوْنَ فَيكون كقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (٦) ونحو ذلك (٧).

وَقَرَأَ : (لانْخُسِفَ بِنَا) (٨) الأَعْمَش وَطَلْحَة وكذلك في قراءةِ ابن مسعود.

قال أَبو الفتح : (بِنَا) مِنْ هذهِ القراءة مرفوعة الموضع لإقامَتِها مقامَ الفاعل فهو كقولِك : انْقُطِعَ بَالرَّجُلِ وانْجُذِبَ إِلى ما يُريدُ وانْقِيدَ لَهُ إِلى هواهُ ،

__________________

(١) نقل ذلك العكبري في إملاءِ ما منَّ به الرَّحمن : ١ / ٢٢٢.

(٢) المحتسب : ١ / ٢١٧.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأَنعام : ١٠٥ : (وَكَذَلِك نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْم يَعْلَمُونَ).

(٤) هي قراءة سبعية قرأ بها ابن كثير. انظر : البحر المحيط : ٤ / ١٩٧.

(٥) في البحر المحيط : ٤ / ١٩٧ قرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة (دُرِسَتْ) مبنيّاً للفاعل ـ هكذا ـ والصواب للمفعول مضمراً فيه أَي : دُرِسَتْ الآياتُ على أسماعِهِم حتَّى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ في نفوسِهِم وأمْحِيَتْ.

(٦) سورة الأنعام : ٦ / ٢٥.

(٧) المحتسب : ١ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٨) من قوله تعالى من سورة القصص : ٢٨ / ٨٢ : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالاَْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَ نَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).

٢٣٤

وانْفُعِلَ ـ وإنْ لَمْ يتعدَّ إلى مفعول بِه ـ فَإنَّهُ يَتعدَّى إلى حرف الجرِّ فيقام حرفُ الجرِّ مقامَ الفاعل (١) كقولهم سِيَر بزيد. وإن شِئْتَ أَضمرت المصدر (٢) لدلالةِ فعله عليه ، فكأ نَّه قال : لانخُسِفَ الانخساف بنا ، (فِينَا) على هذا منصوبة الموضع لقيام غيرِهَا وهو المصدرُ مقامَ الفاعل ولا يكونُ للفعلِ الواحد فاعلانِ قائمانِ مقامَهُ إلاَّ على وجه الإشراك (٣).

٦ ـ البناء للمفعول

من صور بناء الفعل المتعدِّي لاثنين إلى المفعول

قالَ ابنُ مجاهد : حدَّثنا الطَّبري ، عن العبَّاس بن الوليد ، عن عبد الحميد ابن بَكَّار ، عن أيّوب ، عن يحيى ، عن ابنِ عامر : (وَحُمِّلَتِ الأَرضُ) (٤) مُشَدَّدَة الميم.

قال ابنُ مجاهد : وَمَا أَدْرِي ما هذا؟ قال أَبو الفتح : هذا الَّذي تبشَّعَ ابن مجاهد حَتَّى أَنْكَره من هذه القراءة صحيحٌ وواضحٌ ، وذلك أنَّه أسْنَدَ الفعلَ إلى المفعولِ الثاني حَتَّى كَأَ نَّهُ في الأَصلِ وَحَمَّلْنَا قُدْرَتَنَا أَو مَلَكاً مِنْ ملائكِتنَا

__________________

(١) ذهب ابنُ مالك في شرح التسهيل إلى أنَّ النَّائِبَ عن الفاعل مجموعُ الجارِّ والمجرورِ وذهب البصريون إلى أنَّ النائبَ عن الفاعل هو المجرورُ لا حرف الجرِّ ولا المجموع.

وقول البصريين أرجحُ عندي لأَنَّ الفعل المُتعدِّي يقعُ على المفعولِ به مباشرة واللاّزم يقع على المجرور بواسطة حرف الجرّ نحو قولك : جلست على الأرض ، فالأَرضُ وقعَ عليها الفعل بواسطةِ حرفِ الجرِّ. شرح التسهيل : ٧٧ وشرح الأشموني : ٢ / ٦٧.

(٢) أخذَ بهذا القولِ ابنُ دُرُستُويه والسُّهَيْلِي وتلميذُهُ الرَّندِي. شرح الأشموني : ٢ / ٦٧.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٥٧.

(٤) من قوله تعالى من سورة الحاقة : ٦٩ / ١٤ : (وَحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً).

٢٣٥

أَو نحو ذلك الأرضَ ، ثمّ أَسَنَدَ الفِعْلَ إِلى المفعولِ الثاني ، فبُنِيَ له فقيلَ : فَحُمِّلَتِ الأرضُ ، وَلَو جِئْتَ بالمفعول الأوّل لأسندْتَ الفِعلَ إليهِ فقلتَ : وَحُمِّلَتْ قُدْرَتُنَا الأرضَ وَهَذَا كقولك : ألْبَسْتُ زيداً الجُبَّةَ ، فإن أَقَـمْتَ الْمَفْعُولَ الأولَ مقام الفاعل قُلْتَ : أُ لْبِسَ زَيْدٌ الجُبَّةَ ، وإنْ حَذَفْتَ المفعولَ الأولَ أَقمتَ الثاني مقامَه ، فقلت : أُ لْبِسَتِ الجُبَّةُ (١).

نَعَم وَقَدْ كان أَيضاً يجوز مع استيفاءِ المفعول الأول أن يبني الفعل للمفعول الثاني فتقول : أُ لْبِسَتِ الجبَّةُ زيداً ، على طريق القلبِ ، للاتساع ، وارتفاع الشك. فإذا جازَ على هذا أنْ تقول : حُمِّلَتِ الأَرضُ المَلَك فَتُقيم الأرضَ مقامَ الفاعلِ معَ ذكرِ المفعولِ الأولِ ، فمَا ظَنُّك بجوازِ ذَلِك وَحُسْنِهِ بِل بوجوبِه إذا حُذِفَ المفعولُ الأَولُ؟ وَكَذَلِك أَطْعَمتُ زَيداً الخبزَ ، وَأُطْعِمَ زيدٌ الخبزَ ، وَتَتَّسِعُ فتقول : أُطْعِمَ الخبزُ زيداً ، ثُمَّ تَحذِف زيداً ، فَلا تَجِد بدّاً مِنْ إقامةِ الخبز مقام الفاعل فتقول : أُطْعِمَ الخبزُ ، ومثله أُركِبَ الفرسُ ، وَأُبِثَّ الحَديثُ ، وَكُسِيتِ الجُبَّةُ ، وَأُطْعِمَ الطعامُ ، وَسُقِيَ الشَّرَابُ ، وَلُقِيَ الخيرُ ، وَوُقِيَ الشَّرُّ.

ورحم اللهُ ابن مجاهد! فَلَقَدْ كانَ كَبيراً في موضِعِهِ ، مُسَلّماً فيما لم يَمْهَر بهِ (٢).

__________________

(١) إنّمَا جازتْ نيابةُ الثاني هنا لأَن مفعولي (أَلبَسَ) معرفتان وقد أُمِنَ اللبْسُ.

انظر : شرح التصريح : ١ / ٢٩٢ وشرح الأشموني : ٢ / ٦٨.

(٢) المحتسب : ٢ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

٢٣٦

الباب الخامس

المنصوبات

٢٣٧
٢٣٨

قَبْلَ أنْ نَدْخُلَ في المنْصُوبَاتِ نَودُّ أنْ نَذْكُرَ أَنَّ مِنَ المنصوباتِ خبرَ كانَ واسمَ إِن وأَخواتِهِمَا وحيثُ تقدَّمَ الكلام عليها فسوف لا نذكرها هنا.

وسندخل مع المنصوبات باب الاشتغال لغلبةِ النصبِ على معنى المشغولِ عَنْهُ.

أَمَّا الإغراءُ والتحذيرُ فَلَم نجدْ مِنْهُمَا في المحتسب شيئاً.

وحينَ نذكرُ الظَّرفَ سوفَ نأتِي على موضوعِهِ كُلِّهِ المُعرَبِ منهُ والمَبنِي وبحدودِ ما يردُ منهُ في المحتسب.

المفعول به

قَرَأَ أَبو رَجاء : (ما نَنْسخْ مِنْ آية أَوْ نُنَسِّهَا) (١) مُشَدَّدَةَ السِّينِ.

وقرأ سعدُ بن أَبي وَقَّاص والحَسَنُ وَيَحيى بن يَعْمَر : (أَو تَنْسَها) بتاء مفتوحة.

وقرأ سعيد بن المُسَيَّبِ والضَّحَّاك : (تُنْسَها) مضمومةَ التَّاءِ مفتوحةَ السِّينِ وفي حرف ابنِ مسعود : (ما نُنْسِك مِنْ آية أوْ نَنْسَخْهَا).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٠٦ : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).

٢٣٩

قال أبو الفتح : أما (نُنَسِّهَا) فَنُفَعّلُها من النسيان ، فيكون فَعَّلت في هذا كأَفعلت في قراءَة أَكثرِ القُرَّاء : (نُنْسِها). وهو في الموضِعَينِ على حذفِ المفعولِ الأول ، أَي : أوْ نُنْسِي أَحداً إيَّاهَا كقولِك : ما نَهَبُ مِن قرية أَو نُقْطِعُها ، أي : أو نُقطِعُ أَحَداً إيَّاهَا.

وَمَنْ قَرَأَ (تَنْسَها) أَرادَ أو تَنْسَها أَنْتَ يَا مُحمّدُ (١).

ومن قَرَأَ (تُنْسَها) مَرَّ أيضاً عَلَى تَنْسَها أَنْتَ ، إِلاَّ أنَّ الفاعِلَ هنا يَحتَمِلُ أمرين : أحدُهُمَا : أنْ يَكونَ المُنْسِي لَهَا هو الله تعالى.

والآخر : أنْ يَكونَ المُنْسِي لَهَا ما يَعتادُ بني آدمَ مِنْ أَعراضِ الدُّنْيَا غَمّاً أوْ هَمّاً أوْ عَداوة مِنْ إِنسان أوْ وَسوَسَة مِنْ شيطان (٢).

قرأَ إِبراهيم : (وَكَلَّمَ اللهَ موسى) (٣) اسمُ اللهِ نصبٌ.

قالَ أَبو الفتحِ : يَشْهَدُ لِهَذِهِ القراءةِ قولَهُ (جَلَّ وعزَّ) حكايةً عنْ موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك) (٤) وغيره من الآي التي فيها كلامُ اللهِ تعالى (٥).

وقرأَ مجاهد : (فَلاَ تَشْمِتْ بِيَ الأعدَاءَ) وَقَرَأَ أَيضاً (فَلاَ تَشْمَتْ بِيَ الأَعْدَاءُ) (٦).

__________________

(١) هذه القراءة باطلة حتماً ، لأ نّها مرتكزة على القول بعدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وجواز نسيانه (صلى الله عليه وآله) ما يؤمر بتبليغه ، وهو توهمٌ محضٌ ، ولقوله تعالى من سورة الأعلى : ٨٧ / ٦ : (سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنْسَى) ، وكل ما ترتب على هذا الوهم من الأثر فهو باطل ، لثبوت عصمة الأنبياء (عليهم السلام) مطلقاً.

(٢) المحتسب : ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٣) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٦٤ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيْماً).

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٥) المحتسب : ١ / ٢٠٤.

(٦) من قوله تعالى من سورة الأَعراف : ٧ / ١٥٠ : (فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الاَْعْدَاءَ).

٢٤٠