أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

المبتدأُ والخبر

قرأ إبراهيمُ فيما رواهُ المغيرةُ والأعمشُ عنه : (نَزَلَ عَلَيْك الْكِتَابُ بِالْحَقِّ) (١) خفيفة الزاي ، ورفع الباء من الكتاب.

قال أَبو الفتح : هذه القراءَة تَدُلُّ على استقلال الجملة التي هي قوله عزّ اسمه : (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢).

ألاَ ترى أنَّهُ لاَ ضميرَ في قولِهِ : (نَزَلَ عليك الكتابُ) يعودُ على اسم الله تعالى؟ فعلى هذا ينبغي أنْ تكون جملة مستقلّة أيضاً في قولِ مَنْ شَدَّد الزاي ونَصبَ الكتابَ فيكون اسمُ اللهِ مرفوعاً بالابتداء ، وقوله : (لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) خبر عنه ، ويكون (الحيُّ القيومُ) صفةً لَه وثناءً عليهِ.

وإِنْ شِئتَ جعلتَ قولَهُ : (لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) خبراً عَنْهُ و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أيضاً خبرين عنه فيكون له ثلاثة أخبار.

وإن شئت أن تخبَر عَنْ المبتدأِ بعشرة أخبار أَو بِأكثر مِنْ ذَلِك جاز وحَسُنَ لِمَا يتضمّنه كُلُّ خبر مِنْها من الفائدةِ ، فكأ نّه أَخبَر عَنهُ وأَثنى عليهِ ،

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة آل عمران : ٣ / ٣ : (نَزَّلَ عَلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ). البحر المحيط : ٢ / ٣٧٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٢.

١٤١

ثمّ أَخذَ يقصُّ الحديثَ فقالَ : (نَزَلَ عليك الكتابُ).

وَمَنْ شَدَّدَ الزاي ونصب (الكتابَ) جازَ أَنْ يكونَ على قولهِ خبراً رابعاً ، وجازَ أنْ يكونَ أَيضاً جميع ما قَيلْ نَزَلَ ثناءً وإعظاماً ويفرد قوله : نَزَلَ عليك الكتابُ فيُجعَلُ خبراً عنه كقولك : اللهُ سبحانَهُ ، وجَلَّ ثناؤهُ ، وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ ، يأمر بالعدل وينهى عن السوء (١).

وقرأَ محمّد بن كعب القُرَظِيُّ : (وَلَهُمْ مَا يَدَّعونَ سَلْمٌ قَوْلاً) (٢).

قال أبو الفتح : الرفعُ على أوجه : أحدها : أنْ يكونَ مقطوعاً مستأنَفاً ، كأَ نَّهُ لَمَّا قالَ : (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) قال : (سلمٌ) أَي ذاك (سلمٌ) أَي : ثابتُ لا نِزَاعَ فيهِ ولا ضيم ولا اعتراض ، بل هو سلمٌ لَهُمْ.

ووجهٌ ثان : أَنْ يكونَ على : ما يَدَّعُونَ سلمٌ لَهُم ، أَي : مُسَلِّمٌ لَهُم فـ (لَهُمْ) على هذا متعلّقٌ بنفس (سَلْم) وليس بمصدر ، بل هو بمعنى اسم الفاعل أو المفعول ، أمَّا على مُسَالِمٌ لَهُم او مُسَلَّمٌ لَهُم.

وَلَمْ يَجُزْ بمعنى المصدر ، لا أَنَّهُ كَأنْ يكون في صلتهِ ، ومحال تقدُّمُ الصِّلةِ أو شيءٌ منها على الموصولِ.

ووجهٌ ثالثٌ : وهو أنْ يكونَ : (لَهُم خبراً) عن (مَا يَدّعُونَ) و (سِلْمٌ) بدل منه.

__________________

(١) المحتسب : ١ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) من سورة يس : ٣٦ / ٥٧ ـ ٥٨ : (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبّ رَّحِيم).

قرأ أُبَيٌّ وعبدُ الله وعيسى والقنوي (سلاماً قولاً). انظر : المحتسب : ٢ / ٢١٥ والبحر المحيط : ٧ / ٣٤٣.

١٤٢

ووجهٌ رابعٌ : وهو أنْ يكونَ (لَهُمْ) خبراً عن : (مَا يدَّعون) و (سَلْمٌ) خبرٌ آخر كقولنا : زيدٌ جالسٌ متحدّثٌ ، كما جازَ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ (لَهُمْ) فكذلك يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً مَعَهُ آخر.

فَإنْ قلتَ : إذا كان لهم سلمٌ لا حربٌ لهم فما فيه من الفائدة؟ قيلَ : قد يكونُ الشيءُ لك لكن على خلاج (١) وبعد شواجر الخلاف ، وذلك كالشيء المتناهَب ، فقد يحصلُ لأَحدِ الفريقينِ لكنْ على أَغراض من النزاع باقية فيه ، وَلَمْ يَصْفُ صفاءَ مَا لا تَعَلُّقَ للمُتبِعِ به ، فمعلومٌ أنَّ هذه الثوابتَ لأَربابِها لا تتساوى أحوالها في انحسارِ الشُّبَهِ والزخارفِ عنها (٢).

حذف المبتدأِ

روى ابنُ طاوس عن أبيه أنَّهُ قرأ : (وَيَسْأَ لُونَك عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ) (٣).

قال أبو الفتح : خيرٌ مرفوعٌ ، لأَ نَّهُ خبرُ مبتدإ محذوف أَي : أَصلِحْ إِلَيْهم فذلك خيرٌ. وإذا جازَ حذفُ هَذهِ الفاءِ معَ مبتدئها في الشرطِ الصحيح نحو قولِهِ :

بني ثُعَل لاَ تَنْكَعُوا العَنْزَ شِربَها

بَنِي ثُعَل مَنْ يَنْكَعِ العَنْزَ ظالمُ (٤)

__________________

(١) الخلاج : النزع. انظر : لسان العرب : ٣ / ٨٠.

(٢) المحتسب : ٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٠ : (وَيَسْأَ لُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ).

(٤) البيت لرجل من بني أَسد. ويروى (بنو) مكان (بني) لا تنكعوا : لا تمنعوا. الشرب : النصيب. انظر : الكتاب : ١ / ٤٣٦ ولسان العرب : ١٠ / ٢٤٢ وشرح الأشموني : ٤ / ٢١.

١٤٣

أَي : فهو ظالمُ ، كان حذفُ الفاءِ هنا ، وإنَّمَا الكلامُ بِمَعْنَى الشرطِ لاَ بصريحِ لَفظِهِ أَجدرُ وأحرَى بالجوازِ.

وقالَ : (إلَيْهِمْ) لَمَّا دخله معنى الإحسان إليهم (١).

وقرأ : نُعيمُ بنُ ميسرةَ والحَسنُ بخلاف (٢) :

(وَيَذَرُك) (٣).

قالَ أَبو الفتح : أَمَّا (وَيذرُك) بالرفعِ فَعَلى الاستئنافِ ، أَي : فهو يذرُك (٤).

وقرأَ : عيسى الثقفي (٥) : (وَلَكِنْ تَصْدِيق الذِي بينَ يَدَيهِ وَتَفْصِيلُ كُلِّ شيء وَهُدَىً ورحمةٌ) (٦) برفع الثلاثة الأحرف (٧).

__________________

(١) المحتسب : ١ / ١٢٢.

(٢) قال في البحر المحيط : ٤ / ٣٦٧. وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه ويَذَرُك بالرفع عطفاً على أتذرُ بمعنى أتذرُهُ ويذرُك أَي أتطلقُ لهُ ذلك أو على الاستئناف أو على الحال على تقدير وهو يذرُك.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأعراف : ٧ / ١٢٧ : (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ).

(٤) المحتسب : ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٥) وبهذه القراءة قرأ حمران بن أَعين وعيسى الكوفي (البحر المحيط : ٥ / ٣٥٦).

(٦) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ١١١ : (وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ).

(٧) شرطُ الإضافة عند البصريين تجريدُ المضافِ من التعريفِ ، وعندهم أنَّ ما أجازه الكوفيون من الثلاثة الأثواب وشبهه من العدد ضعيف. وقد يدخل حرف التعريف على المضاف والمضاف إليه معاً شذوذاً ، وعندَ الكوفيينَ هو القياسُ. وقال أبو حيان لا تعريف للتمييز خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة وأوّلَ أصحابُنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب : ما فعلتِ العشرون الدراهم وما جاء نحو هذا ممّا يدلُّ على التعريف. انظر : شرح الكافية : ١ / ٢٧٣ و ٢ / ١٥٦ والبحر المحيط : ١ / ١٩٩.

١٤٤

قال أبو الفتح : أَي : ولكن تصديقُ الذي بين يديه وتفصيلُ كلّ شيء وهدىً ورحمةٌ فحذف المبتدأ وبقي الخبرُ. ويجوز على هذا الرفع في قوله تعالى : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُم وَلَكِن رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبيِّينَ) (١) أَي : وَلَكِنْ هُوَ رسولُ اللهِ (٢).

وقرأَ جعفر بن محمّد (عليهما السلام) (٣) : (وَأَرسَلْنَاهُ إلى مئةِ أَلْف وَيزِيدونَ) (٤) هكذا هي ليس فيها (أو).

قال أَبو الفتح : في هذه الآية إِعراب حَسَنٌ ، وصنعةٌ صالحةٌ ، ذلك أَنْ يُقالَ : هل لِقولِهِ : (وَيَزَيِدونَ) موضعٌ من الإعراب ، أَو هو مرفوع اللفظ لوقوعِهِ موقِعَ الاسم حسب ، كقولك مبتدئاً : يزيدون؟ والجواب إِنَّ له موضعاً من الإعراب ، وهو الرفعُ لأَ نَّهُ خبرُ مبتدأ محذوف ، أَي : وَهُم يزيدونَ على المئةِ. والواو لعطف جملة على جملة ، وهو قولك : مررتُ برجل مثلِ الأسدِ ، وهو واللهِ أشجعُ. ولقيتُ رجلاً جواداً ، وهو واللهِ فوقَ الجودِ.

وَكَذلِك قراءة الجماعة : (أَوْ يَزيدونَ) (٥) وَتقديره : أو هم يزيدون فحذف المبتدأ بدلالة الموضع عليه كما مضى مع الواو.

__________________

(١) سورة الأَحزاب : ٣٣ / ٤٠. وهذه قراءة زيد بن علي (عليهما السلام) وابن أبي عبلة كما في البحر المحيط : ٧ / ٢٣٦.

(٢) المحتسب : ١ / ٣٥٠.

(٣) انظر : البحر المحيط : ٧ / ٣٧٦. وهو ينسبها إلى الإمام جعفر بن محمد (عليهما السلام) أيضاً.

(٤) من قوله تعالى من سورة الصافّات : ٣٧ / ١٤٧ : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ) أي : ويزيدون ; لأ نّهم كانوا أكثر من مئة ألف وهم قوم يونس (عليه السلام). ولم تثبت القراءة المذكورة عن الإمام الصادق (عليه السلام). ينظر : الحاشية (٣) ص : ٤٢١ ، والحاشية (٢) ص : ٤٢٢ ـ ٤٢٧ ففيهما تفصيل واسع حول تلك القراءة.

(٥) من قوله تعالى من سورة الصافّات : ٣٧ / ١٤٧ : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ).

١٤٥

وعلى قراءة جعفر بن محمّد (عليهما السلام) : (وَيَزِيدونَ) إنَّمَا حذف اسم مفرد وهو هم (١) وقرأ سلمة فيما حكاه ورويته عنه أَبو حاتِم : (جميعاً مَنُّهُ) (٢).

قال أبو الفتح : أمَّا (مَنُّهُ) بالرفعِ فَحَمَلَهُ أَبو حاتِم على أَنَّهُ خبرُ مبتدأ محذوف أَي : ذَلِك ، أَوْ هُوَ (مَنُّهُ) (٣) ، كذلك قال.

ويجوز أيضاً عِنْدِي أَنْ يكونَ مرفوعاً بِفعلِه هذا الظاهر ، أَي سَخَّرَ لكُم ذَلِك (مَنَّهُ) كَقَولِك : أَحيَاني إقبالُك عليَّ وسدَّدَ أَمرِي حُسْنُ رأيِك فيَّ ، فَتُعمل فيه هذا اللفظ الظاهر ، ولا نحتاج إِلى إبعاد التناول ، واعتقاد ما ليس بظاهر (٤).

وقرأ الحسنُ وابنُ مُحَيْصِن : (الحقُّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٥).

قالَ أَبو الفتحِ : الوقف في هذه القراءة على قولهِ تعالى : (لاَ يَعْلَمُونَ) (٦) ثمّ يستأنِف : (الحقُّ) أَي : هذا الحقُّ أَوْ هُوَ الحقُّ فَيُحذَفُ المبتدأ ثمّ يُوقَف على (الحق) ثمّ يُسْتَأنف فَيُقال : فَهُمْ مُعْرِضُونَ ، أَي : فهم معرضون (٧) أَي أَكثَرُهُم لاَ يَعلَمُونَ (٨).

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٢) من قوله تعالى من سورة الجاثية : ٤٥ / ١٣ : (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لَّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ).

(٣) نقل ذلك صاحبُ البحر المحيط أيضاً : ٨ / ٤٥.

(٤) المحتسب : ٢ / ٢٦٢.

(٥ و ٦) من قوله تعالى من سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٤ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ).

(٧) هذا تكرار.

(٨) المحتسب : ٢ / ٦١.

١٤٦

قرأَ الأَعمش : (وهذا بعلي شيخ) (١).

قال أبو الفتح : الرفعُ في (شيخ) من أربَعةِ أوجه : أَحدُها : أَنْ يكونَ شيخ خبرَ مبتدإ محذوف ، كَأَ نَّهُ قَالَ : هذا شيخٌ ، والوقفُ إذا عَلى قولهِ : (هَذا بعلِي) لاِنَّ الجملةَ هناك قَد تمّت ، ثمّ استانف جملة ثانية فقالَ : (هذا شيخٌ).

والثانِي : أَنْ يَكونَ (بَعلِي) بدلاً من (هَذا) ، و (شَيخ) هو الخبر.

والثالثُ : أَنْ يكونَ (شيخ) بدلاً من بعلي وكأ نَّهُ قالَ : هذا شيخٌ كما كان التقدير فيما قَبْلَهُ : بعلي شيخٌ.

والرابعُ : أَنْ يكونَ (بعلي) و (شيخ) جميعاً خبراً عَنْ هذا كقولِك هذا حلوٌ حامضٌ ، أَي : قَد جَمَعَ الحلاوةَ والحموضَةَ وكذلِك هذا أَي : قد جمعَ البعولةَ والشيخوخةَ.

فإنْ قُلتَ : فهلْ تُجِيزُ أَنْ يكونَ (بعلي) وصفاً لِـ (هذا)؟ قيل : لا ، وذلك أَنَّ هذا ونحوَهُ من أسماءِ الإشارة لا يوصف بالمضاف. أَلاَ تَراهم لَمْ يجيزُوا مَرَرْتُ بهذا ذي المالِ. كَما أَجازوا مررتُ بهذَا الغُلامِ؟ وإذا لم يَجُزْ أنْ يَكونَ (بَعلي) وصفاً لـ (هذا) مِنْ حيثُ ذَكَرنَا لَم يَجُزْ أيضاً أنْ يكونَ عطفَ بيان لَهُ ، لأَنَّ صورة عطف البيانِ صورة الصفة ، فافهمْ ذلك.

وهناك وَجه خامسٌ لكنّه على قياس مذهب الِكسائي ، وَذَلِك أَنَّهُ يعتقد في خبر المبتدأ أَبداً أَنْ فيه ضميراً وإِنْ لم يَكُنْ مشتقّاً مِن الفعلِ (٢) نحو زيد

__________________

(١) من قوله تعالى من سورة هود : ١١ / ٧٢ : (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

(٢) نسب ابن الأنباري هذا القول إلى الكوفيين ، وإلى علي بن عيسى الرماني من متأخّري البصريين ونقل ذلك ابن يعيش. انظر : الإنصاف : ١ / ٤٠ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ١ / ٨٨.

١٤٧

أخوك ، وَهُوَ يريد النسب.

فَإذَا كانَ كَذَلِك فقياسُ مذهبهِ أَنْ يكونَ (شيخٌ) بدلاً من الضميرِ في (بعلي) لاَِ نَّه خبر عن (هذا).

فإن قلتَ : فإنَّ الكوفيين لا يجيزون إبدالَ النكرة من المعرفة (١) ، إلاّ إذا كان من لفظها ، نحو قولِ اللهِ تعالى : (لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطِئَة) (٢) وَلَيْسَ قبل (شيخ) معرفة من لفظه ، قيلَ : أَجل ، إلاّ أَنَّ هذا اعتبار في الاسمين الملفوظ بكلّ واحد منهما ، فأمَّا الضميرُ فيه فعلى قياسِ قولِ مَنْ استودَعَهُ إيَّاهُ فلا لفظَ لهُ أَيضاً فيعتبر خلافُه أَوْ وفاقُه ، وإذا سقط ذلك ساغ ، وجازَ إبدالُ النكرةِ منه لِمَا ذكرنا من تقديم لفظهِ المخالفِ للفظِهَا (٣).

الخبــر

قَرأَ الحسنُ (٤) وأبو الأسود والجَحْدَري وسَلاّم والضَّحَّاك وابن عامر ـ بخلاف ـ : (أَعْجمِيٌّ) (٥). بهمزة واحدة مقصورة والعين ساكنة.

قال أبو الفتح : أمَّا (أعجمي) بقصر الهمزة وسكون العين فعلى أنَّه خبرٌ

__________________

(١) قال أبو حيَان : «قرأ الجمهورُ : (نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطِئَة) العلق : ٩٦ / ١٦ بجرِّ الثلاثةِ على أنَّ ناصية بدلُ نكرة من معرفة. قال الزمخشري : لأ نَّها وُصِفَتْ فاستقلَّتْ بفائدة. وليس شرطاً في إبدال النكرةِ من المعرفةِ أنْ تُوصَفَ عندَ البصريين خلافاً لمن شَرَطَ ذلك من غيرهم ولا أَنْ يكونَ من لفظ الأَوَّلِ أيضاً خلافاً لزاعمه». البحر المحيط : ٨ / ٤٩٥.

(٢) سورة العلق : ٩٦ / ١٥ ـ ١٦.

(٣) المحتسب : ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٤) انظر : النشر : ١ / ٣٦٦.

(٥) من قوله تعالى من سورة فصلت : ٤١ / ٤٤ : (لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ).

١٤٨

لا استفهامٌ (١) ، أَي لقالوا : لولا فُصِّلتْ آياتُهُ ثمّ أخبر فقال : الكلام الذي جاء أعجمي (٢) أَي قرآن وكلام أعجمي ولم يخرج مخرجَ الاستفهام على معنى التعجّبِ والإنكار على قراءة الكافّةِ ، وهذا كقولِك للآمرِ بالمعروف التارك لاستعمالهِ : أراك تأمر بشيء ولا تفعله ، وعلى قراءة الكافّة : أتأمر بالبِرِّ وتتركه؟ (٣)

جواز تقديم الخبر على المبتدأِ

بِمنَاسبةِ ذكرِ قراءة ابن مسعود : (وباطلاً مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤).

قال أبو الفتح : استدلّ أبو علي بذلك على جواز تقديم خبر كان عليها (٥). وعلى نحو من ذلك مَا (٦) استَدَلَّ أَبو علي على جوازِ تقديمِ خبر المبتدأ عليه (٧) بقولِ الشماخِ (٨) :

__________________

(١) يريد أَنَّه خبر لا إنشاء.

(٢) وبهذا أَخذَ الرازي في اللوامع. وعلى تقدير الفرّاء أعجمي مبتدأ مؤخّر ، أَي هلاّ فُصِّلَتْ آياته منها عربي يعرفه العربي ، وأَعجمي يفهمه الأعجمي. معاني القرآن للفرّاء : ٣ / ١٩ والبحر المحيط : ٧ / ٥٠٢.

(٣) المحتسب : ٢ / ٢٤٨.

(٤) من قوله تعالى من سورة هود : ١١ / ١٦ : (وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) بالرفع.

(٥) سنذكر هذا الاستدلال مفصّلاً في باب النواسخ.

(٦) ما : زائدة.

(٧) جوّز البصريون تقديم الخبر على المبتدأِ ومنع ذلك الكوفيون. انظر : الإنصاف : ١ / ٤٦.

(٨) قال الجرجاني في المقتصد : ٢٤٧. قال الشيخ أبو علي : وقد يجوز أن تقدم خبر المبتدأ فتقول منطلقٌ زيدٌ وضربتُهُ عمروٌ وتريدُ عمروٌ ضربتُهُ. ويدلُّ على جوازِ تقديمِهِ قولُ الشَّمَّاخِ :

كلا يومَيْ طُوالةَ وصلُ أروى

ظُنُونٌ آنَ مُطَّرَحُ الظُّنُونِ

١٤٩

كِلاَ يومَيْ طُوَالةَ وصلُ أروى

ظَنُونٌ آنَ مُطَّرَحُ الظُّنُونِ (١)

فقال : (كِلاَ) ظرف لقوله (ظَنُونٌ) على (وصل أَروى) كَأَ نَّهُ قَالَ : ظَنُونٌ في كلا هذين اليومين وصلُ أَروى ، أَي : هومُتَّهَمٌ فيهما كليهمَا (٢).

حذف الخبر

قَرأَ الأعمشُ ـ وَقَد اختلف عنه ـ : (أَمَنْ خَلَقَ) (٣) خفيفة الميم.

قال أَبو الفتح : (مَنْ) هنا خبر (٤) بمنزلةِ الذي ، وليست باستفهام (٥) كقراءة الجماعة : (أَمَّنْ خَلَقَ) (٦) فكأ نّه قال : الذي خلَقَ السماواتِ والأرضَ وأَنزلَ لَكُم مِنَ السماءِ ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ، ما كان لكم أن تنبتوا شجرَها خيرٌ أَم ما تُشرِكُون؟ ثُمَّ حَذَفَ الخبرَ الذي هو خبرٌ أم ما

__________________

وقال في إعراب القرآن المنسوب إلى الزَّجَّاج : ١ / ٢٧٤ : إنَّ أبا علي خَيَّلَ إلى عَضُدِ الدَّولةِ أنَّهُ استنبط من الشعر ما يدلُّ على جواز ذلك ثمّ استشهدَ بيتِ الشَّمَّاخ .... قال : ولو كان أبو الحسن حاضراً لم يستدلَّ بقول الشَّمَّاخ وإنَّمَا يتبرَّك بقولِهِ عزَّ مِنْ قائِل : (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البقرة : ٢ / ٤ ، ألا ترى أنَّ (هم) مبتدأ و (يوقنون) في موضع خبره والجار من صلة يوقنون وقدَّمَهُ على المبتدَأ؟

(١) ديوان الشماخ : ٩٠ والمحتسب : ١ / ٣٢١ والمخصص : ١٥ / ٢١٠ والمقتصد : ٢٤٧ والإنصاف : ١ / ٤٧ وشرح المفصل لابن يعيش : ٣ / ١٠١ وطُوالةُ : بئرٌ لبني مُرَّةَ وغطفانَ في ديار فُزَارةَ والظَنُون كلّ ما لا يوثق به. إعراب القرآن للزجّاج : ١ / ٢٤٧ ولسان العرب : ـ طول ـ ١٧ / ١٤٦.

(٢) المحتسب : ١ / ٣٢١.

(٣) من قوله تعالى من سورة النمل : ٢٧ / ٦٠ : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا).

(٤) يريد بالخبر ما يقابل الإنشاء ، حيث أنَّ (من) محلّها مبتدأ.

(٥) هذا رأي الأخفش. انظر : معاني القرآن للأخفش : ١٥٦ / أ.

(٦) سورة النمل : ٢٧ / ٦٠.

١٥٠

تشركون (١) ، لدلالة ما قبله عليه ، وهو قوله تعالى : (ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) وما يحذف خبره لِدَلالة ما هناك عَليه أَكثر مِن أَن يحصى (٣) وقرأ أبو عبد الرحمن عبدُ الله بنُ يزيدَ : (الذي تساءَلونَ بهِ والأرحامُ) (٤) رفعاً قراءةً ثالثةً.

قالَ أَبو الفتح : ينبغي أنْ يكونَ رفعُهُ على الابتداءِ وخبرُهُ محذوفٌ ، أَي : والأرحامُ مِمَّا يَجِبُ أَن تَتَّقُوهُ (٥) وأنْ تحتاطوا لأَنفِسِكُم فيه ، وحَسُنَ رفَعُهُ لأَ نَّه أوكدُ في مَعنَاهُ أَلاَ ترى أَنك إذا قلتَ ضربتُ زيداً فزيدٌ فضلةٌ على الجملةِ ، وإنَّمَا ذكر فيها مرّةً واحدةً؟ فإذا قلتَ : زيدٌ ضربتُهُ فزيدٌ رَبُّ الجملةِ ، فلا يُمكنُ حذفُهُ كَما يُحذَفُ المفعولُ على أَنَّهُ نيِّفٌ وفضلةٌ بعد استقلال الجملةِ ، نعمْ ولزِيد فيها ذِكْرَانِ : أَحدُهُما : اسمُهُ الظاهرُ.

والآخر : ضميرُهُ ، وهو الهاءُ ، ولَمَّا كانَتِ الأرحامُ فيما يُعنى بهِ ويقوى الأَمر في مراعاته جاءت بلفظ المبتدأ الذي هو أَقوى مِنَ المفعولِ.

__________________

(١) وهكذا قدره الزمخشري ، وقال ابن عطية تقديره : «يكفر بنعمتِهِ ويشرك» وهو تقدير لا يستقيم معه المعنى ، وقال الرَّازي : لا بدَّ من إضمار جملة معادلة والتقديرُ : أَمَنْ خَلقَ السماواتِ كَمَنْ لم يخلق؟ انظر : البحر المحيط : ٧ / ٨٩.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٥٩.

(٣) المحتسب : ٢ / ١٤٢.

(٤) من قوله تعالى من سورة النساء : ٤ / ١ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

(٥) وقدَّرَهُ العكبري : والأرحامُ محترمة أو واجبٌ احترامها.

انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ١٦٥.

١٥١

وإذا نُصِبَتِ (١) الأرحام أو جُرَّتْ (٢) فهي فضلة ، والفضلة متعرِّضَةٌ للحذف والبذلةِ.

فإنْ قلتَ : فَقَد حُذِفَ خبرُ الأرحامِ أَيضاً على قولك.

قيل : أَجل ، وَلَكِنَّهُ لم يحذف إلاّ بعدَ العلم بهِ ، ولو قد حُذفتِ الأرحامُ منصوبةً أو مجرورةً فقلت : (وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) لم يكن في الكلام دليل على الأرحام إنَّها مرادة أو مقدرة ، وكلَّمَا قويتْ الدَّلالةُ على المحذوف كان حذفه أسوغ ، ونحو من رفع الأَرحام هنا بعد النصب والجرِّ قول الفرزدق :

يَا أيَّها المُشتكِي عُكلاً ومَا جَرَمَتْ

إلى القبائِل من قتل وإِبْآسُ

إنَّا كَذَلَك إذ كانت هَمَرَّجَةٌ

نَسبِي وَنَقْتُلُ حَتَّى يُسْلَم الناسُ (٣)

__________________

(١) قراءة جمهور السبعة ما عدا حمزة. انظر : الحُجَّة لابن خالويه : ٩٤ والكشف عن وجوه القراءات السَّبْع : ١ / ٢٧٥ والبحر المحيط : ٣ / ١٥٧.

(٢) الجرّ قراءة حمزة. وهي قراءة ابن عباس والحسن والنَّخعي وقتادة والأعمش وغيرهم. وقد ردّ نحاة البصرة هذه القراءة ، وضعفوها وقالوا : لا تجوز ، لأ نَّه لا يُعطَفُ ظاهرٌ على مضمر مخفوض من غيرِ إعادةِ حرفِ الجرِّ. لكنْ أجازَ ذلك الكوفيونَ كما أجازَهُ منَ البصريين يُونُس وقُطرُب ونُسِبَ القولُ بإجازةِ ذلك إلى الأخفشِ ، ولا أدري أَي أخفش هو من الأخافش الأحد عشر ، لأنَّ سعيد بن مُسعدةَ الأخفش الأوسط قد ذهب إلى منع ذلك في (معاني القرآن) وممن يجوِّزَ ذلك أبو علي الشلوبين وابنُ مالك وأَبو حَيَّان. ويُخَرِّجُ أبو الفتح بنُ جنِّي قراءةَ حمزةَ على حذف الباء. الخصائص : ١ / ٢٨٥ والإنصاف : ٢ / ٢٤٦ المسألة : ٦٥ وشرح المفصل : ٣ / ٧٨ وشرح الكافية : ١ / ٣٢٠ وشواهد التوضيح والتصحيح : ٥٣ وما بعدَهَا والبحر المحيط : ٢ / ١٤٧ و ٣ / ١٥٧ ـ ١٥٩ وشرح ابن عقيل : ٢ / ٢٤٠ وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٩ والمجيد في إعراب القرآن المجيد : ١ / ٥٥ والدفاع عن القرآن : ٢ ـ ٤.

(٣) ورد في لسان العرب صدر البيت الثاني غير منسوب و (بينا) مكان (إِنَّا) و (هاجت)

١٥٢

أَي : من قتل وإبآس أيضاً كذلك ، فقوى لفظه بالرفع لأَ نَّهُ أَذهبُ في شكواهُ إيّاهُ وعليه أيضاً قوله :

 ......

 ...... إلاَّ مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ (١)

فيمن قال : أراد أو مجلفٌ كذلك.

ومن حمله على المعنى فرفعه وقال : إذا لم يدع إلاّ مسحتاً فقد بقي المسحتُ وبقي أَيضاً الُمجلَّفُ سَلَك فيهِ غيرَ الأولِ (٢).

وروى عمرو عن الحسن (٣) : (وأرجلُكُم) (٤) بالرفعِ.

قالَ أبو الفتحِ : ينبغي أَنْ يكونَ رفعُه بالابتداءِ ، والخبر محذوف (٥) دلَّ عليه ما تقدّمه من قوله سبحانه : (إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (٦) أَيّ : وأَرجُلُكم واجب غسلها أو مفروضٌ غسلُهَا ، أَوْ مغسولةٌ كَغيرِهَا ونحو ذلك وَقَدْ تَقَدَّمَ نحو هذا مِمَّا حُذِفَ خبرُهُ لدلالة ما هناك

__________________

مكان (كانت). والهَمَرَّجَةُ الاختلاط والالتباس ، والخفّة والسرعة. انظر : لسان العرب ـ بين ـ : ٣ / ٢١٧.

(١) تمام البيت :

وَعَضُّ زَمَان ياابنَ مروانَ لم يدعْ

مِنَ المَالِ إلاّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ

روى (مسحتٌ) بالرفع و (مجرّب) مكان (مجلف) والمسحتُ المبدّد ، والمُجَلَّفُ الذي أُخذ من جوانبِهِ وبقيتْ منهُ بقية. انظر : ديوان الفرزدق : ٥٥٦ والخصائص : ١ / ٩٩ ولسان العرب : ١٠ / ٣٧٥ وخزانة الأدب : ٥ / ١٤٤.

(٢) المحتسب : ١ / ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٣) انظر : البحر المحيط : ٣ / ٤٣٨.

(٤) من قوله تعالى من سورة المائدة : ٥ / ٦ : (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ).

(٥) كذلك في إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢٠٩ والبحر المحيط : ٣ / ٤٣٨.

(٦) سورة المائدة : ٥ / ٦.

١٥٣

عليه (١) ، وكأ نَّهُ بالرفع أقوى معنى ، وذلك لأَ نَّهُ يستأنف فيرفعه على الابتداء فيصير صاحب الجملة. وإذا نصبَ (٢) أو جَر (٣) عطفه على ما قبله (٤) فصار لَحَقاً وتَبَعاً فاعرفْهُ (٥).

وقرأَ ابنُ مسعود (٦) : (وَبَحرٌ يُمِدُّهُ) (٧) وهي قراءة طلحة بن مصرِّف.

قال أَبو الفتح : أَما رفع (بحر) فالابتداءُ (٨) ، وخبرُهُ محذوفٌ ، أَي : وهناك بحر يُمِدُّهُ مِنْ بعدِهِ سبعةَ أَبحُر ولا يَجوزُ أَنْ يكونَ (بَحرٌ) مَعطوفاً عَلى (أقْلاَم) لأَنَّ البحر وما فيهِ مِنَ الماءِ ليسَ من حديثِ الشَّجَرِ والأقلامِ وإنَّمَا هو من

__________________

(١) تنظر : ص : ١٥١.

(٢) تلك قراءةُ نافع وابنَ عامر والكسائي وحفص عن عاصم. انظر : الكشف عن وجوه القراءات : ١ / ٤٠٦.

(٣) على قراءة عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء وحمزة وأبي بكر وهي قراءة أنس وعِكرِمَةَ والشعبي والإمام الباقر (عليه السلام) : انظر : البحر المحيط : ٣ / ٤٣٧.

(٤) وقال الأخفشُ وأبو عبيدةَ : الخفض على الجوار. وقال الزجّاج : «من قرأ وأرجلِكُمْ بالجرِّ عطفَ على الرؤوس». وقال مكّي بن أبي طالب : «وحُجَّةُ من خفضَهُ أَنَّهُ حَمَلَهُ على العطف على الرؤوس لأ نّها أقربُ إلى الأرجل». وقال أبو حيان : «الظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجلِ في المسح». انظر : معاني القرآن للأخفش : ١٠٢ / ب ومجاز القرآن : ١ / ١٥٥ ومعاني القرآن وإعرابه : ٢ / ١٦٧ والكشف عن وجوه القراءات السبع : ١ / ٤٠٦ والبحر المحيط : ٣ / ٤٣٧.

(٥) المحتسب : ١ / ٢٠٨.

(٦) انظر معاني القرآن للفرّاء : ٢ / ٣٢٩ والبحر المحيط : ٧ / ١٩١.

(٧) من قوله تعالى من سورة لقمان : ٣١ / ٢٧ : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ).

(٨) والواو واو الحال. وقد ذكروا أَنَّ من مسوغات الابتداء بالنكرة أَن تكون واو الحال تقدّمته.

انظر : البحر المحيط : ٧ / ١٩١.

١٥٤

حديثِ المدادِ كما قَرَأَ جعفر بن محمّد عليهما السلام : (والبَحْرُ مِدَادُهُ) (١).

الضمير العائد في الجملة الخبرية

قَرأَ يَحيى وإبراهيم والسُّلَمِي : (أَفَحُكْمُ الجاهليةِ يَبغُونَ) (٢) بالياء ورفع الميم.

قال ابن مجاهد : وهو خَطأ.

قالَ : وقالَ الأعرجُ : لا أَعرِفُ فِي العربية أَفحكمُ ، وقرأَ (أَفحكمَ) ، نَصباً.

قال أَبو الفتح : قول ابن مجاهد إِنَّهُ خطأ فيه سَرَفٌ ، لَكنّهُ وَجهٌ غَيْرهُ أَقوى مِنْهُ ، وهو جَائز في الشعر (٣). قال أَبو النجم :

قَد أَصْبَحتْ أُمُّ الخيار تدَّعي

عليَّ ذَنباً كلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ (٤)

أَي : لَمْ أَصنعْهُ ، فحذَفَ الهاءَ. نعم ولو نصبَ فقالَ (كلَّه) لَمْ ينكسِرْ الوزنُ ، فهذا يؤنسُك بِأَ نَّهُ ليسَ للضرورةِ مطلقة بل لأن له وجهاً من القياس ، وهو تشبيه عائد الخبر بعائد الحال أَو الصفة ، وهو إلى الحال أَقرب ، لأَ نَّها ضربٌ مِنَ الخبر.

فالصفة كقولِهم : الناسُ رجلان : رجلٌ أَكرمَتَ وَرَجَلٌ أَهنْتَ ، أَي : أكرمتَهُ وأَهنْتَهُ ، والحال كقولِهم : مررتُ بهند يضربُ زيدٌ ، أَي : يَضْرِبُها زَيْدٌ ، فَحَذَفَ عائِدَ الحالِ ، وهو في الصفة أمثلُ ، لِشَبهِ الصفةِ بالصلة في نحوِ قولهِم : أَكْرمْتُ

__________________

(١) المحتسب : ٢ / ١٦٩.

(٢) من قوله تعالى من سورة المائدة : ٥ / ٥٠ : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

(٣) انظر : إملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢١٨.

(٤) البيت لأبي النجم. انظر : الكتاب ١ / ٤٤ و ٦٤ و ٦٩. وإملاء ما منَّ به الرحمن : ١ / ٢١٨ وهمع الهوامع : ١ / ٩٧ وخزانة الأدب : ١ / ٣٥٩.

١٥٥

الذي أَهنتَ ، أَي : أَهنتَهُ ، وَمَررتُ بالتي لقيتُ ، أَي : لقيتُها ، فغيرُ بعيد أَن يكونَ قولُه : (أفحَكْمُ الجاهليةِ يَبْغُونَ) يرادُ بهِ يبغونَهُ ، ثُمَّ يُحذَف الضميرُ ، وهذا وإن كانت فيهِ صنعةٌ فإنَّهُ ليسَ بخطأ (١).

وفيهِ مِنْ بعدِ هذا شيئانِ نَذكرهُمَا : وهو أَنَّ قولَهُ : (كُلُّهُ لَم أَصنَعِ) وإنْ كانَ قَدْ حُذِفَ منهُ الضميرُ فإنَّه قَدْ خلفَهُ وأُعيضَ منه ما يقوم مقامه في اللفظ ، لأ نّهُ يُعاقِبُهُ ولا يجتمع معه ، وهو حرف الإطلاقِ ، أَعني الياءَ في (أَصنعي) فلمّا حضر ما يعاقب الهاء فلا يجتمع معها جازت لذلك ، كأ نَّها حاضرة غير محذوفة. فهذا وجهٌ.

والثاني : أَنَّ هناك همزة استفهام ، فهو أَشدّ لتسليط الفعل ، أَلاَ ترى انَّك تقول : زيدٌ ضربتُهُ فيُختارُ الرفعُ ، فإذا جاءَ همزةُ الاستفهام اخترتَ النصبَ البتّة ، فقلتَ : أزيداً ضربتَهُ ، فنصبتَهُ بفعل مضمر يكون هذا الظاهر تفسيراً له.

فَإذا قلتَ : أفحكمَ الجاهليةِ تَبغونَ ولم تُعِدْ ضميراً ولا عوضتَ منه ما يعاقبه ، وحرفُ الاستفهام الذي يُختار معه النصب والضمير ملفوظ به موجود معك فتناد الحال تختلف على فسادِ الرفعِ وبإزاءِ هذا أَنَّهُ لو نصب فقال : كُلَّهُ لَمْ أصنعِ لَمَا كَسَر وزناً ، فهذا يؤنسك بالرفعِ في القراءةِ.

__________________

(١) اختلف في جواز حذف الضمير العائد على المبتدأِ : فقد جوَّز الفراء حذفَهُ إذا كان منصوباً مفعولاً به وقيل إنَّه مذهبُ الكسائي. وقد ادَّعَى ابنُ مالك الإجماعَ على جواز ذلك وقد منعه البصريون وقال سيبويه : هو ضعيف. والصحيح كما ذهب إليه ابنُ جنِّي جوازُهُ بقلَّة. الكتاب : ١ / ٤٤ والتسهيل : ٤٨ وخزانة الأدب : ١ / ٣٥٩.

١٥٦

وَإن شِئتَ لَمْ تَجعلْ قولَهُ (يَبغونَ) خبراً ، بل تجعله صفةَ خبر موصوف محذوف ، فكأ نّهُ قالَ : أفحكمُ الجاهليةِ حكم يَبغُونَهُ ، ثُمَّ حذف الموصوف الذي هو حُكم وأَقام الجملة التي هي صفته مقامه ، أَعني يبغون ، كما قالَ اللهُ سبحانَهُ : (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (١).

أَي قوم يحرّفون ، فحذف الموصوف وأُقيمتِ الصفةُ مقامَهُ ، وعليه قوله :

وما الدهر إلاّ تارتان فمنهما

أموتُ وأُخرى أبتغي العيشَ أكدَحُ (٢)

أَي فمنهما تارةٌ أموتُ فيها ، فحذفَ تارة وأَقامَ الجملةَ التي هي صفتُها نائبة عنها فصار أَموت فيها ، ثمّ حذف حرف الجر فصار التقدير أَموتها ، ثمّ حذفَ الضميرَ فصارَ أموت. ومثله في الحذف من هذا الضرب بَل هو أَطول منهُ.

تروَّحي يا خَيرة الفسيلِ

تروَّحي أَجدرَ أَن تقيلي (٣)

أَصلُهُ : ائتي مكاناً أَجدرَ بِأَنْ تقيلي فيه ، فحذف الفعل الذي هو (ائتي) لدلالة تروّحي عليه ، فصار مكاناً أجدرَ بِأَنْ تقيلي فيه ، ثمّ حذف الموصوف الذي هو مكاناً فصار تقديره أَجدرَ بأنْ تقيلي فيه ، ثمّ حذف الباءَ أَيضاً تخفيفاً فصار أَجدرَ أَنْ تقيلي فيه ، ثمّ حذف حرف الجرِّ فصار أَجدر أَن

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٦.

(٢) البيت لتميم بن مقبل. انظر : ديوانه : ٢٤ والكتاب : ١ / ٣٧٦ والمقتضب : ٢ / ١٣٨ وهمع الهوامع : ٢ / ١٢٠ والخزانة : ٥ / ٥٥.

(٣) الرجز لأحيحة بن الجلاخ. انظر : أمالي ابن الشجري : ١ / ٣٤٣ وشرح التصريح : ٢ / ١٠٣ والأشموني : ٣ / ٤٦.

١٥٧

تقيليه ، ثمّ حذف العائد المنصوب فصار أَجدر أنْ تقيلي.

ففيه إذاً خمسة أعمال ، وهي حذفُ الفعلِ الناصب ، ثُمَّ حذف الموصوف ، ثُمَّ حذف الباءِ ، ثمّ حذف (في) ، ثمّ حذف الهاء ، فتلك خمسة أَعمال. وهناك وجه سادس ، وهو أَنّ أَصْلَهُ ائتي مكاناً أَجدر بِأَن تقيلي فيهِ مِنْ غيرهِ ، كما تقول : مررتُ برجل أَحسنَ من فلان ، وأَنتَ أَكرمُ عليَّ من غَيرك. فَإذا جازَ في الكلام توالي هذه الحذوف ولم يكن معيباً ولا مشيناً ولا مستكرهاً كان حذفُ الهاءِ من قوله تعالى : (أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَةِ يَبغُونَ) ، والمراد به : حُكم يبغونَهُ ، ثمّ حَذفُ الموصوفِ وعائدهِ أسوغَ (١) وأسهلَ وأيسرَ (٢) وَقَرأَ زهيرُ الفُرقُبي : (يَومُ يَأتِي بَعضُ آياتِ رَبِّك) (٣) بالرَّفعِ.

قالَ أَبو الفتح : ينبغي أَن يكونَ ارتفاع اليوم بالابتداءِ ، والجملة التي هي قوله تعالى : (لاَ يَنْفَعُ نَفساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً) خبرٌ عَنْهُ ، والعائد من الجملة محذوف لطولِ الكلامِ والعلمِ بِه ، وإذا كانوا قَد قَالوا : السَّمْنُ منوانُ بدرهَم (٤) فَحَذَفُوا وَهُم يريدونَ (مِنه) مَعَ قصر الكلام كان حذف العائد هنا لطول الكلام أَسوغ ، وتقديره : لا ينفع فيه نفساً إيمانُها.

__________________

(١) خبر كان من قوله : كان حذفُ الهاء ....

(٢) المحتسب : ١ / ٢١١ ـ ٢١٢.

(٣) من قوله تعالى من سورة الأَنعام : ٦ / ١٥٨ : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً).

(٤) تنظر : ص : ١١٤.

١٥٨

وَمِثلهُ قَولُهُم : البُرُّ الكُرُّ (١) بستّين (٢). أَي الكُرُّ مِنْهُ.

وفي قَولهِ تعالى : (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَن أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣) ثلاثة أَقوال : أحدُها : أنَ يَكونَ على حذفِ العائدِ ، أَي إِنَّا لا نضيع أَجرَ مَنْ أَحْسَنَ عملاً مِنْهُم ، وله نظائر كثيرة (٤).

وَقَرأَ عِكرِمَة وعمرو بن فائد : (والأرضُ يمرّونَ عَلَيْهَا) (٥) بالرفع ، وقرأ السدي : (الأرضَ) نصباً ، وقراءة الناس : (والأرضِ).

قال أَبو الفتح : الوقفُ فِيمَن رفع أو نصب على السماوات ثمّ تبتدئ فتقول : (والأرضُ ، والأرضَ) فأمَّا الرفعُ (٦) فعلى الابتداءِ ، والجملة بعدَها خبرٌ عنها ، والعائد منها على الأرضِ (ها) من عليها و (ها) من عنها عائد على الآية (٧).

__________________

(١) الكرّ : مكيال لأهل العراق وهو ستّون قفيزاً أو أربعون أردبًّا.

انظر : لسان العرب : ٦ / ٤٥١.

(٢) انظر الحلبيات ـ المخطوط ـ : ٤١.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٣٠.

(٤) المحتسب : ١ / ٢٣٦.

(٥) من قوله تعالى من سورة يوسف : ١٢ / ١٠٥ : (وَكَأَيِّن مِّن آيَة فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

(٦) وأمَّا النصب : فسنذكره في موضوع حذف الفعل الناصب.

(٧) المحتسب : ١ / ٣٤٩.

١٥٩

النواسخ

من النواسخ التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر

١ ـ كـان

أ ـ تذكير كان مع تأنيث اسمها

قَرَأَ إبراهيم (١) : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبةً) (٢) بالياءِ قال أبو الفتح : يَحْتَمِلُ التذكيرُ هنا ثلاثةَ أَوجه :

أَحدها : أن يَكونَ في (يكن) ، ضمير اسم الله ، أَي : لم يكن الله له صاحبةٌ ، وتكون الجملة التي هي (له صاحبة) خبر كان.

والثاني : أَن يَكونَ في (يكنْ) ، ضمير الشأنِ (٣) والحديث على شريطة التفسيرِ وتكون الجملة بعده تفسيراً لَهُ وخبراً كقولِك كانَ زيد قائم أَي كان الحديث والشأن زيدٌ قائمٌ.

والثالث : أَنْ تكونَ (صاحبة) اسم (كان) وجازَ التذكير هنا للفصل بين الفاعل والفعل بالظرف الذي هو الخبر كقولنا : كان في الدار

__________________

(١) هو إبراهيم النَّخعي. انظر : البحر المحيط : ٤ / ١٩٤.

(٢) من قوله تعالى من سورة الأَنعام : ٦ / ١٠١ : (بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء وهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ).

(٣) سنذكر هذا الوجه في مبحث اسم كان ضمير الشأن.

١٦٠