أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

شُلَّتْ يَمِينُك إنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمَا

 ......(١)

أَي : إنَّك قتلَت مُسْلِماً ، وهذا موضح في بابه.

فلو كانت (كلّ) هنا رفعاً لم يكنْ بُدٌّ معها من اللاّم الفاصلة بين المخفَّفةِ والنافيَّةِ ، ولاَ لامَ معك لأَنَّ هذه الموجودةَ في اللفظ إنَّما هي الجَارَّةُ المكسورةُ ، ولو جاءَتْ معها لوجبَ أنْ تقولَ : وإنْ كُلَّ ذلك لَلِمَا مَتاع الحياة الدُّنيا كقولِك : إِنْ زيدٌ لَمِنَ الكِرَامِ.

فإنْ قلتَ : إنَّه قدْ يجوز أنْ يكونَ أرادَ اللاّمَ الفاصلةَ : لكنَّها جَفَتْ معَ اللاّمِ الجارةِ فَحُذِفَتْ وصارت هذه الجارةُ في اللفظِ كالعوضِ مِنْهَا.

قيل : فقد قال :

فَلاَ واللهِ لا يُلفَى لِمَا بِي

وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أَبداً دَوَاءُ (٢)

فجمع بين اللاّمين ، وكلتاهما جارة (٣). فإذا جازَ الجمع بين الجارَّتين

__________________

(١) عجز البيت :

 ......

حَلَّتْ عليك عُقُوبَةُ المُتَعَمِّدِ

وهو لعاتكة بنت زيد العَدَويِّةِ تَرثِي زوجها الزبير بن العَوَّام وتدعو على قاتله.

اُنظر : اللاّمات : ١٢١ والإنصاف : ٢ / ٣٣٦ وشرح المفصل لابن يعيش : ٨ / ٧٢ وشرح الكافية : ٣٥٩ والجنى الداني : ٢٢٩ وشرح ابن عقيل : ١ / ٣٨٢ وشرح التصريح : ١ / ٢٣١.

(٢) البيتُ لِمُسلم بن مِعبَد الوالبي.

انظر : معاني القرآن للفرّاء : ١ / ٦٨ وسرّ صناعة الإعراب : ١ / ٢٨٣ والخصائص : ٢ / ٢٨٢ وشرح المفصل : ٨ / ٤٣ وشرح الكافية : ١ / ١٤٦ و ٣٣١ و ٢ / ٣٢٩ والجنى الداني : ١٣١ و ٣٤١ والمغني : ١ / ١٨١ والخزانة : ٢ / ٣٠٨.

(٣) عدَّ ابنُ يعيش اللاّمَ الثانيةَ زائدةً وجوَّزَ الرَّضِيُّ أنْ تكونَ الثانية للتوكيد.

وكان المرادي قد قال بذلك. ومثله فعل ابن هشام. انظر : شرح الكافية : ٢ / ٣٢٩ وشرح المفصل : ٨ / ٤٣ والجنى الداني : ١٣١ والمغني : ١ / ١٨١.

١٨١

وهما بلفظ واحد وعمل واحد فجمعُ المفتوحةِ مع المكسورةِ العاملةِ أَحرى بالجواز.

وبعدُ ، فالحقُّ أَحقُّ أنْ يُتَّبَعَ ، هذا بيتٌ لم يعرفْهُ أَصحابُنا ولا رووه ، والقياس من بعدُ على نهاية المجِّ لَهُ والإِعراضِ عنهُ ، لا سيّما وقد جاورَ بحرف الجرِّ حرفاً مثله لفظاً ومعنىً فلو وُجِدَ هذا البيت عُنوَاناً على كلِّ ورقة من مصحف أَبي عمرو لما جاز استعمال مثله في الشعر إِلاّ كَلاَ وَلاَ (١) فضلاً عن الأَخذِ به في كتابِ الله.

فإذا كانَ كذلك بطل رفعُ (كلّ) لما ذكرناه ووَجَبَ أَنْ يكونَ نصباً على لغة من نصبَ مع التخفيف فقالَ : إِنْ زيداً قائمٌ ، لأَ نَّهُ إِذا نصبَ زالَ الشك في أَنَّها ليستْ بالنافية ، لأنَّ تلك غيرُ ناصبة للمبتدأِ ، وترك ابن مجاهد ذكر الإعراب في (كلّ) يدعو إلى أَنْ يكونَ رَفْعاً ، إذْ لَوْ كانَ نَصْباً لذكَرهُ لِمَا فيهِ مِنَ الشذوذ الذي عليه وضع هذا الكتاب ، ففيه إِذاً ما تراه فَتَعْجَب منـهُ (٢).

٥ ـ أَنَّ أَصْلُ أَنِ المخفَّفَة

قَرَأَ ابن محيصن وبلال بن أَبي بُردة ، ويعقوب (٣) : (أَنَّ الحمدَ للّهِ) (٤) قال

__________________

(١) معناه : إِلاَّ قليلاً. والعربُ إذا أرادتْ تقليل مدّةِ فعل أوْ ظهورِ شيء خفيّ قالت كان فعل كَلاَ ، وربما كرّرت فقالت : كَلاَ ولاَ. انظر : اللسان : ٢٠ / ٣٥٧ والمحتسب : ٢ / ٢٥٦.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٣) وهي قراءة عكرمة ومجاهد وقتادة وابن يعمر وأبي مجلز وأبي حياة. انظر : البحر المحيط : ٥ / ١٢٧.

(٤) من قولـه تعالى من سورة يونس : ١٠ / ١٠ : (وَآخِـرُ دَعْوَاهُـمْ أَنِ الْحَـمْـدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

١٨٢

أَبو الفتح : هذه القراءة تدلّ على أَنَّ قراءة الجماعة (١) : (أَنِ الحمدُ لِلَّهِ) على أَنَّ (أنْ) (٢) مخفّفة من أَنّ (٣) بمنزلة قول الأعشى :

في فتيةِ كسيوفِ الهندِ قَدْ عَلِمُوا

أَنْ هالك كُلُّ مَنْ يحفَى وَيَنْتَعِلُ (٤)

أَي أَنَّهُ هَالِك (٥) ، فَكَأَ نَّهُ على هذا : وآخر دعواهم انه الحمد لله (٦) ، وَعَلى أَنَّهُ لا يجوز أنْ يكونَ (أَنْ) هنا زائدةً (٧) كما زيدتْ في قولهِ :

ويوماً تُوافِينَا بِوَجه مُقَسَّم

كَأَنْ ظبية تعطو إلى وارفِ السَّلَمْ (٨)

__________________

(١) يعني الجمهور. البحر المحيط : ٥ / ١٢٧.

(٢) نقل ذلك أبو حيان عن ابن جنِّي. انظر : البحر المحيط : ٥ / ١٢٧.

(٣) اسمها ضمير الشأن لازم الحذف والجملة بعدها خبر أن وان وصلتها خبر قوله آخر.

انظر : البحر المحيط : ٥ / ١٢٧.

(٤) البيت عجزه في الديوان :

أنْ لَيْسَ يَدفَع عن ذِي الحيلةِ الحيلُ

انظر : الديوان : ٤٥ والكتاب : ١ / ٢٨٢ و ٤٤٠ و ٤٨٠ والأُصول في النحو : ١ / ٢٨٩ والخصائص : ٢ / ٤٤١ والمنصف : ٣ / ١٢٩ وشرح أبيات سيبويه للنحاس : ١٦٦ والإنصاف : ١ / ١١٣ والبحر المحيط : ٥ / ١٢٨ والخزانة ـ بولاق ـ : ٤ / ٢٥٦.

(٥) وفي البحر المحيط ان (ان) إذا خُفِّفَتْ لم تعملْ في غير ضمير محذوف وأجاز المُبَرِّدُ إعمالها كحالها مشدّدة. انظر : البحر المحيط : ٥ / ١٢٨.

(٦) قال العكبري : والتقدير : وآخر دَعواهم حَمْدُ اللهِ. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ٢٤.

(٧) وهناك من يرى انها زائدة ، وليس هذا من محال زيادتها.

انظر : الجنى الداني : ٢٣٩ والبحر المحيط : ٥ / ١٢٨.

(٨) نسب هذا البيت إلى باعث أو باغث بن صريم اليشكري وإِلى أَرقم اليشكري وإلى زيد بن أَرقم اليشكري وكعب بن أرقم اليشكري وراشد بن شهاب اليشكري وعلباء بن أَرقم بن عوف من بكر بن وائل وروي (وارق) و (ناضر) مكان (وارف). المفضليات : ١٥٤ والكتاب : ١ / ٢٨١ والأُصول في النحو : ١ / ٢٩٧ والمنصف : ٣ / ١٢٨ والإنصاف : ١ / ١١٣ وشرح المفصل : ٨ / ٧٢ و ٨٣ والخزانة : ط ـ الخيرية : ٤ / ٣٦٤ وهمع الهوامع : ١ / ١٤٣ و ٢ / ١٨ وشرح الأشموني : ١ / ٢٩٣ و ٣ / ٢٨٦.

١٨٣

أَي : كَظبية (١) ، وَإذا لَم يَكُنْ ذلك كذلك لم يكنْ تقديره وآخر دعواهم الحمد لله. هو كقولك : أول ما أَقوله : زيدٌ منطلقٌ وَعَلى أَنَّ هذا مع ما ذكرناه جائز في العربية لكنَّ فيهِ خلافاً لتقدير قراءة الجماعة ، وفيه أَيضاً الحملُ على زيادةِ (أَنْ) وَلَيْسَ بالكثيرِ.

وَلَوْ قَرَأَ قارئ : إِنَّ الحمدَ للهِ بكسرِ الهمزةِ على الحكايةِ التي للفظ بعينه لكان جائزاً لَكِنْ لا يُقْدَمُ على ذلِك إِلاَّ أَنْ يَرِدَ بهِ أَثَرٌ وإِن كانَ في العربية سائغاً (٢).

وإذا فتح فقالَ : أَنَّ الحمدَ لله فلم يحكِ اللفظَ بعينهِ وإِنَّما جاءَ بمعنى الكلام كقولنا : بلغني أَنَّ زيداً منطلقٌ فليس هذا على حكاية ما سمع لفظاً.

ألا تراه إِذا قيلَ لهُ قَد انطلق زيدٌ فقال : بلغَني أَنَّ زيداً منطلقٌ كان صادقاً وإنْ لم يؤدِّ نفسَ اللفظ الذي سَمِعَهُ ، لَكِنَّهُ أدّى معناه؟ وإِن كَسَرَ فقالَ : إِنَ الحمدَ للهِ فهو مؤدّ لنفسِ اللفظِ وحاك لَهُ البتة (٣).

وقرأ الأَعرج بخلاف وأَبو رجاء وقتادة وعيسى وسلاّم وعمرو بن ميمون وروى عن عاصم : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) (٤) و (أَنْ غَضَبُ اللهِ) (٥).

__________________

(١) على إعمال حرف الجرّ و (أنْ) زائدة : وقد روي البيت بالرفع وبالنصب أيضاً فالرفع على الخبر واسم كان محذوف مقدر والمعنى كأ نّها ظبية والنصب على انها اسمها والخبر محذوف منوي. كَأَ نّه قالَ : كَأَنْ ظبيةً هذه المرأة. انظر : شرح المفصل : ٨ / ٨٣.

(٢) لأَنّ القراءة سنّة لا تخالف. انظر : الكتاب : ١ / ٧٤.

(٣) المحتسب : ١ / ٣٠٨.

(٤) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٧ : (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).

(٥) من قوله تعالى من سورة النور : ٢٤ / ٩ : (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَاإِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

١٨٤

وقرأَ : (أنْ لَعْنَةُ اللهِ) رفعٌ وَخفّف النون ، و (أنَّ غَضَبَ اللهِ) نصبٌ يعقوب.

قال أبو الفتح : أما مَنْ خفَّفَ ورفعَ فإنَّها عِنْدَهُ مُخَفَّفَةٌ من الثقيلة (١) وفيها إضمارٌ محذوف للتخفيف ، أَي : أَنَّهُ لعنةُ اللهِ عليهِ وأَ نَّهُ غضبُ اللهِ عليها.

فلمّا خفّفت اضمر اسمها وحذف ، ولم يكنْ من إضمارِهِ بُدٌّ (٢) ، لأنَّ المفتوحَةَ إذا خُفِّفَتْ لم تصرْ بالتخفيفِ حرفَ ابتداءِ إنَّمَا تلك (إِنِ) المكسورةُ ، وعليه قول الشاعر :

في فتية كَسيوفِ الهندِ قَدْ عَلِمُوا

أنْ هَالِك كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ (٣)

أَي أنَّهُ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحفى وينتعل.

وسبب ذلك أنّ اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتصال بالمعمول فيه واتصال المفتوحة باسمها وخبرها اتصالان :

أحدهما : اتصال العامل بالمعمول.

والآخر : اتصال الصلة بالموصول. أَلا تَرى أنَّ ما بعدَ المفتوحةِ صلةٌ لَهَا؟ فلمَّا قَوِيَ مَعَ الفتحِ اتصال أنْ بِمَا بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بدٌّ مِن اسم مقدر محذوف تعمل فيه ، ولمَّا ضعفَ اتصالُ المكسورة بما بعدها جاز إِذا خُفِّفَتْ أنْ تفارق العمل وخلُص حرفَ ابتداء (٤).

ب ـ لكنّ

روى عبد الوهاب عن أَبي عمرو : (وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ) (٥). نصبٌ.

__________________

(١) انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٥٤ والبحر المحيط : ٦ / ٤٣٤.

(٢) انظر : ص : ١٧٧ ـ ١٧٨ ، والجنى الداني : ٢٣٦.

(٣) تقدّم الشاهد في : ص : ١٨٣.

(٤) المحتسب : ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٥) من قوله تعالى من سورة الأَحزاب : ٣٣ / ٤٠ : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ

١٨٥

قال أَبو الفتح : (رسول اللهِ) منصوبٌ على اسم (لكنَّ) والخبر محذوف ، أَي : ولكنَّ رسولَ اللهِ محمدٌ وعليه قول الفرزدق :

فَلَوْ كُنتَ ضَبِّيًّا عرفتَ قَرَابَتِي

وَلَكِنَّ زنجيّاً غَلِيظَ المشافِرِ (١)

أَي : وَلَكِنَّ زنجيّاً غليظَ المشافرِ لا يعرفُ قَرابتي ، فحذفَ الخبرَ لِدَلاَلةِ ما قبله عليه ، وهو قوله عرفت قرابتي ، كما أَنَّ قوله : (ما كانَ مُحَمَدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ) (٢) ، يدلُّ على أَنَّهُ مخالِفٌ لِهَذا الضَّرْبِ مِنَ الناسِ ونحو من ذلك قولُ طَرَفَة :

وَتَبْسِمُ عنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوّرا

تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمِلْ دِعْصٌ لَهُ نَدِي (٣)

قال أَبو الحسن علي بن سليمان لَمْ يأتِ لكان بخبر علما بمعرفة موضعه ، أَي : كَأنَّ ذَلِك المنورَ ثَغرُها ، فحذفه للعلمِ به ولطولِ الكلامِ (٤).

ج ـ لا النافية للجنس

قَرأَ ابنُ مسعود وابنُ عباس وعِكرِمَة وعطاء بن رباح [والأئمة] : أَبو جعفر محمّد بنُ علي وأبو عبد الله جعفر بن محمّد وعلي بن حسين

__________________

وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ).

(١) البيت للفرزدق ، ويروى (ولكن زنجيٌّ) على أن يكون (زنجي) خبر لكنَّ واسمها محذوف ، والتقدير : (ولكنّك).

انظر : الديوان : ٤٨١ والكتاب : ١ / ٢٨٢ والمحتسب : ٢ / ١٨٢ ومجالس ثعلب : ١٢٧ والمنصف : ٣ / ١٢٩ والمقرب : ١ / ١٠٨ وشرح المفصل : ٨ وهمع الهوامع : ١ / ٣٦.

(٢) من قوله تعالى من سورة الأَحزاب : ٣٣ / ٤٠ : (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ).

(٣) البيت من معلّقة طرفة. انظر : ديوانه : ٨ وشرح القصائد السبع الطوال للأنباري : ١٤٣.

(٤) المحتسب : ٢ / ١٨١ ـ ١٨٢.

١٨٦

(عليهم السلام) : (والشَّمْسُ تَجرِي لامُستقرَّ لَهَا) (١) بنصب الراء. (٢)

قال أَبو الفتح : ظاهرُ هذا الموضع ظاهرُ العموم ومعناهُ معنى الخصوصِ وذلك أنَّ (لا) هذه النافية الناصبة للنكرة لا تدخل إِلاَّ نفياً عاماً وذلك أَنَّها جوابُ سؤال عام ، فقولُك لا رجلَ عندك جوابُ هل من رجل عندك؟ فكما أَنَّ قولَك : هل من رجل عِندَك سؤال عامٌّ. أَي : هل عندك قليلٌ أو كثيرٌ من هذا الجنس الذي يقال لواحده رجل؟ فكذلك ظاهرُ قولِهِ : (لا مستقر لها) نفي أنْ تستقرَّ أبداً ، ونحن نعلمُ أَنَّ السماواتِ إذا زلنَ بَطُلَ سيرُ الشمس أصلاً ، فاستقرّتْ مِمَّا كانتْ عليهِ من السير. ونعوذُ بالله أنْ نقولَ : إِنَّ حركتها دائمةٌ كما يذهبُ مُحَبَّنوا (٣) المُلْحدة فهذا إذاً في لفظ العموم بمعنى الخصوص بمنزلة قوله :

أبكي لفقدك ما ناحتْ مُطَوَّقَةٌ

وما سَمَا فَنَنٌ يوماً على ساقِ (٤)

ونحن نعلم ان أقصى الأعمار الآنَ إنَّمَا هو مئة سنة ونحوها أَي لو عشتُ أَبداً بكيتك فكذلك (لا مستقرَّ لَهَا) ما دامتِ السنواتُ على ما هي

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة يس : ٣٦ / ٣٨ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

(٢) وهي قراءة الكسائي برواية الشيرازي عنه كما في زاد المسير : ٦ / ٢٧١.

(٣) أصل الحَبَن داء في البطن فيعظُم مِنهُ وَيَرِمُ والأَحبَن المستسقي من الحبنَ بالتحريك وهو عِظم البطن.

انظر : أساس البلاغة : ١ / ١٥١ واللسان : ١٦ / ٥٨.

(٤) البيت لأُمَّ عمرو أخت ربيعة بن المُكُدَّمِ في رثاء أخيها ربيعة ويروى (فسوف أبكيك) مكان (أبكي لفقدك) و (ما سريت مع الساري) مكان (وما سما فنن يوماً).

انظر : ذيل الأمالي : ١٣.

١٨٧

عليهِ (١).

التعليق والالغاء

قرأ الحسن : (إنَّ رَبَّك هو أَعلمُ مَنْ يُضِلُّ عن سبيلهِ) (٢) بضمّ الياء.

قالَ أَبو الفتحِ : يجوزُ (٣) أَنْ تكون (مَنْ) هذهِ مرفوعةً بالابتداء (٤) ، وَيُضِلُ بَعْدَهَا خبرٌ عَنْهَا ، و (أعلمُ) هذه معلّقةٌ عن الجملة ، حَتَّى كأَ نَّهُ قال : إنَّ رَبَّك هو أعلمُ أَيُّهُم يُضِلُّ عن سبيلِهِ ، كقولهِ تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (٥).

فَأَمَا الجرُّ فمدفوعٌ من حيثُ ذكرنا (٦) ، وإذا كان ذلك كَذَلِك علمتُ أنَّ (مَنْ) في قولِ الطائي (٧) :

غَدوتُ بِهِمْ أَمَدَّ ذويَّ ظِلاً

وَأَكْثَرَ مَنْ وَرائِي مَاءَ وَادِي (٨)

ولا يجوز أن تكون (من) في موضع جرّ بإضافة أكثر إليه إِذْ ليسَ واحداً مِمَّنْ وراءَهُ فهو إذاً منصوبُ الموضِعِ لا محالةَ بأكثرَ أوْ بما دلَّ عليه أكثرُ ، أَي

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢١٢.

(٢) من قوله تعالى من سورة الأنعام : ٦ / ١١٧ : (إِنَّ رَبَّك هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

(٣) ويجوز عنده أنْ تكونَ منصوبةً بنزع الخافض وسيأتي ذكر ذلك في موضعه المناسب.

(٤) انظر : معاني القرآن وإعرابه للزجّاج : ٢ / ٣١٤.

(٥) سورة الكهف : ١٨ / ١٢.

(٦) سنبيّن ذلك في مبحث المنصوب بنزع الخافض إِنْ شاءَ الله.

(٧) هو أَبو تمام حبيب بن أوس الطائي.

(٨) من قصيدة لأَبي تَمَّام في مدح أَحمد بن أَبي دؤاد. انظر : الديوان : ٧٢ والمحتسب : ١ / ٢٢٩.

١٨٨

كثرتُهم كنتُ أَكثرَهم ماءَ واد.

وَلاَ يجوزُ فيهِ الرفْعُ الذي جازَ معَ العلمِ ، لأَنَّ كثَرت ليسَ من الأفعالِ التي يجوز تعليقها إنَّما تلك ما كانَ من الأفعالِ داخلاً على المبتدأِ وخبرهِ (١).

التضمين

أوْ الذهاب إِلى المعنى

قَرأَ أَبو طالوت عبد السلام بن شدَّاد والجارودُ بنُ أَبي سَبرةَ : (وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ) (٢) بِضَم الياءِ وفتح الدَّالِ.

قال أَبو الفتح : هذا على قولِك خدعتُ زيداً نفسَهُ ، ومعناهُ عن نفسهِ ، فَإنْ شِئْتَ قلتَ على هذا : حُذِفَ حرفُ الجرِّ فَوُصِلَ الفعلُ (٣).

وإنْ شئتَ قلتَ : حَمَلهُ على المعنى ، فاضمر له ما ينصبه. وذلك أَنَّ قَولَك : خدعتُ زيداً عن نفسِهِ يدخُلُهُ معنى : انتقصتُهُ نفسَهُ ، وملكتُ عليهِ نفسَهُ وهذا من أَسدِّ وأدمثِ مذاهبِ العربية ، وذلك أَنَّه موضعٌ يملك فيه المعنى عِنَانَ الكلام فيأخذُهُ إِليهِ ، ويصرفُهُ بحسبِ ما يؤثرهُ عليهِ.

وجملتُهُ : أَنَّهُ مَتَى كانَ فِعْلٌ مِنَ الأفعالِ في معنى فعل آخر فكثيراً ما يُجري أحدُهُمَا مُجرَى صاحبِهِ فيعدلُ في الاستعمالِ بهِ إليه ، ويحتذى في تصرُّفِهِ حذوَ صاحبِهِ ، وإِنْ كانَ طريقُ الاستعمالِ والعُرفِ ضدَّ مَأْخذِهِ. أَلا

__________________

(١) المحتسب : ١ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٢) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٩ : (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ).

(٣) نؤجّل الحديث عن ذلك إلى مبحث النصب بنزع الخافض.

١٨٩

ترى إِلى قولِ اللهِ جلّ اسمه : (هَلْ لَك إِلى أَنْ تَزَكّى) (١) ، وأَنْتَ إِنَّما تقول : هَلْ لك في كذَا؟ لَكِنَّهُ لَمّا دَخَلَه معنى اجذبك إلى كذا وأدعوك إليه ، قال : (هَلْ لَك إِلى أَنْ تَزَكَّى)؟ وعليه قول الفرزدق :

كَيفَ تَراني قالياً مِجَنّي

قَدْ قَتَلَ اللهُ زياداً عَنِّي (٢)

فاستعمل (عن) هاهنا لِما دخله من معنى قد صرفه الله عني ، لاَِنه إِذا قتله فقد صرفه عنه ، وعليه قوله تعالى : (أُحِلَ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَتُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (٣) وَأَنْتَ لا تَقول رَفَثْتُ إلى المرأةِ ، وإنَّما تَقَولُ رَفَثْتُ بِها وَمَعها ، لَمَّا كان الرفثُ بمعنى الإفضاءِ عُدّيَ بإلى (٤) كما يعدَّى أَفضيتُ بِإِلى ، نحو قولكَ أفضيت إِلى المرأةِ. وهو بابٌ واسعٌ (٥) ومنقاد وقد تقصّيناه في كتابنا الخصائص (٦) ، فكذلك قوله عزَّوجلَّ : (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنْفُسَهم) جاءَ على خدعتُه نفسَهُ لَمَّا كان معناهُ مَعنى انتقصته نفسه ، أوْ تَخَوَّنتُه نفسه (٧) ورأيتُ

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ١٨.

(٢) قاله الفرزدق لما بلغه موت زياد بن أبيه. ويروى (قالباً) بالباء. انظر : الديوان : ٢ / ٨٨١ والخصائص : ٢ / ٣١٠ ، ٤٣٥ والمحتسب : ١ / ٥٢ والجنى الداني : ٢٦٢ والمغني : ٢ / ٦٨٦ وشرح الأشموني : ٢ / ٩٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

(٤) انظر : معاني القرآن للأخفش : ٥٨ / آ والتمام : ٢٠٥ و ٢٢٩.

(٥) قال أَبو الفتح : أحسب لو جُمِعَ ما جاءَ منهُ لجاءَ منهُ كتابٌ يكون مئين أَوراقاً وقال : والحمل على المعنى كثيرٌ جداً في الإيجاب وضدَّهُ وشواهدُ هذا في النثر والنظمأكثر من أنْ أحصيها. انظر : التمام : ١٦٦ و ١٨٨ والمغني : ٢ / ٦٨٦.

(٦) انظر : الخصائص : ٢ / ٣٠٨.

(٧) قال أبو حيان : انتصاب ما بعد إلاّ إمَّا على التمييز على مذهب الكوفيين ، وإمَّا على

١٩٠

أبا عَلَيِّ (رحمه الله) يذهبُ إلى استحسانِ مذهبِ الكسائي (١) في قوله :

إذا رَضِيَتْ عليَّ بَنو قُشَير

لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَني رِضَاهَا (٢)

لأَ نّهُ قالَ : عُدِيَ رَضِيَتْ بعلي ، كما يُعدَّى نقيضُها وهي سَخِطَتْ بِهِ ، وكانَ قياسُهُ رَضَيتُ عَنّي ، وإذا أَجاز أنْ يجري الشيءُ مجرى نقيضِهِ ، فإجراؤه مجرى نظيره أَسوغُ فهذا مذهبُ الكسائي (٣) وما أَحْسَنَه! وفيهِ غيرهُ على سَمْتِ مَا كُنَّا بصددِهِ وذلك إذا رضي عنه فقد أَقبلَ عليهِ ، فكأَ نَّهُ قَالَ : إذا أَقبلَتْ عليَّ بنو قُشَير.

وهو غور من أَنحاء العربية طَرِيفٌ ولَطيفٌ ومصونٌ وبَطينٌ (٤).

وقرأَ علي بن أَبي طالب وأَبو جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام)

__________________

التشبيه بالمفعول بهِ ، على ما زَعَمَ بعضُهم ، وإمَّا على إسقاط حرف الجرِّ أي : في أنفسِهم ، أو عن أنفسهم ، أو ضمن الفعل معنى ينتقصون ويستلبون فينتصبُ على أنَّهُ مفعولٌ بِهِ ، كما ضُمِّنَ الرَّفَثُ معنى الإفضاء فَعُدِيَ بإلى في قوله : (إِلَى نِسَائِكُمْ) ولا يقال : رفث إلى كذا ، وكما ضُمِّنَ هَلْ لَك إِلَى أَنْ تَزَكَّى مَعنَى أجذبُك ولا يُقالُ إلا هل لك في كذا. انظر : البحر المحيط : ١ / ٥٨.

(١) انظر : الخصائص : ٢ / ٣١١.

(٢) البيت للقُحَيفِ العُقَيلِي يمدحَ حَكيم بنَ المُسَيَّب القُشَيري.

انظر : معاني القرآن للأخفش : ٥٩ / أوالمقتضب : ٢ / ٣٢٠ والخصائص : ٢ / ٣١١ والأُزهية : ٢ / ٢٨٧ والمخصص : ١٤ / ٦٥ و ١٧ / ١٦٤ ورصف المباني : ٣٧٢ وشرح الكافية : ٢ / ٣٢٤ والمغني : ١ / ١٤٣ وشرح ابن عقيل : ٢ / ٢٥ وشرح المفصل : ١ / ١٢٠ وهمع الهوامع : ٢ / ٢٨ والخزانة ـ بولاق ـ : ٤ / ٢٤٧ وشرح التصريح : ٢ / ١٤.

(٣) اُنظر : الخصائص : ٢ / ٣٠٠ والإنصاف : ٢ / ٣٣٠ والمغني : ١ / ١٤٣ وشرح التصريح : ٢ / ١٥.

(٤) المحتسب : ١ / ٥١ ـ ٥٣.

١٩١

ومجاهد : (تهوَى إليهم) (١) بفتح الواو.

قال أَبو الفتح : قراءة علي (عليه السلام) : (تَهوَى إِلَيْهِم) بفتح الواو من هويتُ الشيء إذا أحببتُه إلاَّ أنَّهُ قالَ (إلَيْهِم) وأنت لا تقول هويت إلى فلان ، لكنّك تَقول : هَويْتُ فلاناً ، لأَ نَّهُ (عليه السلام) حمله على المعنى ، ألاَ تَرى أنَّ معنى هويت الشيءَ : ملت إليه؟ فقال : (تَهوِي إليْهِمْ) لأ نَّهُ لاَحظَ معنى تميل إِليهم ، وهذا بابٌ في العربية ذو غور.

ومنه قول الله تعالى : (أُحِلَ لَكُم ليلةَ الصيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُم) (٢) عَدَّاهُ بإِلى وأَنْتَ لا تقول : رَفَثْتُ إِلى المرأةِ ، إِنَّمَا تقولُ : رَفَثْتُ بِهَا أوْ مَعَها ، لَكِنَّهُ لَمَّا كانَ معنى الرَّفَثِ مَعنَى الإفضاءِ عدَّاهُ بإِلى ملاحظة لمعنى ما هو مثله ، فكأ نَّهُ قالَ : الإِفْضَاءُ إِلى نِسَائِكم (٣) ، وَمِنْهُ قولُ اللهِ تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) (٤) لَمَّا كانتِ التوبةُ سَبَباً للعفوِّ لاحظَ معناهُ فقالَ : عن عبادِهِ ، حَتَّى كَأَ نَّهُ قالَ : وَهْوَ الّذِي يَقْبَلُ سَبَبَ العفوِّ عَن عبادهِ (٥).

وَقَرأَ الحُرُّ النَّحوي : (يُسْرِعونَ) (٦) في كُلِّ القرآن.

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة إِبراهيم : ١٤ / ٣٧ : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.

(٣) تقدّم هذا التخريج في : ص : ١٩٠ وذكره أبو الفتح في الخصائص : ٢ / ٣٠٨ والمحتسب : ١ / ٥٢ وتجده في إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٨٣ والبحر المحيط : ٢ / ٤٨ مأخوذاً عن أبي الفتح.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١٠٤.

(٥) المحتسب : ١ / ٣٦٤.

(٦) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ١٧٦ : (وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ

١٩٢

قال أَبو الفتح : معنى يُسارِعونَ في قراءة العامّةِ : أَي يسابِقُون (١) غيرَهُم ، فهو أَسْرع لَهُم وأظهر خُفُوفاً بِهِم ، وأما يُسرِعون فَأَضْعَف (٢) معنىً في السرعةِ من يُسارِعون ، لأَنَّ مَنْ سَابَقَ غيرَهُ أحرصُ على التقدُّمِ مِمَّنْ آثر الخُفوف وَحْدَهُ. وَأَمَّا سَرُعَ فعادةٌ وَنَحِيزَةٌ. أَي : صار سريعاً في نَفْسِهِ.

وَفَعلَ مِنْ لَفْظِ فَاعَلْتُ ضربان : متعدّ وغيرُ متعدّ.

فالمتعدّي كضربتُ زيداً وضارَبْتُهُ ، وغيرُ المتعدّي كقمتُ وقاومتُ زيداً. أمَّا أسرعَ وَسَرُعَ جميعاً فغيرُ متعدّيين ، لكنْ سَرُعَ غريزة وأَسْرَع كَلَّفَ نفسَهُ السرعةَ لكنْ سارع متعدّ (٣).

وقرأَ عِكرمة : (وَأَهُسُّ) (٤) بالسين.

قالَ أبو الفتح : أمَّا أَهسُّ بالسين غير معجمة فمعنُاه أَسوق. رجلٌ هَسَّاسٌ أَي : سَوَّاق ، فإن قلتَ : فكيفَ قالَ : أَهسُّ بِها على غَنَمي؟ وَهَلاَّ قالَ : أَهسَّ بِها غَنَمِي؟ كقولك أَسوقُ بِهَا غَنَمي؟ قيل : لَمَا دخلَ السَّوقَ معنى الانتحاءِ لَها والمَيل بها عليها استعمل مَعَها (عَلَى) حملاً على المعنى (٥) ، ومن ذَلِك قولُهم كفى باللهِ ، أَي كفى اللهُ ، إِلاَّ أَنَّهُم زادوا الباءَ حملاً على معناهُ إِذْ كان في معنى

__________________

إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً).

(١) فهو متعدّ لأَ نَّهُ أُريدَ بِهِ معنى المشاركةِ وهذا ما سيستنتجه في آخر كلامه.

(٢) قال في البحر المحيط : ٣ / ١٢١ : وقراءة الجماعة أَبلَغُ ، لأَنَّ مَنْ يسارع غيرَه أَشَدّ اجتهاداً من الذي يُسْرِعُ وَحْدَه.

(٣) المحتسب : ١ / ١٧٧.

(٤) من قوله تعالى من سورة طه : ٢٠ / ١٨ : (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآ رِبُ أُخْرَى).

(٥) قال العكبري عدَّى بعلى لأَنَّ معناهُ : أقوم بها ، أو أهول. انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١٢٠.

١٩٣

أكتفِ باللّهِ ولذلك قالوا حسبك به ، لما دخله معنى اكتفِ به ، وَلِذَلِك أيضاً حذفوا خبرَهُ في قولهِم : حَسْبُك لَمَّا دَخَلَهُ معنى اكتفِ ، والفعلُ لاَ يُخْبَرُ عَنْهُ (١).

من الأفعال التي تنصب مفعولين

أ ـ ما يدخل على المبتدأِ والخبر

١ ـ رأى بمعنى اعتقد

قال تعالى : (لِتَحْكُمَ بينَ الناسِ بمَا أَرَاك اللهُ) (٢).

قال أبو الفتحِ : هذا ليسَ مِنْ رؤيةِ العينِ لأَ نَّهُ لا مدخل له في الأحكام ، ولا من العلم لأَنّ ذَلِك متعدّ إِلى مفعولينِ فإذا نقل الهمزة وجبَ أنْ يتعدَّى إلى ثلاثة ، والذي معنا في هذا الفعل إِنَّما هُوَ مفعولانِ :

أَحدهما : الكاف.

والآخرُ : الهاءُ المحذوفة (٣) العائدة على (مَا) ، أَي : (بِمَا) أراكهُ اللهُ.

فَثَبَتَ بَذَلِك أَنَّهُ مِنْ الرأيْ الذي هو الاعتقاد ، كقولِك : فلانٌ يَرَى رَأَي الخوارجِ ، وَيَرى رأيْ أَبي حنيفة ، ورأي مالك ، ونحو ذَلِك ، فرأيتَ هذه إِذاً قسمٌ ثالثٌ لَيْسَتْ من رؤيةِ العينِ ولا من يقينِ القلبِ (٤).

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٥١.

(٢) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١٠٥ : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآ ئِنِينَ خَصِيماً).

(٣) انظر : هذا أَيضاً في البيان في غريب إِعراب القرآن : ١ / ٢٦٦.

(٤) المحتسب : ١ / ١٧٦.

١٩٤

٢ ـ سَمعَ

أَمَّا قراءة الجماعة : (هَلْ يَسْمَعُونَكُم) (١) فَإنَّ سَمِعْتَ بابها أنْ تَتَعَدَّى إلى مَا كانَ صوتاً مَسمُوعاً ، كقولِك : سَمِعتُ كلامَك وسمِعْتُ حديثَ القومِ ، فَإِن وقعتْ على جوهر تعدّتْ إلى مفعولين ولا يكون الثاني إلاَّ صوتاً ، كَقُولِك سَمِعْتُ زيداً يقرأُ وَسَمِعْتُ محمداً يتحدَّثُ ولا يجوز سِمعْتُ زيداً يقومُ ، لأَنَّ القيامَ لَيسَ مِنْ المسموعات (٢).

ب ـ مَا يَدْخُلُ على غيرِ المبتدأِ والخبرِ (٣)

آتـى

قرأ الزهري ويعقوب : (ومن يؤتِ الحكمةَ) (٤) بِكَسْرِ التاءِ.

قال أبو الفتح : وجهُهُ على أَنَّ الفاعلَ فيه اسمُ الله تعالى أَي : وَمَنْ يؤتِ اللهُ الحكمةَ مَنْ منصوبة (٥) على أَنَّها المفعولُ الأَوَّلُ والحكمَةُ المفعولُ الثاني كقولِك : أَيَّهم تُعطِ دِرْهَماً يشكرْك (٦).

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة الشعراء : ٢٦ / ٧٢ : (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ).

(٢) المحتسب : ٢ / ١٢٩.

(٣) أَدخلنا آتى تبعاً لسابقتيها (رأى) و (سَمِعَ) لأَ نَّها أَفعال تنصب مفعولين بعضُها يدخُلُ على جملة أَصلُهَا مبتدأ وخبرٌ وبعضُها الآخرُ يدخلُ على غيرِ المبتدأِ والخبر.

(٤) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ٢٦٩ : (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

(٥) ونقل ذلك العكبري في إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ١١٥.

(٦) المحتسب : ١ / ١٤٣.

١٩٥
١٩٦

الباب الرّابِع

الفاعل ونائبه

١٩٧
١٩٨

١ ـ الفاعل الظاهر والمضمر

قَرَأَ الحسن (١) : (ذَكَّرَ رَحمَةَ رَبّك) (٢) قالَ أَبو الفتحِ : فاعل ذَكَّرَ ضميرُ ما تَقَدَّمَ ، أَي : هذا المتلو من القرآن الذي هذه الحروف (٣) أَولُه وفاتحتُهُ يُذَكِّرُ رحمةَ ربّك ، كقوله تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٤) وعلى هَذَا أَيضاً ، يرتفعُ قولُهُ : (ذِكُرُ رَحْمَةِ رَبِّك) (٥) أَي : هذا القرآنُ ذِكرُ رَحْمَةِ رَبّك ، وإِنْ شِئْتَ كانَ تقديرُهُ مِمَّا يُقَصُّ عليك أَو يُتلَى عليك (٦) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّك عبدَهُ

__________________

(١) وهي قراءة ابن يَعمَر وعنه أَيضاً قراءة (ذكِّرْ) بالأَمر. انظر : مختصر في شواذ القرآن : ٨٣ والبحر المحيط : ٦ / ١٧٢.

(٢) من قوله تعالى من سورة مريم : ١٩ / ٢ : (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا).

(٣) الحروف المقصودة هي قوله تعالى : (كهيعص) من أوّل سورة مريم : ١٩ / ١.

(٤) من قوله تعالى من سورة الإِسراء : ١٧ / ٩ : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ).

(٥) من قوله تعالى من سورة مريم : ١٩ / ٢ : (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا).

(٦) على هذا التقدير يكون ذكرُ مرفوعاً على ثلاثةِ أوجه :

أَحدُها : لأَ نَّهُ خبرُ مبتدإ محذوف تقديرُهُ هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك والآخرُ : ما ذهبَ إليهِ الفرَّاءُ وهو أَنَّ المبتدأ (كهيعص) ، وذكر رحمة ربك خبرٌ.

والثالث : لأَ نَّهُ مبتدأ محذوفُ الخبر. قَدَّرَهُ الأَخفشُ : مِمَّا نَقُصُّ عليك. وقَدَّرَهُ ابنُ جِنِّي ـ كما تَرَى ـ مِمَّا يُقَصُّ عَليك أو يُتلَى عَليك. انظر : معاني القرآن للأخفش : ١٤٨ / أومعاني القرآن للفرّاء : ٢ / ١٦١ وإملاء ما منَّ به الرحمن : ٢ / ١١٠ والبيان في غريب إعراب القرآن : ٢ / ١١٨ والبحر المحيط : ٦ / ١٧٢.

١٩٩

زَكَرِيّا (١).

وقَرَأَ ابنُ عباس فيما رواه سليمان بن أَرقم عن أَبي يزيد المدني عن ابن عباس : (فأُمْتِعْهُ قَليلاً ثُمَّ أضْطَرُّهُ) (٢) على الدعاء من إبراهيم (عليه السلام) قال أَبو الفتح : أَمَّا على قراءةِ الجماعةِ (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) فإنَّ الفاعلَ في (قَالَ) هو اسم الله تعالى ، أَي : لَمَّا قالَ إِبراهيمُ : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (٣) قال الله : (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ). وأَمَّا على قراءَةِ ابن عباس : (فَأَمْتِعْهُ قَليلاً ثم اضْطَرَّهُ إلى عَذِابِ النَّارِ) فيحتمل أَمرَين.

أَحدُهُمَا وهو الظاهر : أَنْ يكونَ الفاعلُ في (قَالَ) ضميرَ إبراهيم (عليه السلام) أَي : قال إبراهيمُ أَيضاً : ومن كَفَرَ فَأَمِتعْهُ يا ربِّ ثمَّ اضطَرَّهُ يا ربِّ. وحَسُنَ على هذا إعادة (قَالَ) لأَمرينِ :

أحدُهُمَا : طولُ الكلام ، فَلَمَّا تباعدَ آخرُهُ مِنْ أَوَّلِهِ أُعيدتْ (قَالَ) لِبُعْدِهَا كما قد يَجُوزُ معَ طولِ الكلامِ ما لا يجوزُ مع قِصَرِهِ.

والآخرُ : أَنَّهُ انتقلَ من الدُّعَاءِ لقوم إلى الدُّعاءِ على آخرينَ فكأنَّ ذلك أخذٌ في كلام آخرَ فاستُؤنِفَ معه لفظُ القولِ.

وأمَّا الآخر : فهو أَنْ يكونَ الفاعل في (قَالَ) ضمير اسم اللهِ تعالى ، أَي :

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٣٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة البقرة : ٢ / ١٢٦ : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٦.

٢٠٠