أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

فأَمْتِعْهُ يا خالقُ ، أْو فأَمْتِعْهُ يا قادِرُ أو يا مالِك أو يا إلهُ ، يُخاطِبُ بذلك نَفسَهُ عَزَّوجلَّ فجرى هذا على ما تعتادُهُ العَرَبُ من أمر الإِنسانِ لنفسهِ ، كقراءَةِ مَنْ يقَرأَ : (قَالَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) (١) أَي : اعلَمْ يا إنسانُ. وكقولِ الأعشى :

 ......

وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّها الرَّجُلُ (٢)

وأَنشدنا أَبو علي :

أَفاءَتْ بَنُو مروانَ ظلماً دِمَاءَنَا

وَفي اللهِ إنْ لَمْ يَعْدِلُوا حَكَمٌ عَدْلُ (٣)

فجرى اللفظ على أنَّهُ جُرِّدَ (٤) منه شيءٌ يُسَمَّى حَكَماً عدلاً ، وهو مع التحصيل على حذفِ المضافِ ، أَي : وفي عدلِ الله حَكَمٌ عدلٌ (٥).

وَقَرأَ ابن مسعود والجَحْدَرِي وأَبو عِمران الجوفي وأبو نَهيك وأَبُو بَكْرَة وَعَمرو بن فائد : (وأَنْ يَحْشُرَ النَّاسَ ضُحىً) (٦).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٢٥٩ : (قالَ أعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كُلِّ شيء قَدَير) ، ونسب في البحر المحيط : ٢ / ٢٩٦ القراءة المذكورة إلى أَبي رجاء وحمزة والكسائي.

(٢) صدره :

وَدِّعْ هُرَيرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ

 ......

أُنظر : الديوان : ٤١ والخصائص : ١ / ٤٣ و ٢ / ٤٧٤.

(٣) تقدّم الشاهد في : ص : ٩٧.

(٤) خصّص ابن جني باباً سمَّاهُ (باب في التجريد) في الخصائص : ٢ / ٤٧٣.

(٥) المحتسب : ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٦) من قوله تعالى من سورة طه : ٢٠ / ٥٩ : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً).

وقُرِئَ عنهم أيضاً (وأنْ تحشر) بالتاء. مختصر في شواذ القرآن : ٨٨ والبحر المحيط : ٦ / ٢٥٤.

٢٠١

قال أَبو الفتح : الفاعل هنا مضمر ، أَي : وأنْ يَحْشُرَ اللهُ (١) الناسَ فهذا كقولِه سبحانه : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) (٢) ، وجميعُ هذا يُرَادُ بِهِ العُمُومُ ، أَي : يحشرهم قاطبة وطُرّاً ولا يكونُ حالاً (٣) كقولهِ سبحانَهُ : (يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (٤) ويَدُلُّ عليهِ (٥) أَيضاً قولُهُ : (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٦)) (٧).

وَقَرَأَ الزهري : (وَلَقَدْ صَدَقَ) ـ مُخَفَّفَةً ـ (عَلَيْهم إبليسَ) ـ نصب ـ (ظَنُّهُ) ـ رفع ـ (إِلاَّ لِيُعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ) (٨).

وقالَ أَبو حاتِم : روى عُبَيد بن عُقَيل ، عن أَبي الورقاءِ ، قالَ : سمِعتُ أَبا (٩) الهَجْهَاج وكانَ فَصِيحاً يقرأُ : (إبليسَ) ـ بالنصبِ ـ (ظَنُّهُ) ، رفعٌ.

قال أَبو الفتح : معنى هذه القراءة أنَّ إبليسَ كانَ سَوَّلَ لَهُ ظَنُّهُ شيئاً فيهم ، فَصَدَقَهُ ظَنُّه فيما كان عَقَدَهُ عليهِ مَعَهُم من ذلك الشيءِ.

__________________

(١) وقدره في البحر المحيط (يحشر الحاشرُ الناسَ ضحىً) فحذفَ الفاعلَ للعلمِ بِهِ.

وقال : حَذْفُ الفاعِلِ في مثلِ هذا لا يجوزُ عندَ البصريين. البحر المحيط : ٦ / ٢٥٤.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٢ وسورة يونس : ١٠ / ٢٨.

(٣) يريد (جميعاً) في الآية.

(٤) سورة الزلزلة : ٩٩ / ٦.

(٥) يَدُلُّ على أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على لفظِ الجلالةِ.

(٦) سورة الكهف : ١٨ / ٤٧.

(٧) المحتسب : ٢ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٨) من قوله تعالى من سورة سبأ : ٣٤ / ٢٠ ـ ٢١ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَـنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَان إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ).

(٩) الذي في المحتسب : ٢ / ١٩١ : (سمعت أَبي الهجهاج) ولا أعرف له وجهاً.

٢٠٢

وأَمَّا قراءةُ العامَّةِ : (ولقد صَدَقَ (١) عَلَيْهم إبليسُ) ـ رفعٌ ـ (ظَنَّهُ) ـ نصبٌ ـ فَإنَّهُ كَانَ قَدَّرَ فيهم شَيئاً فبَلَغَهُ منهم ، فَصَدَقَ ما كان أودَعَهُ ظَنُّهُ في معناهُ. المعنيان مِنْ بَعْدُ مُتَراجِعانِ إلى موضع واحد ، لأَ نَّهُ قَدَّرَ تقديراً فَوَقَعَ ما كانَ مِن تقديرِهِ فيهم. و (عَلَى) متعلّقة بـ (صَدَقَ) كقولِك : صَدَقْتُ عليك فيَما ظننْتُهُ بِك ولا تكونُ متعلّقةً بالظنِّ ، لاستحالةِ جوازِ تقديمِ شيء من الصلةِ على الموصولِ. وذهب الفرّاءُ إلى أنَّهُ على معنى في ظَنّهِ (٢) ، وهذا تَمَحُّلٌ للإِعرابِ ، وَتَحَرُّفٌ عن المعنى.

أَلاَ تَرَى أَنَّ مَنْ رَفَعَ (ظنّه) فإنَّمَا جَعَلَهُ فاعلاً؟ فكذلك إذا نصبَهُ جعلَهُ مَفْعُولاً على ما مضى.

وكذلك أيضاً من شَدَّدَ فَقَالَ : (صَدَّقَ) فنصب (الظنَّ) على أَنَّهُ مفعولٌ به (٣).

وقرأَ الحسن : (فَتأْتِيَهم بَغْتَةً) (٤) ، بالتَّاء.

قالَ أَبو الفتح : الفاعل المضمر الساعة. أَي : (فَتَأتيهم) الساعة (بغتةً) فَأَضمَرهَا لِدَلالة العذابِ الواقع فيها عليها ، ولكثرة مَا تَردَّدَ في القرآنِ مِنْ ذِكِر إثباتها (٥).

__________________

(١) قرأ ابنُ عباس وقتادة وطلحة والأَعمشُ وزيد بنُ عليّ (عليه السلام) وعاصم وحمزة والكسائي وخلف (صَدَّقَ) بتشديد الدَّال وقرأَ باقي السبعة بالتخفيف. البحر المحيط : ٧ / ٢٧٣ وإتحاف فضلاء البشر : ٢٢١.

(٢) معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٦٠.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٩١.

(٤) من قوله تعالى من سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٠٢ : (فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).

(٥) المحتسب : ٢ / ١٣٣.

٢٠٣

وَقرأ مُجاهد : (زَيَّنَ للنَّاسِ حُبَّ الشَّهَوَاتِ) (١) بفتح الزاي والياءِ.

قالَ أَبو الفتح : فاعلُ هذا الفعل إبليس (٢) ودلَّ عليهِ ما يتردَّدَ في القرآن من ذكرِهِ. فهذا نحو قولِ اللهِ تعالى : (يَعِدُهُم ويُمَنِّيهم) (٣) وما جرى هذا المجرى (٤).

وَقَرَأَ الأعْمَش ، فيما رَواهُ القطعي ، عن أَبي زيد ، عن المفضل ، عن الأعمش : (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا يُؤتِه مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ يُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (٥) بالياءِ فيهمَا.

قالَ أَبو الفتحِ : وجهُهُ على إضمار الفاعِلِ لِدَلالةِ الحالِ عليه ، أَي : يُؤتِهِ اللهُ ، يدلُّ على ذلك قراءَةِ الجماعة : (نؤْتِهِ مِنْهَا) بالنون.

وَحَديثُ إضمار الفاعلِ للدلالةِ عليهِ واسعٌ فاش عَنْهُم ، مِنْهُ حكايةُ الكتابِ أَنَّهم يقولونَ : إذا كان غداً فأتِني (٦) ، أَي : إذا كانَ ما نحنُ فيه من البلاءِ في غد فَأْتِني ، وَمِثْلُهُ حكايتُه أيضاً : مَنْ كَذِبَ كانَ شَرّاً لَهُ ، أَي كانَ الكذبُ

__________________

(١) من سورة آل عمران : ٣ / ١٤ : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وقراءة الجماعة (زُيِّنَ) على البناء للمفعول. انظر : البحر المحيط : ٢ / ٣٩٦.

(٢) هذا قول الحسن وهناك من يقول إنَّ الفاعلَ الله سبحانه وتعالى. البحر المحيط : ٢ / ٣٩٦.

(٣) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٢٠ : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً).

(٤) المحتسب : ١ / ١٥٥.

(٥) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ١٤٥ : (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).

(٦) الكتاب : ١ / ١١٤.

٢٠٤

شَرّاً لَهُ (١) وعليه قول الآخر :

وَمُجَوَّفَات قَدْ عَلاَ أَلْوانُها

أَسْآرَ جُرد مُتْرَصَات كالنَّوَى (٢)

أَي : قَدْ عَلاَ التجويفُ ألوانَها ، وقول الآخر :

إذا نُهيَ السَّفِيهُ جَرَى إليهِ

وَخَالَفَ والسَّفيهُ إلى خِلاَف (٣)

وَكَما أَضْمَرَ المصدر مجروراً أَعْنِي الهاءَ في إليه ـ يعني إلى السفَهِ ـ كذلِك أيضاً أَضمَرهُ مرفوعاً بفعلِهِ (٤).

وقرأَ يَحيى وإبراهيم : (فَيَرى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٥) بالياء.

قالَ أَبو الفتح : فاعلُ يَرى مضمرٌ دَلَّتْ عليهِ الحال أَي : فَيَرى رائِيهم ، وَمُتَأَمِلُّهُمْ (٦). و (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ نصب (٧) كقراءة الجماعةَ وَقَدْ كَثُرَ إضمارُ

__________________

(١) الكتاب : ١ / ٣٩٥.

(٢) المُجَوَّف مِنَ الخيل والنعام الذي ارتفع بياض بَلَقِه حتَّى يبلغَ البَطنَ ، أي علا التجويف ألوانها.

الأَسآر : جمع سُؤْر وهو بقيَّةُ الشَّيءِ. المُتْرَصُ : المُحكَمُ.

(٣) البيت لأبي قيس الأسلت الأنصاري. ويروى (زُجِرَ) مكان (نهي) و (فخالف) مكان (وخالف). انظر : مجالس ثعلب : ١ / ٦٠ والخصائص : ٣ / ٤٩ والتَّمام : ٦٩ وإعراب القرآن المنسوب إلى الزَّجاج : ٣ / ٩٠٢ والهمع : ١ / ٦٥ والخزانة : ٥ / ٦.

(٤) أَي أضمر المصدر مرفوعاً في البيت الأسبق بقوله : (قد علا أَلوانُها) أَي قد علا التجويفَ ألوانُها ، ولمْ يتنبه صاحب الخزانة إلى هذا عندما قال : (لم أفهم معنى قوله : أضمرهُ مرفوعاً بفعله). انظر : المحتسب : ١ / ١٧٠ والخزانة : ٥ / ٢٨.

(٥) من قوله تعالى من سورة المائدة : ٥ / ٥٢ : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِـمْ).

(٦) أو يرى الله. البحر المحيط : ٣ / ٥٠٨.

(٧) واحتمل بعضهم أن يكون (الَّذِينَ) فاعل ترى في قراءة الجماعة ، والمعنى أَنْ

٢٠٥

الفاعل لدلالَةِ الكلامِ عليهِ ، كَقَوْلِهم : إذا كانَ غداً فَأتِني ، أَي : إذا كانَ ما نَحْنُ عليهِ من البلاءِ في غد فَأَتِنِي (١) وهو كثير ، وَدَلَّ عليهِ أيضاً القراءةُ العامّةُ : أَي : فَتَرى أنتَ يَا محمدُ (٢) أَو يا حاضرَ الحالِ (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَسارِعونَ) يُسَارِعُونَ فِي ولاءِ المُشْرِكينَ ونصرهم (٣).

وَقَرَأَ الحسن ـ بخلاف ـ وقتادة وَأَبو المتوكّل : (فَرَّغَ) (٤) بفتح الفاء والراء وبالغين.

قال أبو الفتح : أَما (فَزَّعَ) (٥) وَ (فَرَّغ) فَفَاعِلاَهُما مُضْمَران : إنْ شِئْتَ كان اسم الله تعالى ، أَي : كشف الله عن قلوبِهم ، وإن شِئْتَ كانَ ما هناك من الحال ، أَي : فَرَّغَ أَو فَزَّعَ حاضرٌ الحال عن قلوبِهم ، وإضمارُ الفاعلِ لدلالةِ الحالِ عليهِ كثيرٌ واسعٌ منه ما حكاه سيبويه من قَوْلِهم : إذا كانَ غداً فَأتِني (٦).

وكذلك قولُ الشاعر :

فَإنْ كَانَ لاَ يُرضِيك حَتَّى تَرُدَّنِي

إلى قَطَرِيّ لاَ إِخَالُك رَاضِيَا (٧)

__________________

يسارعوا فحُذِفَتْ أنْ إيجازاً. قال أَبو حيَّان : وهذا ضعيفٌ لأنَّ حذفَ أَنْ من نحو هذا لا ينقاسُ. ينظر في : البحر المحيط : ٣ / ٥٠٨.

(١) انظر : ص : ٢٠٤.

(٢) انظر : البحر المحيط : ٣ / ٥٠٨.

(٣) المحتسب : ١ / ٢١٣.

(٤) من قوله تعالى من سورة سبأ : ٣٤ / ٢٣ : (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

(٥) لم يذكر أَبو الفتح هذه القراءة في المحتسب ، وهي قراءةَ ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكّل الناجي وابن عامر. انظر : البحر المحيط : ٧ / ٢٧٨.

(٦) انظر : ص : ٢٠٤.

(٧) قال سوار بن المضرب حين هَرَبَ من الحَجَّاج. ويروى (فإن كنتَ لا يُرضيك). وتقول

٢٠٦

أَي : إنْ كانَ لاَ يُرْضِيك مَا جَرى أوْ ما الحالُ عليه (١). وَقَرأ ابنُ عباس : (يَوْمَ تَكْشِفُ عَنْ) (٢) بالتاءِ ، والتاء منتصبة. قال أَبو الفتح : أَي : تَكْشِفُ الشِّدَّةُ والحالُ الحاضرةُ عَنْ ساق وهَذَا مَثَلٌ ، أَي : تأخُذُ في أَعْراضِها ثُمَّ شُبِّهَتْ بِمَنْ أرادَ أمراً وَتَأهَّبَ لَهُ كَيْفَ يَكْشِفُ عَنْ ساقِهِ؟ قال :

كَشَفَتْ لَكُمْ عَنْ سَاقِهَا

وَبَدَا مِنَ الشِّرِ الصَّرَاحُ (٣)

فَأَضْمَرَ الحال والشدّة لدلالةِ الموضعِ عليهِ.

وَنَظِيرُهُ مِنْ إِضْمَارِ الفاعلِ ودَلالةِ الحالِ عليهِ ، مسألةُ الكتابِ : إذَا كانَ غداً فَأتِني أَي : إذا كانَ ما نَحْنُ عليهِ من البلاءِ في غد فأتِني (٤) وَكَذلِك قَوْلُهُمْ مَنْ يكَذِبَ كَانَ شَرّاً لَهُ (٥) أَي كَانَ الكَذِبُ شرّاً فَأضْمَرَ المَصْدَرَ لِدلالةِ المِثالِ

__________________

إخال بالكسر وهو الأفصحُ وبنو أسد يقولون : أخال بالفتح وهو القياس والكسر أكثر استعمالاً.

انظر : الخصائص : ٢ / ٤٣٣ ولسان العرب : ١٣ / ٢٤٠ ، مختار الصحاح : ١٩٦ وشرح المفصل : ١ / ٨٠ والهمع : ١ / ١٨٢ وشرح الأشموني : ٢ / ١٩٢.

(١) المحتسب : ٢ / ١٩٢.

(٢) من قوله تعالى من سورة القلم : ٦٨ / ٤٢ : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِفَلاَيَسْتَطِيعُونَ).

(٣) البيت لسعد بن مالك. انظر : الخصائص : ٣ / ٢٥٢ والمحتسب : ٢ / ٣٢٦.

(٤) يلاحظ أن ابن جِنِّي عبّر عن كتاب سيبويه بـ : (أبيات الكتاب ، وبيت الكتاب ، وحكاية الكتاب ، وصاحب الكتاب ، ومسألة الكتاب) ، كالآتي :

١ ـ (أبيات الكتاب) ص : ٨٢ و ٥٠٩ و ٥٦٨.

٢ ـ (بيت الكتاب) ص : ٣٣٣ و ٣٤١ و ٤٢٨ و ٤٥٧ و ٤٧١ و ٥١١ و ٥٣٠ و ٥٣٩.

٣ ـ (حكاية الكتاب) ص : ٢٠٤.

٤ ـ (صاحب الكتاب) ص : ١١٠ و ١٣٥ و ١٣٨ و ١٦١ و ٢١٢ و ٢٧٥ و ٢٨٤ و ٣١٦ و ٣٤٥ و ٣٧٦ مرّتين و ٤٥٨ و ٤٩٩.

٥ ـ (مسألة الكتاب) ص : ٢٠٧ و ٢٩٥.

(٥) انظر : ص : ٢٠٤ و ٢٠٥ و ٢٠٦.

٢٠٧

عليهِ (١).

وَقَرَأَ عِيْسَى بن عُمَرَ الكوفي : (يَوْمَ تُقَلِّبُ وُجُوهَهُم) (٢) نصب.

قَالَ أَبو الفتح : الفاعل في (تقلِّبُ) ضميرُ السَّعيرِ المقدّم الذّكر في قولِه تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (٣) ثُمَّ قالَ (يَوْمَ تُقَلِّبُ) أَي تُقَلِّبُ السَّعيرُ وُجُوهَهُمْ في النارِ فنسب الفعل إلى النارِ.

وإنْ كانَ المُقَلِّبُ هو الله سبحانه ، بدلالةِ قراءةِ أَبي حَيْوَةَ : (يَوْمَ نُقَلِّبُ وُجُوهَهَمْ) لأَ نَّهُ إِذَا كانَ التَّقْلِيبُ فيها جاز أنْ يُنْسَبَ الفعلُ إليها للملابسةِ التي بينهما ، كما قالَ اللهُ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (٤) فَنَسَبَ المكَر إليهما لوقوعه فيهما (٥) ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ رُؤبة :

فَنَامَ لَيْلي وَتَجَلَّى هَمِّي (٦)

أَي نِمتُ في ليلي وعليهِ نفى جرير الفعل الواقع فيه عنه فقال :

لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلاَنَ في السُّرَى

وَنِمتُ وَمَا لَيْلُ المطِيّ بِنَائِمِ (٧)

فَهذَا نَفْي لِمَن قالَ : نَام ليلُ المطيّ وتطرّقوا مِنْ هذا الاتساع إلى ما هو

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٣٢٦.

(٢) من قوله تعالى من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٦ : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ).

(٣) سورة الأَحزاب : ٣٣ / ٦٤ ـ ٦٥.

(٤) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٣.

(٥) إنَّما المعنى بَلْ مَكْركُم بالليلِ والنهارِ. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٦٣.

(٦) انظر : الديوان : ١٤٢ والمقتضب : ٣ / ١٠٥ و ٤ / ١٤٥ والخزانة : ١ / ٤٦٦.

(٧) أم غيلان بنت جرير. والسُّرى : سَيرُ الليل. انظر الديوان : ٥٥٤.

والكتاب : ١ / ٨٠ والمقتضب : ٣ / ١٠٥ والخزانة : ١ / ٤٦٥.

٢٠٨

أعلى منه (١).

٢ ـ رفع الفاعل بفعل مضمر

قَرَأَ الحسن : (أُولئِك عَلَيْهِم لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئكِةُ والناسُ أَجمعُونَ) (٢).

قالَ أَبو الفتحِ : هَذَا عندَنا مَرفوعٌ بفعل مضمر يدلُّ عليه قولُه سبحانَهُ : (لعنةُ اللهِ) أَي : وَتَلْعَنَهُم الملائِكةُ والنَّاسُ أجْمَعُونَ ، لاِ نَّهُ إِذَا قَالَ : عليهم لعنة الله فَكَأ نَّهُ قالَ : يَلْعَنُهُم الله ، كما أنَّهُ لما قالَ :

تَذَكَّرتْ أَرْضاً بِها أَهْلُهَا

أَخْوَالَها فِيهَا وأَعْمَامَها (٣)

فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا إِذَا تَذَكَّرَتِ الأرضَ التي فيها أَخوالُها وأَعمامُها فَقَدْ دَخَلُوا في جميعِ مَا وَقَعَ الذّكُر عليهِ ، فقالَ بَعْدُ : تَذَكَّرَتْ أَخَوالَها وأَعَمامَهَا (٤).

وَكَأَ نَّهُ لَمَّا قالَ :

أَسْقَى الإلهُ عُدُواتِ الوادِي

وَجَوْفَهُ كُلَّ مِلثٍّ غَادِي

كُـلَّ أَجَـشّ حَالِـك السَّـوَادِ (٥)

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٨٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٦١ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَا تُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(٣) هذا البيت لعمرو بن قُمَيئَة. انظر الديوان : ٦٢ والكتاب : ١ / ١٤٤ والخصائص : ٢ / ٤٢٧ والمحتسب : ١ / ١١٦ وشرح المفصل : ١ / ١٢٦ والخزانة : ٤ / ٧.

(٤) قال سيبويه : لأَنَّ الأَخوالَ والأَعمامَ قد دخلوا في التذكّر وقد ردّ المُبَرِّدُ هذا وأشباهَهُ وذكرَ أنّ مثلَ هذا لا يجوز. انظر الكتاب : ١ / ١٤٤ وشرح المفصل : ١ / ١٢٦.

(٥) نسب العيني هذا الرجز إلى رؤبة وليس في ديوانه. والعُدُواتُ : شواطئُ الوادي. والمُلِثُّ :

٢٠٩

فقد سقى الأَجش فَرَفَعَهُ بفعل مضمر ، أَي سقاها كُلّ أَجَش وهو كثير جدّاً (١).

وَقَرأ سعيد بن جبير : (بَلْ مَكَرُّ الليْلِ والنَّهَارِ) (٢) وهي قراءةُ أَبي رَزين أَيْضاً.

قال أَبو الفتح : أَما (المَكَرُّ) والكُرُورُ أَي : اختلاف الأَوْقَاتِ فَمَنْ رَفَعَهُ فَعَلَى وَجْهَينِ :

أحَدُهُمَا : بفعل مُضْمَر دَلَّ عليهِ قولُهُ : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) (٣)؟ فقالوا في الجواب : بَلْ صَدَّنَا مَكَرُّ الليلِ والنَّهارِ ، أَي : كُرُورُهُما (٤).

والآخر : أن يكونَ مَرفُوعاً بالابتداء ، أَي مَكَرُّ الليلِ والنهارِ صَدَّنَا (٥).

وَقَرأَ طلحة بن مُصَرِّف : (وَأَخْذٌ مِنْ مَكان قَرِيب) (٦) منصوبة الأَلِف منونة.

قال أبو الفتح : لَك في رفعهِ ضربان :

إِن شئتَ رفعتَهُ بفعل مضمر يدلُّ عليه قولُهُ : (فَلاَ فَوْتَ). أَي : وأَحاطَ بِهِم

__________________

السَّحَابُ يدومُ أياماً فلا يقلعُ من اللإلثاثِ. والغادي : الذي يكون في الغداة والأجشُّ : الشديدُ الصوتِ ، والحالك : الشديد السواد. الكتاب : ١ / ١٤٦ والخصائص : ٢ / ٤٢٥ وشرح شواهد العيني : ٢ / ٥٠.

(١) المحتسب : ١ / ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٣ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ).

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٢.

(٤) نقل هذا العكبري في إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٩٨.

(٥) المحتسب : ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٦) من قوله تعالى من سورة سبأ : ٣٤ / ٥١ : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَان قَرِيب).

٢١٠

أَخذٌ مِنْ مَكَان قريب وذَكَرَ القُرْبَ لأ نَّهُ أحجَى بتحصِيلِهِم ، وإِحاطَتِهِ بِهِم.

وإِنْ شئتَ رفعتَهُ بالابتداءِ وخبرُهُ محذوفٌ ، أَي : وهناك أخذٌ لهم وإحاطةٌ بهم ودلَّ على هذا الخبرِ ما دلَّ على الفعلِ في القولِ الأَوَّلِ (١).

وقرأَ أَبو عبد الرحمن السُّلَمي (٢) : (وَكَذَلِك زُيّن لِكَثير مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أولادِهم شُركاؤُهم) (٣).

قال أبو الفتح : يَحتَمل رفعُ شركاءِ تَأويلَينِ :

أَحَدُهَما : ـ وهو الوجهُ ـ : أَنْ يكونَ مرفوعاً بفعل مضمر دَلَّ عليهِ قَوْلُهُ : (زُيِّن) كَأَ نَّهُ لَمَّا قالَ : زُيِّنَ لكثير مِنَ المُشركينَ قَتْلُ أولادِهِم : قِيلَ مَنْ زَيَّنَهُ لَهُم؟ فقيل : زَيَّنَهُ لَهُم شركاؤُهم (٤) فارْتَفَعَ الشركاءُ بفعل مضمر دَلَّ عليهِ (زُيِّن) فهو إذاً كقولِك : أُكِلَ اللحمُ زَيدٌ ، وَركِبَ الفَرَسُ جعفرٌ ، وترفع زَيْداً وَجَعْفَراً دَلَّ عليهِ هذا الظاهِرُ. وَإِيَّاك أنْ تَقولَ : إِنَّهُ ارتفع بِهَذا الظاهرِ لأَ نَّهُ هُوَ في المعنى ، لأَمْرِينِ :

أَحدُهما : أَنَّ الفِعْلَ لا يَرْفَعُ إِلاَّ الواحدَ فاعلاً أَوْ مفعولاً أُقيمَ مقامَ الفاعِل ،

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٩٦.

(٢) ومِمَّن قرأَ بها الحسن وأبو عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر. البحر المحيط : ٤ / ٢٢٩.

(٣) من قوله تعالى في سورة الأَنعام : ٦ / ١٣٧ : (وَكَذَلِك زَيَّنَ لِكَثِير مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكآ ؤُهُمْ).

(٤) على هذا التوجيه : الشركاء مزيّنون لا قاتلون وهو توجيهُ سيبويه وبه أَخَذَ المُبَرِّدُ والعُكبري. انظر : الكتاب : ١ / ١٤٦ والمقتضب : ٣ / ٢٨١ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢٦٢ والبحر المحيط : ٤ / ٢٢٩.

٢١١

وَقَدْ رَفَعَ هذَا الفعلُ ما أقِيمَ مقام فاعلهِ وهو (قَتْلُ أَولادِهِمْ) فلا سَبيلَ لَهُ إلى رَفِعِ اسم آخر على أَنَّهُ هو الفاعلُ في المعنَى لأَ نَّك إذا تَصَرَّفْتَ بالفعلِ نحو إسنادِك إيَّاهُ إلى المفعول لم يجزْ أنْ تَتَرَاجَعَ عنه فتسنده إلى الفاعل ، إذ كان لكلّ واحد منهما فعل يخصُّهُ دونَ صاحبِهِ ، كقولك : ضَرَبَ وضُرِبَ ، وَقَتَلَ وَقُتِلَ ، وَهَذا وَاضِحٌ.

والآخر : أَنَّ الفاعِلَ عِندَنَا ليسَ المرادُ به أَنْ يكونَ فاعلاً في المعنى دونَ ترتيب اللفظِ ، وأَنْ يكون اسماً ذكرته وأسندته وَنَسَبْتَهُ إلى الفاعلِ ، كَقَامَ زَيدٌ وَقَعَدَ عمروٌ ، وَلَوْ كانَ الفاعِلُ الصناعي هو الفاعلُ المعنوي لَلَزمك عليهِ أَنْ تَقُولَ : مررتُ برجلٌ يقرأُ ، فترفعهُ لأ نَّهُ قَدْ كانَ يفعلُ شيئاً وهو القراءة ، وأنْ تَقُولَ رأَيتُ رجلٌ يُحَدّثُ فترفعهُ بِحَدِيثهِ ، وأَنْ تَقَولَ في رفعِ زيد من قولك : زيدٌ قامَ إِنَّهُ مرفوعٌ بفعلهِ لأَ نَّهُ الفاعِلُ في المعنى ، لكنَّ طريقَ الرفعُ في (شُركاؤُهم) هو ما أَريتُك مِنْ إِضمارِ الفِعْل لَهُ لترفعه به.

وَنَحوه ما أَنْشَدَهُ صَاحبُ الكتابِ (١) مِنْ قولِ الشاعرِ :

لِيُبْك يَزيدُ ضَارِعٌ لِخصومة

وَمُخْتَبِطُ مما تُطِيحُ الطوائِحُ (٢)

كَأَ نَّهُ لَمَّا قالَ : لِيُبْك يَزيدٌ ، قِيلَ : مَنْ يبكيهِ؟ فَقَالَ : لِيَبْكِهِ ضارعٌ لخصومَة

__________________

(١) الكتاب : ١ / ١٤٥ و ١٨٣.

(٢) البيت لنهشل بن حري ، ويروى للحارث بن نهيك كما يُنسب إلى لبيد وإلى مِزْرَد وإلى الحارث بن ضرار النهشلي ويروى (ومستمنح) مكان (مختبط) ، وبالبناء للفاعل (لِيَبْك يزيد ضارع ....) والبيت موضع نقاش بين النحاة.

انظر : الكتاب : ١ / ١٤٥ و ١٨٣ والمقتضب : ٣ / ٢٨٢ والخصائص : ٢ / ٣ والمحتسب : ١ / ٢٣٠ وشرح الكافية : ١ / ٧٦ والهمع : ١ / ١٦٠ وشرح المفصل ١ / ٨٠ والأَشموني : ٢ / ٤٩ وشرح التصريح : ١ / ٢٧٤.

٢١٢

والحمْلُ عَلى المَعْنَى كثيرٌ جدّاً فهذَا هو الوجهُ المختارُ في رفعِ الشركاءِ وشاهِدُهُ في المعنى قراءةُ الكافّةِ (١) : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِير مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) أَلاَ تَرى أَنَّ الشركاءَ هُمْ المُزَيِّنُونَ (٢) لا محالة؟

وَأما الوجهُ الآخر فَأَجَازَهُ قُطْرُب (٣) وَهو أنْ يكونَ الشركاءُ ارتفعوا في صلةِ المصدر الذي هو القتلُ (٤) بفعلِهِم ، وَكَأَ نَّهُ : وَكَذَلِك زُيِّنَ لِكَثِير مِنَ المُشْرِكِينَ أنْ قَتَلَ شُركاؤُهم أَولادَهُم وَشَبَّهَهُ بقولِهِ : حُبّبَ إِليَّ ركوبُ الفرسِ زيدٌ ، أَي : أَنْ رَكبَ الفرسَ زيدٌ هذا ـ لَعَمْرِي ـ وَنَحْوُهُ صَحِيحُ المعنى ، فَأَمَّا الآيةُ فَلَيْسَتْ مِنهُ بدلالةِ القراءةِ المجتمعِ عَلَيْهَا وأنَّ المعنى أنَّ المُزَيِّنَ هم الشركاءُ وَأَنَّ القاتِلَ هم المُشْرِكُونَ وَهَذَا واضحٌ (٥).

٣ ـ فاعل تأنيث فعله ضعيف

أ ـ تأنيثُ الفعل والفاعلُ مُذَكَّرٌ أُضيفَ إلى مؤنَّث

قَرَأ أَبو العالية : (لاَ تَنْفَعُ نَفَساً إيمانُها) (٦) بالتَّاءِ.

قال ابنُ مجاهد : وهذا غلط.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط : ٤ / ٢٢٩.

(٢) وهذا تخريج سيبويه : انظر : الكتاب : ١ / ١٤٦ والبحر المحيط : ٤ / ٢٢٩.

(٣) انظر : البحر المحيط : ٤ / ٢٢٩.

(٤) وعلى توجيه قطرب : الشركاء قاتلون وهو يتعارض مع القراءة المجمع عليها كما يتعارض مع توجيه سيبويه الذي اعتبرَهُ ابنَ جِنِّي ـ وهو على حقّ ـ أرجحَ.

(٥) المحتسب : ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٦) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ١٥٨ : (لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمنَتْ مِنْ قَبْلُ).

٢١٣

قال أَبو الفتح : ليسَ ينبغي أنْ يطلقَ على شيء لهُ وجهٌ من العربية قائم ـ وإِنْ كانَ غيرهُ أَقوى منه ـ أَنَّه غلط. وعلى الجملة فقد كثر عنهم تأنيثُ فعلِ المضافِ المذكّرِ إذا كانتْ إضافتُهُ إلى مؤنّث ، وكانَ المضافُ بعضَ المضافِ إليهِ أوْ مِنْهُ أوْ به. وأَنشدَنَا أَبو عليّ لابنِ مقبل :

قَدْ صَرَّحَ السيرُ عَنْ كُتْمَانَ وابْتُذِلَتْ

وَقْعُ المحاجِنَ بالمَهريَّةِ الذُّقُنُ (١)

فَأ نَّثَ (الوقع) وإنْ كانَ مُذَكَّراً لَمَّا كانَ مضافاً إِلى (المحاجِنِ) وَهيَ مُؤَنَّثَة ، إذ كانَ الوقع مِنْها. وَكَذلِك قول ذي الرمّة :

مَشِيْنَ كَما اهتزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ

أَعَاليَها مَرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِمِ (٢)

فَأَ نَّثَ (المَرّ) لإضافتِه إِلى الرِّياحِ وهي مُؤَنَّثة ، إِذ كان (المَرُّ) من الرِّيَاحِ ، ونظائر ذلك كثيرة جدّاً (٣) لا وجهَ للإِطالةِ بذكرِهَا.

فَهَذا وجه يشْهَدُ لتأنيثِ الإيمان إذْ كانَ من النفسِ وَبِهَا.

وإنْ شِئتَ حَمَلْتَهُ على تأنيثِ المُذَكَّرِ لمَّا كان يُعبَّر عنه بالمؤنَّثِ ، أَلا تَرَى إلى قولِ الله سبحانَهُ : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (٤) فَتَأنِيثُ المِثْل لأَ نَّهُ في المعنى

__________________

(١) كُتمان : اسم موضع أَو جبل. المَحَاجِن : العِصيُّ. المَهْرِيَّة : يريد بها الإبل المنسوبة إلى مَهرة إحدى قبائل اليمن. وفي الكلام قلَب ، أَي : ابتذلت المَهريَّة بوقع المحاجن عليها. انظر : معاني القرآن للفرّاء : ١ / ١٨٧ والخصائص : ٢ / ٤١٨ واللسان : ١٦ / ٤١٢.

(٢) رُوِي (رويداً) وكذلك (جَرَيْنَ) مَكَانَ (مَشِيْنَ) و (مرضي) مكان (مر) ، وتسفهت الريح الغصون حركتها واستخفتها. انظر : الديوان : ٦١٦ والكتاب : ١ / ٢٥ و ٣٢ والمقتضب : ٤ / ١٩٧ والخصائص : ٢ / ٤١٧ واللسان : ٣ / ٢٨٨ وشرح الشواهد للعيني : ٢ / ٢٤٨.

(٣) انظر : شواهد ذلك في الكتاب : ١ / ٢٥.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ١٦٠ : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ).

٢١٤

حَسَنة.

فَإِن قُلتَ : فَهلا حملتَهُ على حذفِ الموصوفِ فَكَأ نَّهُ قالَ : فَلَهُ عَشْرُ حسنات أمثالِها. قِيلَ : حذفُ الموصوفِ وإقَامَةُ الصفةِ مقامَهُ قَبْلُ ليسَ بِمُستَحْسَن في القياسِ ، وأَكثرُ مَأْتَاهُ إنَّما هو في الشّعرِ ، ولذلك ضَعُفَ حَمْلُ (دَانِيَةً) من قولهِ تعالى : (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا) (١) على أَنَّهُ وَصْف (٢) جنّة ، أَي : وجَنَّة دانية عليهم ظلالها عطفاً على جنَّة من قوله : (وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (٣) ، وجَنَّة دانية عليهم ظِلالُها لِمَا فيه من حذفِ الموصوفِ وإقامَةِ الصِّفَةِ مقامَهُ حتَّى عطفوها على قولِهِ : (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَْرَائِك) (٤) ، ودانية عليهم ظلالُها فكانت حالاً معطوفة على حال قبلها ، فلهذا يضعف أَنْ يكونَ تقدير الآية على : فَلَهُ عَشْرُ حَسَنات أمثالِها بل تكون أمثالها غير صفة ، لكنَّهُ محمولٌ على المعنى ، إذ كنَّ حسنات كما ترى (٥).

وَعَليه قوله تعالى : (تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) (٦) ، لما كان ذلك

__________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٤.

(٢) وقد جوّز ذلك العُكبَري : (انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٧٦).

(٣) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٢.

(٤) سورة الإنسان : ٧٦ / ١٣.

(٥) هذا رأَي الأخفش والزَّجَّاج وغيرهما ، وجوَّزَ بعضُهم أن تكونَ معطوفَةً على (مُتَّكِئِينَ) أو على (جَنَّة) أو مفعولاً ثانياً (لِجَزَاهُمْ). انظر : معاني القرآن للأخفش : ١٨٩ / أومعاني القرآن للفرَّاء : ٣ / ٢٧٦ ومشكل إعراب القرآن : ٢ / ٧٨٤ وإملاء ما منَّ به الرَّحمن : ٢ / ٢٧٦ والبيان : ٢ / ٤٨٢ والبحر المحيط : ٨ / ٣٩٦.

(٦) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ١٠ : (قَالَ قَآ ئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَ لْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ).

٢١٥

البعض (١) سَيَّارة في المعنى.

وحكى الأصمعي ، عن أبي عمرو ، قال : سمعتُ رَجُلاً مِنَ اليمنِ يقولُ : فلانٌ لَغوبٌ (٢) جاءتهُ كتابي فاحتقرهَا.

قالَ : فقلتُ لَهُ : أَتقول : جاءَتْهُ كِتابي؟

فقالَ : نَعَمْ ، أَليسَ بصحيفة (٣)؟ فلا تعْجَبْ إلاَّ مِنْ هذا الأَعرابي الجافي وهو يُعَلِّلُ هذا التَّعليلَ في تَأَنيثِ المُذَكَّرِ ، وَلَيسَ في شعر منظوم فَيُحتمَلُ ذَلِك لَهُ ، إنَّمَا هو في كلام منثور. فكذلك يكونُ تأنيثُ الإيمانِ ، أَلا تَراهُ طاعةً في المَعْنَى؟ فكأَ نَّهُ قالَ : لا تَنفَعُ نفساً طاعتُها. والشواهِدُ كثيرٌ لكنَّ الطريقَ التي

__________________

(١) يمنع بعض النحاة واللغويين دخول الألف واللاّم على كلّ وبعض لكن ابن جِنِّي أدخلهما عليهما. كما سيأتي في (إِيَّانَ لُغَةٌ في أيَّانَ) ص : ٢٨٠. وقد استعمل ذلك سيبويه والأخفش وأبو علي الفارسي وابن عقيل والأشموني. وغيرهم. قال أبو حاتِم : قلتُ للأَصمعي : رأيتُ في كتاب ابن المُقَفَّعِ : العلم كثيرٌ ولكن أَخذ (البعض) خيرٌ من ترك (الكلِّ) فأَنكرَهُ أَشدَّ الإنكار وقالَ : الألف واللاّم لا يدخلان في بعض وكلّ لأ نّهما معرفة بغير ألف ولام وفي القرآن العزيز : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) سورة النمل : ٢٧ / ٨٧. قال أبو حاتِم : ولا تقول العربُ : (الكلُّ) ولا (البعضُ) وقد استعمله الناس حتّى سيبويه والأخفش في كتبهما لقلَّةِ علمِهِمَا بهذا النحو!! فاجتنبْ ذلك فإنَّهُ ليسَ مِنْ كلام العرب. وقال الأزهري : النحويون أجازوا الألفَ واللاّم في بعض وكلّ وإنْ أَباهُ الأصمعي. وفي كتاب ليس لابن خالويه : العوامُ وكثيرٌ منَ الخواصِّ يقولون الكلّ والبعض وإنَّمَا هو كلّ وبعض لا تدخلها الألف واللاّم لأ نَّهما معرفتان في نية إضافة. الكتاب : ١ / ٢٥ والحلبيات : ٤٠ والخصائص : ١ / ٢٨ و ٦٤ والمحتسب : ٢ / ٢٦٥ و ٢٨٨ و ٣٥١ واللسان : ٨ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨ وشرح ابن عقيل : ١ / ٦١٦ والبسيط : ١ / ١١٩ والمزهر : ٢ / ١٥٨ وشرح الأشموني : ٣ / ٢٠٩ ولحن العامّة والتطوّر اللغوي : ١٤٣.

(٢) اللغوب : الضعيف الأحمقُ. اُنظر : لسان العرب : ٢ / ٢٣٩ ـ لغب ـ.

(٣) انظر : لسان العرب : ٢ / ٢٣٩ والبحر المحيط : ٧ / ٣١٥.

٢١٦

نحنُ عَلَيْهَا مختصرةٌ قليلةٌ قصيرةٌ (١).

ب ـ تأنيث الفعل والفاعل مؤنَّث مفصول بفاصل

قَرَأَ أَبو جعفر (٢) ومُعاذ بن الحارث : (إِنْ كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) (٣).

قالَ أَبو الفتحِ : في الرفع ضعفٌ ، لِتَأنيثِ الفعلِ ، وهو قولُهُ : (كَانَتْ) ، ولا يقوى أَنْ تَقُولَ : مَا قَامَتْ إلاَّ هندٌ ، وَإنَّما المختارُ من ذلك : ما قامَ إلاَّ هندٌ ، وذلِك أَنَّ الكلامَ محمولٌ على معناهُ ، أَي مَا قامُ أَحَدٌ إِلاَّ هندٌ ، فَلَمَّا كانَ هذا هو المرادُ المُعتَمَدُ ذكرَ لفظَ الفعل إرادةً لَهُ ، وإيذاناً بهِ ، وَحَمْلاً لظاهر اللفظِ عليهِ ، ومثلُهُ قراءةُ الحَسَنِ : (فَأَصْبَحُوا لا تُرَى إلاّ مَسَاكِنُهُمْ) (٤) بالتاء في (ترى) وعليه قول ذي الرُّمَّة :

بَرى النَّحزُ والأَجرَالُ مَا فِي غُرُوضِهَا

وَمَا بَقيِتْ إلاَّ الصُّدُورُ الجَرَاشِعُ (٥)

وأَقوى الإعرابينِ : فَمَا بَقيَ إِلاَّ الصدور ، لأَنَّ المرادَ ما بقي شيءٌ منها

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٢٣٦ ـ ٢٣٨.

(٢) المراد بأبي جعفر ، هو أبو جعفر بن القعقاع كما في زاد المسير ١٥ : ٢١.

(٣) من قوله تعالى من سورة يس : ٣٦ / ٢٩ : (إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) بالنصب.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٥ : (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ).

(٥) يروى (طوى) مكان (بَرى) و (الأَجراز) مكان (الأَجرال) ، والنحز : الركل بالعقب وهو النخس والدفع ، والأجراز جمع جرز وهي أرضٌ لا نباتَ فيها والغروض جمع غرض وهو الحزام والجراشع : جمع جرشع وهو الغليظ ، ويروى هكذا :

ترى البحر والآجال يأتي عُروضها

فما بَقِيتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشع

إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج : ٣ / ٨٦٣ والمحتسب : ٢ / ٢٠٧ وشرح المفصل : ٢ / ٨٧ والبحر المحيط : ٨ / ٦٥ وشرح الشواهد للعيني : ٢ / ٢٢.

٢١٧

على ما مضى (١).

وَقَرَأَ الحسن وأبو رَجاء وقتادة وعَمرُو بن ميمون والسُّلَمِي ومالك بن دينار والأعمش وابنُ أَبي إسحاق واختلف عن الكل (٢) إلاَّ أَبَا رَجاء ومالك بن دينار : (لا تُرَى) بالتَّاءِ مضمومةً ، (إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) (٣) بالرَّفع.

قال أَبو الفتح : أَمَّا (تُرَى) بالتَّاء ورفع المساكن فضعيفٌ في العربية (٤) والشعر أَوْلَى بِجَوازِهِ من القرآن ، وذلك أَنَّهُ مِنْ مواضِعِ العُمُومِ في التذكير ، فَكَأَ نَّهُ في المعنى لا يُرَى شيءٌ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ، وإذا كَانَ المعنى هذا كان التَّذكِيرُ لإرادتِهِ هو الكلام.

فأمَّا (تُرَى) فَإنَّه في معاملةِ الظاهر والمساكن مُؤَنَّثَة ، فأ نَّثَ على ذلك. وإنَّمَا الصواب ما ضُرِبَ إلاَّ هندٌ ولسنا نُريدُ بقولِنَا إِنَّه على إِضمار أحد وإِن هنداً بدلٌ من أَحد المقدَّرِ هنا ، وإنَّما نُريدُ أَنَّ المعنى هذا ، فَلِذَلِك قَدَّمْنَا أمْرَ التَّذْكِير. وعلى التأنيث قالَ ذو الرمّة :

بَرَى النَّحْزُ وَالأَجْرَالُ مَا فِي غُرُوضِها

وما بقيت إلاّ الصُّدُورُ الجَرَاشِعُ (٥)

وهو ضعيف على ما مضى (٦).

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٢) انظر : ص : ٢١٧.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٥ : (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِك نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

(٤) قال العُكبري : هو ضعيف ، وقال أبو حيَّان : هذا لا يجيزه أصحابُنا إلاّ في الشِّعرِ وبعضُهُم يجيزُهُ في الكلام. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٣٤ والبحر المحيط : ٨ / ٦٥.

(٥) تقدّم الشاهد في : ص : ٢١٧.

(٦) المحتسب : ٢ / ٢٢٦.

٢١٨

وَقَرَأَ : (مَا تكُونُ مِنْ نَجوَى ثَلاثَة) (١) بالتَّاءِ ـ أَبو جعفر وأَبو حَيَّة.

قالَ أَبو الفتح : التذكير الذي عليه العامَّةُ هو الوجهُ (٢) ، لِمَا هُنَاك من الشّياع وعمومِ الجِنسِيَّةِ ، كقولِك : ما جاءنِي من امرأَة ، وما حضرني من جارية.

وأَمَّا (تكُونُ) بالتَّاء فلاعتزام لفظ التأنيثِ ، حتَّى كَأَ نَّهُ قالَ : ما تكون من نجوى ثلاثة ، كما تقول : ما قامتِ امرأَةٌ ، ولا حَضَرَتْ جَاريةٌ ، وَمَا تَكُونُ نَجْوَى ثلاثة (٣).

ج ـ تَأَنِيث الفعل وفاعله جمع تكسير

قَرَأ أُبَيُّ بن كعب والأَعرج والحسَن : (إِمَّا تَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٤) بالتَّاءِ.

قال أَبو الفتح : في هذه القراءة بعضُ الصَّنعة ، وذلك لقولِهِ فيما يليه : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُم آيَاتِي) فالأَشبَهُ بتذكيرِ (يَقُصُّونَ) التذكير بالياء في قراءة الجماعة (يَأَتِيَنَّكُمْ) فَتَقُول على هذا قامتِ الزيودُ ، وقامَ الزيدون ، وَتُذَكِّر

لفظَ قامَ لِتَذْكِيرِ (الزيدون) وتؤنّث لفظ قامتْ لأَنَّ الزيودُ مُكَسَّرٌ

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة المجادلة : ٥٨ / ٧ : (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ). البحر المحيط : ٨ / ٢٣٤.

(٢) الظاهر هنا أَنَّ الوجهَ التأنيثُ لا التَّذكيرُ كما ذهبَ إليهِ أبو الفتح لاِنَّ (مِنْ) زائدةٌ فالفعل مسندٌ إِلى مؤنّث. قالَ تعالى : (وَمَا تَأْتِيْهِمْ مِنْ آيَة) سورة الأنعام : ٦ / ٤ وسورة يس : ٣٦ / ٤٦ و (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَهَا) سورة الحجر : ١٥ / ٥ وسورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٣. البحر المحيط : ٨ / ٢٣٥.

(٣) المحتسب : ٢ / ٣١٥.

(٤) من قوله تعالى من سورة الأعراف : ٧ / ٣٥ : (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي).

٢١٩

ولا يختصُّ بالتذكير ، لقولِك : الهنودُ. وقد يجوز قامتِ الزيدون إلاّ أنَّ قام أَحسن (١).

د ـ تأنيث الفعل والفاعل ضمير لجمع تكسير مذكَّر

قَرَأَ بديلُ بنُ ميسرة : (مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَيَنُوءُ) (٢) بالياء.

قال أبو الفتح : ذَهَبَ في التَذْكِير إلى ذلك القدر والمبلغ فَلاحَظَ مَعنَى الواحدِ (٣) فَحَمَلَ عليهِ فقال : (لَيَنُوءُ). ونحو قول الرجز : مِثْلَ الفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهْ أَي : حواصل ذلك ، أَوْ حواصل ما ذكرنا.

وأَخبرنا شَيْخُنَا أَبو علي قالَ : قَالَ أَبو عبيدةَ لرؤبةَ في قولهِ :

فِيهَا خُطوطٌ مِنْ سواد وَبَلَقْ

كَأَ نَّهُ فِي الجلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ (٤)

إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ الخطوطَ فَقُل : كَأَ نَّها ، وإنْ كُنْتَ أَرَدْتَ السَّوادَ والبَلَقَ فَقُلْ كَأَ نَّهُمَا ، فَقَالَ رُؤبة : أَرَدْتُ كَأَنَّ ذَلِك ، وَيْلَك!! هَذَا مجموع الحكاية ، وهي متلقاةٌ مقبولةٌ كما يجب في (ذاك).

وَلَو قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الهاءَ فِي (كَأَ نَّه) عائدةٌ على (البَلَق) وَحْدَهُ لَكَانَ مصيباً لأَنَّ في البَلَقِ ما يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ تشبيهِهِ بالْبَهَقِ ، فَلاَ ضَرُورَةَ هُنَاك إلى إدخالِ السَّوَادِ مَعَهُ.

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٢٤٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة القصص : ٢٨ / ٧٦ : (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).

(٣) وقال أَبو حيَّان راعَى المضافَ المحذوفَ لتقدير ما إنْ حَمْلُ مفاتحِهِ أوْ مِقدَارها أو نحو ذلك. انظر : البحر المحيط : ٧ / ١٣٢.

(٤) البَلَقُ : سواد وبياض. والبَهَقُ : بياض دون البرص. والتَوليع : استطالة البَلَقَ. انظر : ديوان رؤبة : ١٠٤ والمحتسب : ٢ / ١٥٤ ولسان العرب : ١١ / ٣١١.

٢٢٠