رحلة في الجزيرة العربية الوسطى

شارل هوبير

رحلة في الجزيرة العربية الوسطى

المؤلف:

شارل هوبير


المترجم: إليسار سعادة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: كتب
الطبعة: ١
ISBN: 9953-417-48-2
الصفحات: ١٦٦

١
٢

٣
٤

٥
٦

٧
٨

مقدمة الناشر

هذا الكتاب هو أول ترجمة عربية لرحلة شارل هوبير (١٨٣٧ ـ ١٨٨٤) الاستشكافية الأولى إلى مناطق شمال شبه الجزيرة وذلك خلال السنوات ١٨٧٨ ـ ١٨٨٢ حيث عثر على أبرز اكتشاف أثري في المنطقة هو حجر تيماء.

نشرت تفاصيل هذه الرحلة التي بدأها هوبير من البصرة في ١٤ أيّار ١٨٧٨ في نشرة الجمعية الجغرافية الفرنسية سنة ١٨٨٤ ، أثر مصرعه بالقرب من بلدة العلا في ٢٩ تموز من العام نفسه على يد دليله ابن شميلان من شيوخ قبيلة هيثم.

أعقب هوبير هذه الرحلة برحلة ثانية الى المنطقة بدأها في حزيران ١٨٨٣ بهدف تأمين نقل حجر تيماء الى فرنسا ، ولمواصلة أبحاثه الأثرية ووضع خرائط للمنطقة بتكليف من الجمعية الجغرافية الفرنسية ، والجمعية الآسيوية ووزارة الإرشاد العام الفرنسية. وخلال الرحلتين أقام هوبير علاقات جيدة مع حاكم المنطقة محمد بن الرشيد ، وتبادل معه الهدايا والسيوف ، وبدوره قام ابن الرشيد بتأمين حراس وأدلّاء لمساعدة هوبير خلال تجواله.

وبعد مرور سبع سنوات على مصرع هوبير ، صدر في باريس سنة ١٨٩١ ، كتاب بعنوان «يوميات رحلة في شبه الجزيرة العربية ١٨٨٣ ـ ١٨٨٤» تضمن كتابات هوبير خلال رحلته الثانية ، والتي كان أودع قسما منها لدى القنصلية الفرنسية في جدة قبل بضعة أيام من مصرعه. وكانت الكتابات عبارة عن خمسة دفاتر صغيرة الحجم ضمنها هوبير يومياته وانطباعاته ، ورسومه للنقوش الحجرية. وأشار نائب القنصل الفرنسي في جدة فيلكس دو لوستالو (Fe ? lix de Lostalot) في رسالة الى ظروف مصرع هوبير فقال إن هوبير غادر جدة مساء ٢٦ تموز ١٨٨٤ يرافقه خادمه محمود ودليلين. وأن هوبير اغتيل في ٢٩ تموز من قبل الدليلين الذين سجنا الخادم محمود لمدة يومين ، إلى أن اغتنم هذا الأخير الفرصة المؤاتية للفرار باتجاه المدينة المنورة ، وانتقل بعدها إلى حائل ثم إلى جدة. وبقي جثمان هوبير ملقيا في العراء لمدة يومين ، الى ان تم نقله الى جدة حيث دفن. أشرف نائب القنصل الفرنسي في جدة بمساعدة ترجمان من أصل جزائري مقيم في مكة المكرمة يدعى سي عزيز على المفاوضات لاسترجاع أوراق هوبير وحجر تيماء ، وكذلك الاقتصاص من القتلة. وقام سي عزيز بالمفاوضات مع ابن الرشيد بشكل سري ، ذلك ان هوبير كان يقوم برحلته رغم معارضة السلطات العثمانية التي كان ابن الرشيد متحالفا معها. ويعتقد ان ابن الرشيد هو الذي كلف ابن شميلان بقتل هوبير خارج حدود إمارته في بلدة العلا.

وخلال مرحلة المفاوضات مع ابن الرشيد وصل الى جدة المستشرق الهولندي كريستيان

٩

سنوك هيروغرونيه (ChriStian Snouch Hurgronje) الذي كان ينوي السفر سرا الى مكة المكرمة بهدف انجاز اطروحة حول المجتمع المكي وقام هيروغرونيه خلال وجوده في جدة بترجمة بعض الرسائل لصالح القنصلية الفرنسية ، وبدوره قام بإبلاغ صديقه المستشرق الألماني جوليوس أوتينغ (Julius Euting) عن المساعي الفرنسية لاستعادة حجر تيماء. والجدير بالذكر ان أو تينغ كان برفقة هوبير في تيماء عند ما قاما سوية بشراء الحجر وارساله الى حائل بعد ان قاما بنقل النص المحفور عليه. وتطورت الأمور فيما بعد عند ما التقى هيروغرونيه في مكة المكرمة بسي عزيز الذي أخبره بمراحل المفاوضات مع ابن الرشيد وقد حاول سي عزيز الحصول من هيروغرونيه على مبلغ يفوق الخمسة آلاف فرنك فرنسي الذي وعد به من قبل القنصلية الفرنسية في حال انجاز المفاوضات بنجاح. ونتيجة شكوك القنصل الفرنسي من أن يكون هيرو غرونيه يعمل مع الألمان بهدف الحصول على حجر تيماء ، قام بنشر مقال في جريدة «الوقت» (Le TemPS) في باريس في الخامس من تموز ١٨٨٤ وصف فيه الأيام الأخيرة لشارل هوبير ، واتهم هيرو غرونيه المقيم في مكة المكرمة سرا تحت اسم عبد الغفار بالسعي للحصول على حجر تيماء لصالح أوتينغ الموجود في دمشق. وقد ترجم هذا المقال الى العربية والتركية ، وعلى الفور أرسل قائمقام مكة المكرمة بعض الجنود الى هيروغرونيه حيث أمر بمغادرة المدينة خلال بضعة ساعات ، وبالفعل تم ترحيله برفقة الجنود الى جدة.

هكذا تم افشال محاولة الألمان الحصول على حجر تيماء. وبعد حوالي العام على مصرع هوبير تم الحصول على الحجر وأرسل الى باريس حيث يعرض حاليا في متحف اللوفر. ان هذا الحجر الذي يعود تاريخه الى القرن الخامس قبل الميلاد ، والذي يعود الفضل في اكتشافه الى هوبير ، يعتبر من أبرز الاكتشافات الأثرية في شبه الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر. ويظهر هذا الحجر الذي حفر باللغة الارامية أحد الكهنة الذي استقدم إلها جديدا الى تيماء ، فأنشأ لهيكل الأله المعبود وقفا ، وقد مثل الاله في زي أشوري ، وظهر في أسفل الرسم رسم الكاهن الذي شيد النصب.

أن المعلومات والانطباعات التي سجلها هوبير خلال رحلته الأولى في شمال شبه الجزيرة العربية والتي نقدمها في هذه الترجمة ، هي على درجة كبيرة من الأهمية بحيث إنها تعتبر بالاضافة الى سلسلة الأبحاث التي قام بها الرحالة الأوروبيون في المنطقة خلال القرن التاسع عشر أمثال وليم بالغريف ، واروليخ سيتزن ، جورج والين ، الليدي آن بلنت ، ولويس بوركهاردت ، وشارل دوتي وغيرهم من أبرز النصوص التي تصف منطقة شمال شبه الجزيرة العربية خلال النصف الاخير من القرن التاسع عشر.

١٠

تنبيه الناشرين الفرنسيين (*)

في ٢٩ تموز ١٨٨٤ ، قضى الرحّالة المقدام الذي ننشر له اليوم بيانات رحلاته ومفكراته اغتيالا. فمنذ عام ١٨٧٤ ، وما ان بلغ السابعة والثلاثين من العمر ، حتى وقع اختيار شارل هوبير المدفوع بشغف الاستكشافات الجغرافية على الجزيرة العربية. وكان قد قام برحلة استكشافية أولى من ١٨٧٨ الى ١٨٨٢ دونت نتائجها في نشرة الجمعية الجغرافية (١). (Le BulleTin de la Societe de Geographie). ما شاهده في هذه الرحلة أثار فيه رغبة جامحة بإعادة الكرة. كان نقش تيماء بوجه خاص ، الذي اكتشفه منذ عام ١٨٨٠ ، يقضّ مضجعه. وفي حزيران ١٨٨٣ ، انطلق من جديد برعاية وزارة التربية العامة وأكاديمية النقوش والآداب والجمعية الجغرافية ، فتوقّف فترة في دمشق ، وزار حائل مجددا وحصل على حجر تيماء ثم انكفأ الى جدّة واثقا من كنزه هذه المرة.

وحدها رسالة من السيد دولوستالو ، قنصل فرنسا في جدّة (٢) تعطينا بعض التفاصيل عن النهاية الغامضة التي وضعت حدا لمجرى هذه الحياة التي كان مبدأها الطاغي الجرأة البالغة حدّ المجازفة.

«اغتيل السيد هوبير في ٢٩ تموز ١٨٨٤ خلال رحلة علمية على أيدي المرشدين اللذين اختارهما للاستدلال على الطريق.

وقد شكلت الرغبة في الاستيلاء على اسلحة الضحية وأغراضه الثمينة دافع الجريمة. كان هوبير قد غادر جدة في ليل ٢٦ الى ٢٧ تموز برفقة خادمه محمود ودليليه. وكان محمود يتبع الطريق ويقود الجمال المحمّلة بالأمتعة بينما يبتعد السيد هوبير ومرشداه باستمرار عن الطريق تارة الى اليمين وتارة الى اليسار ، إمّا لتدوين بعض الكتابات القديمة أو لنقل رسم او لتسجيل ملاحظة علمية. ثم يتم اللقاء في المنطقة المحددة للتوقف لتناول بعض الطعام وأخذ قسط من الراحة. وانقضى يوما ٢٧ و ٢٨ تموز بلا عائق.

__________________

(*) مقدمة كتاب" يوميات رحلة في شبه الجزيرة العربية" الذي صدر في باريس سنة ١٨٩١ وتضمن ما خلفه شارل هوبير من ملاحظات وكتابات ورسوم. وقد رأينا ترجمتها لما فيها من معلومات مفيدة للقارىء.[الناشر].

(١) الفصل الثالث لعام ١٨٨٤ ، ص ٢٨٩ ـ ٣٦٣ ، ٤٦٨ ـ ٥٣١

راجع ف. برجيه" الجزيرة العربية قبل النبي محمد بالإستناد إلى النقوش" باريس ، ١٨٨٥ ، ص ٢٢ ـ ٢٣

(٢) المذكرة الوحيدة التي نشرت عن هوبير وردت في رأس كتالوج بيع مكتبته الذي صدر عام ١٨٨٥ في ستر سبورغ عند المكتبي بيغان. وتتضمن بعض النسخ من هذا المنشور وصورة ليتوغرافية لهوبير.

١١

في التاسع والعشرين ، ولدى وصول محمود الى محطة الاستراحة ، وجد الجميع في المكان ورأى المرشدين يؤديان الصلاة والسيد هوبير ممددا على مسافة قريبة تحت معطف عربي. فاعتقد ان سيّده نائم وشرع ينزل حمولة الجمال. فجأة شعر بندقيتين مصوّبتين الى صدره وسمع صوت أحد المرشدين يقول له : «حذار ، إلق سلاحك وإلّا عاملناك كسيّدك ههنا لدى أدنى حركة عدائية». فنظر ورأى السيد شارل هوبير ممددا على الجانب الايسر بينما كامل الجانب الأيمن من الرأس مدمّى ، لكن الوجه هادىء ومرتاح وكأنه نائم. من المرجّع ان تكون طلقة مسدّس أطلقت من مسافة قريبة جدا فيما هو نائم ، هي التي حتّمت الموت.

بقي محمود أسير المجرمين مدة يومين ثم تمكن من الفرار. فتوجّه الى المدينة ثم الى حائل وعاد أخيرا الى جدّة ليضع نفسه بتصرّف نيابة القنصلية الفرنسية المكلّفة بمتابعة انزال العقوبة بالمجرمين. وهو لا يزال فيها.»

بقيت جثّة السيد شارل هوبير معرّضة للهواء بضعة أيام وقيل ان بعض المارة حفروا أخيرا حفرة ودفنوه فيها.

وبعناية جديرة بخالص الثناء ، تسلّم السيد دو لوستالو ذخيرة الميت. وبعد سنة وفي خضم صعوبات جمة تمّ التغلّب عليها بالاصرار على العمل وبالرغم من نقص لا يصدّق في الامكانيات ، سلّم السيد دو لوستالو وزير التربية العامة حجر تيماء الجدير بان يقارن من حيث قدمه وأهميته بنصف ميشا (١). وعند ما درست لجنةCorpus inscriptionum semiticarum وأمين عام الجمعية الجغرافية الملاحظات ، فقد أقرّوا أهميتها البالغة حتى بعد نشر عدد كبير من النصوص النقوشية المدوّنة فيها (٢). وبالفعل ، لا يتناول هذا النشر سوى جزء من النقوش النبطية ، أما النقوش من النوع الصفيتي (Safai ? tique) فلم تمسّ ، كما وان الناحية الجغرافية من العمل تحتفظ بكامل جدّتها. مما حدا بالجمعية الآسيوية والجمعية الجغرافية ان تتولى طباعة هذه المفكرات. وقد قامت المطبعة الوطنية ووزارة التربية العامة بسخائهما المعهود بتسهيل مشروع لا اعتبار فيه إلّا للمصلحة العلمية.

الى ذلك ، كانت مهمتنا محدّدة بوضوح ، اذ كان المطلوب منا ان نعيد نشر الدفاتر الصغيرة الخمسة التي وضعت بين أيدينا كما هي بالضبط. خلال جزء من رحلته الثانية ، اصطحب السيد هوبير السيد اوتينغ ، وهو عالم يتمتّع بتقدير. فإلى أي مدى امتد تعاون

__________________

(١) ,Journal des de ? bats ٢٦ كانون الأول ١٨٨٤.

(٢) أنظرCorpus inscriptionum semiticarum ، الجزء الثاني ، النقوش الآرامية ، ص ١٠٧ والصفحات اللاحقة.

١٢

السيد اوتينغ في المفكرات التي ننشرها؟ هذا ما لم يكن في وسعنا تقصيه. اننا لا نكفل سوى أمر واحد ، وهو ان الاشخاص الذين سيستخدمون هذا الكتاب يمكنهم ان يركنوا اليه كما لو انه من مدوّنات هوبير الاصلية. وسيقول السيد اوتينغ ، اذا رأى ذلك مناسبا ، ما كانت حصته في العمل المشترك. لقد كانت رشمات النقوش النبطية بحوزته. وقد نشر كتابه Nabatoeische Inschriften بالاستناد الى هذه الرشمات (١). وإذ رغب السيد دوفوغيه ، مفوّض الجزء الارامي من الCorpus inscriptionum semiticarum استخدام هذه الوثائق الثمينة لإنجاز الملزمة المقبلة ، فقد سارع السيد اوتينغ الى ارسالها لنا ومن دواعي سرورنا ان نشكره على ذلك.

في تنفيذ عملنا بالتحديد ، واجهتنا صعوبات مع كل خطوة. فالسيد هوبير لم يكن فقيها لغويا بالمهنة. وفي نقل الكتابات لم يكن مصرّا على التوافق مع نفسه دائما. وأخيرا ، أفسحت الصياغة المستعجلة للمفكرات المجال للكثير من التردّد. فإذا لم نأخذ بعين الاعتبار سوى انتظام الخط ، وتماثل لون الحبر والعناية التي رسمت بها الرسمات وكتبت بها النقوش ، لحملنا ذلك على الاعتقاد بان السيد هوبير استفاد من احدى إقاماته في حائل او في جدة لكتابة يومياته. وفي الواقع ، لا يبدو انه بامكان مسافر ايجاد ترتيب ملائم لتنفيذ أعمال بهذا الوضوح خلال تجواله في مناطق صحراوية. ولكن لا مجال للشك ، فقد وضعت المفكرات بالشكل النهائي يوما بيوم تقريبا. وهذا ما يحرص المؤلف على ذكره في مناسبات مختلفة. وإذا اعترف أحيانا بتأخره بضعة أيام في عمله ، بدا وكأنه يعتذر لا خلاله بالبرنامج الذي خطّه لنفسه. من جهة أخرى ، يصرّح قطعا بان مفكراته الخمس قد أرسلت الى باريس في ٢٧ حزيران ١٨٨٤ من مرفأ جده الذي وصل اليه في ٢٠ من الشهر نفسه ، مما يجعل فرضية صياغة يوميات رحلته في هذه المدينة أمرا مستحيلا عاما.

ان الملاحظات السابقة تجيب فكرة تخطر على البال ازاء الكلمات التي تركت مواضعها بيضاء في مخطوطة هوبير. واننا في الواقع نتساءل كيف ان المؤلف الذي لا يزال موجودا في الموقع والمحاط بمرشديه من سكان البلاد لم يستطع اعادة تركيب اسماء عدة بلدات بالاستعانة بذاكرة الاشخاص الذين يحيطونه. صحيح ان الاسم مكتوب بالرصاص أحيانا ، ولكن في الغالب نجد الثغرة كاملة أو يملأها جزء من الكلمة كتب بالحبر. فلو ان

__________________

(١) اوتينغ Nabatoeische Inschriften aus Arabian ,Euting برلين ١٨٨٥. كانت هذه النقوش قد نشرت قبل ذلك بالإستناد إلى رشمات السيد دوتي في Notices et extraits des manuscrits لأكاديمية النقوش وعلم الأدب القسم الثاني ، (نشرت في طبعة مستقلة صدرت عام ١٨٨٧)

١٣

هوبير كتب مفكراته في نهاية رحلته لجاء التفسير طبيعيا ، ولكن بما ان هذا الامر مستبعد بالتأكيد ، فلا بد من إيجاد تفسير آخر لهذه الشكوك.

عند ما نرى العناية الدقيقة التي دوّنت بها الملاحظات ، وعند ما نجد الاشارات الى محطات التوقف لدقيقتين او ثلاث دقائق ، لا يمكننا الاعتقاد بان الاغفالات المشار إليها ناتجة عن اهمال المؤلف. بل يمكن الافتراض بان هوبير كان يأمل بتوظيف المواد التي جمعها والتوسّع في استقرائها. كما يجدر ان ننسب الاهمال الذي يشوب الصياغة لجهة الأسلوب إلى السبب نفسه ، وهو إهمال ترك عمدا حتى عند ما كان بالامكان تصحيحه من دون خوف من ارتكاب خطأ.

ومع انه كان متآلفا جدا مع لغة العرب الذين كان يتجوّل بينهم ، الا ان إلمام هوبير باللغة الفصحى كان غير كاف. ففي دفتره الاول بدأ يكتب بنفسه اسماء البلدات بالأحرف العربية لكنه سرعان ما اكتشف مساوىء طريقة العمل هذه فقرّر لاحقا ان يسأل السكان الاصليين أنفسهم ليسجّل مباشرة على دفتره املاء الكلمات التي كان يسمع لفظها. الا ان الكتبة البدو الذين استعان بهم لم يكونوا ضليعين بلغتهم. فهم بالتأكيد لا يخطئون في لفظ الاحرف الصامتة التي تختلط بسهولة على الاوروبيين كالقاف والكاف مثلا ، ولكنهم في المقابل ، كانوا يرتكبون الخطأ الشائع جدا بين العرب الاميين بحذف اللام في أل التعريف أمام الاحرف الشمسية مكتفين بوضع الشدة على أول حرف صامت في الكلمة. كما كانوا يكثرون ويبالغون في استخدام الألف الProsthe ? tique ويحذفون الاحرف الصوتية الطويلة وبالعكس يطيلون بعض الاحرف الصوتية القصيرة.

كان من السهل تصحيح العدد الاكبر من هذه الاخطاء البسيطة ولكن في بعض الاحيان كان من المستحيل اعطاء القراءة الصحيحة. لذا ، بدا من المستحسن عدم اخضاع املاء الكتبة البدو لمراجعة صارمة. فمن شأن التصحيح الكبير الايحاء للقارىء بأنه يستطيع التذرّع بطريقة الكتابة المعتمدة في المفكرات لتصحيح الاملاء الوارد عند أحد المؤلفين العرب او عند رحّالة اوروبي آخر. ولكن هذا غير ممكن ، اذا لا يجوز تصحيح قواميسنا التي تكتب اسم نبتة صحراوية «ضومران» ، وهي نوع من النعناع البري ، بحجة ان مفكرات هوبير أوردتها بشكل «ضمران».

كما اننا لم نر من المفيد اخضاع طريقة الكتابات الفرنسية المعتمدة من قبل هوبير لانتظام تام. اذ لم يكن بإمكاننا التأكد من ان تمثيل الهاء في نهاية الكلمة تارة بالy وتارة اخرى بال e ? h أو الah على سبيل المثال ، لا يعود الى رغبة الرحّالة في تسجيل تنوّع اللفظ الذي كان يسمعه ، فتنظيم هذه الاختلافات انه يرى ضرورة في ذلك. هناك بالتأكيد

١٤

حالات حيث يلزم التصحيح منذ المقاربة الأولى. فنجد مثلا «أبيث» او «أبيت» محل «أبيض» مكتوبة بالأحرف العربية بدقة. ولكن عند التفكير نتساءل ما اذا كان ذلك يعود لخطأ في اللفظ من النوع الذي نلاحظه في اللهجة الجزائرية حيث غالبا ما يقال «مريته» وليس «مريضه» بدلا من ان نرى في هذه الشواذات نتيجة للفظ الجرماني للمؤلف. لقد حملنا هذا السبب الى الاحتفاظ بالنقل الذي اعتمده هوبير بالرغم من شوائبه.

وتشمل المفكرات عددا كبيرا من الكلمات العربية المستخدمة تارة محل الكلمة الفرنسية المقابلة (راس ، سنة ... الخ) ، وتارة أخرى لغياب مرادف ومطابق في لغتنا (نفوذ ، هاء).

لم يكن بالامكان استخدام ملاحظات شارل هوبير الفلكية التي لم تحتسب بعد ، والتي اعتمد واضع خرائط الشمال الحقيقي في اتجاهها دون مراعاة الميل الزاوي للبوصلة. أما الارتفاعات (المقاسة بالمضغاط) فقد اعطيت من دون الاخذ بعين الاعتبار الفارق الذي كان سيطرأ عليها بفعل المقارنة مع الملاحظات التي أجريت عند سطح البحر.

لذا ، لا يترتب على الجغرافيين اعطاء هذه الخرائط صفة نهائية ، ولو تسنّى للرحالة مراجعتها لعدّلها بلا ريب في اكثر من نقطة. إلّا انها كانت ضرورية لفهم يوميات الرحلة وقد وضعها السيد م. ج. هانسن بمنتهى الدقة والعناية.

في الختام ، لا بد من شكر المطبعة الوطنية على مساهمتها الكريمة التي منحتنا اياها وعلى الاهتمام المتأني الذي بذلته في هذا العمل العسير. وراقب السيد فيليب برجيه تنفيذ الصور طبق الاصل بنظرة الباليوغرافي الماهر. وأخيرا راجع السيد م. و. هوداس ، الاستاذ في مدرسة اللغات الشرقية ، النسخ بصفته مستعربا متمرسا. فإذا حظي هذا الكتاب كما نأمل ذلك ، بموافقة المحكمين المختصين ، فإننا نطلب منهم ان ينسبوا الجدارة الى هؤلاء المعاونين الممتازين وبالأخص الى الاخير الذي أخذ على عاتقه المهمة الاكثر صعوبة وأنجزها على أكمل وجه.

أرنست رينان

باربيه دومينار

ك. مونوار

١٥
١٦

منذ بداية تكليفي بمهمة علمية في الجزيرة العربية في عام ١٨٧٨ ، اصطدمت بعقبات أخرتني وبصعوبات أشرت إليها في تقريري إلى سيادة الوزير.

فقد اجهضت المحاولة الأولى للوصول إلى الجوف مع الشيخ محمد طوخي بسبب ثورة الدروز ، والاتفاق الذي عقدته من ثم مع سطام بن شعلان ، شيخ الرولة لم يسفر عن نتيجة بسبب نكث هذا الأخير بوعده. وتكرر الأمر في الاتفاقية التي أبرمتها مع الشيخ علي القريشي.

اخيرا عثرت على الأدلّاء اللازمين لي عند شيخ البصرة ، محمد الخليل ، حيث كانوا في ضيافته. وهم بواقان (١) ورجلان من سكان كاف. واتفقت معهم بالرغم من تحذيرات شيخ البصرة المعترضة والذي بيّن بأنه لا يستطيع أن يضمن بأي شكل تنفيذهم لوعودهم وبأنني أعرض نفسي في أبسط الاحتمالات للسلب والتخلي عني في الصحراء. كنت أستعجل التخلص من سماع هذه النصائح الحكيمة. وغادرت البصرة دون إبطاء في اليوم التالي مع رفاقي الجدد. كان ذلك في ١٤ مايو (أيار) وكانت عنز محطتنا الأولى بعد اجتياز أم الرمان.

عنز ، القرية المؤلفة من ٣٠٠ نسمة والرابضة على تلة صغيرة ، هي آخر بلدة مأهولة في الصحراء. ومن هنا نلفت الانتباه إلى أن عنز تضم سكان نصارى بمجملهم بالرغم من موقعها بصفتها مركزا متقدما ، أي بين الدروز والبدو المسلمين.

هنا التقينا خمسة من العرب يخيّمون خارج الأسوار ويرغبون في الذهاب إما إلى

__________________

(١) البواق هو عربي طرد من قبيلته وحكم عليه بالنفي المؤبد بسبب الغدر أو أي جرم آخر يمس الشرف فلا يعود أحد يثق بكلامه. يمتهن عادة المهن التي لا يمكن الإفصاح عنها ، عند حدود الصحراء ملجأه الدائم. راجع نشرة الجمعية الجغرافية Bulletin de la Societe de Geographie

الفصلين الثالث والرابع ١٨٨٤ ص. ٢٨٩ و ٤٦٨

١٧

كاف أو إلى جوارها. كانوا ينتظرون مسافرين آخرين لينضموا إليهم وليشكلوا قافلة صغيرة. فغادروا معنا في اليوم التالي.

ولما كنا قلة ، فقد سعينا إلى تجنب لقاءات خطرة دائما في بداية دخولنا الى الصحراء. فسرنا ابتداء من ١٥ مايو (أيار) بشكل متعرج تحاشيا للقاء العرب ، بناء على المعلومات التي جمعناها في البصرة وفي عنز بشأن مختلف المخيمات.

في صبيحة ١٦ مايو (أيار) ، خيّمنا على بعد ٣ كيلو مترات شمال شرق القصر الأزرق. وللأسف لم أستطع الاقتراب منه أكثر من ذلك لأن جميع الأراضي المحيطة بالقصر المبني في منخفض كانت لا تزال موحلة بسبب أمطار الشتاء. ومن بعيد رأيته عبارة عن برج مربع مبني من الحجر المنحوت ، معزول تماما وقد بدت لي أعاليه أطلالا. من المرجح أن القصر قائم منذ اقدم العصور ، ولا بد أنه كان إحدى محطات الطريق المؤدية إلى وسط الجزيرة العربية عبر دومة الجندل.

كان قبلي المؤلفين العرب يطلقون على الأراضي المحيطة اسم عميري أو عامري. وذكر ذلك الدرويش المجهول ، الذي ترك كتابا عن طريق الحج من القسطنطينية إلى مكة ، وأضاف : إن النبي محمد [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] تقدم إبّان حملته إلى الشمال حتى بلغ هذا القصر ومسيله المرجح بأنه وادي الرايل ؛ المكان مثير للاهتمام ، فمن هنا يبدأ وادي سرحان الممتد جنوبا حتى آبار جراوي على مسافة يومين من الجوف.

صادفت وادي الرايل بعد ظهر اليوم نفسه ولما يزل في بعض الحفر ماء بالرغم من تقدم الموسم.

لم نتوقف على مرأى من القصر إلا مدة تناول الغداء ثم انطلقنا فورا ؛ إذ لا تقترب المجموعات القليلة العدد كمجموعتنا عادة إلى هذا الحد من هذا المكان الذي اشتهر بأسوأ سمعة. فاللصوص يرتادون باستمرار القصر الأزرق بصفته نقطة عبور.

يمتد سهل الأزرق على عدة كيلومترات وكل الأرض صالحة والتربة التحتية صلصالية فيما شجيرات الصحراء ، التي تشكل غذاء الإبل ، كثيفة وقوية.

ما إن غادرنا هذا المكان حتى عادت الأرض مضطربة وتظهر آثار عديدة بركانية الأصل. من حين إلى آخر اجتزنا أجزاء من الصحراء حجرة كليا تزداد وعورة كلما

١٨

اقتربنا من كاف التي وصلناها في اليوم التالي من ١٧ مايو (أيار) قرابة المساء ، كنا قد مشينا معظم الليل.

الكاف

ويقدم الرحالة سيتزن, (Seetzen) استنادا إلى أحد أدلائه ، يوسف الملكي ، خط سير يضع كاف على مسافة خمسة أيام سير من البصرة. إلا أننا نلاحظ الخطأ فورا لدى ذكر اترا وقراقر على أنهما تقعان قبل كاف.

بالمقابل ، فإن سيتزن يعطينا المعلومات الأولى التي نملكها عن هذا المكان ، حيث يقول إن كاف هي قصر بات أطلالا على قمة تلة محاطة كليا بمستنقع يمنع الاقتراب منه. ويوجد هنا بعض الآبار وشجر نخيل بري لا يثمر.

كنت قد علمت لدى وصولي عند الدروز ، بأن كاف هي اليوم قرية صغيرة مأهولة وقد حمّلني شيخ الدروز ، نجم الأطرش ، رسالة الى شيخها.

عند ما وصلنا إلى الواحة كنت بالطبع ضيف دليلي محمد ، ولكن نظرا الى فقره وفقر أهله ، عرض علي بنفسه منذ اليوم التالي إسكاني عند الشيخ الذي كان ينتظر إستضافتي عنده.

عبد الله الخميس (١) شيخ كاف ، رجل في الخمسين من عمره تقريبا (هو نفسه يجهل عمره بالضبط) يدل غياب العضل وملامحه الهزيلة والنافرة على أنه بدوي الأصل. بشأن تاريخ القرية أخبرني عبد الله بأن والده ، دغيري الخميس ، كان أول من استقر فيها قبل خمسين عاما لما كان هو عبد الله لا يزال طفلا صغيرا. أما أنّ ينابيع المكان العديدة الصغيرة كانت تشكل آنذاك مستنقعا عند سفح التلة كما قال يوسف الملكي ، فأمر لم يعد عبد الله يتذكره. ومهما يكن من أمر فإن الينابيع الاثني عشرة الموجودة هنا باتت كلها تحبس في أحواض صغيرة. وإذا قست في الرابعة صباحا

__________________

(١) الليدي آن بلانت تسمية عبد الله الخميس.

١٩

حرارة عشرة منها ، وجدت ان معدّل الأحواض المعرّضة للشمس يبلغ+ ٥٠ ، ٢٤ درجة ومعدل تلك المحمية تحت النخيل يبلغ+ ١٠ ، ٢١ درجة. ومن ثم فإن معدل حرارة المنطقة مرتفع جدا. وقد أكّد لي عبد الله أن الحرارة بالفعل أكثر ارتفاعا في كاف في الصيف منها في الجوف ، وأنه نادرا ما تمطر في الشتاء. والمؤشر الآخر لهذه الحرارة يكمن في وجود النخيل المزدهر تماما في كاف أما الماء المشوب بملوحة طفيفة فطيّب المذاق.

تمتد القرية الهلالية الشكل من الشرق إلى الغرب وتتألف من مجموعتين ، واحدة من ثمانية منازل والأخرى من تسعة تفصلهما الينابيع وال ٤٥٠ نخلة. إلى جانب النخيل لا نجد سوى شجرتي رمان وعدد من شجرات الاثل. يستخدم خشبها في صنع عارضات خشبية لصناعة الأبواب وأسقف المنازل. أما السكان البالغ عددهم ٩٠ شخصا فيملكون ثلاثين جملا وما يوازيها من الماعز وخمسة عشر خروفا بالإضافة إلى بضع دجاجات. وليس لديهم ثيران أو خيول.

ان وجود هذه الواحة الصغيرة مدين لوجود الينابيع أولا ومن ثم لوجود منجم ملح يعود دخله إلى الشيخ نفسه. ويأتي هذا النتاج من جبل صغير يبعد ٥ كيلومترات إلى جنوب كاف وتحمله الإبل إلى مقربة من القرية في تجاويف تحوي ما بين ٤٠ ، ٠ م إلى ٥٠ ، ٠ م من الماء يذوب الملح فيها ثم يتبلور بالتبخر. إنه شديد البياض لكن طعمه شديد المرارة. يباع لقبائل الصحراء وتنقله جمال الشيخ بالتهريب إلى البصرة وحوران وجبل الدروز.

البيوت نظيفة من الخارج ولكنها وسخة في الداخل. الجميع يرتدون الزي البدوي. لا أحد يعرف القراءة أو الكتابة. وكالعادة فإن أمراض العيون كثيرة.

في صبيحة ١٩ مايو (أيار) جاءني عبد الله وهو متزوج ثلاث نساء ، مصطحبا ابنه الوحيد وقد أصيب بتلبك معوي. كما جلب معه في الوقت نفسه فنجان قهوة مملوءا بالماء طالبا مني أن أقرأ عليه الكلمات الضرورية ليشفى المريض الصغير.

سأكون أول أوروبي تسلق الصخرة التي يقوم عليها قصر السيد. إنها صخرة وحيدة ، وثمة صخرتان اخريان أصغر حجما موجودتان حول كاف. قدرت ارتفاعها بقرابة ٨٠ مترا فوق السهل. أما قمتها فعلى شكل مائدة مستديرة ويبلغ محيطها ٣٠٠٠ متر. وهي مكونة كليا من كتل بركانية ضخمة سوداء صلبة جدا غارقة في

٢٠